اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , آداب الحوار [1، 2] للشيخ : محمد المنجد
أما بعد:
فهذه هي المجموعة الثانية من سلسلة الآداب الشرعية، وقد مضت المجموعة الأولى، وكنا قد انتهينا منها في سلسلة سابقة في عام مضى.
وهذا الموضوع -أيها الإخوة- موضوع عظيم؛ وذلك لأن الإنسان لا يخلو في حياته في حركاته وسكناته، بل حتى إذا خلا بنفسه، فهو إما أن يكون في علاقةٍ مع الله عز وجل، أو مع الخلق، أو مع النفس من جاجته إلى الأدب.
وقد سبق تعريف الأدب في السلسة الأولى وبيان أمورٍ تتعلق به، وفي هذه السلسلة -أو المجموعة الثانية- سنتحدث عن مجموعة أخرى -إن شاء الله- من الآداب، ونستهل ذلك بأدب الحوار في هذا الدرس.
أما بالنسبة للحوار: فهو من حار يحور إذا رجع، والمحاورة الجواب، والحوار هو تراجع الكلام والتجاوب فيه بالمخاطبة والرد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حواراتٍ في كتابه العزيز، وهذه اللفظة وردت في قوله تعالى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34] وفي قوله عز وجل: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] الحوار خطاب وكلام.
وقلنا: حار أي: عاد ورجع، والحوار يعيد فيه الشخص ويبدئ، والمحاورة مراجعةٌ وكلامٌ في المخاطبة، وهي مجاوبة وتجاوب، فمراجعة المنطق والكلام في المخاطبة تسمى حواراً.
والفرق بين الحوار والمناظرة والجدال والمحاجة: أن الحوار أعمها جميعاً وكلها تدخل فيه؛ لأنها كلها تشترك معه في أنها مراجعة في الكلام ومداولة له بين الطرفين، فهي تدخل في معنى الحوار من هذه الجهة، ثم تخرج المناظرة في دلالتها على النظر والفكر، والجدال والمحاجة في دلالتهما على المخاصمة والمنازعة
ثانياً: الوصول إلى الحق.. نحتاج إلى الحوار للوصول إلى الحق، وهدفٌ عظيم أن يصل المسلم إلى الحق.
ثالثاً: الرد على أهل الباطل، وهذا يتم بالحوار لإقناعهم، وهو فرعٌ من الدعوة التي تقدم الحديث عنها، وعلى سبيل المثال: المنافقون في عصرنا يتكلمون عن تحرير المرأة، ويدْلون بحجج هي واهية، لكن لابد من الحوار مع هؤلاء لإسقاط الحجج التي احتجوا بها وبيان وهيها؛ فمثلاً يقولون: لماذا تنكرون الاختلاط وهناك اختلاط في الحرم؟ فنقول: فرقٌ بين الاختلاطين.. الاختلاط العارض والاختلاط الدائم، فهذه حال امرأة تدخل الحرم لكي تؤدي العمرة أو الحج في الطواف والسعي، ثم بعد ذلك تنفصل عن الرجال في الصلاة، ثم أنتم تقولون: تختلطوا في الأعمال وأماكن الدراسة والعمل طيلة العام؛ فأين هذا من هذا؟ ثم هذه عبادة أقل شيء أن الإنسان يستحي فيها من أن يعمل شيئاً محرماً، أو أن تتبرج المرأة وتتزين أو تغري، أو أن تجذب إليها الفسقة وغيرهم، ثم أين هذا من وقوع ذلك يومياً وباستمرار في الأعمال وأماكن الدراسة ونحو ذلك؟ ثم إن هذا الاختلاط في تلك الأماكن لا يخلو من زينة ودنيا، بخلاف ما يحدث في الحرم من دين وعبادة.. ونحو ذلك من أوجه الرد، والشاهد أن المسألة مسألة حوار للرد عليهم.
عندما تأتي امرأة عاهرة لا تضع حجاباً على وجهها ولا على شعرها، وتقول: لماذا تأمروننا بتغطية الوجه، وكشف الوجه مذهب الأئمة الثلاثة؟ فنقول: أولاً من سمح لكِ أن تتكلمي في الفقه؟ وما علاقتك بالأحكام الشرعية؟ إن الذي يتكلم في الأحكام هم العلماء وطلبة العلم، أما الفاسق والفاسقة من هؤلاء المنافقين والعلمانيين فلا دخل لهم بالعلم الشرعي، ولا يجوز لهم أن يتحدثوا في هذا الأمر، ولا أن يرجحوا وينظروا في الأدلة.
ثم هل يريدون الذي يناقش في ذلك من أرباب الأهواء والشهوات بالتأكيد أنه لا يريد الوجه فقط؛ بل يريد ما بعد الوجه من كشف الشعر وبقية الجسم والاختلاط... إلخ.
فإذاً يريدون مسألة الوجه أن يدقق الكلام فيها للتوصل إلى ما بعدها من الفساد، وهكذا.. فالمقصود أننا في الواقع نتعرض لكلام هؤلاء فيجب أن نجيب عليهم، وأن نقيم عليهم الحجة، وقد ندخل في حوارات مع مثل هؤلاء، فلابد أن يكون لهذه الحوارات شروطاً وآداباً، ثم إننا نعيش -أيها الإخوة- في عصرٍ قد كثرت فيه الآراء والاجتهادات، والوصول إلى تنقيح هذه الآراء ومعرفة الصواب منها يحتاج إلى حوار، نحن الآن في أمرٍ مريج.. قلة العلم، وكثرة القضايا، وهي مشكلة كبيرة، وهذا لا شك يحتاج إلى إجادة الحوار.
ثم من فوائده أيضاً: التعليم، فهناك حواراتٌ تعليمية؛ كما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام في الحديث المشهور بحديث جبريل، وهذا الذي ندعو الشباب إلى إقامته كبديلٍ نافع عن التمثيليات التي فيها شبهات من الكذب، أو تقمص الشخصيات، أو ادعاء أشياء ونحو ذلك، فنقول لهم: إذا أردتم بديلاً عن التمثيليات التي فيها كلامٌ كثير فأعطونا الحوارات العلمية أو الحوارات المفيدة، أقيموا حوارات بين اثنين أو أكثر يظهر فيها تعلم أمور نافعة بدلاً من هذه التمثيليات التي يكون فيها غناء، أو يكون في بعضها محرم أو شبهة.
وكذلك فإن الحوار فيه استرجاع للصفاء عند حصول الشحناء؛ فإن مما يزيل الشحناء الحوار أو المعاتبة، والمعاتبة حوار؛ لأن كلاً من الطرفين سيبدي معذرته ولماذا فعل ما فعل، وإزالة الشحناء والبغضاء في الحوار بالمعاتبة هي نوعٌ من الحوار
كذلك دارت حوارات بين الأنبياء وأقوامهم، وهذه كثيرة جداً قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ... [نوح:5-7] وبسبب هذه الحوارات دخل أناس في دين الإسلام، والآن على شبكة الأنترنت -مثلاً- حوارات بين مسلمين وكفار ينتج منها دخول أشخاص في الدين، وفي الشركات والأعمال -لمن ابتغى وجه الله من الدعاة إلى الله تعالى- حوارات بينهم وبين زملائهم في العمل، يهتدي بها أشخاص، أنت تريد أن تقنع شخصاً بعدم إدخال جهاز مفسد إلى البيت فبالحوار؛ لأنه سيبدي ما عنده من الأسباب ويقول لك: تحتوي على أخبار، تحتوي على فوائد، تحتوي على منافع، تحتوي على أشياء تعليمية، وتحتوي على حياة الحيوان، وتحتوي على كذا، ثم أنت تبين له الأضرار والمفاسد، وتدور على ذلك مناقشة، هذا حوار.
وقد كان إبراهيم الخليل عليه السلام ممن اشتهر بالحوار، وقوة الحجة، وظهور البرهان، والقدرة على الإفحام، كما قال الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:83] وحاور الملك الكافر.. إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] ثم صار جدالاً عقيماً: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] فقطع عليه الخط وألزمه بهذه الحجة الباهرة، وكذلك لما حاج قومه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:51-53] هذه هي الحجة، قال: ما هذه التماثيل؟ قالوا: وجدنا آباءنا..إلخ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:54-56] ولما كسر الأصنام استدعي للتحقيق: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:62-64] الآيات.
وموسى عليه السلام كان له حوارات مع فرعون، ومؤمن آل فرعون كان له حوار جميل جداً ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمن.
وكذلك لما جاءه ضمام بن ثعلبة وافداً إليه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وقال: (أيكم محمد؟ فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: يابن عبد المطلب: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال: إني سائلٌ فمشددٌ عليك في المسألة فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: اسأل ما بدا لك، قال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال: صدق، قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وبسط الأرض ونصب الجبال أألله أرسلك؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا زكاةً في أموالنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك أألله أمرك بهذا؟ وسأله عن الحج، فلما ولى قال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن).
قالوا: قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، قاتل معاوية وقاتل في الجمل ولا أخذ سبياً ولا غنائم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم، قلت: وماذا؟ قالوا: نحى نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم، وحدثتكم عن سنة نبيكم ما تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم.
أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق؛ أم في أرنبٍ ثمنها ربع درهم؟ قالوا: في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم، فرجعوا واعترفوا، قال: أخرجتم من هذه؟ قالوا: الله منعنا.
والجهاد في الإسلام يكون لأسباب، فمنها:
جهاد الكفار الذين رفضوا الإسلام أن ينتشر في بلادهم، ووقفوا سداً أمام الدعوة، فيقاتلون لكسر شوكتهم ليكون الدين لله، لكن لو فتحوا لنا بلادهم قالوا: ادخلوا إلى بلادنا واحكموهم بالإسلام فلا نقاتلهم.
قتال آخر: وهو قتال الدفع، إذاً يوجد جهاد هجومي وجهاد دفاعي، والذي ينكر الجهاد الهجومي كذاب أشر، منهزم بغيض، سفيه جاهل؛ فإن الصحابة في عهد أبي بكر وعمر بن الخطاب جاهدوا فارس والروم وهجموا عليهم وغزوهم إلى بلادهم حتى فتحوها، فالذي ينكر أن في الإسلام جهاداً هجومياً؛ مثل انهزام العقلانيين أصحاب المدرسة التنويرية الذين ينكرون الجهاد الهجومي على الكفار، وإنما حملهم على ذلك الانهزام النفسي، فقالوا: أين نذهب بوجوهنا من الكفار فإنهم يقولون: أنتم تهاجمون وتظلمون، فإذاً الجهاد في الإسلام للدفاع عن النفس.
ونقول: وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟ هل كانوا يفعلون الباطل والظلم والاعتداء على الناس، فتباً لهم!
وهناك جهاد الدفع، إذا هجم الأعداء لزم دفعهم وجهادهم، وهناك قتال شرعي، كما لو خرجت طائفة على إمام المسلمين وخليفتهم؛ فإنهم إذا أبوا الرجوع وتسلحوا قوتلوا لإرغامهم على الدخول في بيعة الخليفة، (إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما) هذا قتال شرعي، بين مسلمين وعلي رضي الله عنه قاتل من هذا الباب، ولا يلزم أن يكون قتال علي لمن خرج عن بيعته وهو الخليفة أن يكون مثل جهاد المشركين فيه سبي وغنائم، لكن الخوارج ما فهموا هذا، وقالوا: لماذا قاتل علي معاوية وقاتل عائشة والجيش الذي فيه عائشة ، وما أخذ غنائم؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي ، فلما جاء علي يكتب الصلح بينه وبين معاوية قال: كتب علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ورفضت كلمة أمير المؤمنين وتركها علي لأجل الصلح، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك كتابة رسول الله للمصلحة الشرعية، ولعقد الصلح الذي أمره الله به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل من علي؛ أخرجتم من هذه؟ قالوا: الله منعنا.
من هذا الحوار رجع من الخوارج عشرون ألفاً وانضموا إلى علي رضي الله عنه، وبقي من الخوارج أربعة آلاف، وهؤلاء هم الذين واجهوا في معركة النهروان وقتلهم علي رضي الله عنه.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً>>>>>وآفته من الفهم السقيم
ولذلك لا يرد أحد على آخر حتى يفهم كلامه
إذا ما لم يكن لك حسن فهمٍ >>>>>أسأت إجابة وأسأت فهماً
ولذلك لا ينبغي أن يناقش الإنسان ويدخل في حوار وهو لم يفهم مراد وقصد الطرف المحاور، فسماع حجة الطرف الآخر نصف الطريق، ولابد من هذه الخطوة.
وبعض أسباب سوء الفهم التي تحدث بين الناس عموماً، وبين الشباب وبين الدعاة والمدعوين، وبين الدعاة وبعضهم البعض؛ قد تكون راجعة إلى قلة العلم، أو أن يأخذ جزءاً من حديثه ويترك أجزاءً، فتجد واحداً أول ما يسمع كلام الثاني يقول: بس.. قف.. ثم ينهال عليه قبل أن يسمع بقية كلامه، ثم يكون ما رد عليه موجود في كلام الآخر وليس هو موضوع النقاش أصلاً، ولو أنه تأنى وسمع الباقي لاكتفى وعرف الكثير.
ثم -أحياناً- من أسباب سوء الفهم: أن الإنسان يقرأ أقوال الآخرين أو يسمعها بخلفيات معدة عنده مسبقاً، يحمل عليها أقوال الآخرين، كأن تسمع عن شخص أشياء ثم تأتي تتناقش معه، فتفسر كلامه بناءً على ما سمعته عنه، وقد يكون ما سمعته عنه غير دقيق ولا صحيح، فتبدأ من باب اتهام النيات تفسر كلامه على ما في ذهنك أنت، ولا تتجرد بحيث تفهم كلامه على حقيقته، والإنسان لا يخلو من خلفية معينة عند النقاش مع أي شخص.
وأحياناً يكون من أسباب سوء الفهم: عدم اللقاء بين المتحاورين وإنما يعتمدان على المراسيم وعلى الرواة والنقلة، قال كذا، وقال: كذا، وقد يكون الناقل غير دقيق فيسيء في النقل من هذا لهذا، فتزداد الفرقة وتعظم الهوة بينهما، ولو أنهما التقيا في مجلسٍ واحد لاتضحت لديهم الصورة وزال اللبس، ولا يلزم أن يكون اللقاء علنياً أمام الناس إذا لم يكن من المصلحة النقاش أمام العامة، وليكن في مجلس خاص.
ثم من أسباب سوء الفهم: الاختلاف باستخدام الألفاظ والمصطلحات، وقد يستخدم إنسان مصطلحاً يفهمه الخصم فهماً آخر، فأحياناً لابد من ضبط المصطلحات قبل النقاش.
وهذه قصة لطيفة صارت في مجلس زواج عند القاضي، جاءت المرأة وأبوها وجاء الشخص الذي يريد الزواج ومعه شهود، وجلسوا عند القاضي، قال القاضي لأبي الفتاة: ابنتك هذه بكر؟ قال: لا. فهذا الشاب يقول: نظرت وكأن الشيطان صار جالساً بجانبي، وجلست أضرب أخماساً في أسداس.. أنا أريد أن أتزوج، وعرفنا أنه ما سبق لها الزواج، والآن القاضي يقول له: أهي بكر؟ يقول: لا. يقول: وتلون وجهي بجميع الألوان وصرت في أمرٍ مريج، وكأن صاعقة وقعت في المجلس، ووجم الناس والشهود، فوجئ الجميع بهذه العبارة، يقول: حتى تدخل واحد بنباهته وقال: يا أخ فلان.. عفواً ما تعريف كلمة بكر عندك؟ قال: بكر أي: أول الأولاد، قال القاضي: يا أخي! لكل مقامٍ مقال، نحن الآن لا نسألك عن بكرك نحن نقول: البنت بكر، قال: إيه.. هذه بكر، عندما فهم معنى كلمة بكر.
وسبحان الله! الواحد قد يفهم بوجهٍ غير الوجه الذي يفكر فيه الآخرون، فلابد من تفسير المصطلحات؛ لأنها قد تجعل النقاش والجدال عقيماً إن لم تفهم.
فسبحان الله! صار القرآن مقسماً إلى قرآن وهابية، وقرآن صوفية، إنها لمصيبة! فإذاً.. لابد أولاً من التسليم بالمرجع، أي: لنحتكم إليه إذا تنازعنا فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
ولذلك لما جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق رحمهما الله في كراء بيوت مكة، والمسألة الأخرى؛ ما حكم تملك بيوت مكة؟
فالمهم أن الشافعي رحمه الله كان يرى جواز التملك والإجارة، ما دام أنه ملكه فليفعل فيه ما يشاء، وإسحاق كان لا يرى كراء بيوت مكة ، فقال الشافعي في النقاش والحوار قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الحشر:8] فنسب الديار إلى مالكها أو إلى غير مالكها؟ الإضافة هذه (ديارهم) تدل على أن هذه ملك لهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب الديار إلى أربابها أم إلى غير أربابها؟ واشترى عمر بن الخطاب داراً للسجن من مالكٍ أو من غير مالك؟ فقال إسحاق : الدليل على صحة قولي أن بعض التابعين قال: كذا كذا، فقال الشافعي لبعض الحاضرين: من هذا الذي يناقش؟ فقيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، فقال الشافعي : أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، قال إسحاق : هكذا يزعمون! قال الشافعي : ما أحوجني أن يكون غيرك فكنت آمر بعرك أذنيه، يعني: لو كان غيرك أمامي لأمرت بعرك أذنيه، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال عطاء وطاوس والحسن، وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟
فإذاً لابد أن يكون هناك مرجع عند الاختصام وأقصد: أصولاً وضوابط يرجع إليها لكي يكون الحوار مجدياً
وقال الجويني رحمه الله: وعليك بمراعاة كلام الخصم، وتفهم معانيه على غاية الاستقصاء، فإن فيه أماناً من اضطراب ترتيب حصول الكلام عليك، فيسهل عليك عند ذلك وضع كل شيءٍ موضعه، وإن طول عليك بعباراته الطويلة فلخص من جميعها موضع الحاجة إليه فتحصرها عليه، يعني: تقول في النهاية: يا أخي! طيب وأصل كلامك ورأيك أنك تقول: كذا كذا، تلخص كلامه الطويل الذي قاله، فإن وافق على هذا التلخيص فاشرع في نقد ما قاله وتفنيده إذا كان ضد الحق بحسب ما تعلمه أنت.
فإذاً لابد من حصر موضوع النقاش؛ لأن التشعبات والنقاشات الكثيرة جداً تضيع المقصود، وتدخل في متاهات، وهذا كثيراً ما نلاحظه في الحوارات العقلية.
الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة - أي: ما دخلت في نقاش مع أحد قط ونيتي أن أغلبه فقط- وإنما دخلت في النقاش للوصول إلى الحق مني أو منه، وعندي أو عنده.
والمقصود هو طلب الحق، فإذا توافرت الرغبة للوصول إلى الحق لدى الطرفين وصل إليه بإذن الله، لكن المشكلة أن يكون الغرض من الحوار أن ينصر الإنسان رأيه بغض النظر عن كونه خطأً أو صحيحاً، ولذلك لابد أن يدخل الإنسان ساحة الحوار وهو يبحث عن الحق حتى لو كان عند خصمه، قال الله تعالى في حوار أهل الكتاب: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] (وإنا أو إياكم) أحد الطرفين، لا نقل: نحن على حق وأنتم على باطل من أول الطريق؛ فلن يجدي النقاش إذا كان كل من الطرفين يدعي أنه وحده على الحق: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] وينبغي أن يكون المحاور لا فرق عنده بين أن يظهر الحق على يديه أو على يدي الآخر، المهم الوصول إلى الحق.
ومن إخلاص الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ، وقال: ما كلمت أحداً إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه، وهذا تجرد صعب، لكن من أراده وفقه الله تعالى إليه، بل ربما وصلت القضية إلى أن بعض المتحاورين من السلف لما تحاورا رجع كل منهما إلى الطرف الآخر.
ومع الشافعي وإسحاق مرة أخرى، لكن الآن الطرف الآخر، إسحاق ناظر الشافعي -والإمام أحمد موجود في المجلس- في جلود الميتة إذا دبغت، قال الشافعي : دباغها طهورها، يعني: تستعمل، قال إسحاق : ما الدليل؟ فقال الشافعي: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: هلا انتفعتم بجلدها) فقال إسحاق : حديث ابن عكيم (كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ -أي جلد- ولا عصب).
وهذا الحديث أشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة ، حديث ميمونة يقول: (هلا انتفعتم) وهذا يقول: (لا تنتفعوا) وهذا الثاني متأخر قبل موته بشهر، فقال الشافعي : هذا كتابٌ وهذا سماع -يقول: حديثي الذي احتججت به سنده السماع وحديثك -يا إسحاق - بالكتابة (كتب إلينا رسول الله) يريد أن يقول: إن حديثي أقوى، السماع أقوى من الكتابة- فقال إسحاق : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر رسائل وكانت حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي ؛ لأن إسحاق أتى له بالحديث المتأخر، وهو حديث حجة ولو كان كتاباً؛ بدليل أن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم قامت بها الحجة على كسرى وقيصر، فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي فأفتى بحديث ميمونة ، يعني: انتهى النقاش بأن تبنى إسحاق رأي الشافعي ، وقضية السكوت عن الكلام كانت اعتباراً، لكن الإنسان ممكن أن يرد بأي كلام
سبوا علياً كما سبوا عقيقكم >>>>>كفرٌ بكفرٍ وإيمانٌ بإيمان
أي: واحدة بواحدة.
فإذاًً عندما ندخل في حوار فلابد أن نقيم الوزن لحجج الطرف الآخر، وفي كثير من الأحيان -خصوصاً في المسائل الاجتهادية والآراء- لا تستطيع أن تزن رأي الآخر، لكن تقول: يا أخي! هناك رأيان، وأرى أن أدلة هذا الرأي أقوى وأرجح فقط، أما أن تقول هذا حق وهذا باطل، فهذا لا يأتي في المسائل الاجتهادية، وإلا ما صارت اجتهادية ولا حدث الخلاف فيها، ولكن نتكلم الآن على قضية الرجحان.
سنكمل -إن شاء الله- بقية الموضوع في الحلقة القادمة
ولذلك -أيها الإخوة- لابد أن يوطن أطراف الحوار أنفسهم على قبول الحق من أي الأطراف جاء، فإذا تبين الحق فلا يجوز الجدال فيه: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الأنفال:6] ويجب المصير إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الحق ولو جاء من عدو، وقد روت طفيلة بنت صيفي الجهنية قالت: (أتى حبرٌ من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون إذا حلفتم: والكعبة، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال: فمن حلف فليحلف برب الكعبة، قال: يا محمد! نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: سبحان الله! وما ذاك؟ قال: تقولون: ما شاء الله وشئت، قالت: فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم قال: إنه قد قال حقاً فمن قال: ما شاء الله فليفصل بينهما بقوله ثم شئت) رواه الإمام أحمد و الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وكذلك صححه الألباني في السلسلة الصحيحة .
ومعروفٌ أيضاً قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي جاء بصورة رجلٍ يسرق الطعام من مال الزكاة، فأمسكه ثم أطلقه حتى قال له في الثالثة: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني وأعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: وما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، قال أبو هريرة : فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك... وأخبره بالخبر، فقال عليه الصلاة والسلام: أمَا إنه قد صدقك وهو كذوب).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز إذا قال يهوديٌ أو نصرانيٌ فضلاً عن الرافضي قولاً فيه أي حق لا نقبله، ولا يجوز أن نرفضه؛ لأنه جاء من عدو، ولذلك ينبغي في الحوار سماع كلام الخصم، وتقبل الحق الذي جاء منه بقبول حسن، والاعتراف بالخطأ والتسليم بالحق الذي يظهره الخصم، والمسألة كما ترون -أيها الإخوة- مسألة تجرد، فمن تجرد لله وفقه الله.
ثم من آداب الحوار المهمة ألا يكون قصد المحاور الانتصار للنفس، والعلو على المحاورين الآخرين، أو إفحام الخصم واستعراض القوة، وقد تقدم الكلام على ذلك، ومن أهم أسباب الانتصار للنفس أن المحاور يرجو في حواره مع غيره أن يرفع كفته، أو كفة شيخه أو مذهبه أو طائفته وحزبه وجماعته، ويغفل على أن ظهور الحق على يديه أو على يد صاحبه خيرٌ له وفضلٌ عليه من الله تعالى، قال الجويني رحمه الله: فأول شيءٍ على المناظر أن يقصد التقرب إلى الله سبحانه، ويطلب مرضاته في امتثال أمره سبحانه وتعالى فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الحق، ويتقي الله أن يقصد بنظره أو بمناظرته المباهاة وطلب الجاه، والمماراة والرياء، ويحذر أليم عقاب الله، ولا يكون قصده الظفر بالخصم، والسرور بالغلبة والقهر، فإنه من دأب الأنعام الفحولة كالكباش والديكة.
والإنسان إذا كان قصده بالحوار أن يتغلب على خصمه فقط فإنه لا يرعوي عن إتيانه بأي حجة من حقٍ أو باطل، ولا يقبل الحق إذا جاء من الخصم، وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرَّف الكبر قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) فبطر الحق أي: رده، وغمط الناس: ظلمهم وعدم إعطائهم حقوقهم وبخسهم إياها، وهو عين الكبر، ولذلك لابد في الحوار من التواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمةٌ في يد ملك) طبعاً هذا شيءٌ من الغيب لا نعلمه (فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، فيرفع الله ذكره وشأنه بين الناس، وإذا تكبر قيل للملك: ضع حكمته) رواه الطبراني وحسنه الألباني ، وقال عمر بن الخطاب : [إن العبد إذا تواضع لله عز وجل رفع حكمته، وقال: انتعش رفعك الله، فهو في نفسه حقير وفي أعين الناس كبير، فإذا تكبر وعد صوره ووهصه، أي: ضرب به الأرض]
المراء: أن تنكر الحق الذي ظهرت دلالته ظهوراً واضحاً وتتعصب للباطل، والتعصب للمذهب أو الشيخ أو الفئة يحول الحوار إلى مراء وجدال، وينتهي إلى خصومة وفرقة، وتمتلئ الصدور بالأحقاد وتشحن النفوس بالكراهية، والجدل آفة يصاب بها الإنسان غالباً في المحاورات، والجدل من طبيعة الناس الفارغين، الذي عنده عمل وإنتاج لا يقع في الجدال في الغالب، الذي يقع في الجدال هم أهل الفراغ، ولذلك يهدرون أوقاتهم بالجدال، ومع الأسف فإن عدداً من الشباب يحولون المجالس العلمية، والمحاضن التربوية، والمجتمعات الدعوية إلى مراء وجدال تقضي على البذور الكريمة والفائدة والنفع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذراً: (ما ضل قوماً بعد هدىً آتاهم إلا أوتوا الجدل) وقال: حسَّان بن عطية رحمه الله: إذا أراد الله بقومٍ شراً ألقى بينهم الجدل وخزن العلم، فلا يكون علماً وإنما يعطون الجدل.
لو قال قائل: إن من الجدال ما هو مفيد، ألم يقل الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فنقول: إنه تعالى ما قال: وجادلهم فقط، وإنما قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ومعنى ذلك أن الجدال أنواع، فما هي أنواع الجدال؟ الجدال محمودٌ ومذموم.
أولاً: فالجدال المذموم ما كان بغير حجة ولا دليل.
ثانياً: الجدال لنصرة الباطل والشغب للتمويه على الحق، وكان الكفار يفعلونه كثيراً، قال تعالى: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ [غافر:5] وهؤلاء مهما نصحتهم لا يستفيدون، كما قال نوح لقومه: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34].
ومن الجدال ما يكون محموداً ومنه ما يكون مذموماً.
قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله: من الجدال ما يكون محموداً مرضياً، ومنه ما يكون مذموماً محرماً، فالمذموم منه ما كان لدفع الحق، أو تحقيق العناد، أو ليلبس الحق بالباطل، أو لما لا يطلب به تعرف ولا تقرب، أو للمماراة، أو لطلب الجاه، أو إظهار التفوق على الخصوم، أو أنه يعرف أن عنده لسانة وقدرة على الحوار، وأنه لا يتوقف ولا ينقطع، والله سبحانه وتعالى ضرب أوجه الجدال المذمومة في قوله تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58].
أما الجدال المحمود: فهو الذي يحقق الحق ويكشف عن الباطل، ويهدف إلى الرشد، ويرجى به رجوع المبطل إلى الحق، وهذا المقصود بقوله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول الله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] فالمقصود به الجدال المذموم، أما لو تناقش بعض طلبة العلم في مسائل مثلاً في الحج ليستدلوا بها على السنة؛ كأن يتناقشوا في مكان الوقوف عند رمي الجمرات، وأين يضع الجمرة، فمثل هذا لا يكون جدالاً مضيعاً للوقت ولا منهياً عنه في الحج؛ لأنه لمصلحة الحج، فإذاً هذا الجدال لمصلحة الحج، ويعظم به الأجر وتصاب السنة
إن القلوب إذا تنافر ودها>>>>>مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
والصراخ والشتائم كل إنسان قد يقدر عليه، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير وجاهل وعالم، وكما قال قائل:
صغار الأسد أكثرها زئيراً >>>>>وأصرمها اللواتي لا تزير
أي: لا تزأر، والذي يميز الرجل الرباني الصادق في حواره هدوء نفسه، وعفة لسانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:43-44] والنبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس : (لم يكن سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً)، وشيخ الإسلام رحمه الله خاض غمار حوارات كثيرة، ومناظرات مع أهل البدعة، وكان من الخلاصات التي خرج بها يقول: الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب لكان عليه أن يكبر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46].
والإنسان إذا جلس في مجالس أهل العلم ينبغي أن يتأدب، ولذلك الحوار العلمي ينبغي أن يأخذ أدباً أعلى بكثير من الحوار في المسائل الدنيوية، أو في الأسعار، أو في السلع، أو في مساومات أو في نحو ذلك، وبعض الإخوان قد يظن أن الحوار مع أهل البدع يقتضي أن ترفع الصوت، وتظهر الغضب، وتقطب الجبين، وتحمر العينان، وتتسارع الأنفاس، وهذا غير صحيح.
ولكي يتقبل الشخص الآخر فلابد أن تظهر الهدوء في النقاش؛ لأن القصد الآن ليس ألا تتيح له فرصة في الكلام إذا كان الحديث بينك وبينه، وإنما المقصود أن يصل الرجل إلى الحق ويقتنع به، ولذلك عامة الناس لا يحبون التشنج والانفعالات في النقاشات، ويقولون: هذا الشيخ الذي خرج من البرنامج الفلاني ما عنده إلا العصبية والانفعال، وتلك المرأة غلبته وتفوقت عليه، مع أنه خرج لينصر الحق بزعمه، وهي تمثل أهل الباطل، فالناس ينفرون من التشنج والانفعال، نعم بعض الأحيان يلزم إظهار شيء من الشدة، لكن لا إلى أن يتحول الحوار إلى صراخ، والغضب لا يبقي سداداً للفكر، ويتعكر المنطق بسببه، وتتقطع مادة الحجة، وقال ابن القيم رحمه الله: الغضب نوعٌ من الغلق تستغلق به على الإنسان الأمور، وكيف يأتي المرء بحجة أو ينقض حجة للخصم إذا كان في حال الغضب، الغضب عدو العقل وهو للعقل كالذئب للشاة قلما يتمكن منه إلا اغتال العقل، هكذا صوره ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (أسألك كلمة الحق في الرضا والغضب) وكلما ازداد انفعال المتحاورين ازدادت الشقة بينهما وابتعد الواحد منهما عن الآخر (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب).
روي أن المزني رحمه الله ناظره إنسان كثير الصياح والشغب فقال المزني : أخبرنا الشافعي أن أبا حنيفة ناظر رجلاً فكثر صياح أبي حنيفة فمر به رجل آخر وقال: أخطأت يا أبا حنيفة ، فقال أبو حنيفة : ما هذه المسألة؟ -أنت أيها المار ما الذي نتحدث عنه؟- فقال الرجل: لا أدري، فقال أبو حنيفة : وكيف عرفت أني أخطأت؟ فقال الرجل: لأنك إذا أخطأت صحت، وإذا أصبت رفقتَ، فعلمت أنك أخطأت حيث رأيتك تصيح.
إذاً فمسألة الصياح هذه تفسد الحوار.
إذا ما كنت ذا فضلٍ وعلمٍ >>>>>بما اختلف الأوائل والأواخر
فناظر من تناظر في سكونٍ >>>>>حليماً لا تلح ولا تكابر
يفيدك ما استفاد بلا امتنانٍ >>>>>من النكت اللطيفة والنوادر
وإياك اللدود ومن يرائي >>>>>بأني قد غلبت ومن يفاخر
فإن الشر في جنبات هذا >>>>>يمني بالتقاطع والتدابر
وروي أن رجلاً من بني هاشم اسمه عبد الصمد رفع صوته في النقاش عند أحد الخلفاء، فقال له: لا ترفع صوتك يا عبد الصمد إن الصواب في الأسدّ لا في الأشدّ، الأسد: القول السديد، الأشد: وليس بالصوت الشديد.
وإذا أفحش الخصم في جوابه فينبغي عدم الحدة؛ لأن الصياح لا يقابل بالصياح والاستخفاف؛ فهذا من أخلاق السفهاء، ومن الطرائف أن أحد الشعراء سمع اثنين ينتسبان إلى الفقه ينبز أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس.
فقال:
البغل والجاموس في جدليهما>>>>>قد أصبحا عظةً لكل مناظر
برزا عشية ليلة فتباحثا>>>>>هذا بقرنيه وذا بالحافر
ما أتقنا غير الصياح كأنما >>>>>لقنا جدال المرتضى ابن عساكر
فالمناقشة ليست بالقرون والحوافر، وإنما بالكلام المتزن الهادئ، والإنسان إذا كان عصبياً فلا ينصح بخوض حوارات، ومن كان حاد المزاج فقد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا أردنا أن نرشح أشخاصاً للحوار، فلنرشح أشخاصاً عُرفوا بهدوء الطبع؛ لأن المحاور خصوصاً في هذا الزمان ينتدب على أنه يمثل فكرة من الأفكار، أو منهجاً من المناهج، فإذا كان إنساناً حاداً عصبياً يمكن أن يؤدي إلى إقناع الناس بالباطل، أو ينفروا من الحق، فينبغي أن يعتنى بالحوارات ولا يدخل فيها إلا من عنده صفات علمية وأخلاقية تؤهله للدخول.
والقضية قد لا تحتاج لكل هذا، فيكفي قليل من الكلام، ولذلك فإعطاء الخصم فرصة ليتكلم يساعد على إخماد ما لديه من الشبهات، والمحاور الجاد هو الذي يهتم بصاحبه ويصغي لكلامه، وعدم الإصغاء وكثرة المقاطعة والاعتراض سيجعل الأمر أكثر صعوبةً، والمشكلة أننا أحياناً لا نتناقش مع أهل البدع والعلمانيين والمنافقين، نتناقش مع إخواننا وأصحابنا وزملائنا، وربما عاملنا هذا مثل هذا، وهذا ظلم، إذ كيف تعامل أخاك بالحوار مثلما تعامل المبتدع والضال والكافر والمنافق؟
ولا يكن ديدن الواحد كما قال القائل: إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوقفة: لا تعط أحداً فرصةً للحديث، تكلم بغير انقطاع، وإذا خطرت لديك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه لأنه ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك بالاستماع إلى الكلام السخيف، اقتحم عليه الحديث واعترضه في منتصف كلامه.
ولا شك أن مثل هذا لا يمكن أن يحبه الناس، ولذلك فالعبرة بكسب الأشخاص لا بكسب المواقف، يعني: أنت قد تدخل في نقاش وتسجل نقطة على الخصم، لكن لم تكسبه، لأنك لم تعطه فرصةً للحديث، فقد يقول الناس: فلان غلب فلاناً، لكنك خسرت الرجل وإن كسبت الموقف، فالذكي لا ينظر إلى كسب المواقف فقط، ينظر إلى كسب الأشخاص أيضاً.
وبعض المحاورين يسارع إلى الرد، ويبادر في المقاطعة قبل أن يستقبل صاحبه الحجج والبراهين التي لديه، وهذا يؤدي إلى شحن وإثارة النفوس، والشريعة قد جاءت بكل ما يقطع النزاع ويغلق أبواب الخصام والنفور، وبعض الناس ربما إذا جاء الشخص الآخر بالحديث يقول: هذا معروف، أو أعلم ذلك... إلخ. كان عطاء بن أبي رباح رحمه الله يقول: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً، وقال: إن الشاب ليتحدث بحديثي كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد، وقال بعضهم: أسمعه كأني أسمعه منه المرة الأولى وقد سمعته من غيره ثلاثين مرة.
وتراهم يفضي بالحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به، كما قال الشاعر:
وتراه مصغٍ للحديث بسمعه >>>>>وبقلبه ولعله أدرى به
فإذا خرج الخصم من الحوار وقد عرف بأنك إنسان تريد الوصول إلى الحق، وأنك مؤدب في النقاش، فهذا مكسب، وينبغي أن يكون كل واحدٍ من الخصمين مقبلاً على صاحبه بوجهه في حال المناظرة، مستمعاً إلى كلامه إلى أن ينهيه، فإن ذاك طريق معرفته والوقوف على حقيقته كما ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: وليتق المناظر مداخلة خصمه في كلامه وتقطيعه عليه، وإظهار التعجب منه، ولا يمكنه من إظهار حجته، فإنما يفعل ذلك المبطلون والضعفاء.
قال حكيم من الحكماء لابنه: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ فإن حسن الاستماع انتباهك للمتكلم حتى يفضي إليك بحديثه، والإقبال في الوجه والنظر والصبر حتى ينهي الآخر ما لديه من الأخلاق التي يحتاج إليها في المناظرة، وليس حسن الاستماع مجرد الإنصات، فبعض المحاورين يسكت ويجعلك تتكلم وتتم الحديث دون مقاطعة، لكن يتغافل عنك ويتشاغل بكتابٍ بين يديه يقلب أوراقه، أو يعبث بالقلم أو ينظر إلى السماء، وربما انتهيت وهو لا يدري أنك انتهيت، فهذا في الحقيقة ما أنصت وإنما سكت، والإنصات هو الانتباه لما يقوله الآخر.
ولما اختصم علي والعباس إلى عمر رضي الله عن الجميع جاءا في قضية الميراث فقال عمر : اتئدا! أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث معاشر الأنبياء، ما تركنا صدقة)؟ فأوقفهما.
لما جاء رجل إلى ابن عمر قال: أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة هل أطيل فيهما القراءة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى يوتر بركعة، قال السائل: إني لست عن هذا أسألك؟ فقال ابن عمر : إنك لضخم -أي: وصفه بوصفٍ فيه إشارة إلى شيءٍ من الغباء- إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث؟ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة ويصلي ركعتين قبل الغداة) فقاطع السائل ابن عمر قبل أن يجيبه، وهذا نلاحظه كثيراً في أسئلة العلماء، إن بعض السائلين يسأل العالم، وقبل أن يتم العالم كلامه يدخل السائل مرةً أخرى في مسألة ثانية، ولذلك تجد العالم من أولي الخبرة في الإفتاء يتكلم، ثم إذا انتهى كلامه قال: نعم. يعني: انتهى كلامي، وإذا عندك شيء آخر فائت به، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على أن الكلام انتهى، فمن حسن الأدب مع العالم أنك إذا دخلت معه في حوار أو نقاش أو مساءلات ألا تقطع الكلام عليه، وتنتظر حتى يقول: نعم. فإذا شككت هل هو أنهى كلامه أم لا فاصبر ولا تعجل، والإنسان خلق عجولاً، ولذلك كثيراً ما يقع السائل في مزالق بسبب عجلته، وتفوته بذلك فوائد، وربما أن الشيخ طفش منه ولم يسمح له بمزيد من الأسئلة بسبب مداخلاته ومقاطعته المستمرة.
ثم من أراد أن يبدأ في حوار فلا يبدأ بالأدلة الضعيفة، بل يأتي بالأدلة القوية؛ لأنك إذا أتيت بالأدلة المحتملة يصير النقاش في الاحتمالات، والشخص الآخر يورد عليك إيرادات قد تكون صحيحة، ويضيع الوقت فيها، هات الأدلة الأقوى أولاً، وهذه مسألة يغفل عنها بعض طلبة العلم أثناء النقاشات، يأتي بالدليل الأضعف، مع أن الحكمة تقتضي أن يأتي بالدليل الأقوى أولاً.
ثم بعضهم إذا أراد أن يناقش فلا تخرج من نقاشه إلا بتكراره للدعوى التي يقولها دون أدلة، يرجع ويكرر الدعوى بدون دليل، تريد دليلاً فلا تجد دليلاً، ما عنده إلا التكرار وترديد أصل الدعوى، ثم يجب احترام أدلة الطرف الآخر إذا كانت صحيحة ووجيهة، ولا يقول كما يقول بعض المتعصبين للمذاهب: هذا الدليل ساقط لأن إمامي لم يقل به، ولو كان صحيحاً لعرفه وقال به، فكونه ما قال به لا يعني أنه ليس بصحيح وهذا خطأ من الأخطاء.
ويروى أن يهودياً قال لـعلي رضي الله عنه: ما نفضتم أيديكم من تراب نبيكم حتى قلتم: منا أمير ومنكم أمير، فقال علي رضي الله عنه: وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر الذي جمده الله لموسى حتى قلتم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة: من الأسوأ الأعظم؟
وكذلك ما حصل في مناظرة الباقلاني مع النصارى وسؤال أحدهم الباقلاني قال: ما فعلت زوجة نبيكم وما كان من أمر الإفك هذا؟ فيريد أن يطعن في عائشة رضي الله عنها، فقال الباقلاني على البديهة مجيباً: هما امرأتان ذكرتا بسوء -مريم وعائشة - فبرأهما الله عز وجل، وكانت عائشة ذات زوجٍ ولم تأت بولد، ومريم أتت بولد ولم يكن لها زوج، فبهت النصراني.
وذكر أن المقوقس قال لـحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لما أرسل إليه، كيف الحرب بين محمد وبين المشركين؟ قال: سجال يدال عليهم ويدالون عليه، فقال المقوقس : أنبي الله يغلب؟ فقال حاطب : وابن الله يصلب؟ فسكت.
ولما استعمل عمر رضي الله عنه المغيرة بن شعبة على أهل البحرين فكرهه بعضهم، فعزله عمر رضي الله عنه، فخافوا أن يرده إليهم فجاءوا إلى الدهقان يقولون: نخشى أن عمر يرد المغيرة أميراً علينا، ونحن لا نريده، فانظر ماذا تعمل في أمره؟ قال: اجمعوا مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر وأقول: إن المغيرة اختلس هذه الأموال ووضعها عندي أمانة، فجمعوا له مائة ألف درهم وأعطوها للدهقان فذهب إلى عمر في المدينة ، وقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة الأمير الذي جعلته علينا اختلس مائة ألف وسرقها من الأموال العامة، وجئتك الآن أردها لك، فدعا عمر للمغيرة قال: ما يقول هذا؟ قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة : ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ قال: لا والله لأصدقنك، والله ما دفع إليَّ لا قليلاً ولا كثيراً، ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ما صنعت من الكلام؟ قال: إن الخبيث كذب عليَّ فأحببت أن أخزيه.
ولما قال ملك النصارى للباقلاني : هذا الذي تدعونه في معجزات نبيكم من انشقاق القمر، كيف هو عندكم؟ قال: صحيح، انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأى الناس ذلك، وإنما رآه الحاضرون ومن اتفق معهم في النظر إلى القمر في ذلك الوقت، فقال الملك: وكيف ولم يره جميع الناس؟ -يعني: كل الناس في العالم ما رأوا انشقاق القمر- قال: لأن الناس لم يكونوا على أهبة ووعدٍ من انشقاقه وحضوره -أي ليس كل الناس في العالم كانوا يتطلعون إلى القمر في ذلك الوقت- فقال الملك: وهذا القمر بينكم وبينه نسبة أو قرابة؟ لأي شيءٍ يظهر لكم ولا يظهر لهم، ورأيتموه أنتم خاصة ولم يره بقية الناس؟ فقال الباقلاني : وهذه المائدة التي نزلت عليكم؛ هل بينك وبينها نسبة قرابة؟ فلماذا رأيتموها دون اليهود والمجوس والبراهمة، وأهل الإلحاد واليونان جيرانكم، وهم ينكرون المائدة؟ فتحير الملك وقال: سبحان الله! ثم قال القاضي الباقلاني لقسيس عندهم: ألست تزعم أن الأرض كروية؟ قال: بلى. قال: أفتنكر أن يرى في هذا الإقليم ما لم يُرَ في إقليمٍ آخر؟ كالكسوف يرى في موضعٍ دون موضع، وكواكب السماء ترى في موضعٍ دون موضع، أم تقول: أن الكسوف يحدث لأهل الأرض كلهم؟ فقال القسيس: بل لا يراه إلا من كان في محاذاته، قال الباقلاني : كما أنكرت من انشقاق القمر إذا كان في ناحيةٍ لا يراه إلا أهل تلك الناحية ومن تأهب للنظر إليه، فأما من أعرض عنه وكان في مكانٍ آخر من الأرض لا يرى القمر منها كان عندهم نهار، أو بعد أن طلع القمر عندهم في ذلك الوقت فلا يرى، فقال: هو كما قلت، وسلم له.
على أية حال المناظرات بين أهل الإسلام والنصارى، واليهود والمبتدعة، والمناظرات بين أهل السنة والمبتدعة كثيرة جداً وكلها دالة على اعتنائهم بتبليغ الدعوة وإقامة الحجة.
والغرض من الحوار هو إقامة الحجة على الناس، وأما الحوار بين الإخوان فلابد أن يكون فيه اعتناء زائد بالأدب؛ لأن الله قال: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] فلا يصلح أننا إذا ناقشنا كافراً ونصرانياً تأدبنا وجلسنا نحاول في هداية الرجل، وإذا تناقشنا مع إخواننا المقربين ارتفعت الأصوات وهاجت العبارات وصار الكلام بلا حساب ولا ضبط.
على أية حال فن المناظرات هذا يحتاج إلى درسٍ خاص لكي يتم معرفة محاصرة الخصم، وكيف يصل الإنسان إلى الإقناع ونحو ذلك، المسألة فيها مزيد من الكلام، لكن الكلام في الحوار وليس في المناظرة، واعلموا أيها الإخوة أن مسألة الحوار قد اتخذت في عصرنا ذريعة لإزالة الفوارق العقدية وتلميع الإسلام في الأرض، تارةً باسم الحوار بين الأديان، أو الصداقة الدينية، أو الملة الإبراهيمية ونحو ذلك، وأعداء الإسلام يعرفون جيداً أهمية إزالة الفوارق العقدية من نفوس المسلمين، حتى نقبلهم ونقبل ما يأتون به، وأنه لابد من أن تتحطم الحواجز العقدية في نفوسنا مثل بغضهم وكرههم، وإذا حطموا هذه الحواجز، دخل علينا منهم كل شيء، إخوة وأبناء عم ونحو ذلك من الكلام، فيهتمون بقضية حوار الحضارات، أو الحوار بين الأديان، فما هو مقصودهم من قضية الحوار بين الأديان؟
المقصود من قضية الحوار بين الأديان هو : السعي لإزالة الفوارق والحواجز بيننا وبينهم، وإذا زال الولاء والبراء، وزال كره الكافر والكفر، وكره اليهود والنصارى مع نفوسنا؛ إذا زال هذا الحاجز وصار بيننا محبة وأخوة وعلاقات حميمة وود؛ قبلنا ما يأتي منهم من الباطل بعد ذلك، ولذلك لابد أن نحذر من هذه المسألة حذراً شديداً.
ثانياً: تحدث الآن حوارات في القنوات الفضائية يستضاف فيها أناس من المنافقين الذين يمثلون اتجاه فصل الدين عن الحياة، ويستضاف فيها أناس من المبتدعة، ويستضاف فيها أناس من أرباب الشهوات وهذا أمر خطير جداً لابد أن نحذر منه، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , آداب الحوار [1، 2] للشيخ : محمد المنجد
https://audio.islamweb.net