اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الدخان (7) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع هذه الآيات من خاتمة سورة الدخان المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:51-59].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! كتاب الله القرآن العظيم زيادة على بيان الأحكام الشرعية يأخذ طريق التربية الإسلامية.
فبالأمس وصف لنا أهل النار وما فيها لنخاف الله ونخاف عذابه، فنؤمن ونستقيم ونعبد الله، فنكمل ونسعد، وهنا وصف لنا أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم، من أجل أن نرغب في الجنة ونطلبها، وذلك بتقوى الله وعبادته.
فاسمعوا قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] من هم المتقون يا عباد الله؟
واحدهم تقي متق، والجمع: متقون وأتقياء، من هو المتقي؟ الذي يجعل بينه وبين العذاب وقاية تقيه وتحفظه، التقي الذي يجعل بين عذاب الله وسخطه وقاية، هذه الوقاية هل هي من حديد أو من نحاس؟ هل هي جبال وحصون أم جيش ورجال؟ هذه الوقاية بم تكون؟
تكون بطاعة الله ورسوله، تكون هذه الوقاية من عذاب الله وسخطه بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قلتم: ما علة ذلك وما السر فيه؟
فالجواب: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل الأوامر وترك النواهي تصبح بها روحه زكية طيبة طاهرة نقية.
فعبادة الله تزكي النفس البشرية، أي: تطيبها وتطهرها، فيرضى عنها ربها ويقبلها في جواره في دار السلام، طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بهما يتقى عذاب الله في الدنيا والآخرة، ما سر ذلك؟ ما علته؟
الجواب: أن هذه الطاعة التي هي عبادة الله بما شرع عقيدة وعبادة وأدباً وخلقاً، هذه العبادة من شأنها أنها تزكي النفس، أي: تطيبها وتطهرها، كما يطيب الماء والصابون الثياب والأبدان.
ولا تنسوا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فهذه ما تزول عن أعيننا أبداً، هذا حكم الله الصادر علينا: قد أفلح من زكى نفسه أي: طيبها وطهرها، وخاب من دساها: أخبثها وعفنها.
وبم تزكو النفس؟ بم تطيب وتطهر؟ هل بالماء والصابون؟ بالإيمان وصالح الأعمال، وبم تخبث النفس وتدسى؟ هل بالخرء والبول والعذرة؟ كلا. بل بالكفر والشرك ومعصية الرب عز وجل، هذه هي الحقيقة.
يقول تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ [الدخان:51] وفي قراءة سبعية: (في مُقام)، والمقام -بالضم-: مكان الإقامة، والمقام -بالفتح-: مكان القيام.
فِي مَقَامٍ [الدخان:51] وفي مُقام أَمِينٍ [الدخان:51] أي: في الجنة الأمن كامل، لا مرض، لا هرم، لا موت، لا خوف، لا جوع، لا عري أبداً، مقام صاحبه آمن من كل خوف، هذه دار السلام.
والجنات: جمع جنة، والجنة: البستان العظيم، والجنة دار السلام جنان: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان:52]، والعيون: جمع عين، عيون المياه: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] هذه هي الجنة التي ننتظرها، ما هي إلا أن تخرج هذه الروح وتدخلها إن كنا من المتقين، لا من الفاجرين والفاسقين.
ثم قال تعالى: مُتَقَابِلِينَ [الدخان:53] نجلس إن شاء الله جلسة في يوم من الأيام، ولما نجلس نتحدث ونذكر الله ونشكره، نذكر أيام الدنيا وما فيها، وإذا أراد كل واحد أن يذهب إلى داره فالسرير يمشي وراءه بحيث لا يعطيك ظهره أبداً، فهم متقابلون دائماً وأبداً، والآن حين نقوم كل واحد يعطي ظهره للثاني، لكن هناك على سرر متقابلين، السرير يمشي آلياً أوتوماتيكياً، ما هناك آلة، بصنع الله وتدبيره يرجع بك إلى الوراء فما تعطي ظهرك لأخيك الذي تحبه وتتكلم معه، وهذا عجب وإي عجب! ووالله! إنه لحق.
يَدْعُونَ فِيهَا [الدخان:55] أي: في الجنة بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:55]، وحين يأكلون الفاكهة ما يخافون أن يصابوا بالغثيان والقيء، أو يصيبهم كذا، يأكلون ويشربون آمنين، وفي الدنيا لو تكثر من الأكل فإنك تمرض، أليس كذلك؟ هناك بعض الأطعمة تؤذيك وتضرك، أما هم فيأكلون ويشربون لا يخافون أبداً، لا يحدث أي ضرر، سبحان الله! آمنون من كل ما يأكلونه، لا يكربهم، لا يحزنهم، لا يمرضهم.
فأهل الجنة لا يموتون أبداً، لا مرض ولا كبر سن ولا موت، لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] فقط التي ماتوها، الموتة الأولى ما هي؟ الذين صلينا عليهم الآن ماتوا، ذاقوا الموت، لكن في الجنة لا يذوقون الموت أبداً.
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] هذه التي ماتوها في الدنيا، وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].
وهذه لطيفة، وهي: أنه تعالى قال: (إن المتقين)، ما قال: إن المؤمنين أو المسلمين، قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ [الدخان:51] فالمتقون لا يذوقون عذاب الجحيم، والمؤمنون العصاة يدخلون النار ويخرجون، ما يدخلون مع هؤلاء، أما قال: وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56]؟ أي: حفظهم منه، هؤلاء الذين كانوا أتقياء بررة ما فسقوا ولا فجروا، وهم أتقياء، فهؤلاء لن يدخلوا النار أبداً، لن يذوقوا عذاب الجحيم، لكن من كان يعصي ويفسق قد يستوجب العذاب ويدخل العذاب، ثم يخرج من النار إلى الجنة، أما هؤلاء فوقاهم عذاب الجحيم، فمن هم هؤلاء؟ هم المتقون، وليسوا المؤمنين أو المسلمين أو العابدين.
ولن تكون تقياً أبداً حتى تعرف محاب الله ومكارهه، فتفعل المحبوب وتتجنب المكروه، وهيهات هيهات أن تكون تقياً وأنت ما تعرف بم تتقي، ومن هنا فطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، طلب العلم ما يحتاج إلى المدارس والكليات، بل اسأل أهل العلم فقط: يا شيخ! كيف أتوضأ؟ يا شيخ! قل لي ما يحب الله؟ يا شيخ! قل لي ما يكره الله؟ فنفعل المحبوب ونترك المكروه، طول العام نسأل ونتعلم.
وأحسن طريق هو جلوسنا بعد صلاة المغرب في بيت ربنا كل ليلة نتعلم محاب الله ومكارهه، أي: نعرف كيف نعبد الله، فإذا دقت الساعة السادسة فأغلق دكانك يا تاجر، ألق مسحاتك من يدك يا فلاح، وتوضئوا وائتوا بنسائكم وأطفالكم إلى مسجدكم في الحي أو في القرية، كل ليلة طول العام، ما يبقى بيننا من لا يعرف محاب الله ولا مكارهه أبداً.
هكذا يقول تعالى: وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].
ولهذا يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( سددوا وقاربوا وأبشروا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).
يعني: لا تقل: أنا أصوم الدهر كله، أو أقوم الليل كله ما أنام أبداً، ما أبقي فلساً في بيتي ولا جيبي، كل ذلك نخرجه لندخل الجنة، لا تتكلف هذا أبداً؛ لأن دخول الجنة بفضل الله ورحمته، والأعمال الصالحة تطهر نفسك وتزكيها، والمطهر لها هو الله عز وجل، فالجنة فضل من الله عز وجل، ما هي بجهادنا ولا بصيامنا ولا بصبرنا.
هكذا يقول تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57]، ذلك الذي سمعتم -وهو النجاة من عذاب الله والاستقرار في دار النعيم الجنة- هذا الفضل هو الفوز العظيم.
وما هو الفوز العظيم عندنا في الدنيا؟ هذا فاز بدكتوراه، هذا فاز بامرأة صالحة، هذا بوظيفة كذا، هذا بكذا، وهذا ما هو بالفوز، الفوز العظيم أن تدخل الجنة دار النعيم المقيم فتكمل فيها وتسعد أبداً حقاً، هذا هو الفوز العظيم، فاز أي: نجا من النار ودخل الجنة دار الأبرار.
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ [الدخان:58] أي: القرآن سهلناه وبيناه بِلِسَانِكَ [الدخان:58] أي: بلغتك، لماذا؟ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان:58] أي: رجاء أن يتذكروا، فيعلموا ويعملوا ويطيعوا الله ورسوله ويدخلوا الجنة.
فارتقب أنت متى ينصرك الله وينصر دينك، وهم يرتقبون متى تنهزم وتنكسر وتخرج من مكة، سبحان الله العظيم! فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] هم كل يوم يقولون: أما مات محمد، أما ترك دعوته هذه كل يوم؟ لأنهم أعداء وخصوم، فهم يرتقبون، فارتقب أنت يا رسولنا، ونصره الله ودخل مكة السنة الثامنة براية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وجاءوا والتفوا حول الكعبة وقال: ( ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، وبعد خمس وعشرين سنة ما بقي كافر في هذه الديار، فارتقابه كان له فضل، ارتقب نصر الله له فنصره، وارتقابهم باطل.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: فضل التقوى وكرامة أهلها، والتقوى هي خشية من الله تحمل على طاعة الله بفعل محابه وترك مكارهه ].
ما هي التقوى؟ هي الخشية، أي: الخوف من الله، يحملك على طاعة الله ورسوله بفعل محابه وترك مكارهه، لكن لا بد أن تعرف ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال، بل والصفات والذوات، ولا بد أن تعلم ما يكره الله من الصفات والذوات والاعتقادات، وهذا يتوقف على طلب العلم، فلهذا أعلن رسولنا قوله: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، وأكثر فساقنا وفجارنا في العالم الإسلامي -والله- جهال ما عرفوا الطريق إلى الله، والعابدون منا والصالحون علماء وعارفون.
والطريق بيناه: اجتمعوا في بيوت ربكم كل ليلة من المغرب إلى العشاء، تجلسون بين يدي عالم تتعلمون منه طول العمر.
[ ثانياً: بيان شيء من نعيم أهل الجنة ترغيباً في العمل لها ].
ما ذكر كل النعيم، ذكر بعضاً منه من باب الترغيب في طلب الجنة، فهيا نطلب الجنة، وبم نطلبها؟ بالجوازات أو بالسحر؟ يا عباد الله! بم نطلب الجنة؟
نطلبها بطاعة الله ورسوله؛ إذ هذه الطاعة تزكي نفوسنا وتطهرها، وإذا زكت النفس رضي الله عنها وأدخلها الجنة.
قال المؤلف في الهامش: [ عن ابن مسعود أن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم ].
لا إله إلا الله! الحوراء من نساء الجنة مخها في ساقها يرى لصفاء جلدها.
[ وقال مجاهد : إنما سميت الحور حوراً لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن. ولا منافاة بين هذه الصفات.
وروي أن إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين في أثرين أحدهما عن أنس ، ونصه: ( كنس المساجد مهور الحور العين ) ]، وهذه لطيفة علمية خذوا بها.
روي أن إخراج القاذورات والأوساخ من المسجد هذا هو المهر الذي تمهر به الحور العين، بهذا تتزوج، ففيه الترغيب في تنظيف المساجد وتطهيرها، فالذين يعملون على تطهير المساجد وتنظيفها كأنما يقدمون مهر الحور.
[ ثالثاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء ]، والسور المكية كلها تقرر عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
[ رابعاً: بيان الحكمة من تسهيل فهم القرآن الكريم، وهو الاتعاظ المقتضي للتقوى ].
لأنه تعالى قال: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان:58]، فالقرآن الكريم سماعه وتلاوته ومعرفة ما فيه تجعل العبد يتقي الله ويطيع الله ويعبده فيكمل ويسعد، والمعرض عن كتاب الله يقرؤه على الموتى فقط فما ينتفع ولا يتعظ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الدخان (7) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net