وبعد:
فالعبد المسلم منا قد يرى أمامه في المجتمع أموراً متشابكة متضاربة، وهذه الأمور قد تصيب البعض منا بالإحباط، وقد تصيب بعضنا باليأس لما يرى من فساد الناس والذمم، وانتشار الفوضى، وبعد الناس عن طريق الله عز وجل، حتى صار كثير من الناس ينظرون إلى الملتزمين في طريق الله عز وجل أنهم أهل سوء ومصالح ذاتية، لا أهل مبادئ، وللناس بعض من الحق، لأنهم يرون بعضنا يسيء إلى الدين دون أن يدري.
فربما يخلف الناس كلهم مواعيدهم، ولكن عندما يخلف المحافظ على الصلوات في المساجد ودروس العلم والمنتمي إلى ما يسمونه الآن التيار الإسلامي فإن ذلك خطير، والحمد لله أننا لسنا تياراً ماركسياً ولا شيوعياً ولا فنياً. اللهم اجعلنا من تيار المسلمين يا رب العالمين! واجعلنا موجات متعاقبة من تيار لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم احشرنا في زمرة الموحدين، واجعلنا من هؤلاء يا أكرم الأكرمين! آمين يا رب العالمين!
وعندما يخلف الوعد من يشار إليه بالبنان بأنه يذهب إلى المسجد في كل وقت، ويؤدي العمرة والحج ويزكي عن ماله... إلخ فلا يعيب الناس عليه كما يعيب بعضهم على بعض في الشارع؛ لأنه ألزم نفسه خطاً، فوجب عليه أن يلتزم بهذا الخط.
وقد تضحك امرأة بصوت مرتفع في مكتب من مكاتب الموظفين أو في الشارع، ولكن المخمرة أو المنقبة إذا ضحكت بصوت مرتفع فإن هذا يثير حفيظة الناس ضدنا الذين نقول: إننا على الخط أو نكاد؟ وبلا شك نظرتهم إلى الملتزم غير نظرتهم إلى غير الملتزم.
ولو أن امرأة تلبس بنطلوناً وتمضغ لبانة في الشارع وصوتها مرتفع فلا أحد يعيب عليها، ولكن المحجبة والمختمرة والمنقبة إذا علا صوتها على صوت الرجل أو في الطريق العام فهي تلفت النظر. فالإنسان المسلم يجب أن يراعي أن كل حركة محسوبة عليه.
ولو أن إنساناً لا يعرف طريق المسجد جلس على قارعة الطريق أو على قهوة من القهاوي وجلس ينظر إلى الذاهبين والراجعين فلا يعاب عليه، ولكن إذا جلست أنت يا من تحافظ على دروس العلم في المساجد وتنقب عن مجالس العلماء على قهوة من هذه القهاوي فسوف يعاب عليك، ولن يعاب عليك فحسب، ولكن للأسف سيخوض الناس في الإسلام، ولذلك كان الصحابة والتابعون من بعدهم يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يكون ظاهرهم كباطنهم، فلابد من الحفاظ على المظهر العام؛ حتى لا تخوض الناس في عرضه، فلا ينهى الناس عن شيء ويأتيه هو، فهذه هي الكارثة.
والحكيم العربي يقول: إن عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل. يعني: إنسان يلتزم بما يقول من غير أن يقول شيئاً، وإنما هو مخلص في عمله، محافظ على مواعيده، لا يعطل مصالح الناس، إن كان في يده مشكلة حلها بفضل الله، ويسعى بين الناس في الخير، ولا يتكلم، فهذا عنوان طيب للإسلام. وهذا عمل رجل في ألف رجل، وخير من قول ألف رجل في رجل.
ومن قبل خمسة وعشرين سنة من انقلاب اثنين وخمسين إلى نكسة سبعة وستين وهم يبحثون على تعريف للفلاح، ومن هو الفلاح؟ ويأتون يمين وشمال، ولجان تنفض ولجان تجتمع؛ حتى يعرفوا الفلاح!
وهو كلام لا يغادر حلوقهم، ولذلك يدخل من أذن ويخرج من الأذن الأخرى.
ورجل من الجزائر اسمه أحمد بن بلا ركن سنوات طويلة إلى الاشتراكية ثم بدأ يقرأ عن الإسلام، ثم قال قبل أن يصل إلى الجزائر وهو في المنفى: ضيعت شطر عمري في أشياء لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فقد تسمينا بالاشتراكية وبالقومية، ولا شيء يبقى إلا الإسلام وكلمة التوحيد والعمل بها.
وهذا بعد أن رفعوا الشعارات الضخمة والقوية.
قال سيدنا أنس بن مالك : فلما انتهت المعركة وفتحنا خيبر حاول سبعة وأنا ثامنهم أن نزحزح الباب عن مكانه فلم نستطع. ولم يكن هناك لجنة تعطيه نجمة داود أو نجمة عبد السميع. فتبسم علي رضي الله عنه، وخاف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الابتسامة، فقد تكون ابتسامة فخر أو غرور أو خيلاء، فالرسول أراد أن يقفل عليه الباب.
ولا تفكر أنك أذكى من الشيطان، صحيح أن الشيطان كيده ضعيف، كما قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، ولكنك في أحيان كثيرة أضعف من الشيطان؛ لأنه يعمل ضدك أربعاً وعشرين ساعة متواصلة، وأنت تعمل ضده لحظات، أنت تقول: أعوذ بالله، ولكن هو يخطط وينظم.
فسيدنا الحبيب خاف على علي من هذه الابتسامة فقال:
يا علي !
قال: نعم.
قال: أأنت فارس العرب؟
قال: يقولون ذلك يا رسول الله! يعني: لست أنا الذي أقول، وإنما الناس يقولون هذا. وكل الناس هكذا هذا الوقت، فكلما تكلم أحد يقول: أنت لا تعرف من أنا؟ وأنا لا يهمني أن أعرف، ولكنك تراب ابن تراب، وأنا أبي تراب ابن تراب، و(كلكم لآدم وآدم من تراب).
ولنفرض جدلاً أنك تزوجت من امرأة ذات حسب ونسب، فمعنى هذا أن المرأة كل يوم الصباح ستقول لك: ألا تعرف أنا بنت من؟ وكل قليل تذكرك بذلك، ولو لم تتزوجها لعنست في بيت أبيها.
فسيدنا الحبيب قال: أأنت فارس العرب يا علي ! وشجاعها؟
قال: يقولون ذلك يا رسول الله!
قال: هناك فارس خلف هذا الجبل، أتحب أن تلقاه وتقابله؟
قال: أقابله يا رسول الله!
فذهب، فقال الفارس لـعلي : أتبارزني؟ قال: أبارزك، فبارز الفارس علياً ، فصرع الفارس علياً على الأرض، مع أنه يقال: أن سيدنا علياً لما كنت تعييه الحيلة في فارس كان ينزعه من قفاه من فوق الفرس فيرضه على الأرض رضة يكون فيها أجله، وهذا حق وحقيقة.
فـعلي الذي كان يأخذ الفارس من على فرسه ويرميه في الأرض يكون أجله، جاء الفارس وصرعه مرة وثانية وثالثة، فسيدنا علي قال: الموضوع فيه سر، أستحلفك بالله أن تكشف لي عن وجهك، فإذا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تقف الأمور عند حدودها، ولا يترك الأمور تتسع؛ لأنه لو أشيع بين الناس أن علياً كان يستخدم ترساً عبارة عن باب يعجز ثمانية عن أن يحملوه فهذه ستكون خيلاء وغروراً.
وقال قائد الفرس يوماً لـخالد بن الوليد : يا خالد ! هل أنزل الله سيفاً من السماء على نبيكم فأعطاه لك، فما دخلت معركة إلا وانتصرت؟ وهذا اليوم مثل قضية مس الجن، وهذا الكلام المسلم لا يلقي له بالاً، وحتى وإن كان حقيقة فما عليك إلا أن تعتصم بالله عز وجل، فمن ذا الذي قال: يا رب! وخذله رب العباد سبحانه؟! ومن ذا الذي رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب! والله سبحانه وتعالى لم ينصره؟!
فارفع يديك بإلحاح وبإلحاف وبتضرع وبتذلل وقل: إني فقير فأغنني، إني ضعيف فقوني، إني مذنب فتب علي، وليكن هكذا دعاؤك لله عز وجل في كل وقت، وتوجه إلى الله بأسمائه الحسنى، وقل: يا غني أغنني فأنا فقير، يا قوي قوني فأنا ضعيف.
وإذا أردت أن تسأل فلا تسأل إلا الله، ولا تسأل أحداً، فلا يوجد واسطة بينك وبين ربنا، وادع بأسماء الله الحسنى وسوف يستجيب الله سبحانه وتعالى لك. فاللهم استجب لنا دعاءنا يا أكرم الأكرمين!
فـخالد بن الوليد تعجب! وقال: لم ينزل سيف من السماء، ولكنها دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجيبت الدعوة في سيدنا خالد.
ثم إن المرحلة التي عزل فيها خالد كانت مرحلة تستدعي السلم والمصالحات والمعاهدات، ولم يكن خالد يصلح لهذه المعاهدات، فكل واحد له شخصية وطريقة، فكان أبو عبيدة بن الجراح ومعاوية بن أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل يجيدون التفاوض والسياسات والمعاهدات، وأما خالد فكانت طريقته أو شخصيته مجبولة على القتال وعلى المعركة، فكان يهون عليه في سبيل الله سبحانه وتعالى ما يلاقي رضي الله عنه، ورغم ذلك مات على فراشه وقال: ما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على سريري كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جباناً
وقال أبو بكر رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وقس على وزنها: احرص على الآخرة توهب لك الدنيا والآخرة، واحرص على الدنيا فلن تأتيك لا الدنيا ولا الآخرة، فلو حرصت على الآخرة لآتاك ربنا الدنيا والآخرة؛ لأن الله عنده مفاتح الغيب، ومفاتح الدنيا والآخرة.
اللهم! إن أحييتنا في الدنيا فأحينا على الاستقامة، وإن أمتنا فأمتنا على الإسلام والإيمان يا أكرم الأكرمين!
وأنت عندما ترى المجتمع اختلطت فيه الأمور، فلا احترام فيه لكبير، ولا عطف على صغير، ولا رحمة وعطف من غني على فقير، ولا تواضع من فقير أو من غني أو من موظف أو من ذي جاه أو مال أو منصب؛ فلا تظن أن الدنيا قد انتهت، كلا.
واليائسون من الإصلاح يئسوا لأمور ثلاثة، ونحن ما زال عندنا أمل بصلاح الأمة، وأكبر عنوان لصلاح هذه الأمة نساؤها وشبابها الذين تعرف أقدامهم بيت الله عز وجل، وما دامت أقدامك قد عرفت بيت الله ودروس العلم فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر.
السبب الأول من أسباب اليأس: جهل الناس بطبيعة الدين الإسلامي:
والدين الإسلامي حول العرب الغوغاء من أنعام سائمة ترتع في الصحراء إلى أناس فيهم الاحترام والوقار والعبادة والفروسية والنخوة والإيثار وحب الخير للغير كما يحبونه لأنفسهم ويكرهون لهم ما يكرهون لأنفسهم.
وهكذا حول الإسلام العرب من أمم متصارعة ومتحاربة وقبائل متناحرة إلى إخوة متحابين في الله، والله سبحانه وتعالى يمن على المسلمين بقوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103] فهذه منة من الله عز وجل.
والأقرع بن حابس كان له عشرة من الولد في الإسلام، وما قبل واحداً منهم، ودفن سبعاً من بناته أحياء قبل الإسلام، ثم لما جاء الإسلام وأسلم وجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحتضن الحسن والحسين ويقبلهما، فقال: أتقبلون أبناءكم يا رسول الله؟!
وهناك أناس فيهم جفاف في العاطفة، ويعتبرون عطفك الشديد على ابنك أو على ابنتك ضعفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم، وماذا أصنع وقد نزع الله الرحمة من قلبك؟). فما كان الأقرع بعدها إلا رحيماً بأبنائه وبأبناء المسلمين، وتحول هذا الإنسان ذو القلب الغليظ إلى إنسان رقيق القلب.
وقال سيدنا أنس رضي الله عنه: كنت لا أحب اليقطين، واليقطين هو: القرع. قال: فلما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقطها من طرف الصحفة أحببتها لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالإسلام حول الحب، ولذلك سيدنا عمر قال: يا رسول الله! والله إني لأحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (يا
ووصل الأمر بـعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أن يجهز جيش العسرة، والجيش في هذا العصر يحتاج إلى مليارات ليتجهز بها. والعساكر الأمريكان الذين كانوا في درع الصحراء على بعد ألف وخمسمائة كيلو متر من مكة المكرمة استخدموا في شهري أغسطس وسبتمبر ثمانمائة واثنين وثلاثين مليون دولار ثمناً لكريمات دهن الشفاه بسبب القشف في الصحراء. والجندي منا راتبه ثلاثة جنيه، ربنا يعينه، ويوسع عليه من واسع فضله. وهو حامد وشاكر، والحمد لله فهذه نعمة من النعم.
فالجندي الأمريكي جالس يدهن شفتيه وهو غضبان، وقد أتوا له بصديقته لتسليه، فكيف سيحارب؟!
ولكن الجندي المسلم الذي يتحرك بإذن الله أول ما يقال: هناك حرب ضد إسرائيل فكلنا سنذهب صفاً واحداً إن شاء الله.
ولو فتح التطوع لإخراج إسرائيل من المسجد الأقصى فسوف يجدون بإذن الله ملايين الملايين يقولون: لا إله إلا الله، حي على الجهاد.
والمسلم بطبيعته يعلم أن الدين حول العرب من أناس تتصارع وتتحارب وتتناحر وتتشاكس إلى إخوة متحابين في الله.
هذا هو السبب الأول ليأس المصلحين، ومن فضل الله فأنا لا أيأس أبداً من أنه ما زال هناك خير في الأمة، بل بالعكس الخير يكثر، والشر ينحسر، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، فالذي ينفع الناس سيبقى وسيظل بلا إله إلا الله.
وفي الحديث: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرها من ضل). لأنها مستمسكة بالكتاب والسنة. وأعظم شيء أنك تلقى زوجتك رغم الفوضى والعري في الشوارع منقبة ومختمرة، تمشي بأدب، وتأتي إلى المسجد وتسمع درس العلم، وتقوم تصلي الفجر وتصلي ركعتين في جوف الليل، وتقرأ القرآن، وأولادك الصغار على الأكل يقولون: باسم الله، اللهم بارك لنا في ما رزقتنا! وبعد أن يكملوا يقولون: الحمد لله رب العالمين، وتجد أولادك مصلين وبناتك مطيعات. فهذه نعمة من النعم، وهذا فضل يجب أن تحمد الله عليه، وتستزيد الله من فضله، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]. اللهم اجعلنا من الشاكرين، وممن تقبل شكرهم وتزيدهم من فضلك يا أكرم الأكرمين! يا رب العالمين!
والشيطان لا يريهم إلا كل صورة سيئة، ولا يضع أمامهم إلا الشر فقط.
وإذا ذهبت إلى أمريكا فستجد الطوابير أمام العيادات النفسية، تريد حجز مكان عند الدكتور النفسي؛ لأن عندهم إما مكتئب، وإما مقدم على الانتحار، وإما قانط من الحياة وما فيها، وإما من دخل مرحلة الجنون. وواحدة من هذه تكفي.
والله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان شيئاً ويسلبه شيئاً، ولو أعطاه كل شيء لأصبح مثل فرعون ، فـفرعون أعطي من كل شيء فاستكبر، قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50] قال له: والذي يؤمن به أين يذهب؟ قال: يذهب إلى جنات تجري من تحتها الأنهار وملك لا يفنى. قال: أنا عندي هذا كله، عندي ملك مصر، وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51].
وسيدنا موسى بعدما دخل على فرعون بالرسالة لم يمرض أبداً.
اللهم لا تسلبنا بعد العطاء يا رب! وثبت علينا نعمة الإيمان يا أكرم الأكرمين فقد كان صاحب غنى وجاه ومنصب ومكانة والناس كلها -والعياذ بالله- تعبده من دون الله.
ثم إن ربنا بدأ يبتليهم، فابتلاهم بالدم، فكان الطباخون يغرفون ويذهبون بالأطباق إلى فرعون فتعود مليئة بالدم، فقالوا: يا موسى اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، فلما كشف العذاب قالوا: لن نؤمن لك، فابتلاهم الله بالضفادع، فكان فرعون وقومه يأتون ليتكلموا وما إن يفتح أحدهم فمه حتى تقفز الضفدعة إلى فمه، والفئران في عام 1985م حولت حياة أهل الريف والصعيد إلى جحيم، نسأل الله العافية والرحمة. فأرسل الله عليهم الجراد والقمل والدم والضفادع آيات مفصلات.
ثم قال سيدنا موسى: نأخذ هؤلاء المؤمنين ونذهب بهم بعيداً عن انحراف فرعون إلى الأرض المقدسة، فسار بهم نحو سيناء، فأتبعهم فرعون ومن معه من جنوده، فلما رءوهم قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، ثم عبر سيدنا موسى ومن معه البحر.
وكان سيدنا جبريل يجلس مع سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يسامره ويكلمه عن أخبار الأمم السابقة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده من العلم ما ليس عندنا، ولكن الشيء الذي يخص أمر العقيدة والوصول إلى الله لم يخبئه عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، فما خبأ شيئاً مما علم صلى الله عليه وسلم، وما علمه بلغه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
فقال له: لو تراني يا رسول الله! وأنا أدس الماء في فمه؛ كي يغرق قبل أن تدركه رحمة الله عز وجل.
وانظروا إلى غيظ سيدنا جبريل منه، فهو يريد أن يغرقه قبل أن تنزل عليه رحمة ربنا؛ لأن سيدنا جبريل يغار على مقام الوحدانية. وأنت تريد الانتقام ممن يشتم أباك، فما بالك بمن يقول: أنا ربكم الأعلى. وقد كان الشافعي يدعو الله ويبكي ويقول: يا رب! تقول هذا لمن قال: أنا ربكم الأعلى -يعني: أنت قلت لموسى وهارون: اذهبا إلى فرعون وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى- فكيف بمن يقول في كل لحظة: سبحان ربي الأعلى، أي: إنك ستكرمه يا رب! إن شاء الله.
اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا.
فالشيطان قد يوسع لك منظر الفساد أمامك، وعندئذٍ أيضاً لا تشك في الصلاح والإصلاح أبداً.
ونقول اليد الواحدة بفضل الله وإن شاء الله ستصفق، لأنها يد مع يد مع يد، وكل الأيادي المؤمنة إن شاء الله سوف تجتمع على الخير، ولا تجتمع أمتي على ضلالة أبداً.
فاللهم اجمعنا بعد فرقة، ووحدنا بعد شتات، واهدنا بعد ضلال،إنك يا مولانا على ما تشاء قدير.
وقد كان يوم ولادتها يوم عظيم في تاريخ البشرية، فالسيول هدمت الكعبة، والكعبة كانت كلما تأتيها سيول تهدمها، وكانت قريش تخاف الاقتراب من الكعبة، لأنه كان لهذا المكان احترام، فأرادوا أن يعيدوا بناءها، وخافوا من هدمها، وقالوا: إن هدمناها فقد يصيبنا الله بشيء؛ لأنهم رأوا ما صنع الله بـأبرهة عندما أراد سوءاً بالكعبة، ورأوا الطير الأبابيل، وذكروها في شعرهم، ورأوا هلاك أبرهة أمام أعينهم. وكانت الحجارة التي أتت بها الطير الأبابيل حجارة مسومة معلمة، يعني: الحجر أو الحصاة مكتوب عليها اسم الذي ستقتله، وسبحان الله، فأنت لابد أن تكون مع الله حتى يأتيك نصر الله عز وجل!
وكان قد قال أبرهة لـعبد المطلب يا عبد المطلب ! آتي لهدم بيت آبائك وأجدادك وتسألني عن مائة ناقة لك ولأبنائك؟!
فقال له: الإبل أنا ربها، وللبيت رب يحميه.
والذين يقولون: احتمال أن تعمل أمريكا أو إسرائيل أو العراق كذا، نقول لهم: هذا بيت محمي من الله عز وجل، والملائكة ستحرسه، ولا تظنوا إلا كل خير، ولا تشكوا في قدرة الله عز وجل، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فبيت الله محروس من قبل الله عز وجل، وعلى حدود مكة والمدينة ملائكة تحرس الحرمين الشريفين.
فرد عليه الإبل، وقام أبرهة ومعه اثنا عشر فيلاً، والفيل الكبير كان اسمه محموداً، يعني: محمود الفعال، فكان يوجه الفيل يميناً فيمشي، وشمالاً فيمشي، وغرباً فيمشي، وشرقاً فيمشي.
وعندما نذهب نحج نأتي إلى مكان بين الصفا والمروة ونسرع فيه قليلاً، وهو وادي محسر، وهو عند المشعر الحرام ببضع أمتار، وهذا هو المكان الذي هلك فيه أبرهة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة أن يسرعوا في هذه المنطقة، واليوم بعض السائقين ينزلون الحجاج في وادي محسر؛ لالتقاط الحصى، وإذا قلت له: لا أحد ينزل في هذا المكان، قال: انزلوا هنا حتى لا تقع لنا مشاكل.
فلما وصل إبرهة وادي محسر إذا بالطير تحجب ضوء السماء، وكان ينزل كل طير معه ثلاث حصيات، حصاة في منقاره، وحصاة في رجله اليمنى، وحصاة في رجله اليسرى، وكل حصاة مكتوب عليها اسم المقتول بها، مسومة عند ربك.
و أبرهة اجتمعت عليه الطيور حتى جمعه جنوده قطعاً في جرة.
فيجب على كل مسلم أن يدرك أن للبيت رباً يحميه.
والرسول صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل، ولما بلغ من العمر ثلاثين عاماً أرادت قريش أن تعيد بناء الكعبة، فدخل الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد وأمسك بالمعول وقريش ساكتة كلها وقال: يا رب! إنك تعلم أننا لا نريد إلا خيراً، وضرب فوقعت حجر من الكعبة، فقالت قريش: انتظروا حتى الصباح، فإن حدث شر للوليد أعدنا الحجر إلى مكانه ولن نقترب من الكعبة، وإن لم يحصل له شيء هدمناها وبنيناها كما كانت، فانتظروا إلى الصباح فإذا الوليد سليماً معافى، فذهبوا لإكمال الهدم والبناء، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشاركهم في ذلك.
ثم اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود، فاحتكموا وقالوا: أول واحد يدخل من باب الحرم نحتكم إليه، فإذا به سيدنا محمد، ولم يكن رسولاً بعد، وقالوا: هذا هو الأمين محمد، قد رضينا بالأمين محمد، فسألهم: مالكم؟ فقالوا: لقد اختلفنا من الذي يضع الحجر، وكاد أن يحدث تنازع بين القبائل، لأن كل قبيلة تريد أن تحوز هذا الشرف، وهذا شرف كبير لأي قبيلة تضع الحجر في مكانه، وعندئذٍ خلع عباءته الشريفة، وبسطها على الأرض، ووضع الحجر فيها، ثم قال: لتختر كل قبيلة واحداً منها ليرفع من طرف، فلما اقترب الحجر من مكانه أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ووضعه مكانه، وانتهت المشكلة، فعاد إلى البيت فإذا بـخديجة قد وضعت فاطمة الزهراء .
فأبوها ولد في عام الفيل، وهي ولدت في يوم إعادة بناء الكعبة، وقد سماها فاطمة الزهراء، قالوا: لأنها كانت كأن الشمس تشع من وجهها كأبيها، فـالزهراء يعني: مضيئة، فالسيدة فاطمة حرمت حنان أمها وهي صغيرة، وتزوجت في غيبة أمها.
فالسيدة أم كلثوم والسيدة فاطمة تبعتا من جاء من عند أبيهما ليأخذهما، فخرج عليهم الحويرث بن عبد قصي أحد صناديد قريش فنخس بعيرهما فوقعت السيدة فاطمة على الأرض وأصابها جروح وكدمات في جسدها رضي الله عنها، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من لقي
هاجرت السيدة فاطمة ولحقت بأبيها صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقد كانت صغيرة؛ لأنها ولدت قبل البعثة بعشر سنوات. فأول ما نزل الوحي على سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بإقرأ كانت السيدة فاطمة بنت عشر سنوات، وفي بعض الروايات: ثمان، وفي بعضها: ست.
من كرم الله عز وجل عليها أن كرم زوجها علياً ، قال أنس بن مالك : بعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وصلى علي خلفه يوم الثلاثاء. وهذا كرم ما بعده كرم.
والسيدة فاطمة كانت ترى كيف كانت قريش تعذب أباها، ورأت طلاق أختيها السيدة رقية والسيدة أم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب، والعياذ بالله.
ولما أراد إخوة عتبة أن يأخذوه معهم في رحلة إلى الشام، قال أبو لهب لهم: أعينكم على عتبة ؛ فإن محمداً دعا عليه، ودعوة محمد مستجابة، لا يسير عتبة أمامكم ولا خلفكم ولا أيمنكم ولا أيسركم، وإنما سيروه وسطكم، واجعلوه ينام في وسطكم، فناموا وهو وسطهم، فقال أحدهم وكان آخر الشهر وهو في ظلام في الصحراء: أشعر أن أسداً يتشممنا. فقال الذي بجانبه: اسكت، ما أظن أن الأسد يتشمم، وإنما الأسد يفترس. فكأنه كان يبحث عن أحد حتى شم عتبة فأخذه وسحبه من بين أصحابه وأكله.
فيا ويل من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو يسب دين الله عز وجل!
فالذي يسب الدين والعياذ بالله فقد خرج من الملة وقد حبط عمله وصار مرتداً، وإن أراد التوبة فليجدد الإيمان، وليغتسل ولينطق بالشهادتين، وليصلي ركعتين بنية التوبة، وليعقد على زوجته من جديد، وليستأنف عمله فلقد حبط عمله.
فكان يقول سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عند الكعبة: من ينصرني، فتقول فاطمة: أنا أنصرك يا أبتاه! وابن عمه علي وكان عمره عشر سنين يقول: أنا أنصرك يا ابن العم! ولقد كان نعم النصير.
ولو تفكرنا بجدية فإن الذي ينام في مكان الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة محكوم عليه بالقتل.
وانظر إلى عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول لـعلي: نم في هذا الفراش!
فهم يبحثون عنه ليقتلوه، وهو يبحث ليعيد الأمانة، فانظر إلى هذه الأخلاق! ورحم الله أمير الشعراء إذ يقول في الحبيب صلى الله عليه وسلم:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع العظماء
فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وأحدهم قبل البعثة أراد الرسول في شيء، فقال له: انتظرني عند الكعبة قبل الغروب، فذهب الرسول ينتظر كما وعد الرجل، فلم يأت، وفي اليوم الثاني لم يأت، فقعد ستة أيام، وفي اليوم السابع جاء الرجل ماشياً فرأى النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال: ما الذي يجلسك هكذا يا محمد؟! فقال: يا بني! هذا سابع يوم أنتظرك. فهو قد أعطى الرجل كلمة أنه ينتظره قبل الغروب، فمر أول يوم فقال: أنتظر ثاني يوم، وهكذا حتى جلس سبعة أيام ينتظره، ومن يعمل منا هكذا، فنحن نتشكك حتى نلغي المواعيد.
والمستشرقون يقولون: لو لم يكن محمد رسولاً لكانت أخلاقه تصلح أن تكون وحدها رسالة.
وما ضرب امرأة ولا خادماً بيده قط، إلا في سبيل الله عز وجل.
وفي غزوة بدر قال أمام الصحابة قبل احتدام المعركة: من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت من ماله شيئاً فهذا مالي فليأخذ منه ما يشاء. فقال سواد بن عبد الله رضوان الله عليه: أنا يا رسول الله! قال له: ماذا؟ قال: ضربتني، قال: وماذا تريد؟ قال: أضربك كما ضربتني. فالصحابة هابوا، فقال: أين ضربتك؟ قال: على ظهري، فقال الحبيب: وهذا ظهري وانحنى صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، لقد ضربتني بدون ثوب، فلا أضربك على القميص الذي تلبسه، فكشف عن كتفيه، فأكب سواد يقبل خاتم النبوة ويبكي ويقول: يا رسول الله! ربما لا يكون لي حياة بعد الغزوة، فلربما رزقت الشهادة، فأريد أن يكون آخر ما يقع نظري عليه خاتم النبوة، وسمعتك تقول: (من نظر إلى خاتم النبوة فلن يدخل النار يوم القيامة). وما كان لـسواد بن عبد الله أن يجلد ظهر خير عباد الله صلى الله عليه وسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم تركه بعد أن حصنه بكلمات الله ليلة الهجرة خرج والمشركون واقفون صفين، ووضع التراب على رءوسهم وقرأ سورة ياسين، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، ثم غادر المكان إلى أبي بكر حيث كان ينتظره ومعه الراحلة وعبد الله بن أريقط وعامر بن فهيرة، وسار في الطريق في كنف الله عز وجل، ونام علي فقال الله عز وجل: يا جبريل! يا ميكائيل! اهبطا، لتكون أنت يا جبريل! عند رأس علي ، وأنت يا ميكائيل! عند أقدام علي ، فإن أرادوا علياً بسوء فخذوهم، فإني أفدي حياته، لأنه فدى حياة حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم.
فهو مربى على الشجاعة وعلى التضحية وعلى الذود عن الذمار والدفاع عن الحرمات، رضوان الله عليه.
وتقول رواية من الروايات: إن سيدنا الحبيب قرب لـعلي المسألة فقال: أجئتنا لتخطب فاطمة ؟ قال: نعم، قال: توكلنا على الله.
الرواية الثانية: قال: يا رسول الله! جئت أخطب منك فاطمة ، قال: أهلاً ومرحباً، فسكت. فخرج فرأى عمر على الباب قال: ماذا قال لك رسول الله، قال: والله ما فهمت شيئاً، قال: أهلاً ومرحباً، قال: تكفيك إحداهما من رسول الله.
فقال له علي : إنها صغيرة يا أمير المؤمنين! فقال له: يا علي ! ألا ترضى الخير لأخيك المسلم؟ قال: نعم، قال: أنا أريد أن آخذ من هذه السلالة، فقال له: سوف أرسلها لك، فإن أعجبتك كان بها.
فقال سيدنا علي لـأم كلثوم وهي بنت صغيرة: خذي يا ابنتي هذا البرد وقولي لأمير المؤمنين: أيعجبك هذا الثوب؟ فلما وصلت أم كلثوم إلى عمر قالت له: يقول أبي: أيعجبك هذا البرد؟ فقال لها عمر : قولي لأبيك: وهل هذا البرد لا يعجب أحداً. فرجعت تقول له: هو يقول لك: وهل هذا البرد لا يعجب أحداً فقال لها: أترضي بأمير المؤمنين زوجاً؟ فسكتت، فقال: توكلنا على الله.
وقد كان هناك شيء اسمه حياء العذارى، وترى البنت إذا خطبت تبكي من الخوف والخجل، واليوم نسأل الله العصمة لبناتنا وأبنائنا.
ولنخفف من المهر، ونشجع الشباب على الزواج، والمصيبة أننا نقول هذا الكلام وكلما جاءنا عريس نكدنا عليه، فيسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وكونوا عباد الله إخواناً، وساعدوا الشباب، ولا تتركوهم يصلون إلى الأربعين سنة وهم لم يتزوجوا، فساعدوهم على إقامة البيت المسلم، ونريد كل يوم أن نعقد قراناً بين اثنين هنا في المسجد بإذن الله، فلنشجع الشباب، ولنيسر الأمر.
فالأربعة أحسن من الواحد، والعشرة أحسن من الكل، وإن شاء الله تأتي بعشرين ولداً.
وإن فلاحاً أسبانياً له واحد وعشرون ولداً -ولو كان عندنا لضربناه في ميدان التحرير بالرصاص- أهدى له الملك الأسباني أعلى وسام أسباني، وسماه بطلاً قومياً؛ لأنه كثر الذرية.
والفرنسيون الذين يصدرون لنا حبوب منع الحمل رئيسهم ميتران يعطي الولد الثاني ثمانمائة وأربعين فرنكاً زيادة على مرتب الأب، ويعطي الولد الثالث ألفاً وأربعمائة وستين فرنكاً فرنسياً زيادة على المرتب.
فهم يكثرون النسل ويضحكون علينا، ويصدرون لنا الخيبة.
والذي يقول: إن أكثر القادرين مادياً هم الذين عندهم ولد واحد أو اثنان، حتى نربيه نقول له: والدتك لما أتت بكم سبعة أربتكم أم لم تربكم؟
وإذا نظرنا الآن إلى أبناء جيل الأمهات من خريجات الجامعة نجد أن الولد قد تربى في الحضانة، نسأل الله السلامة، وليس عنده عطف ولا حنان.
وقد عملوا إحصائية فوجدوا أن ابن الموظفة جبان؛ لأنه مرمي من صغره في الحضانة؛ لأن أمه في الشغل، وليست فارغة لتربيته، ربنا يهديهن لأن يعدن، يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18].
فحضر العشرة، ودخلوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي ! ما عندك؟ قال: عندي درع حطمية، يعني: تتحطم السيوف عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب بعها يا بلال ! في السوق، فباعها بأربعمائة درهم، وجاء بالأربعمائة وجلس متأدباً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور عشرة من صحابته رضوان الله عليهم جميعاً، فقال: يا علي ! اخطب لنفسك.
فخطب علي في حضرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله شكراً لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله تبلغه وترضيه، وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم، فاسمعوا ما يقول، واشهدوا على العقد.
فقال الصحابة بأدب: ماذا تقول يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المهروب من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، ونيرهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمراً مفروضاً، وحكماً عادلاً، وخيراً جامعاً يعني: إن ربنا جعل المصاهرة تجمع بين الأسر، وهي تناسب وتقارب بين الناس، وقد قال أجدادنا: النسب مثل اللبن. فلا تقل: إن القطيعة حصلت، وحاول أن تقرب، لا أن تبعد، ودع الوزر على من يقطع الأرحام. اللهم لا تجعلنا من المقطعين للأرحام يا رب العالمين!
أوشج بها الأرحام أي: اجعلها وشيجة وقربة، وألزمها الأنام، فقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54] وأمر الله يجري إلى قضاء، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] ثم إن الله قد أمرني أن أزوج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة ... إلى آخر القصة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر