اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 77 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد:
لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى أحداث عمرة الحديبية وبيعة الرضوان والصلح فيها، ودرسنا من ذلك أحداثاً جساماً، نشير إلى عناوينها -فقط- تذكيراً للناسين:
عرفنا أولاً وفد خزاعة، وما تم معه، ثم سفارة قريش وما تم فيها، وغضبة صادقة، وسفير ثالث، ثم عودة السفير الثالث، وبعد ذلك سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، كل هذه الأحداث مرت بنا في الليلة السابقة في مثل هذه الليلة.
قال: [لما فعلت قريش ما فعلت بسفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها] بعث النبي صلى الله عليه وسلم سفيره إلى قريش فماذا فعلت؟ [حيث عقرت بعيره] المعروف بثعلب [وأرادت قتل السفير، ولم تقبل منه قولاً ولا رأياً] ردت كل شيء مما جاءهم به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم هارباً بنفسه] عاد من مكة إلى الحديبية هارباً بعد أن أرادوا قتله، وعقروا بعيره، وهو بعير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غرابة مع الشرك بالله والكفر به وبلقائه.
[في هذه الأثناء الزمنية تبعث قريش بأربعين مجرماً من مجرميها يرمون معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبال] اختارت أربعين مجرماً فتاكاً من كبار المشركين وبعثت بهم ليقتلوا ما استطاعوا من رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا يرمون معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل؛ إذ لم يختلطوا بالسيوف، بل وقفوا بعيدين [لعلهم يصيبون بعضاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] فيشفون صدورهم من التغيظ والكرب.
قال: [فناهضهم بعض أفراد المعسكر المحمدي] بعض الأفراد قاموا وجروا وراءهم [فألقوا القبض عليهم] جميعاً. بعض أفراد المعسكر الإيماني استطاعوا أن يلقوا القبض على الأربعين مجرماً [وأتوا بهم أحياء أذلاء للنبي صلى الله عليه وسلم] ما ضربوهم ولا قتلوهم، ولكن أذلوهم يقودونهم كالأبقار، فماذا قال النبي؟ هل قال: قم يا عمر واقطع رءوسهم؟ لا والله، هل ربطهم في الأشجار يموتون جوعاً؟ والله ما فعل.
[فعفا عنهم وخلى سبيلهم] وتركهم يعودون إلى ديارهم! صلوا عليه وسلموا تسليماً، واقتدوا به، واعفوا عمن ظلمكم [فتحقق وصفه في التوراة] كتاب الله المنزل على موسى [وأنه لا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح فصلى الله عليه وسلم] كان من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب التوراة المنزل على موسى: أنه لا يدفع السيئة بالسيئة، أو السبة بسبة أو الشتمة بشتمة أو الضربة بضربة، ولكن يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم.
[وهكذا يتجلى الإحسان المحمدي، وتنكشف إساءة المشركين] هيا نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم، أو لعلنا لا نستطيع؛ لأننا ما تعلمنا الآداب في حجور آبائنا وأمهاتنا، بل قضينا عشرين سنة في الشوارع نصيح ونلعب، ولذلك هو أمر صعب، ولكن من حبس نفسه بين يدي ربه يريد تأديبها وتهذيبها وتطهيرها، يستطيع ذلك متى سأل الله ذلك في صدق، فإن الله لا يرد سائله.
هيا نربي أولادنا حتى لا يشبوا ويكبروا على الجهل وظلمته، أو لعل أحدنا يقول: يا شيخ! لا تقل الجهل فهؤلاء عندهم شهادات ثانوية وعالية! فأقول: هذه لا تجدي شيئاً، لم لا تجدي شيئاً؟ لأنهم يتلقون تلك المعارف بدون تزكية نفوسهم ولا تطهير أرواحهم، فالمعلم يعلم من أجل أن يتقاضى راتبه الشهري، والطالب من أجل يتوظف مستقبلاً، وهكذا .. فكيف تزكو النفوس؟! أما قرأتم قول الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران:164]؟ هل أنتم تبعثون أولادكم وبناتكم من أجل تزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم؟ ولا (1%) يفعل هذا.
[ولم يكل الحبيب صلى الله عليه وسلم ولم يمل] والكلَّ: تعب وعجز، والمل كذلك [في سبيل تحقيق السلم]، يريد سلماً؟ إي والله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] وهو الإسلام، والسلم لازمه [وإخماد نار الحرب التي يشعلها الكافرون] ويؤججونها [فيدعو عمر بن الخطاب ليرسله سفيراً إلى قريش مرة ثانية؛ إذ سبق له أن أرسل خراش بن أمية الخزاعي فيعتذر لعدم قدرته على هذه المهمة] والآن لو اختاروا واحداً منا سفيراً للحكومة، هل يقول: لا أستطيع؟! لا. بل يدفع الرشاوى حتى يحصل على هذا المنصب، وعمر على جلالته، يقول: لا أستطيع يا رسول الله! فهذه مهمة قوية وصعبة، فاطلب غيري.
قال: [فيقول: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي] معللاً امتناعه عن قبول السفارة [إذ ليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها] وهو تعليل محمود مقبول، فقبله الرسول صلى الله عليه وسلم [-واقترح عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل بدله عثمان بن عفان -: ولكني أدلك على رجل أعز مني] هكذا قال عمر : أدلك على رجل أعز مني هو عثمان بن عفان [فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان ] رئيس مكة وحاكمها [وأشراف قريش] وأشراف قريش هم أهل السمو والعلو والارتفاع.
قال: [يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب] يخبر أبا سفيان وقريشاً أن النبي محمداً عليه الصلاة والسلام لم يأت لحرب أبداً [وإنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته] وهو والله كذلك. فقد خرج في ألف وأربعمائة يريدون العمرة فقط؛ لأنهم منعوا منها كذا سنة.
قال: [ويمشي عثمان سفيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة] فاز بها ذو النورين [وما إن دخل مكة حتى تلقاه أبان بن سعيد بن العاص ] من أقربائه [فحمله بين يديه إعظاماً له لقرابته منه، وأجاره] أي: أنزله بجواره، كان إذا قال أحدهم: إن فلاناً في جواري، فلا يمسه أحد بسوء، ولم يقل فيه كلمة سوء؛ لأنه في جواره، وهو المعروف الآن باللجوء السياسي.
واللجوء السياسي كلمة غربية إبليسية، ولكن في الإسلام المرأة -والله- تجير أكبر مشرك، وحصل ذلك في يوم الفتح عندما دخل أحد المشركين بيت أم هانئ بنت أبي طالب وطلب جوارها فأجارته، فجاء علي يريد أن يخرجه من بيت أخته، فقالت: دعه يا ابن أمي لقد أجرته، ثم ذهبت إلى رسول الله وأخبرته بذلك فقال: ( قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ ). هذا الكمال البشري أين نجده؟!
وكذلك ابن الدغنة أجار أبا بكر الصديق لما ضايقوه وألجئوه إلى الفرار والخروج من مكة، وطاف في أسواق مكة قائلاً: لقد أجرت ابن أبي بن قحافة . فما أصبح واحد ينظر أو يلتفت إليه، إلا أنه رضي الله عنه ما استطاع أن يصبر عن الصلاة حول الكعبة وقراءة القرآن، وكان النساء والعبيد والرجال -رجال السياسة- إذا جن الظلام يأتون ويختفون ليسمعوا قراءة أبي بكر ، فأثرت تلك القراءة فيهم، فقالت قريش لـابن الدغنة : خذ جوارك وإلا أخرجه، فقال: أي فلان رد علي جواري وإلا اقرأ في بيتك ولا تخرج منه، فقال: رضيت بجوار الله يا ابن الدغنة ، وما هي إلا أيام حتى فتح الله باب الهجرة، وهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
إذاً: أجاره أبان بن سعيد بن العاص [حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق به إلى أبي سفيان وأشراف قريش، فبلغهم ما أرسل به] أي: المهمة التي جاء من أجلها [وأذنوا له بالطواف بالبيت أكراماً له] قالوا: طف يا عثمان ! [فأبى] أن يطوف [وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذا هو الصاحب [واحتبسته قريش عندها] ولعله بأمر من أبي سفيان ، ليس لأذيته، لكن ليبقى معهم ليالي قد يسمعون منه، أو يسألون عن شيء [إلا أنه قد أشيع] وتعرفون الإذاعات في ذلك الزمان بالألسن [أن قريشاً قتلت عثمان سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها] ولو كان ذلك حقاً لاندلعت الحرب، فبعد قتل السفير ماذا بقي؟!
إذاً: دعا صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة لكل من كان معه من المدينة من المهاجرين والأنصار [على أن لا يفروا عند لقاء العدو] إذا لاقوا عدوهم لا فرار [فكانت هذه بيعة الرضوان، ونزل فيها قول الله تعالى من سورة الفتح: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]] والسكينة هاهي الآن نازلة علينا، هل عندنا فوضى الآن أو صياح أو ضجيج أو كلام؟ ما لنا صامتين ساكتين؟ لأن السكينة نزلت علينا، فلا خوف ولا رهب، (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)، ألا وهو فتح ديار خيبر، وما فيها من غنائم وأموال، والفتح البعيد هو فتح مكة، وأنجز الله وعده.
قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، يبايعونه على ماذا؟ على أن يقاتلوا ولا يفروا عند اللقاء، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الإيمان والخير والصدق والوفاء، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ على ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار وَأَثَابَهُمْ جزاهم على هذا الموقف فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18] وهو فتح خيبر.
قال المؤلف غفر الله ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [ولم يتخلف أحد عن هذه البيعة إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة] والجد بن قيس هذا لما أعلن الرسول عن النفير إلى قتال الروم في غزوة تبوك جاء يقول: يا رسول الله! أنا مولع بالنساء، وتلك الديار -ديار الروم- نساؤها جميلات وكذا .. فائذن لي بأن لا أخرج معكم، وهو من كبار المنافقين، ونزل فيه قرآن من سورة التوبة، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49] مع أن التعبئة عامة، والخروج واجب على كل رجل، قال: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي بمن يفتنه رسوله؟ بالنساء الروميات؛ لأنه إذا رأى الواحدة منهن لا يصبر!! منافق رقم واحد، وانظر إليه الآن ماذا يصنع وهو بينهم.
[قال فيه جابر بن عبد الله ] رضي الله عنه وعن أبيه [لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس] يعني: الناس يبايعون، وهو مختف تحت إبط ناقته حتى كاد يلصق في بطنها لكيلا يراه أحد؛ لأنه لا يريد أن يبايع، حتى لا يقتل إخوانه المشركين، وبينه ويبنهم ارتباطات. هذا هو الجد بن قيس الذي نزل فيه قرآن.
[وكان أول من بايع في هذه البيعة أبو سنان الأسدي أخو عكاشة بن محصن ] رضي الله عنهما [وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعثمان ] الأسير في مكة، وكيف يحرم عثمان من هذه البيعة؟ إذاً: ضرب الرسول بإحدى يديه على الأخرى وقال: هذه بيعتك يا عثمان ! ففاز بها عثمان ، وهل تعرفون أن من أهل الجهل وظلمة النفس من يلعن عثمان ويكفره؟ هل بلغكم هذا؟ هؤلاء الذين أعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: [فضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه لـعثمان .
وبعد قليل من الوقت، تبين أن عثمان لم يقتل، وأن ما ذكر عنه باطل؛ إذ جاء بعد الفراغ من البيعة بقليل، والحمد لله] عاد عثمان بعد البيعة بقليل من الوقت.
[ولما علمت قريش بالبيعة على قتالها، خفّت فأرسلت سفيرها سهيل بن عمرو تطالب بالصلح] إذاً: موقف الرسول كان موقفاً حكيماً؛ فقد عزم على قتالهم، ولما عرفت قريش الجد، بعثت بسفيرها يطالب بالصلح [إذ قالت له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا؛ حفاظاً لماء وجهها] ويأتي في عام آخر فنخلي له مكة يطوف ويسعى، أما أن تسمع العرب بأن محمداً هزم قريشاً فلا نرضى بهذا أبداً [إذ قالوا: فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، وأتى السفير النبي صلى الله عليه وسلم، فما إن رآه مقبلاً نحوه حتى قال: ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل )] وهذه فراسة وأنوار محمدية، فما إن رأى سهيلاً -وهو رجل ممتاز من رجال السياسة والبصيرة- حتى قال: ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ).
[وانتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] ووصل وجلس بين يديه [وتكلم فأطال الكلام] كان فصيحاً سياسياً [وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح] تراجعا الحديث، ثم اتفقا على الصلح [ولم يبق إلا كتابة الوثيقة بالصلح الذي أنتج الهدنة المباركة] بين الرسول وبين المشركين.
[لما تمت المفاوضات وانتهت بالصلح وعمر يسمع] حديث رسول الله مع سفير قريش سهيل [أتى أبا بكر ]، ذهب عمر إلى أبي بكر الصديق [فقال: يا أبا بكر ! أليس برسول الله؟ -أي: محمد صلى الله عليه وسلم- قال: بلى، أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟] يعني: على أي شيء نعطي الدنية في ديننا [فقال أبو بكر : الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله] أي: الزم أمره ولا تخالفه، والغرز من الرحل كالركاب من السرج، أي: لا تفارقه ولا تتقدم على الرسول أبداً [فقال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له نفس القول الذي قاله لـأبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني )] هذه كلمة رسول الله لـعمر . وما ترك عبد مؤمن شيئاً لله، إلا عوضه الله خيراً منه، فأيما مؤمن صادق أو مؤمنة ترك شيئاً لأجل الله عوضه الله خيراً منه.
[روي أن عمر رضي الله عنه قال: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً] استمر على الصلاة والصيام والصدقات وعتق الرقاب ليكفر عن ذلك الموقف، ووالله ما وقفه إلا لله، ونحن يخرج الواحد فينا من الزنا أو اللواط أو الربا أو الجريمة فلا يصلي ركعتين نافلة حتى، ويقول: تبنا! ولا يبكي حتى ساعة في عمره، وعمر المبشر بالجنة يتصدق ويصوم ويعتق الرقاب، من أجل موقف وقفه غير ملائم لموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه] سكرتيره الخاص [ليكتب وثيقة الصلح، وقال: ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل ممثل قريش وسفيرها: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك )] يعني: لو علمت أنك رسول الله وشهدت بذلك ما قاتلتك، وقد تنازل صلى الله عليه وسلم من قبل عن الرحمن الرحيم.
وقد أُلهمت وكتبت إلى إخواننا في الديار الجزائرية المسئولين عن هذه الحرب، فقلت لهم: يا فلان ويا فلان أطفئوا هذه النار، تخلوا عن المطالبة بالحكم والمشاركة فيه، فإنه والله لا خير فيه، وهو حكم موهوم فقط، أطفئوا هذه النار، أعلنوا عن تنازلكم عن المشاركة في هذا الحكم وعن قبوله، وأنقذوا إخوانكم، وإن تململتم فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنازل عن كلمة رسول الله، من أجل ماذا؟ من أجل هدنة يتمكن فيها المؤمنون من السير والمشي طالبين أرزاقهم عشر سنوات، ووالله ما ردوا ولا أجابوا.
[( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين )] وتلك حرب كانت بين الكفار والمؤمنين، ونحن حروبنا بين المؤمنين أنفسهم، والسبب أننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تربينا على هدي رسول الله وآدابه وسياسته.
قال: [( يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض: على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم )] وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول سهيل : يا محمد! إذا جاءك واحد منا ونزل عندك ووليه غير راض يجب أن ترده علينا لنعذبه ونقتله، وإذا صار إلينا منك أحد لا نرده عليك [( ومن جاء قريشاً ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه )] وتحمل هذا الرسول وهو أرحم الخلق وأعلمهم بما يتم ويجري، فإذا جاء مشرك للمدينة وطلبه أهله رده عليهم، وإذا فر مؤمن إلى مكة لا يردوه على النبي صلى الله عليه وسلم، وتنازل عن أعظم شيء، عن كلمة رسول الله، ولو أن سياسياً اليوم في أي موقف من المواقف تنازل عن بسم الله الرحمن الرحيم لكفرناه أجمعين، ووقع هذا وجربناه وعرفناه؛ لأننا نهرف بما لا نعرف ونتكلم بدون فقه.
قال: [(وأن بيننا عيبة مكفوفة)] يريد أن صدورنا مطوية على ما فيها، فلا نبدي عداوة مدة الهدنة [ (وأنه لا إسلال ولا إغلال)] أي: لا سرقة خفية ولا خيانة، أما أن نصطلح ثم تسبون أو تشتمون فلا. صمت كامل [(وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه)، وفعلاً تواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثب بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. وأنك ترجع عنا عامك هذا] لا تعتمر الآن [فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك] وأخلينا لك مكة [تدخلها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب: السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها، وشهد على الوثيقة عدد من المسلمين وآخر من المشركين، وأصبحت سارية المفعول] ماضية.
[ما زالت الوثيقة لم يجف حبرها] كما كتبت [حتى جاء أبو جندل -ابن السفير المشرك سهيل بن عمرو -] في المجلس [يرسف في الحديد] مغلل بالحديد في يديه [هارباً من المشركين، فقام إليه أبوه فضربه في وجهه، وقال: يا محمد! قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يجيء هذا؟] يعني: اتفقنا من قبل أن يجيء ابني، فلا حق لك فيه أرده إلى مكة [قال: ( صدقت )] أي: صدقت فيما قلت يا سهيل فقد تمت القضية قبل هذه.
[فجعل ينتهره ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أُردّ إلى المشركين كي يفتنوني في ديني؟ فاغتم لذلك المسلمون وكربوا، وزادهم أسى وحزناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا جندل اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً)] من أين لنا رجل كرسول الله؟! [(إنا عقدنا بيننا وبينهم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم)].
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ..
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 77 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net