اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 17 للشيخ : أبوبكر الجزائري
أما بعد:
قد انتهى بنا الدرس إلى المقطوعة [فتور الوحي وعودته] على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [إنه بعد تلك المفاجأة السارة له صلى الله عليه وسلم] أية مفاجأة هذه؟ إنها مفاجأة جبريل له صلى الله عليه وسلم في غار حراء [ولـخديجة رضي الله عنها وورقة بن نوفل -غفر الله له- فتر الوحي] بعد تلك المفاجأة السارة التي كانت له ولـخديجة ولـورقة بن نوفل -غفر الله له- لأنه مات قبل النبوة فتر الوحي [وانقطع قرابة الأربعين يوماً، ومات ورقة ] غفر الله له، فقد مات قبل عودة الوحي.
[واشتد الألم النفسي بالحبيب صلى الله عليه وسلم حتى صرح] بوضوح [لـخديجة بأنه خائف على نفسه، بل كان كالهائم على وجهه في جبال مكة وشعابها] لتلك الرؤيا التي رآها ثم وقفت وانقطعت [وكان كلما اشتد به الحزن تبدّى له جبريل] أي ظهر له جبريل في الأفق [يقول له: يا محمد! إنك رسول الله حقاً، فيخف عنه حزنه ويقل ألمه، وتمضي الأيام وفجأة -وهو يمشي- يسمع صوتاً من السماء فيرفع بصره، فإذا الملك الذي جاءه بغار حراء قاعد على رفرف بين السماء والأرض، فرعب منه أشد الرعب، ورجع إلى أهله يقول: ( زملوني زملوني )] أي غطوني؛ لأن به شبه حمى من الفزع [فأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7]] وليس هناك فرق بين زملوني ودثروني، فالدثار والشعار ثياب يلبسها المرء ليستدفئ بها، تقيه الحر والبرد.
أولاً: تشويق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الوحي بانقطاعه عنه مدة من الزمن، الأمر الذي تألم له رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الألم.
ثانياً: لطف الله تعالى ورحمته بنبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يرسل إليه جبريل يناديه ويطمئنه ويبشره بأنه رسول الله حقاً.
ثالثاً: بيان أول ما أرسل به صلى الله عليه وسلم وهو النذارة، والبشارة لازمة لمن قَبِل النذارة فآمن ووحد الله في عبادته، وتابع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به] فلا تقولن إذاً: ليس بمبشر ولكنه منذر فقط، فإن الله يقول: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45]، فالبشارة تابعة للنذارة، ولأي غرض هو ينذر؟ ينذر الناس حتى لا يهلكوا، إذاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات بشرهم -يا محمد- بالجنة دار السلام؛ لأن الإيمان يحمل على الطاعة والاستقامة، والطاعة هي فعل المأمور واجتناب المنهي عنه، وفعل المأمور يولد النور والحسنات، وبها تزكو النفس وتطهر وتطيب، والبعد عن المحرمات يبقي الزكاة والطهرة كما هي نامية زائدة، وبذلك يكون المرء من أهل الجنة؛ إذ لا يدخل الجنة إلا زكي النفس طيبها.
أخبرنا بهذا رب العزة عز وجل، قال الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] هذا هو حكم الله الذي أقسم عليه بعدة أيمان. ومن الذي أفلح؟ أبيض أم أسود، عربي أم أعجمي، فقير أم غني، وضيع أم شريف؟ أفلح من زكى نفسه، وهل للإنسان أن يزكي نفسه؟ وكيف يزكيها؟
لقد وضع الحكيم -جل جلاله وعظم سلطانه- لتزكية النفس البشرية أدوات للتزكية، من استعملها مؤمناً موقناً مخلصاً كما شرعها الله -والله- لتزكون نفسه، وتُشاهد زكاتها كما يُشاهد الناس الكواكب في السماء وهم يمشون في الشوارع.
إن صاحب النفس الزكية لا يلعن أباه ولا أمه، ولا يقول الفجور ولا ينطق بالباطل والسوء، ولا يشرب السموم، ولا يحاول أن يعبث بالناس؛ لأنه يعيش في نور، أليس هذا أوضح من الليل والنهار؟!
[إن الوحي هو الإعلام السريع الخفي] أوحى يوحي بكذا .. أعلم بسرعة وخفاء. يقول الشاعر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلهاإشارة محزون ولم تتكلم
إذاً: هو الإعلام السريع الخفي، مثل الهاتف، فالوحي مصدر أوحى يوحي وحياً، أو اسم مصدر معناه: الإعلام السريع الخفي، فإن كان غير سريع فليس بوحي، وإذا كان علنياً يراه الناس ويسمعونه فليس وحياً وإنما خطبة.
إذاً: الإعلام السريع الخفي، ذلكم هو الوحي.
[وله] أي هذا الوحي [مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صور] جمع صورة [ذُكر بعضها في قول الله تعالى من سورة الشورى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51]] من هو العلي الحكيم؟ إنه الله جل جلاله.
هذه الآية تضمنت صوراً للوحي، يقول تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أبيض أو أسود أو عربي .. فكلمة (بشر) هنا نكرة، يدخل فيها كل آدمي، ولِم سمي الآدمي بالبشر؟ لأن بشرته مكشوفة ليس عليها ريش ولا صوف ولا شعر .. فلهذا سمي بالبشري، نسبة إلى البشرة. أما البعير والثور والدجاجة فليس ببشري [وبيان تلك الصور كالتالي] فهيا بنا نستعرض تلك الصور من الوحي المحمدي صورة بعد صورة؛ لترتسم في أذهاننا وتحفظ في قلوبنا، فنصبح وقد كسبنا علماً.
فهل مثل هذه الحادثة تنسى؟ أليس هذا نبينا، نعيش على حبه وطاعته؟ فكيف لا نحفظ أن الرسول بُدئ بالوحي في المنام، فكان ستة أشهر لا يرى الرؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وابتدأه هذا من ربيع الأول -ربيع الأنور- إلى رمضان ثم فاجأه الحق، إذاً: كان من صور الوحي الرؤيا الصالحة.
ومن هنا عرف السامعون والسامعات معنى الرؤيا الصالحة وأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فقد عاش صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ثلاثاً وعشرين سنة، إذ نبئ وأرسل على رأس الأربعين، وتوفي في الثالثة والستين. وثلاث وعشرون إذا نصفتها أنصافاً صارت ستة وأربعين نصفاً، وقد كان الوحي مناماً لمدة ستة أشهر، فلهذا الرؤيا الصالحة التي يراها العبد الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، ولهذا لا تتغلس، فالحمد لله.
قال: [إذ قالت عائشة رضي الله عنها] وعائشة هي أم المؤمنين، من أحبها بحب الله ورسوله فهو مؤمن، ومن أبغضها والله يحبها ورسوله والمؤمنون فما هو -والله- بمؤمن، فليراجع إيمانه، أيحبها مولاك وتكرهها أنت؟ أنت عدوه إذاً.. أيحبها الرسول وتكرهها أنت؟ لا تَدجل على نفسك، آمن يا عبد الله! واخرج من الفتنة.
ماذا قالت عائشة ؟ قالت: [أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة] وعائشة كانت طفلة في مكة، ولكن كانت تعيش بين أم رومان أمها وأبي بكر أبيها، وتسمع كل ما يجري في تلك الدار وتعلم ما جرى بالفعل، وتسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فيخبرها، وهي أحب النساء إليه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة [فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح] وتعرفون الظلام إذا جاء الصبح كيف يتبدد ويظهر الضوء والأنوار.
هذه صورة من صور الوحي المحمدي.
بماذا نفث؟ [( أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها )] من منكم يحفظ هذه الكلمة؟ والله لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، حدث بها أهلك حتى يصبحوا شجعان أبطال، لا يخافون الموت ولا يهابون الفقر؛ لأنهم يعرفون أن القضاء مضى وأن النفس البشرية لا يمكن أن تموت حتى تستكمل ما أعطاها الله وكتب لها، هذا يرفع من معنويات المؤمنين ويجعلهم أبطال شجعان يخوضون المعارك فلا يخافون أبداً.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً ) أي نفس ( لن تموت ) وتعرفون الموت وتشاهدون إخوانكم يموتون ( حتى تستكمل رزقها وأجلها ) ولو كانت حبة عنب -والله- لا تتخلف، فلو كتب لك عشرة أطنان من الخبز، فوالله لن تموت حتى تستوفيها بالحبة الواحدة.. أو كتب لك كذا طن من لبن أو حليب، فوالله لن تموت حتى تستكمله قطرة بعد قطرة، ولو كتب لك أن تعيش ألف سنة أو مائة أو سبعين أو عشرين فلن تموت حتى تستوفيها، ولو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يقتلوك والأجل ما زال، فوالله ما استطاعوا. فلم الجبن إذاً؟ ولم الخوف؟!
واسمع إلى ما يقول الحبيب بعد ذلك: [( فاتقوا الله وأجملوا في الطلب )] اتقوا الله أيها المؤمنون، وأطيعوه في الأمر والنهي وأجملوا في الطلب، فعندما تطلب رزقك لا تطلبه بالقبح والسوء والتلصص والخيانة والإجرام، فإنك لن تحصل إلا على ما كتب الله لك، فاطلبه إذاً بالصورة الجميلة، هكذا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم منا، الطلب بلطف وحسن وجمال، وصور القبح معروفة: الخيانة، والغش، والربا، والاحتيال.. هذا كله قبح، ولم تحتال وأنت تعرف أن ما كتب الله لك سوف يأتيك؟! ولن تستطيع أن تأخذ أكثر مما كتب لك.
إذاً: افلح واحرث وازرع واتجر وأجمل في الطلب ولا تقبح.
وأضرب لكم مثلاً في قبح الطلب: تجد من يفتح مقهى من أجل أن يوفر غذاءه وغذاء أسرته يبقى في المقهى أربعاً وعشرين ساعة، لا يتوضأ ولا يصلي، ويقول: لولا هذا ما استطعنا أن نعيش!
أو يفتح دكاناً ويلازمه، والناس يصلون وهو يقول: ماذا أصنع؟ أنا صاحب أسرة ولا بد وأن أبقى هنا!
هذا كله من الطلب القبيح، فإذا حان وقت الصلاة أغلق دكانك ومقهاك وامش وصلِّ في بيت ربك، واسأله أن يبارك لك.
وآخر تجده يفتح صالوناً يحلق فيه وجوه الرجال! يا سيد! أنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، محط الأنوار، فكيف تفتح صالوناً تحلق فيه وجوه الرجال؟! أرأيت لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً هل يرضى بك؟ أو أنه يسلط عليك عمر ؟!
ولا بأس بأن تحسن اللحى وتصلحها وتحلق الرؤوس، لكن لا تحلق لمؤمن وجهه، فيقول: مع الأسف هذا طلب الناس فكيف أفعل؟ أتعصي الله وتخرج عن طاعة رسوله وتؤذي المؤمنين من أجل القوت! والله لن تستفيد من صالونك إلا ما كتب الله لك.
إذاً قال: [( ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله )] اصبر اليوم واليومين والعام والعامين حتى يفتح الله عليك، وإياك أن تطلب الرزق بمعصية الله، بالسرقة أو بالتلصص أو بالكذب أو بالغش أو بالخيانة أو بتعاطي المحرمات.. فهذه الطرق ما وضعها الله لجلب الرزق، ولكن وضع الفلاحة، والزراعة، والصناعة، والتجارة، أو العمل اليدوي كحمال يحمل للناس أمتعتهم ولا حرج.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: [( فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته )] وهل هناك شيء يوجد عند غير الله؟ فكل شيء بيده، بيده خزائن السماوات والأرض، فكيف تطلب ما في يد الله بمعصيته؟! هل تتلصص مع الله، ما دام في يد الله اطلبه بطاعته لا بمعصيته.
أيها العاقل من بني آدم! أنت تعرف أن رزقك عند الله إذاً كيف تطلبه بمعصيته؟ أتتحداه؟ ليس معقول هذا أبداً، اطلبه بطاعته، وهذا هو المعقول.
وسبحان الله! هذا الحديث المحمدي عجب، لو فقهه الناس ما أجرم مجرم أبداً، وأعيد تلاوته: يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته )، وسمي الصدر روعاً؛ لأنه هو الذي يحصل فيه الترويع -الخوف- في القلب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتيه الوحي بهذه الصورة يكاد ينقلب كتلة من نور كالملك، ومن ثم يقوى على أن يفهم ما يقوله الملك.. فينسى الآدمية ولا يبق له شعور فيها.
إذاً: هل تستطيع أن تتفاهم مع جني؟ إما أن تكون جنياً أو يكون هو إنسي؛ ليحصل التفاهم، فكيف تتفاهم مع الملك وأنت آدمي وهو ملك؟ كيف يتم التفاهم؟ لا بد من وجود تجانس بين المتخاطبين.
[وقد جاء هذا أيضاً في حديث البخاري ، إذ جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأحياناً يتمثل لي )] أي: الملك [( رجلاً فأعي ما يقول )] قطعاً إذا خاطبه آدمي فإنه يفهم عنه [وكثيراً ما كان يأتيه جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري ] وهو من سكان المدينة رضي الله عنه وأرضاه، فـدحية فاز بهذه ، ولهذا بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم سفيراً، والجماعة الحكام لا يقبلون بهذا، ولكن يختارون الطويل الجميل، وهل يمثل دولة الإسلام الطويل الجميل وخاتم الذهب في أصبعه ووجهه حليق والسيجارة في يده؟! وليس معنى هذا أن يكون السفير أعمشاً أو أغبراً فلا تقبله الدول، فلا بأس أن يكون جميلاً طويلاً قوياً، ولكن مع ذلك يكون مؤمناً حي القلب والضمير عالم بالأمور ظواهرها وبواطنها.
فالرسول كان يختار دحية لأنه متأهل، فبعث به إلى الروم سفيراً له، أما إذا كان قزماً أو دميم الخلقة أو غير ذلك فإنهم يكرهونه، ولا يقبله من أرسل إليهم خاصة وهم كفار، لكن إذا كان قوياً أو كذا فإنهم يرهبونه.
إذاً على حكام المسلمين أن يختاروا للسفارة من هو أهل لذلك، فيجب أن يكون السفير ممثلاً للإسلام وأهله، أما السفير الذي لا يصلي فلا يمثل الإسلام، أو السفير الذي يفطر في رمضان، أو السفير الذي يضع طاولة الخمر في السفارة، وهكذا هم أكثر سفراء المسلمين إلا من رحم الله، ولا تظنوا أن الشيخ يتكلم بما لا يعلم، فهذا عيب وباطل.
فهل عرف الحكام هذا؟ ما عرفوا، ولو عرفوا هذا الدرس وسمعوه لعرف أكثرهم هذه الحقيقة، ومن ثَم يعرف من يسفر ومن يولي، لكن ليس عندهم علم كآبائنا وإخواننا وأجدادنا.
[كما تم ذلك له صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج حيث فرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، وتردد عليه في ذلك عدة مرات؛ يسأله التخفيف] لأنه الرب عز وجل قال: خمسون صلاة، ثم أخذ محمد صلى الله عليه وسلم يراجع موسى فيقول: يا محمد ارجع، واسأل ربك التخفيف، فقد امتحنت قبلك ببني إسرائيل، وإن خمسين صلاة لا يستطيعونها، حتى أصبحت بعد الخمسين خمسة. فهل استطاعوها؟ وهي موزعة توزيعاً عجباً تعجز البشرية عن مثله، فصلاة الصبح مع انبلاج الفجر، وصلاة الظهر بعد الزوال، وصلاة العصر عندما يصبح ظل الشيء مثله، والمغرب لغروب الشمس، والعشاء بعد غياب الشفق الأحمر، فهي في الليل والنهار.
[وكان ذلك بإرشاد موسى عليه السلام] لقد قدم لنا موسى معروفاً وهو في الملكوت الأعلى، فصلوا عليه وسلموا تسليماً [وكما تم لموسى عليه السلام] أي الكلام من وراء الحجاب [بجبل الطور عدة مرات، فكان يسمع كلامه ولا يرى وجهه] وقد طمع فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143] فلما تجلى الرحمن له تحلل الجبل وتبخر، وما إن رأى موسى الجبل يتبخر حتى صعق، فلما أفاق قال: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:143-144] أي: لا تطلب أكثر من هذا.
أولاً: تقرير الوحي المحمدي وإثباته] تقرر عندنا الوحي المحمدي وثبت، وبم يثبت ويتقرر إذا لم يثبت بما سمعنا؟
[ثانياً: بيان صور الوحي التي كان ينزل بها] وهي خمس صور:
أولاها: الرؤيا الصالحة. وقد كانت ستة أشهر، بدأت من ربيع الأول وختمت برمضان.
والصورة الثانية هي الإلقاء في الروع، وهي: أن يلقى الوحي في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فيفهم عن الله ويحفظ.
والصورة الثالثة هي أن يأتي الوحي فيكون كصلصلة الجرس من شدته على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا يحتاج الرسول إلى أن يذوب أو يكاد حتى يتلقى عن النوراني.
والصورة الرابعة هي أن يأتي الملك في صورة إنسان جميل كامل طيب. وقد كان يأتي جبريل في صورة دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.
وأخيراً: يخاطبه الرب كفاحاً، أي: مباشرة، ولكن بدون رؤية وجه الله الكريم.
[ثالثاً: تقرير أن الرؤيا الصالحة من الوحي] الرؤيا الصالحة من الوحي إلى يوم القيامة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
[رابعاً: ذم الحرص من عبد يؤمن بالقضاء والقدر] هل الحرص مذموم من اليهود والنصارى والكفار والملاحدة..؟ لا. بل مذموم ممن يؤمن بقضاء الله وقدره، لِم العجلة والحرص؟ حتى الصلاة تجده لا يحسنها من العجلة والحرص، أتريد أن تنال ما لم يكتبه الله لك؟ والله لن تحصل عليه، أتريد أن تحصل على الرزق بالكذب والخيانة والغش؟ هل تستطيع أن تظفر بما لم يكتبه الله لك؟ فلم إذاً هذا الحرص الذي يؤدي بك إلى أن تترك طاعة الله ورسوله؟
هذا الحرص المذموم صاحبه لا يحسن صلاته، تجده يدخل يصلي لا يعي ولا يفهم ولا يرتل قراءة، وإنما صلى بالاسم فقط، لِم هذا الحرص؟ ماذا سيفوته؟ هل سيفوته الذي كتب الله له؟ والله لن يفوته، هل سيحصل بحرصه على ما لم يكتبه الله؟ والله لن يحصل على شيء من ذلك. فلم هذا إذاً؟! ( فاتقوا الله وأجملوا في الطلب )، إن طلب الرزق والمال يكون بالصور الجميلة الحسنة لا القبيحة كالحرص وما إلى ذلك.
[خامساً: بيان حقيقة، وهي أن ما عند الله ينبغي أن يطلب بطاعته تعالى لا بمعصيته] إن الملك بيد الله، إذاً يطلب بطاعته، والرزق وكأس الماء والثوب للستر بيد الله، فهل يطلب بمعصية الله؟ هذا جنون! ولكن يطلب بطاعة من بيده هذا، ومن هنا تنكشف عورات الناس، تجدهم يعرفون أن أشياء الله هو الذي يملكها، ويطلبونها بمعاداته! هؤلاء مجانين، يجب أن يطلب ما عند الله بطاعته، عليك أن تتملق وتتزلف إليه بالذكر والصلاة والدعاء، لعله أن يعطيك ويهيئ لك، أما بمعصيته فوالله لا تحصل إلا على ما كتب.
[سادساً: تقرير سنة، وهي أن التجانس ضروري لحصول التفاهم بين المتخاطبين] فلو تكلمت مع فارسي أو بريطاني تحتاج إلى من يترجم، وإن كان هناك تجانس في البشرية، لكن اللغة اختلفت، ولكن تستطيع -أيضاً- أن تفهم عنه ويفهم عنك بالإشارة، فلو كانت عطشاناً -مثلاً- أو تريد أن تصلي فإنه يفهم عنك بالإشارة؛ لوجود التجانس، أو كنت جائعاً -مثلاً- ومسست بطنك فقط فيفهم أنك جائع.
[سابعاً: بيان شرف دحية بن خليفة الأنصاري ؛ إذ كان جبريل يأتي في صورته] ودحية هذا لو كان من نوعنا لانتفخ وانتفش وتكبر، بل لعله يرى نفسه أعظم من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن جبريل يأتي في صورته؟! لكن -والله- ما زاده ذلك إلا تواضعاً، وأنتم تشاهدون من إخواننا من كان عسكرياً ثم أصبح عقيداً كيف ينتفخ، أو من كان راتبه ألف ريال ثم صار خمسة كيف يتكبر؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، وأين هم الصالحون؟ ذهبوا منذ كذا، لكن لا يمنع أن يكون هناك من هو أصلح منك، لتآخه وتمش وراءه وتأخذ عنه. أما الذين يعيشون كالحيوانات ولا يجلسون في مجالس العلم والتربية فماذا تطلب منهم؟ احمد الله على أنهم ما ذبحوك، ومع هذا لو جاءوا لذبحوك وأكلوك.
[ثامناً: أكمل صور الوحي ما كان كفاحاً مع الله عز وجل بلا واسطة] يكلمه الله عز وجل ويفهم عنه كلامه ويبلغه للناس.
معاشر المستمعين والمستمعات هنيئاً لكم بما علمتم، فاحفظوه وتجملوا به وتحسنوا، والله أسأل أن يغفر لي ولكم.
كما أن هناك أخ لكم من أهل الدرس مريض، قال لإخوانه يدعو الله له بالشفاء، فأنا سأدعو وأنتم أمنوا ..
اللهم يا حي يا قيوم، يا مالك الملك يا ذا الجلال والإكرام، يا من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، إن عبدك صادق قد مرض وأنت تعلم به، وأنت الذي أمرضته فاشفه يا رب.
اللهم اشفه بشفائك الذي لا يغادر سقماً، واشف مرضانا ومرضى المؤمنين والمؤمنات الحاضرين والغائبين يا رحمن يا رحمن يا رحيم! اشف مرضانا ومرضى المسلمين، إنك على كل شيء قدير.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هذا الحبيب يا محب 17 للشيخ : أبوبكر الجزائري
https://audio.islamweb.net