وقوله تعالى في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] وسورة الحجر مكية بالإجماع، فدل ذلك على أن سورة الفاتحة مكية أيضاً، ويؤيد القول بأنها مكية أيضاً بأن الصلاة فرضت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فهذان دليلان يدلان على أن السورة مكية.
- منها: الفاتحة.
- ومنها: أم الكتاب.
- ومنها: أم القرآن.
- ومنها: الشافية.
- ومنها: الرُّقْية.
- وثَمَّ أسماء أخر لهذه السورة الكريمة.
منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، إذ سمع نقيضاً، فقال له جبريل: يا محمد، هذا ملك نزل من السماء لم ينزل قبل اليوم، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي من الأنبياء قبلك: سورة الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة).
وهذا الحديث: أفاد أن ملكاً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة.
وقد حمل بعض أهل العلم القول بأن الملك هو الذي نزل بالفاتحة وخواتيم البقرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل بهما جبريل.
لكن هذا القول مدفوع، فإن الملك نزل مبشراً بفضل سورة الفاتحة ولم ينزل بأصل سورة الفاتحة، وإلا فالكتاب العزيز كله نزل به الروح الأمين، كما قال الله سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195].
فالفاتحة شأنها شأن غيرها في هذا.
- ومن فضائلها كذلك: ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: (كنت أصلي، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلت على صلاتي، ثم انصرفت منها، فأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما منعك أن تأتي إذ دعوتك؟ قلت: يا رسول الله! إني كنت في صلاة، قال: ألم يقل الله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] ، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله، ثم انصرف ولم يخبرني، فتبعته، فقلت: يا رسول الله! قلت: لتعلمنني أعظم سورة في كتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهي أعظم سورة في كتاب الله.
- وورد في فضلها كذلك: قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم : (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل: إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:3] قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:6] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).
فقوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي)، المراد بالصلاة هنا: الفاتحة، فأحياناً الصلاة تأتي ويراد بها معناها المعهود الذي هو افتتاحها بالتكبير، وانتهاؤها بالتسليم.
وأحياناً تأتي كلمة (الصلاة) ويراد بها الدعاء، وأحياناً تأتي كلمة الصلاة ويراد بها تلاوة القرآن، كما قال الله سبحانه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110] أي: لا تجهر بقراءتك وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء:110]، وهنا أريد بالصلاة الفاتحة. أعني في قوله سبحانه في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين).
- ومما ورد في فضلها كذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فهذه الأدلة تدل على فضل هذه السورة الكريمة، ومن ثَمَّ افتُتِح بها كتاب الله عزَّ وجلَّ.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبُي بن كعب : (يا
فدل هذا على فضل آية الكرسي على غيرها.
ودل حديث أبي سعيد بن المعلَّى على فضل سورة الفاتحة على غيرها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في صحيح مسلم: (احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فاجتمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فقرأ عليهم سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وقال: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن).
فدل هذا على تفاضل بعض السور، وعلى فضل بعض الآيات على بعض، وإن كان الكل من عند الله سبحانه وتعالى.
هذه المسألة من المسائل التي وردت فيها أقوالٌ لأهل العلم، حاصلها:
أن جمهور أهل العلم يقولون: أن قراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، واستدلوا بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث في كل طرقه مقال، إلا أن بعض أهل العلم يقويه بمجموع طرقه، والبعض يبقيه على حاله من الضعف، واستؤنس لهذا القول أيضاً بأن أبا بكرة رضي الله عنه قَدِم والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فكان راكعاً فركع خلف الصف ثم دخل في الصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) قالوا: ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بركعة جديدة.
أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم فقد روَوا أنه لا بد من قراءة الفاتحة، مستدلين بالحديث الثابت الصحيح: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وبحديث: (أيما رجل صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج) أي: فهي ناقصة فهي ناقصة.
وعلى كلٍ فللعلماء القولان المشهوران في هذا الباب، وبأيهما أخذ الشخصٌ وسعه ذلك.
أيضاً: نفس الخلاف دب بين العلماء:
- فمن أهل العلم من اعتبرها آية من الفاتحة؛ مستدلاً بقول الله جل ذكره: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للسبع المثاني بأنها الفاتحة، قالوا: ولا تكمل سبعاً إلا إذا اعتبرنا البسملة آيةً منها.
وكذلك استدلوا بأنها أثبتت في المصاحف في أول سورة الفاتحة، وفي أول كل سورة، فدل إثباتها من عهد الصحابة إلى الآن على كونها آيةً من سورة الفاتحة ومن غيرها.
واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، فقال: (لقد أنزلت عليَّ سورة هي أحب إليَّ من كذا وكذا، ثم قال: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1])، فأتى على السورة إلى آخرها.
أما الذين قالوا: إنها ليست آية من الفاتحة؛ فقد استدلوا بقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي)، ولم تُذْكر البسملة.
واستدلوا كذلك بقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2])، ولم تُذْكر البسملة في مطلع هذه السورة.
قالوا: فدل ذلك على أنها ليست بآية.
فهذان وجهان لأهل العلم في هذا الباب، والأمر في ذلك قريب، فأيُّ القولين قلدتَ فلا جناح عليك ولا تثريب، فقد شهدت لكل رأي أدلتُه، وعمل به من السلف عددٌ لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وإن كان الظاهر أن الرأي القائل باعتبارها آيةً رأيٌ له قوته؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] والأدلة الأُخَر ليس فيها نفيٌ صريحٌ لذلك.
والله أعلم.
ورد في ذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه في صحيحي البخاري ومسلم، وفيه: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم و
أما الذين قالوا بالجهر بها، فأجابوا على ذلك: بأن مراد أنس رضي الله عنه: (كانوا يفتتحون القراءة بـالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2])، أي: يفتتحون القراءة بالفاتحة وليس فيه تعرُّضٌ لنفي البسملة أو إثباتها.
أما قول القائل الوارد في صحيح مسلم: ( لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ ) فهي زيادة مدرجة زادها بعض الرواة، وليست من قول أنس ، إنما زادها بعض الرواة توهماً منه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتتح القراءة بـالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] أنه لا يذكر البسملة، قالوا: وقد أخطأ في هذا التوهم.
واستدل القائلون بأن البسملة لا يُجْهَرُ بها: بما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل عندما سأله ابنه عن الجهر بالبسملة فقال: (يا بني! بدعة)، وهذا الحديث في إسناده رجل مجهول، والظاهر أنه ضعيف كذلك.
أما الذين ذهبوا إلى مشروعية الجهر بـبِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ فمن أدلتهم:
أولاً: إذا كانت آيةً فيُجْهَرُ بها كما يُجْهَرُ بسائر الآيات.
ثانياً: (أن
ثالثاً: أن عموم الأعمال تُبْتَدأ وتُفْتَتح بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فالطعام يُبْدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، ودخول البيت يُبْدأ بـ(باسم الله)، وأخذ المضجع يُبْدأ بـ(باسم الله)، وكذلك إتيان الرجل أهله يُبْدأ بـ(باسم الله)، وكذلك إرسال كلبك المعلَّم للصيد ترسله بـ(باسم الله)، وكذلك الرُّقْيَة تُبْدأ بـ(باسم الله): باسم الله أَرْقيك، -ثلاثاً-، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر -سبعاً-، وكذلك الرسائل تُسَطَّر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، وبنود المصالحات تُسَطَّر وتُقَدَّم بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، فقالوا: يُبْدأ بها، وما دمنا نبدأ بها -وقد وجهنا حديث الإسرار بالتوجيه السابق- فعلى ذلك لا مانع من الجهر بها.
والحاصل: أنك إذا جهرت أحياناً وأسررت أحياناً بها فلا غبار عليك ولا جناح، فمثلاً: إذا صليت مع قومٍ ولك قول من القولين ولهم هم القول الآخر، وتحاملوا عليك حتى تبدأ بها، فلك مستندك أيضاً.
فالذي يظهر: أن الأمر في ذلك كله واسع.
فـ(باسم الله) إطلاق (البَسْمَلَة) عليها على أنها لغة مُوَلَّدَة.
(باسم الله) من أهل العلم من قال: معناها: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله.
ثم منهم من قال: (اسم) هنا زائدة، وأوَّلَ ذلك تأويلاً، فقال: معناها: أبتدئ مستعيناً بالله، وقد استدل هذا القائل على مقولته ببيت من الشعر فيه:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
واستنكر الطبري رحمه الله تعالى هذا التأويل، ووجه البيت الشعري بتوجيهين.
وبيت الشعر مطلعه ابتداءً:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخدشا وجهاً ولا تحلقا شعر
إلى أن قال:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
فالرجل يقول لابنتيه: إذا كان ثم بكاء فلتبكياني إلى الحول، أي: إلى سنة، وبعد السنة قال:
... ... ... اسم السلام عليكما ... ... ... ... ... ...
فقال المؤوِّل الأول: ثم السلام عليكما.
أما الطبري فقال:
... ... ثم اسم السلام عليكما ... ... ... ... ... ...
تحتمل احتمالين:
- أي: سلام الله عليكما، فلا تبكياني، فقد أديتما الذي عليكما.
- الوجه الآخر: ثم الزما ذكر الله سبحانه وتعالى بعد انقضاء الحول.
الشاهد: أن معنى قوله تعالى: بِاسْمِ اللهِ أي: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله.
وكان أهل الشرك يستنكرون هذا الاسم، ومن ثم قال الله سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].
ومما يدل على استنكارهم له -أي: استنكار أهل الشرك له-: في صلح الحديبية لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعلي : (يا
ولذلك قال بعض أهل العلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن)، وقد وردت في هذا الحديث زيادة نوزِع فيها، (وأصدقها: حارث وهمام).
- اسم (العزيز): قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف:51]، وقال الله سبحانه وتعالى عن نفسه: الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر:23].
- واسم (المؤمن): تَسَمَّى الله به، وسَمَّى عبادَه المؤمنين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مَثَلُها مَثَلُ المؤمن).
- واسم (الأعلى) قال الله سبحانه وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وقال لموسى عليه السلام: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68].
- واسم (العظيم)، قال سبحانه: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46].
لكن اسم (الرحمن) على وجه الخصوص لم يَتَسَمَّ به أحد، ولا يجوز لأحد أن يسمي نفسه بـ(الرحمن)، فهو من أسماء الله سبحانه وتعالى الذي لا يتسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، فهو خاص في دلالته وواقع في معناه، فرحمته وسعت كل شيء في الدنيا.
وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وأهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومؤمن) فـ(الرحيم) أعم في المدلول أخص في المعنى، فإن (الرحيم) -كما قال تعالى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43]- فـ(الرحمة) خاصة بأهل الإيمان في الآخرة، وإن أطلقت في الدنيا وعمَّت، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [البقرة:143].
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24].
كذلك: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255].
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً).
فكلها نسبت إلى الله سبحانه؛ ولكن هذا ليس بمستند كافٍ كي يُقَرر أن اسم الله الأعظم هو (الله)، صحيح أن اسم الله سبحانه وتعالى (الله) لا يشاركه فيه غيره، ولا يُثنى ولا يُجمع، فهذه حقائق وثوابت؛ لكنها ليست كافية للقطع بأن اسم الله الأعظم هو (الله)، أما الله سبحانه وتعالى فنسبت إليه كل صفات الكمال سبحانه وتعالى على ما تقدم.
في الابتداء: الحمد لله رب العالمين، بدئت بها السورة.
وفي ختام المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك.
وعند المنام: الحمد لله الذي كفانا وآوانا.
وعند الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.
وعند الركوب: تذكر كذلك مُضَمَّنَةً في قوله تعالى: ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13].
وفي شتى المواطن تذكر: وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
وكذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
ومنهم من فرَّق، فقال: (الحمدُ لله) حمدٌ لله سبحانه على صفاته اللازمة وأفعاله المتعدية إلى خلقه.
وأما الشكر: فلا يكون إلا في الأفعال المتعدية إلى الخلق، ويكون باللسان وبالجنان وبالأركان، كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]: إذا قالها العبد، قال الله سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: (حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي).
فأجاب بعضهم على ذلك بما حاصلُه: أن ذلك من باب الترغيب والترهيب، فكلمة (رب العالمين) تتضمن ترهيباً وتخويفاً، فبعد هذا الترهيب والتخويف جيء بـالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] التي تتضمن ترغيباً.
وهذا سائد في كتاب الله ومنه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3].
وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50].
وقال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98].
فيُمْزَج الترغيب بالترهيب في كتاب الله في عدة مواقف.
وعلى هذا ينبغي للمذكِّر الذي يذكِّر الناس بربهم أن يمزج بين الترغيب فيما عند الله وبين الترهيب مما أعده الله سبحانه وتعالى للعصاة.
هذا وجه ساقه بعض أهل العلم في ذلك.
- فـ(الرب) تطلق على المالك، ومنه قولهم: رب الدار، أي: صاحب الدار ومالك الدار.
- و(الرب) تطلق على المعبود، ومنه قول الشاعر:
أَرَبٌّ يبول الثعلبانُ برأسه فقد خاب من بالت عليه الثعالبُ
- و(رب) كذلك تطلق على المربي والمصلح.
- و(رب) كذلك تطلق على السيد الذي عنده أمة أو عنده عبد، كما قال الصدِّيق يوسف عليه السلام: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23]، وكما قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
- فمنها: البشر، ومنه قول لوط عليه السلام: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165] أي: من البشر.
- وتأتي أحياناً كلمة (العالمين) ويراد بها: الإنس والجن، كما في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1].
- وتأتي كلمة (العالمين) ويراد بها: السماء والأرض وما بينهما، كما قال فرعون لموسى: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24].
وعلى ذلك فيؤخذ من المعاني المعنى المناسب للسياق الذي وردت فيه الآية، وكما قدمنا فإن ضلال مَن ضل من الفرق كان بسبب إلباس كلمة معنىً غير معناها، وإن كان معناها يحتمل هذا المعنى؛ لكنها سيقت في موطن لا تتحمل إلَّا معنىً معيناً، فحملها البعض على معنىً آخر من المعاني، فضلُّوا كثيراً وأضلُّوا غيرهم وضلُّوا عن سواء السبيل.
فالكلمة يكون لها عدة معانٍ، فإذا ألبستها في موطن ثوباً ومعنىً غير معناها الذي يليق بالسياق انحرفتَ وابتعدتَ، ككلمة (السيئة) وكلمة (الفسق) وكلمة (الكفر) ونحوها من الكلمات، فكلمة (الفسق) تتعدد معانيها، وكذلك (الكفر)، وكذلك (الظلم)، فإذا ألبستها في موطن معنىً غير معناها ضللتَ وما كنتَ من المهتدين، كما فعل الخوارج -مثلاً- عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وكما فعلوا عند قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكما فعلوا كذلك عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: النياحة على الميت، والطعن في الأنساب).
فهذا علم يجب أن يُنْتَبَه إليه ويُتَفَطَّن له.
فكلمة (السيئة) -مثلاً-:
- تأتي بمعنى الكفر.
- وتأتي بمعنى الكبيرة.
- وتأتي بمعنى الصغيرة.
وكأمثلةٍ لذلك: قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27]، فالسيئات هنا بمعنى الكفر لدلالة قوله تعالى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].
وتأتي بمعنى الكبيرة أحياناً، كما في قول ربنا سبحانه وتعالى في شأن قوم لوط: وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود:78].
وتأتي بمعنى الصغيرة أحياناً، كما في قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31].
ومن أهل العلم من قال: إنها آية خبرية تحمل معنى الأمر، أي: قولوا: الحمد لله رب العالمين، قالوا: وهذا كما في قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] فمعناه: أمِّنوا أيها الناس مَن دَخَل الحرم.
لكن أكثر أهل العلم على أن ربنا سبحانه وتعالى حمد نفسه؛ ولكن لا يجوز لنا نحن أن نحمد أنفسنا، ولا أن نزكي أنفسنا، فقد قال الله سبحانه وتعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:49].
فنحن ليس لنا أن نزكي أنفسنا، ولا أن نثني عليها إلا في موطن دعت إليه الحاجة والضرورة عند قومٍ يجحدون المعروف وينكرون الإحسان، كما قال عثمان رضي الله عنه لمن حاصره: (أناشدكم الله! ولا أناشد منكم إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! هل سمعتم رسول الله يقول: مَن حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتُها؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أناشدكم الله! هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جهَّز جيش العسرة فله الجنة فجهَّزتُه؟ قالوا: اللهم نعم).
فهذه مواطن يجوز للشخص لعلة من العلل أن يثني على نفسه إذا كان هناك مفهوم قد خفي على المخاطَب، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار: (ألم أجدكم عالةً؛ فأغناكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين؛ فألفكم الله بي؟!) إلى غير ذلك.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]: كلمة إذا قلتَها أُثِبت عليها وكُتبت لك بها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تحميدة صدقة)، وكذلك رضيها الله سبحانه وتعالى منك، وزادك الله سبحانه وتعالى من فضله، فهي تتضمن معاني الشكر، والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر