اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الزخرف (13) للشيخ : أبوبكر الجزائري
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع هذه الآيات من سورة الزخرف المكية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:74-80].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! القرآن العظيم كتاب الهداية دائماً مع أسلوب الترغيب والترهيب، فقد رغبنا في الجنة ونعيمها، والآن يحذرنا من النار وعذابها، القرآن الكريم مع هذا الأسلوب أسلوب الترغيب والترهيب؛ لأنها فطرة الإنسان، وطبيعته هي هذه، إن رغب في الشيء رغب، وإن خوّف من الشيء خاف، هذا طبع الإنسان، ترغبه في صحفة من الطعام فيرغب، تخوفه من عقرب تلسعه فيهرب، فطرة الإنسان هكذا، مفطور على هذا.
فعلى الهداة والدعاة والمسئولين أن يرغبوا ويرهبوا، هذه هي سنة القرآن الكريم، وهذا هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [الزخرف:74] جمع مجرم، والأنثى مجرمة، ومن هو المجرم؟ أطويل أم قصير؟ اأبيض أم أصفر؟ أعربي أم عجمي؟ من هذا المجرم؟
المجرم الذي أجرم على نفسه فأفسدها، كانت كهذه الأنوار في إشراقها ونورها يوم نفخها الملك في الجسم، فأذنب وتوالت الذنوب والآثام فاسودت النفس وأظلمت وأنتنت وتعفنت، فهو -إذاً- مجرم أجرم على نفسه بالكفر والشرك والذنوب والآثام والمعاصي، بدون توبة ولا رجوع إلى الله ولا استغفار، إذاً: هذا هو المجرم، أجرم على نفسه، كالذي يجرم على أخيه فيأكل ماله، يضربه، ينتهك عرضه.. أجرم عليه فهو مجرم.
فالمجرمون أبيضهم وأسودهم أولهم وآخرهم اسمع ما أعد الله لهم: قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف:74] ما العذاب؟ صنوف، أصناف ما تتصور أبداً، وهذا مبين في القرآن، فطعامهم شرابهم لباسهم حياتهم كلها موصوفة في القرآن، وجهنم الدركة التي دون النار وأشد حرارة من النار.
خَالِدُونَ [الزخرف:74] باقون لا يخرجون أبداً، إلى متى؟ ما هناك نهاية أبداً، اللهم إلا من كان من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله، من أهل التوحيد، ثم زلت قدمه وغره عدوه فارتكب ذنباً عظيماً ومات على غير توبة وما غفر الله له، فإنه لا يخلد في النار، بهذا أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يخلد في النار، يخرج منها بعد أحقاب من السنين.
قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف:74] باقون أبداً.
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ [الزخرف:75] أي: العذاب وَهُمْ فِيهِ [الزخرف:75] أي: في العذاب مُبْلِسُونَ [الزخرف:75] آيسون قانطون ساكتون، وهكذا حالهم والعياذ بالله تعالى، فهم في ذلك العذاب مبلسون ساكتون آيسون قانطون، ما هناك أمل في الخروج أبداً.
إذاً: نعوذ بالله من الإجرام، اللهم إنا نعوذ بك من الإجرام، اللهم لا تجعلنا من المجرمين على أنفسهم ولا على غيرهم يا رب العالمين.
وما هو الظلم؟ عندنا قاعدة فيه: هي أنه وضع الشيء في غير موضعه.
فالآن لو قلت: دعوني أنام في الحلقة، فهل هذا ظلم أم لا؟ أهذا مكان نوم؟ هذا وضع الشيء في غير موضعه، وكذلك أن تنام في باب المسجد أو تنام في الطريق؛ فهل هذا ظلم أو لا؟ ما هو بمكان جلوس هذا.
إذاً: والذي يعبد غير الله وضع هذه العبادة في غير موضعها؛ لأن هذا المخلوق لا يُعبد، هو الذي يعبد ربه فكيف تعبده أنت؟ وضعت العبادة في غير موضعها.
وهكذا من أخذ أموال الناس، من اعتدى على أعراضهم ظلمهم فوضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحبهم ويكرمهم وينصرهم خذلهم وهزمهم، فهو ظالم لهم، ونعوذ بالله من الظلم وأهله.
فأجابهم بعد ألف سنة: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] طلبوه وبعد ألف سنة سمعوا الجواب، ألف سنة وهم ينتظرون: هل يميتنا الله؟ هل يستجيب لمالك؟ بعد ألف سنة يقول لهم: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] ما معنى (ماكثون)؟ دائمو المكث فيها والبقاء، لا موت ولا خروج منها.
ومن آية أخرى من سورة المؤمنون قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:107-108] هذا الرب تبارك وتعالى، إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:109-110] تستهزئون بهم وتسخرون منهم.
وهنا مالك هو الذي قال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، والرب تبارك وتعالى قال لهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] وبين لهم سبب العذاب وأنه استهزاؤهم وسخريتهم بالإيمان والمؤمنين، فهذه الآية عجب.
قال تعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:108-111] اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم.
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ [الزخرف:77] قرئ: (يا مال) بحذف الكاف، لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، فأجابهم قائلاً بعد ألف سنة: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] ما تخرجون أبداً.
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78] لأن الطغاة والجبابرة والأغنياء والمشركين هم الذين يتكبرون.
والإبرام: الربط والتأكيد، وهو مؤامرتهم في نادي مكة، حيث أخذوا يتداولون القضية: كيف نقتل محمداً؟ فاجتمعوا واستدعوا من كل الجهات رجالاً وتآمروا سراً فقالوا: نقتله أم نخرجه من البلاد أم ماذا نصنع؟ أفسد علينا ديننا، وأبناءنا ونساءنا وإخواننا، فماذا نصنع؟ يجب أن ننهي المشكلة.
وإذ هم يتداولون القضية ويبرمونها إذا بإبليس عليه لعائن الله جاءهم في صورة رجل من رجالات نجد في الجمال والطول والثياب الحريرية، ودخل عليهم، فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: اتفقنا على أننا نبعده من ديارنا بالمرة، قال: هذه النظرية فاسدة، إذا أبعدتموه فستتكون له جماعة هناك ويأتي إليكم بأقوى ما يكون، ليس من الخير أبداً أن تبعدوه عنكم، ما هناك إلا أن تقتلوه، وأنا أدلكم على كيفية قتله، أن تأخذوا من كل قبيلة شخصاً حتى يتوزع دمه على القبائل كلها، فبنو هاشم ما يستطيعون أن يقاتلوا القبائل كلها من بني فلان وفلان وفلان، ويأتون إلى بابه بسيوفهم، فإذا خرج ضربوه ضربة واحدة فقتلوه، ويتوزع دمه على القبائل، فما يقول بنو هاشم شيئاً!
هذا تخطيط إبليس، ووالله! لقد تم كما تسمعون، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك بوحي الله، وجاء الرجال بسلاحهم ينتظرون متى يخرج حتى يضربه كل واحد فيتوزع الدم على القبائل كلها، فقال لابن عمه: نم في فراشي، فنام علي في فراش رسول الله وغطاه بغطائه، ثم أخذ حفنة من التراب وخرج ونثرها على رءوسهم، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجا، وكان مع أبي بكر ، وخرج إلى المدينة، ونزل بغار ثور، وخابت تلك الخطة الإبليسية.
قال تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ [الزخرف:79] فأولئك الطغاة كلهم أهلكهم الله في بدر، أين إبرامهم من إبرام الله؟ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا [الزخرف:79] نحن مُبْرِمُونَ [الزخرف:79] أيضاً، فنجى رسوله صلى الله عليه وسلم من أيديهم وساقهم إلى بدر بعد سنة وأهلكهم فيها، هذا معنى قوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ [الزخرف:79] هذا كلام الرب تبارك وتعالى، هذا خالقنا رازقنا، هذا إلهنا الحق.
وهنا لطيفة: فالذي يصلي العصر في جماعة المسلمين يعرج الملكان ويخبران الرب بأنهما تركاه في صلاة، والذي يصلي الصبح في جماعة حين يعرج الملكان يقولان: وجدناه في الصلاة وتركناه في الصلاة، ولذا ما نستطيع أن نترك صلاة الصبح والعصر في جماعة المسلمين أبداً.
فينزل ملكان ويبقيان معي إلى صلاة الصبح ويعرجان بعد صلاة الصبح وينزل ملكان للنهار، فيسألهم ربهم فيقولون: وجدناهم في الصلاة وتركناهم في الصلاة.
ومعنى هذا أنه لا يبقى من يترك صلاة العصر في جماعة ولا صلاة الصبح، والله تعالى أسأل أن يوفقنا لذلك.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان عقوبة الإجرام على النفس بالشرك والمعاصي ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: بيان عقوبة الإجرام والمجرمين، ألا وهي الخلود في جهنم والعياذ بالله، فمن هنا لا إجرام بيننا ولا جرم ولا اعتداء ولا ظلم أبداً، نحن مؤمنون موحدون نعبد الله تعالى ولا نعصيه.
[ ثانياً: عذاب الآخرة لا يطاق ولا يقادر قدره، يدل عليه طلبهم الموت ليستريحوا منه وما هم بميتين ].
من هداية هذه الآيات: أن عذاب النار عذاب جهنم لا يقادر قدره، لا يطاق، فهاهم يطلبون الموت، أما قالوا: يا مالك ادع لنا ربك ليقضي علينا؟ معناه أنه عذاب لا يطاق أبداً، فطلبوا الموت منه، وبعض الجاهلين حين تضيق به الحياة يقتل نفسه، يظن أنه يسعد بعد ذلك.
[ ثالثاً: أكبر عامل من عوامل كراهية الحق حب الدنيا والشهوات البهيمية في الأكل والشرب والنكاح، هذه التي تكره إلى صاحبها الدين وشرائعه التي قد تقيد من الإسراف في ذلك ].
فالرغبة في الشهوات والأموال والمنصب والجاه هذه كلها تحمل صاحبها على الفسق والفجور والشرك والباطل، فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الزخرف (13) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net