اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الإنسان (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الأمسيات الربانية ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن الليلة مع سورة الإنسان المدنية، وآياتها إحدى وثلاثون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، إنه ولي ذلك والقادر عليه، بسم الله الرحمن الرحيم: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:1-12].
هَلْ أَتَى [الإنسان:1]، و(هل) هنا بمعنى: قد، وليست الاستفهامية أو النافية، أي: قد أتى على الإنسان الذي هو آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام، حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1]، قال الرسول الكريم: ( أربعون سنة )، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، أي: ما كان يذكر، ولا تعرفه الملائكة ولا الجن ولا الحيوانات، بل المخلوقات كلها لم تكن تعرفه عليه السلام، إذ إن الله خلق المخلوقات قبله عليه السلام، وبالتالي ما كانوا يعرفون عنه شيئاً حتى أوجده الله عز وجل.
يقول القرطبي: كان ما بين مكة والطائف، أي: جسد ممدود على الأرض أربعين سنة، ووصفه تعالى بأنه من حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:26]، و مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14]، قال بعض أهل العلم: أربعون سنة كان فيها كالصلصال، وأربعون سنة كالفخار، فهي مائة وعشرون سنة والعلم لله تعالى.
ثم إن هذا الإنسان إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فأنتم الشاكرون في المسجد، والنصارى في الكنيسة واليهود في البيع، والملاحدة والعلمانيون واللادينيون هم كذلك في المقاهي والملاهي والملاعب، لا في كنيسة، ولا في مسجد، ولا في بيعة.
إِنَّا أَعْتَدْنَا [الإنسان:4]، أي: هيأنا وأحضرنا ذلك لِلْكَافِرِينَ [الإنسان:4]، والكافرون هم الذين ما سلكوا سبيل الرشاد، وإنما سلكوا سبيل العناد والكفر والباطل والشر، المكذبون بالله ورسوله، المكذبون بالله وكتابه، المكذبون بالله ولقائه، إذ ما آمنوا بالله، ولا برسله، ولا بالكتب، ولا بشرعه سبحانه وتعالى.
إِنَّا أَعْتَدْنَا [الإنسان:4]، أي: رب العزة والجلال، أَعْتَدْنَا [الإنسان:4]، أي: هيأنا وأحضرنا، لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا [الإنسان:4]، وسلاسلا جمع: سلسلة، وأغلال جمع: غل، والغل يوضع في العنق، إذ تجمع اليدان مع العنق، وهكذا يعذبون بهذه الصورة، وإلا فالله ليس بعاجز عن أن يضربهم ويقتلهم، لكن من باب التعذيب جعل الأغلال في أعناقهم، وهؤلاء هم الذين ضلوا الطريق والعياذ بالله تعالى.
ومن غريب ما عشنا عليه وسمعناه من جهالنا أنهم ينذرون للأولياء ويقولون مثلاً: وعد لسيدي عبد القادر، ويسموه الوعد وهو النذر! فيا عباد الله! النذر لا يكون إلا لله تعالى فقط، ومن نذر أن يعص الله فلا يف بنذره أبداً، وذلك كأن قال: لله علي ألا أدخل المسجد! فليدخل المسجد ولا حرج عليه، أو قال: لله علي ألا أكلم أمي! فلا يبالي بهذا النذر أبداً ولا كفارة فيه، لكن -كما ذكرنا- من نذر طاعة الله فيجب أن يفعلها، أما نذر معصية فلا يلتفت إليها أبداً.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى [الإنسان:8]، حب الطعام، مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، فالمسكين لا طعام عنده، واليتيم الذي ليس عنده أب ولا أم، والأسير هو المسجون في السجن، والآية فيها لطيفة لو يعرفها الناس فإنهم سيتعاونون على إطعام المساجين، ولذلك كان الأسرى الذين يُؤخذون في الحرب أيام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعونهم دون طعام فيموتون جوعاً، وإنما يطعمونهم حتى ينتهي سجنهم.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ [الإنسان:8]، مع حبه، مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، فالمسكين لما يطعمونه هل يرجون منه شيئاً؟ وكذلك اليتيم لما يطعمونه هل يرجون منه أن يرد عليهم شيئاً؟ وأيضاً الأسير لما يطعمونه هل يرجون منه شيئاً؟ لا شيء أبداً، لكن هم يطعمونهم لوجه الله تعالى، وهذا هو عمل أهل الجنة الأبرار، الأتقياء، الأخيار، أهل الإيمان والتقوى.
وَلَقَّاهُمْ [الإنسان:11]، أي: الجنة؛ دار الفرح والسرور، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً [الإنسان:11]، من الجمال والكمال في الجنة، وَسُرُورًا [الإنسان:11]، أي: وفرحاً دائماً في الجنة دار السلام ودار الأبرار.
فأولاً: اصبر على الابتلاء والامتحان الإلهي، فإذا ابتلاك الله بفقر أو بمرض أو بعجز أو بغير ذلك فاحمده واشكره وأثن عليه واعبده ولا تبال، إذ إنما ابتلاك ليمتحنك وليرفع درجتك أو ليكفر عنك ذنوبك، ولا تسخط ولا تجزع ولا تترك دعاء الله والضراعة إليه.
وثانياً: أن تصبر على طاعة الله تعالى، فلا تفوت ولا تفرط في ركعة أو سجدة أو كلمة طيبة أبداً.
ثالثاً: أن تصبر على المعصية فلا تقربها، فإن زين لك الشيطان أو النفس أو الهوى المعصية فلا ترتكبها أبداً، وبذلك تصبح مع الصابرين.
قال: [ ثانياً: حاستا السمع والبصر وجودهما معاً أو وجود إحداهما ضروري للتكليف مع ضميمة العقل ]، من هداية الآيات: أن حاسة السمع والبصر ضروريتان، إذ إنه لا تكليف إلا بهما، وبالتالي من فقد سمعه وبصره فلا تكليف له، فلا يؤمر بصلاة ولا بجهاد أبداً، وهذا مع العقل أو مع البلوغ أيضاً، وهنا أعطى الله العبد حاستي السمع والبصر ليعبده ويكلفه، إذ لو ما أعطاه ذلك فإنه ليس بمكلف ولا يطالب بشيء، وقد قلت لكم: إن فقد العبد السمع فقط فمكلف، أو فقد البصر فقط فمكلف، لكن إن فقدهما معاً فلا تكليف، وبالتالي لا تأمره ولا تنهاه.
قال: [ ثالثاً: بيان أن الإنسان أمامه طريقان فليسلك أيهما شاء، وكل طريق ينتهي به إلى غاية، فطريق الرشد يوصل إلى الجنة دار النعيم، وطريق الغي يوصل إلى دار الشقاء الجحيم ]، من هداية هذه الآيات أو مما هدت إليه هذه الآيات: أن للإنسان طريقين: طريق يمين وطريق شمال، طريق الإسلام وطريق الكفر، وبالتالي من أسلم قلبه ووجهه لله واستقام على الإسلام فأدى الواجبات وتجنب المحرمات فقد سلك طريق الجنة، ونهايته -والله- إلى الجنة دار النعيم، ومن أعرض عن الإسلام وأقبل على الدنيا وشهواتها والشرك والمعاصي والذنوب فمصيره معروف ألا وهو جهنم، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، وليس هناك وجه ثالث أبداً.
قال: [ رابعاً: وجوب الوفاء بالنذر، فمن نذر شيئا لله وجب أن يفي بنذره إلا أن ينذر معصية فلا يجوز له الوفاء بنذره فيها، فمن قال: لله علي أن أصوم يوماً أو شهر كذا وجب عليه أن يصوم، ومن قال: لله علي ألا أصل رحمي، أو ألا أصلي ركعة مثلاً فلا يجوز له الوفاء بنذره، وليصل رحمه الله، وليصل صلاته، ولا كفارة عليه ]، من هداية الآيات: بيان وجوب الوفاء بالنذر، فمن نذر لله عملاً صالحاً فيجب أن يفي به، وذلك كمن قال: لله علي أن أصوم هذا الشهر؛ فيجب أن يصوم، أو قال: لله علي اليوم أن أخرج ما في جيبي وأعطيه للفقير وجب عليه الوفاء بذلك، لكن إن نذر معصية لله تعالى فلا يجب عليه الوفاء ولا يلزمه أبداً، إذ النذر لا يكون إلا في الطاعة، كما قلت لكم: إن عجز وما استطاع فليكفر كفارة اليمين، والله يقول: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7].
قال: [ خامساً: الترغيب في إطعام الطعام للمحتاجين إليه من فقير ويتيم وأسير ]، من هداية هذه الآيات: الترغيب في إطعام الفقير والمسكين والأسير، إطعام المحتاجين الجائعين، سواء كانوا يتامى لا أب لهم، أو كانوا مساكين لا مال عندهم، أو كانوا أسرى مسجونين لأمر ما، فيجب أن يطعمهم، وهو من باب البر والإحسان، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، وليس أنت شبعان وتقول: لا ينفع، بل أنت جائع ومع ذلك تعطي.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الإنسان (1) للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net