اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم لا تجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً.
اللهم اجعلها خالصة لوجهك الكريم واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعل لنا ذنباً إلا غفرته، ولا تجعل فينا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا ذنباً إلا غفرته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا عيباً إلا سترته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم أعد الغائبين المسافرين إلى أهلهم غانمين سالمين، وانصر اللهم الإسلام والمسلمين، واطرد عن بيوتنا وأبنائنا وبناتنا شياطين الإنس والجن، واطرد عن أزواجنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن.
اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، اللهم خذ بيد أولادنا ووفقهم يا رب العالمين، اللهم اطرد عنهم شياطين الإنس والجن، اللهم وفقهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم اعصمهم من الزلل يا أرحم الراحمين.
اللهم باعد بينهم وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقهم وإيانا إلى ما تحبه وترضاه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
فهذه هي الحلقة الثانية عشرة في سلسلة حديثنا عن السيرة النبوية العطرة للحديث عن التاريخ العظيم لسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، حشرنا الله في زمرته وتحت لوائه وسقانا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وفرّح بنا قلب نبينا، وشفعه فينا، وأوردنا حوضه وجعلنا من أمته الذين يشفعه فيهم يوم القيامة إنه على كل شيء قدير.
صدقت يا رسول الله، فالأمة مبشرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم برغم ما يحدث من سلبيات، أو من قصور، أو من تقاعس، أو من بعض الانحرافات أو من بعض التجاوزات من كثير منا وكثيرات، لكن رغم ذلك يبشرنا الحبيب المصطفى بالثناء والذكر الحسن من رب الأرض والسماء، وما دام ربنا يثني فظن خيراً ولا تسأل عن الخبث، وفي القرآن أثنى الله على خير أمة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
فالخيرية كل الخيرية في هذه الأمة، وقد وضحها لنا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضوان الله عليه- فيما يروي عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، عندما تلقى موسى الألواح فوق الجبل وموسى عليه السلام هو الوحيد من الرسل الذي تلقى أوامر الله بدون وحي، فهو الكليم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].
ولذلك ما احتمل سيدنا أبو بكر الرجل اليهودي الذي حلف وهو يتناقش معه بقوله: والذي اصطفى موسى على العالمين أن ما أقوله حق، فضرب الرجل وقال: إن الله اصطفى محمداً، فذهب أبو بكر يقص قصته على رسول الله لينظر ما يقول صلى الله عليه وسلم.
وهنا يتجلى خلق التواضع لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإلا فكل الدلائل تشير إلى أن اصطفاء خير البشر كان لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ لكنه يقول بكل تواضع، (لا تفضلوني على موسى بن عمران، ولا على يونس بن متى)، فلو قيل: موسى كليم، لكن سيدنا يونس لم يذكر كثيراً مثل سيدنا موسى عليهم الصلاة والسلام.
الحبيب يقول لـأبي بكر : (أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم، فيجد عند القبر جبريل، فيكون أول ما يسأله: كيف حال أمتي يا جبريل؟ فيقول: بخير حال يا رسول الله، ثم يسأله: وكيف حال
فأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة نبيكم ولا فخر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فأجد موسى منبطحاً تحت العرش آخذاً بقوائمه، فلا أدري أصعق فيمن صعق أم كفته الصعقة الأولى).
ومع ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من العلم يقول: أنا لا أعرف هل اكتفى الله بأنه صعقه مرة واحدة يوم قال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143].
وكم أنزعج وغيري مثلي من بعض الناس الذين يحبون أن يستقطبوا الناس ويصدوهم عن سماع غيرهم، فأقول: هلا تركتم الناس يتعلمون ممن شاءوا طالما أن من يعلمهم يقول: قال الله.. قال الرسول.
أما أن يذهب عند هذا يوغر صدره من الدرس، ويذهب عند هذا فيفعل كما فعل الأول، فيصدق فيهم قول الشاعر:
وإذا فرق الرعاة اختلاف علموا هارب الذئاب التجري
والمعنى: أن الرعاة عندما يختلفون فيما بينهم تأكل الذئاب الغنم، وما أكثر الذئاب هذه الأيام.
وكم هزني البارحة خبر حتى ظللت كل يومي مكتئباً وكلما تذكرت اكتأبت من جديد، والخبر هو ما قرأته في آخر صفحة في الجريدة، أن شرطة الملاهي أمسكت بثلاث راقصات يرقصن من غير ترخيص، وهذا يشير أن هناك من يرقصن بتراخيص، أنا لا أدري هل يلزمها حمل الرخصة في جيبها مثل رخصة السيارة أم لا؟
ولك بعد هذا أن تتخيل كم من ذئاب حولك تحطم أسوار الفضيلة وأهل الدين وأهل الاستقامة، والمسألة خطيرة وليست بهينة، فأنت تبني ومن حولك مائة يهدمون، فما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدم؟ فسبحان الله العظيم!!
وهنا يجدر التنبيه أن دروس السيرة ليست حكايات، فيحتج البعض فيقول: أنت لم تكلمنا عن شيء من أحداث السيرة، فالذي يريد السيرة حكايات فليذهب ويقرأ في الكتب، أما نحن فنعتقد أن السيرة علم نحاول به أن نأخذ بأيدينا وأيديكم إلى طريق الحق.
ولذلك قال أهل العلم: من احترقت بدايته أشرقت نهايته، فالطالب الذي يذاكر طوال السنة ليل نهار يكون في آخر السنة الأول، ومثلها: المؤمن وهو يعاني ويكابد الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية لا يتكلم إلا بخبر، غاضاً بصره لا ينظر إلا إلى حلال، أصم لا يسمع إلا الخير، ويذهب بأرجله إلى الخير، فيحرص على أن يصلي الفجر والعشاء ويحضر دروس العلم، ويتذلل للعلماء ويتواضع للناس ولا يتكبر على أحد، كل هذا الكلام احتراق للنفس، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته جعل الله نهايتنا مشرقة.
فقلت له: أولاً: لست أنا الذي يقول! بل هذا الحبيب المصطفى هو الذي يقول، ثانياً: أما ما هو السبب؟ فقد ضربت له مثلاً بسيطاً جداً.
فقلت له: أنت لو أتيت بقالبين من طوب، قالب طوب لبن (غير محرق) ووضعته في الماء، ستجد أنه بعد ساعتين يتفكك، وأتيت بالقالب الثاني الذي أحرقته حتى صار طوباً أحمر، فإنك مهما وضعته في الماء يبقى كما هو، فقالب الطوب عندما حرق بالنار أصبح يتحمل الرطوبة والثقل، فالطوب اللبن الغير محرق مثله الذي لا يصلي ولسانه يخوض وعينه تزوغ وأذنه تسمع والرجل تمشي واليد تمتد للحرام، فهو ما تعب في شيء! فلذلك تكون نهايته مثل نهاية الطوب النيئ، فأول ما يدخل القبر يعصر حتى يذاب جسده.
أما الثاني فقد احترقت بدايته فأشرقت نهايته، ولذا عندما نقرأ عن الصحابة رضوان الله عليهم وما حصل لهم نجد عجباً.
فهذا سيدنا مصعب بن عمير -رضى الله عنه- أول سفراء الإسلام لما دعي الحبيب المصطفى ليصلي عليه بعد أن استشهد في أحد وجد عليه ثوباً إذا غطوا به وجهه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا رجليه ظهر وجهه، فقال: (غطوا وجهه وضعوا على قدميه الإذخر، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل: ما يبكيك يا حبيب الله؟ قال: لقد رأيت هذا الشاب بمكة....) وقد كان سيدنا مصعب قبل الإسلام يسمى الشاب المعطر وكانت أمه تستقدم ملابسه الداخلية من حرير اليمن الخالص.
شأنها اليوم شأن من يذهبون هذه الأيام إلى باريس لاستقدام كسوة الشتاء، وإلى لندن من أجل كسوة الصيف، فكانت أم مصعب بن عمير من الغنى تأتي له بالملابس الداخلية من الحرير اليمني، فكيف بالملابس الخارجية؟
فلما دخل في الإسلام منعته أمه من المال، وعاش على شظف العيش وبانت عليه الشدة، فتذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم أيامه وبكى، ثم قال: (كيف بكم إذا جاء عليكم زمن يغدى على أحدكم بصحفة ويراح بأخرى -أي: يعطونه طبقاً فيه نوع من الأكل ويأخذون طبقاً فيه نوع آخر من الأكل- يغدو أحدكم في حلة ويمسي في أخرى) أي: يلبس في الصبح (بدلة) وبعد الظهر (بدلة) ويلبس في الصبح (ثوباً) وبعد الظهر (ثوباً)، قالوا: ما أجمل هذا يا رسول الله، إذاً نتفرغ لنشر الدين ولا يشغلنا الرزق عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أنتم اليوم خير من يومئذ)، لأن المال سيشغل الناس عن الدين وعن الطاعة، ومثل محب الدنيا كشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته.
قال: أرى في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها، -إذ الصدقات من قبل كان لا يحل أكلها، ويروى أن إسرائيل كان إذا أراد أن يخرج صدقة يضعها فوق الجبل، ودليل قبول الصدقة أن تنزل صاعقة لتحرقها، فإذا نزلت الصاعقة وأحرقت ما قدم كان ذلك دليلاً على قبول الصدقة، وإذا لم تنزل الصاعقة فالصدقة غير مقبولة، أما نحن فبإمكان الغني أن يعطي الفقير ولا حرج أن يذهب فيأكل عنده- قال موسى: اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا، إنما هم أمة أحمد.
قال: يا رب! أرى في الألواح أمة هم آخر الأمم، ولكنهم أول الناس دخولاً إلى الجنة، اجعلهم أمتي يا رب! قال: كلا يا موسى إنما هم أمة أحمد- وهكذا حتى عدد إحدى عشرة صفة، والحديث رواه ابن عباس وحسنه مسلم رضوان الله عليه، وقال: الحديث حسن صحيح، فأقسم ابن عباس راوي الحديث فقيل: يا ابن عباس ! أنت تحلف؟ قال: لأن الرسول قد أقسم، وقال: فوالله لقد ألقى موسى الألواح من بين يديه وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد.
وهذه دلائل العظمة للأمة المحمدية -الأمة الإسلامية.
ووالله لو كشف عنا الحجاب، ورأينا الملائكة يجلسون حولنا ما قام الواحد منا، ولذلك جاء في الأثر: ينادي مناد من تحت العرش على اثنين: المصلي والجالس في بيت الله، لو يعلم كلاهما من يناجي ومن يجالس ما انفتل من صلاته وما خرج من المسجد.
والمعنى: لو يعرف الذي يصلي من يكلم ما خرج من الصلاة، ولو يعرف الذي يجلس في الجامع مع من جلس ما كان يخرج؛ لأنه سيشعر حينها أنه كالسمك في الماء إن خرج منه أصيب بالاختناق، فنحن عندما نخرج إلى الناس هذه الأيام قطعاً ستتألم نفوسنا من الكلام ومن الناس الذين يمشون في الشارع ومن الأيمان الكاذبة والفاجرة والصفقات الخاسرة، أما في بيت الله عز وجل فنحن نشعر براحة الصدر، كيف لا ونحن في بيت الكريم سبحانه!
ويقول أهل العلم: لو كشف لنا الحجاب لرأينا الرحمة وقد غطت الجالسين في بيت الله كالملاءة أو كالغطاء الذي تغطي به أبناءك لو رأيتهم في البرد، فرحمة الله تنزل على العبد فتغطيه، وما دامت رحمة الله تغطي العبد فليظن خيراً وليستبشر خيراًً.
والملائكة أيضاً تثني على المؤمنين حتى أن المؤمن النائم على وضوء وذكر، تدعو له الملائكة وتستغفر له؛ لأنه إذا لم ينم كان سيسبح ويذكر ويصلي، فهكذا حياته كلها، فلم يعطله عن الذكر إلا أنه يجب أن ينام، ولذلك فإن الملائكة تصلي عليه حتى وهو نائم، على أن حملة العرش، وهم أرقى نوع في الملائكة، يستغفرون لمن في الأرض.
ومن أعمال الملائكة أيضاً أنهم يؤمنون على دعاء المسلم، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة استجاب الله له، كما جاء في الحديث، فلو أن الإمام يدعو والناس يؤمنون، ثم أمنت الملائكة مع المؤمنين كانت الإجابة عند رب العالمين.
وعلى العكس من ذلك من دعت عليه الملائكة، وقد روي: أن الرجل الفاجر أو المنافق أو الفاسد أو المنحرف إذا مات تفرح الملائكة وتقول: الحمد لله الذي أراح الله منه البلاد والعباد، وقال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (مستريح ومستراح منه).
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عيشوا مع الناس معيشتهم حيث إن متم ترحموا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم)، فعلى كل منا أن يحرص أن تكون فيه هاتان الصفتان: إذا غاب عن أخيه المسلم يحن إليه، ويتذكر أيامه وجلساته معه، وإذا مات دعا له بالرحمة.
وكم من علماء صالحين نذكرهم بالرحمة، وكم من أناس فاسدين مفسدين إذا ذكروا قال السامع: ماتوا والحمد لله، وما يمنعه أن يدعو عليهم إلا أنهم قد ماتوا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)، لكنه لا يستطيع أن يخرج كلمة رحمه الله، أما العلماء والصالحون فندعو لهم، فنحن حين نذكر مثلاً العز بن عبد السلام رضي الله عنه، وكذا صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، وخالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخونا الشيخ إبراهيم عتوي رحمه الله ورضي عنه، فندعو له لأنه كان يزرع خيراً في الناس.
لكنا لو ذكرنا فاجراً كان يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أو ما شاكله فلن نترحم عليه، ولذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (فعيشوا مع الناس معيشة إن غبتم حنوا إليكم وإن متم ترحموا عليكم).
ثم يأتي بعد ذلك من يشهد على الأمة، وهو سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42].
ومعلوم أن شهادة الحبيب غير شهادة الكاره، ومن ذا يساوي الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً على أمته، يروى أن الله قال له: يا محمد! أأجعل إليك حساب أمتك؟ فيقول الحبيب: (كلا يا رب، بل حسابهم إليك فأنت أرحم بهم مني).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبر الصحابة، فقال: أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ -أي: نصف أهل الجنة- فكبر الصحابة ثم قال: أترضون أن تكونوا ثلثي أهل الجنة؟ فكبر الصحابة. ثم قال: أهل الجنة مائة وعشرون صفاً أمتي ثمانون صفاً).
يذكر أن رضوان خازن الجنة يقف على الباب، فإذا جاء إليه أحد يريد أن يدخل سأله: من أنت؟ يقول: فلان، فيقول له: من أي أمة؟ فيقول: من أمة محمد، فيقول حينها: ما أمرت أن أفتح لأحد قبل أمة محمد، أي أنهم أول الناس دخولاً، ولذلك يقول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (لكظيظكم على باب الجنة أحب إلي من شفاعتي)، إذ أن شفاعته هي من أجل أن يدخل عدد منا الجنة، لكنه حين يراهم مزدحمين على باب الجنة يفرح وازدحامهم أحب إليه.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها -والحديث رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة -: (ورأيت رجلاً من أمتي والنبيون جلوس حلق حلق)، رأى في الرؤيا أن كل نبي جالس وحوله حلقة ذكر وعلم، وفي هذا حث على تتبع حلق العلم والبعد عن مجالس اللهو والموسيقى العربية أو الغربية.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلما جاء -أي: الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم- إلى فرج حلقة منع منها، فجاءته صلته للرحم فأجلسته الملائكة بجواري).
وصلة الرحم عظيمة جداً، حيث أجلست صاحبها بجانب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كأنه علي بن أبي طالب ، أو الحسين ، أو أبو بكر .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت رجلاً من أمتي يكلم الناس ولا يكلمونه فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فأمر الله الناس أن يكلموه فكلموه، ورأيت رجلاً من أمتي يقوم على الصراط ويكبو -أي: يقوم ويقع- تريد أن تتخطفه كلاليب جهنم، فجاءته صلاته علي فأوقفته فدخل الجنة سالماً)، اللهم صل على حبيبك رسول الله، صلى الله عليك وسلم، صلى الله عليك وسلم.
وجاء أن أهل النار -أبعدنا الله عنها- ينظرون فيرون معهم جماعة في جهنم، ومعلوم أن النار سبع دركات.
وفي أول دركة في النار، يقول المشركون والكفار للمسلمين العصاة الذين يقضون مدة العقوبة: ما أغنى عنكم صلاتكم ولا إيمانكم ولا توحيدكم، فأنتم فقط حرمتم أنفسكم من الخمر وسائر الشهوات والملذات، فيحزن المسلمون العصاة، فيقول الله سبحانه وتعالى يقول للملائكة: أخرجوا من النار كل من قال: لا إله إلا الله، ولذلك يقول الله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
وقولهم ذلك هو في هذا الموقف، وذلك بين لمن قرأ القرآن وتدبر قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر:2] ولا غرابة، فهم يتمنون يوم القيامة أن يكونوا حميراً، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
وذلك لأن الله حين يقتص للحيوانات والبهائم العجماء من الظالمين الذين يعذبونها يأخذ من حسناتهم، وهنا ننبه على ترك العصافير وعدم حبسها في الأقفاص، وقد يتعلل البعض بقوله: لو طارت من القفص فستموت فنقول له: لا دخل لك بها يرزقها من يرزق الدودة في باطن الصخر، كما أن الله حين خلق العصافير خلقها طليقة، ولم ينزلها في صندوق من السماء، ثم يقول الله سبحانه للحيوانات: كوني تراباً، إذ الحيوانات ليس لها جنة ولا نار، قال تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] والوحوش تحشر يوم القيامة من أجل أن يقتص الله من الخلائق، حتى إن العصفور الصغير يصبح يهز ما بين المشرق والمغرب يريد حقه.
فبعد أن يقتص يقول للحيوانات: كوني تراباً، فيقول الكافر كما أخبر الله عنه وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] يتمنى أن يكون حيواناً من أجل أن يكون مآله في الآخرة التراب.
صحيح أن سنوات طويلة مرت وقروناً تعاقبت ونحن غير ممكنين في الأرض وذلك لعصياننا لله عز وجل، لكن هناك قوانين عند الله لا تتعطل، ومؤدى هذه القوانين: من نصر الله نصره الله، ومن نصر دين الله نصره الله عز وجل، ومن حافظ على دين الله حافظ الله عليه، ومن اتقى الله سار في بلاد الله آمناً وعاش مطمئناً ومات منصوراً، ومن يتق الله خاف الناس منه وتهيبوه وأحبوه.
حتى عندما يجدون ابناً من أبنائنا متمسكاً بدينه، لا يشرب خمراً ولا فوضى ولا غيره يحترمونه؛ لأنه عندهم صاحب مبدأ، لا كما يفعل البعض إذا دخل روما صنع ما يصنع الرومان، وإذا دخل أثينا فعل ما يفعله النمساويون، بل أكون متمثلاً بأخلاق الإسلام أينما كنت، مسلم في القاهرة.. مسلم في فيينا، مسلم في نيويورك في أي مكان، فأنا مسلم أقول: لا إله إلا الله، لا تتغير عندي الأثواب أبداً، إنما كياني وحياتي كلها تحت شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أولاً: الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي، منذ أن خلق الله الخلائق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تظن أحياناً أن الباطل ينتصر، فمثلاً تسمع من يقول لك: يا أخي! الكذاب هو الذي يعيش جيداً، والنصاب هو الذي يعيش جيداً، والمرتشي هو الذي يستطيع العيش.
وهذا غير صحيح، وهو نتاج النظر بالبصر لا البصيرة، فإن من نظر بعين البصيرة أيقن أن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وقد تطول هذه الساعة في عرف الزمن، فنحن لنا منذ بعثة الحبيب المصطفى إلى الآن يوم ونصف؛ لأن اليوم عند الله بألف سنة مما نعد، وقد بلغ التأريخ ألف وأربعمائة وإحدى عشرة سنة، فنحن لم نكمل اليوم والنصف من أيام الله، فلو أن الباطل علا على الحق لمدة يوم من أيام الله فإن ذلك ليس بشيء من أيام الله.
وما ينبغي أن نصنعه أن نحرص على أن نضع لبنة في صرح الحق، وهكذا الجيل التالي إلى أن يأتي جيل ليرى أن البناء قديم.
فرجعت هدى الشعراوي للأسف الشديد وأقامت مجلة أسمتها: مجلة السفور، فحذار منها، وتلتها جماعة من الشام للأسف ومن لبنان، وتبعهم في النهج مروان النقاش ويعقوب طنوح فأقاموا المسرح، وتبعهم السيد يوسف سنة ثلاث وثمانين وأقام مسرح رمسيس، وبدأ العالم العربي ينساق باتجاه الفن والحضارة الأوروبية، وتربى بعض الناس في الغرب منهم طه حسين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وحمزة الشيخ ورفاعة الطهطاوي الأزهري ، ومحمد عبده وقليل من هذه الفرقة رجعوا ونقلوا لنا الحضارة الغربية تحت عنوان الدين، ناقلين ما ليس في الحضارة الغربية من خير، بل جاءوا بالشر الذي فيها.
فصار الجيل السابق متأثراً جداً بهؤلاء الذين سموا بالعباقرة أو العمالقة، وأكاد أجزم أن أوروبا لن تستطع أن تخدمها فكرة عدو للإسلام أكثر مما خدمها رجل كـطه حسين ، ومما كان يقوله: الإسلام لا يصلح أن يكون ديناً في عصرنا، ناهيك عما كتبه في الشيخين، وعن منهج التعليم في الثانوية العامة يقول: أنا أجهز لهم أخطاء موجودة واضحة في كتاب الشيخين المقرر عليهم! من أجل أن يفهموا الخلفية الصحيحة للتاريخ الإسلامي؛ لأن طه حسين كان ينظر إلى التاريخ الإسلامي نظرة الغرب.
فالجيل الماضي سلم الراية منكسة، ضاعت حينها أرض فلسطين، وضاع المسجد الأقصى، وضاع روح الانتماء إلى الإسلام، ثم ابتلينا في العصر الحاضر منذ عشرين أو ثلاثين سنة بالفرق والجماعات، فهذه الجماعة تشتم تلك، وتلك الجماعة تعيب على هذه، وهذه الجماعة تضرب أفراد الجماعة الأخرى، والجماعة الأخرى لا تصلي خلف هذه، وللأسف الشديد أنه في عام واحد وثمانين في أحداث سبتمبر كانوا يصلون صلاة الفجر خمس جماعات داخل زنزانة واحدة، لأن جماعة كذا لا تصلي خلف جماعة كذا، ولعمري يريد العدوا أكثر من هذا.
وإذا تصارع أهل المحراب ألا يستولي عليه أصحاب الحانة والخمارة.
ومما يؤسف أشد الأسف أن إخواننا المسلمين في أحد مساجد واشنطن تقاتلوا مع بعضهم، وهم في أمريكا في عقر دار الصليبية العالمية، من أجل ختام الصلاة، هل هو جهر أم سر؟ وارتفعت الأصوات وكثر اللغط كعادة الصوت العربي الذي يثير الغرابة لارتفاعه وشدته، ولما سمعت الأصوات جاء الأمن الأمريكي، وبتهمة إزعاج للجيران، أصدر حاكم واشنطن أمراً بإغلاق المسجد!! فليت شعري ماذا كسبنا؟
هناك مثل عامي يقول:
أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب، أليس من باب أولى أن أقول: أنا وأخي المسلم على غير المسلم، لا كما هو حاصل اليوم أن المسلم الملتزم ضد المسلم الملتزم؟!
ينبغي أن نعلم أننا إخوة متحابون في الله!
معلوم أن الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي، ولذلك لما ظهرت الدعوة وأصبحت علنية، قاسى النبي وصحابته من قريش ما لم يقاس أحد، وكما يقول أهل الفلسفة: الآلام العظيمة هي التي تصنع الأحلام الكبيرة، وهو معنى قولنا سابقاً: من احترقت بدايته أشرقت نهايته. قد يظن البعض أن الباطل ينتصر، حين يرى في المسلمين من يرتشي ويختلس، أو يفعل الفواحش والمنكرات، ولا يصاب بمكروه معجل، وهو لا يدري إن الله يملي له، ويستره المرة تلو المرة، لكنه أن أصر أخذه الله أخذ عزيز منتقم.
يذكر أن شاباً جيء به إلى عمر بن الخطاب ليقيم عليه حد السرقة، فجاءت أمه تشفع له وتقول: يا أمير المؤمنين! والله إن هذه لأول مرة يسرق فيها، أفتقطع يده، فقال عمر : والله يا أمة الله ما كان الله ليفضحه من أول مرة، ثم بعد أن أقام عمر الحد على هذا الشاب دخل علي بن أبي طالب على الشاب وقال له: أستحلفك بالله أهذه أول مرة؟ قال: والله يا علي ! إن هذه المرة هي الحادية والعشرون! فربنا يملي له مرة واثنتين وثلاثاً.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعير أخاك بالذنب فيعافيه الله ثم يبتليك)، فلو ذهبت لتزور أخاك المسلم ووجدت ابنه غير متأدب، فلا تعجل وتقول: ما هذا ألا يوجد رجال في البيت يربون هذا الابن، فلربما يرزقك الله بولد أقل منه أدباً عقوبة لك.
ولو ذهبت لتزور صاحبك فوجدت زوجته ترفع صوتها عليه وتسيء الأدب معه، فلا تقول: ما هذا أين ذهب الرجال؟ هل ماتوا أم ماذا. فقد لا تلبث أن ترزق زوجة تعاملك بالمثل، ولذا لا ينبغي أن تعير بالذنب لأنك إن عيرت أخاك به قد لا تلبث أن تبتلي بنفس العيب.
بل إذا بلغك عن شخص سيئة فلتقل: غفر الله لنا وله، وتدعو له في ظهر الغيب، والدعاء في ظهر الغيب مستجاب، كما ثبت في الحديث كما أنك حين تدعو لأخيك المسلم بظهر الغيب يقول الملك: ولك مثل ذلك، فلو دعوت لأخيك المسلم وراء ظهره فقلت: اللهم يسر له أمره يقول الملك: ولك مثل ذلك والملائكة تؤمن على دعاؤك وهكذا لو قلت: يا رب اشف له ابنه، يقول: ولك مثل ذلك، وكذا لو قلت: اللهم اهد له زوجته، يقال: ولك مثل ذلك، ولو قلت: يا رب! ارزقه من عندك، يقال: ولك مثل ذلك، كما أنك لو دعوت عليه فقلت: يا رب! أنزل عليه مصيبة، يقال: ولك مثل ذلك، فالضد بالضد.
فجاء أبو طالب وقال له: يا ابن أخي! إن قومي كلموني فيك، فقال: ماذا يريدون يا عماه؟ قال: يا بني! يقولون إنك عبت آلهتهم وسفهت أحلامهم وفرقت بين الابن وأبيه وبين الزوج وزوجته، فانظر ماذا تريد أن تعمل؟ وكان مما قالوه أيضاً: إن كان محمد يريد أن يكون ملكاً علينا ملكناه، وإن كان يريد أن يكون أغنانا جمعنا له المال فصار أغنانا، وإن كان هذا الذي يأتيه رأي من الجن نأتي له بالأطباء من أرجاء الجزيرة فيسعون في زواله وانتفائه، فقال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (يا عماه! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
وهنا ندرك أولاً أن أصحاب الدعوات الكبار لا ينظرون إلى دنيا، فالدنيا بالنسبة لهم دنيئة، ينظرون إليها بعين البصيرة لا بعين البصر، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج رآها فرأى امرأة عجوزاً شمطاء حيزبون عليها من أنواع الحلي والدر والأحجار الكريمة ما لم تر عينه، تنادي وتقول: يا محمد، فأعرض عنها رسول الله، وقال: (من هذه يا جبريل؟ قال: هذه هي الدنيا ما نظر الله إليها منذ أن خلقها، فقالت: يا محمد! إن نجوت مني فلن تنجو مني أمتك).
ومما قاله سيدنا علي عن الدنيا: الدنيا ساعة فاجعلها طاعة. فالدنيا كلها ساعة وسرعان ما تنتهي، ولذا إذا مات العبد قامت قيامته، فلكل قيامته، ومن الغريب أن تجد من يقول: حدثني عن علامات الساعة، ومتى هي، لا زال الوقت مبكراً على قيامها، فإنها لا تقوم إلا بعد أن نحرر بيت المقدس، وننتصر على اليهود، غافلاً أنه لو مات الآن قامت قيامته، إذ إن القيامة قيامتان: قيامة صغرى، وقيامة كبرى، فإذا مات العبد فقد قامت قيامته الصغرى.
فما دامت الدنيا ساعة فوصية سيدنا علي أن نجعلها طاعة، ثم يقول: والنفس طماعة فعودها القناعة.
وفي أثر آخر يقول: الدنيا إذا حلت أوحلت، فلو أنك بقيت تصارع لتكون المدير العام أو رئيس مجلس الإدارة، ومن ثم وصلت إلى ذلك المنصب ولكنك غافل عن المسئولية، إذ إن كل خطأ يحدث في المصلحة يكون المدير هو المسئول عنه.
ثم قال الإمام علي وهو يصف الدنيا: الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا أينعت ظهرت ثمارها من العز والجاه والمال والكراسي والمناصب -نعت أي: تنعي الذي حظه قليل وتنوح كما تنعي الميت، والميت من مات قلبه، وليس من مات جسده، ثم قال:
والدنيا إذا كست -أي عندما تكسيك- أوكست.
معلوم أن أول من يدخل الجنة بغير حساب أبو بكر ، والأرملة التي ربت اليتامى، وأهل الصبر، ورجل إذا نادى زوجته وعنده ضيوف: ائتينا بشراب لم تقل له: أي شراب تريد؟ لأنه لا يوجد لديه إلا نوع واحد فقط، أما نحن اليوم فحين تذهب عند أحد الناس يقول لك: ماذا تحب أن تشرب بارد أم ساخن، إذا كان بارداً فعندنا كذا وكذا وكذا، وإذا كان ساخناً فعندنا كذا وكذا وكذا.
ويضرب لذلك مثل: وهو لو أن اثنين جلسا ليشربا كوبين من الشاي أحدهما قوي الإيمان والآخر ضعيف الإيمان فشرب هذا نصف الكوب وشرب الآخر نصف الكوب، فإن المؤمن يقول: الحمد لله الكوب لا زال فيها نصفها، أما الثاني فيقول: يا خسارة لقد انتصف الكوب، مع أنهم يشتركون في فعل واحد، لكن الفرق بين من ينظر إلى ما بقي ومن ينظر إلى ما شرب، فالذي قطعت رجله لم ينظر إلى الرجل المقطوعة، لكنه نظر إلى اليدين الباقيتين والرجل الأخرى والعينين والآذان، فنظر إلى الباقي معه من النعم، يعيش المرء منا عشرين أو ثلاثين سنة في صحة وعافية ثم يصاب بالأنفلونزا فينسى كل أيام الصحة، قال الله سبحانه: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف:42] لكن العبد الحق يكون راضياً وقانعاً ومتوكلاً على الله حق التوكل، فهذا سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لاقى من قريش الكثير ولم يثنه شيء عن دعوته ودينه.
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب
أي أن عود البخور في أرضه يسمى عوداً، لكنه حين يجلب إلى العطار يسمى بخور، والمياه عندما تقف في مكانها تكون راكدة لكنها حين تجري تكون طيبة، فالإمام الشافعي يشبه موضوع السفر، فيقول:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
فالسفر يكون لثلاثة أسباب: إما سعياً وراء العلم، وممن جسد ذلك من الأئمة الليث بن سعد، فقد ظل يبحث في الأحاديث فاستشكل حديثاً فأخذ يسأل عن الذي رواه؟ فقيل: تلميذ الأشتر النخعي أستاذ أبي حنيفة فقال: أين أجده؟ فقيل: في نجد، فأخذ الراحلة وذهب إلى نجد، وأخذ يسأل أين فلان؟ فقيل: هذه ناقته تجري وجرى وراءها، فلما أدرك الرجل وجده قد ثنى ثوبه يدعو ناقته إلى حجره، فقال له: أفي حجرك شيء؟ قال له: لا، وإنما أوهم الناقة لتأتي، فقال: تكذب على الناقة، حري بك أن تكذب على رسول الله، أنا لست بحاجة إلى حديثك، فرجع إلى مصر مرة أخرى.
ومن الأخطاء الفادحة ما يصنعه الآباء والأمهات من استسهال الكذب على الأطفال، ومواعدتهم بالمواعيد الكاذبة، فيعد أحدهم الطفل بأنه سيعطيه كذا، أو يشتري له كذا، وهو غير عازم حتى على إعطائه أو الشراء له، كل ذلك وهو غافل عن أن الله يكتب كل ذلك كذباً عليه.
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة وهي تدعو ابنها وتقول له: تعال أعطيك، فقال لها: (في يدك شيء؟ قالت له: لا، قال: لو لم يكن في يدك شيء لكتبت عليك كذبة)، فلو قلت لابنك: تعال أعطيك، أو: تذهب إلى المدرسة وأعطيك جنيهاً، وأنت لا تريد أن تعطيه فأنت كذاب، وما يزال الرجل يتعود الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً كما ثبت في الحديث.
كما أن الكذاب معرض لمصيبة أخرى، فلو أن كل كذبة قيلت في البلد تنسب إليه حتى وإن لم يكن قالها، فكلما كذبت كذبة قيل: فلان هو الذي قالها.
يذكر أن رجلاً كان يحدث صاحبه فقال له: انظر لا يوجد شيء غريب في الحياة؟ إن أبي يرحمه الله كان يصلي المغرب على شاطئ النيل، فمرت سمكة طويلة، ظلت تمر حتى نام وقام يصلي الفجر ولم يمر ذيلها بعد. فسكت صاحبه برهة ثم قال له: أما أنا فإن أبي يرحمه الله ذهب إلى الحداد وطلب منه أن يصنع له قدراً قطره ثلاثين متراً -مثل الجامع- فقال الأول: يا لكذبك يا أخي، وهل هناك قدر قطره ثلاثين متراً؟ فأجابه: وأين ستطبخ سمكة أبيك.
وما ينبغي على المسلم هو أن يتحرى الصدق، فالصدق منجاة، ومن الخطأ أن تتوقع أن الكذب سينجيك، ذكر الإمام الغزالي أن رجلاً فر من أعدائه فوجد رجلاً يفتل الليف ويصنع منها الحبال، فقال له أخفني عندك، فقال له: لماذا؟ قال: هناك جماعة يجرون خلفي، فقال له: ادخل تحت كومة الليف هذه، فدخل تحت كومة الليف، فجاء الذين يجرون خلفه، فسألوه أرأيت رجلاً يمر من هنا؟ فقال لهم: نعم، ثم أخذوا يعددون أوصافه وهو يقول: نعم، ثم قال لهم: هو تحت كومة الليف هذه، فظنوا أنه يكذب عليهم واستبعدوا أن يكون متخفياً تحت كومة الليف فتركوه وذهبوا، فلما ذهبوا خرج الرجل من كومة الليف وأمسك بعنق صاحب الليف وقال، أما قلت لك أن تخفيني؟ فقال له: اسكت إن الصدق قد أنجاك، لأنه قال لهم: أنا لم أره، سيحرصون على أن يبحثوا عنه تحت كومة الليف.
تقدم أن السفر يكون لأسباب ثلاثة: إما سفر للعلم أو سفر للسعي على الرزق:
فإذا رأيت أن الرزق ضيق في بلد أسافر إلى بلد آخر، لكن المهم أن لا يغير المال من أخلاقي، وأن تكون النية صادقة لله: أوسع على أولادي ولا أنسى حق الله عز وجل، ولذلك قال: يا ثعلبة ! قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه.
وقيل أيضاً: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وقيل أيضاً: قليل يكفيك خير من كثير يطغيك، لأن القليل الذي يكفيك وتكون شاكراً أفضل من الكثير.
لأنك لو كان لديك مائة جنيه وأخرجت منها عشرين جنيهاً لله، وآخر لديه مليون جنيه وأخرج عشرين ألفاً، فالأول أنفق الخمس من ماله، والثاني أنفق واحداً من أربعين، فسبق درهم درهمين.
ويكون السفر كذلك للفرار بالدين:
فعندما تجد بلداً يعصى الله فيه وترتكب الفواحش ولا يوجد فيه أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر ولا مجالس علم ولا بيوت آمنة، حينها لك أن تهاجر إلى بلد تشعر فيها بالأمن والأمان.
ومن النوع الثالث كان فرار الصحابة وسفرهم رضوان الله عليهم إلى الحبشة وكان على رأس المهاجرين عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله، وجعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله، وغيرهم.
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه والعود في أرضه نوع من الحطب
أي أن عود البخور في أرضه يسمى عوداً، لكنه حين يجلب إلى العطار يسمى بخور، والمياه عندما تقف في مكانها تكون راكدة لكنها حين تجري تكون طيبة، فالإمام الشافعي يشبه موضوع السفر، فيقول:
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
فالسفر يكون لثلاثة أسباب: إما سعياً وراء العلم، وممن جسد ذلك من الأئمة الليث بن سعد، فقد ظل يبحث في الأحاديث فاستشكل حديثاً فأخذ يسأل عن الذي رواه؟ فقيل: تلميذ الأشتر النخعي أستاذ أبي حنيفة فقال: أين أجده؟ فقيل: في نجد، فأخذ الراحلة وذهب إلى نجد، وأخذ يسأل أين فلان؟ فقيل: هذه ناقته تجري وجرى وراءها، فلما أدرك الرجل وجده قد ثنى ثوبه يدعو ناقته إلى حجره، فقال له: أفي حجرك شيء؟ قال له: لا، وإنما أوهم الناقة لتأتي، فقال: تكذب على الناقة، حري بك أن تكذب على رسول الله، أنا لست بحاجة إلى حديثك، فرجع إلى مصر مرة أخرى.
ومن الأخطاء الفادحة ما يصنعه الآباء والأمهات من استسهال الكذب على الأطفال، ومواعدتهم بالمواعيد الكاذبة، فيعد أحدهم الطفل بأنه سيعطيه كذا، أو يشتري له كذا، وهو غير عازم حتى على إعطائه أو الشراء له، كل ذلك وهو غافل عن أن الله يكتب كل ذلك كذباً عليه.
سمع الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة وهي تدعو ابنها وتقول له: تعال أعطيك، فقال لها: (في يدك شيء؟ قالت له: لا، قال: لو لم يكن في يدك شيء لكتبت عليك كذبة)، فلو قلت لابنك: تعال أعطيك، أو: تذهب إلى المدرسة وأعطيك جنيهاً، وأنت لا تريد أن تعطيه فأنت كذاب، وما يزال الرجل يتعود الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً كما ثبت في الحديث.
كما أن الكذاب معرض لمصيبة أخرى، فلو أن كل كذبة قيلت في البلد تنسب إليه حتى وإن لم يكن قالها، فكلما كذبت كذبة قيل: فلان هو الذي قالها.
يذكر أن رجلاً كان يحدث صاحبه فقال له: انظر لا يوجد شيء غريب في الحياة؟ إن أبي يرحمه الله كان يصلي المغرب على شاطئ النيل، فمرت سمكة طويلة، ظلت تمر حتى نام وقام يصلي الفجر ولم يمر ذيلها بعد. فسكت صاحبه برهة ثم قال له: أما أنا فإن أبي يرحمه الله ذهب إلى الحداد وطلب منه أن يصنع له قدراً قطره ثلاثين متراً -مثل الجامع- فقال الأول: يا لكذبك يا أخي، وهل هناك قدر قطره ثلاثين متراً؟ فأجابه: وأين ستطبخ سمكة أبيك.
وما ينبغي على المسلم هو أن يتحرى الصدق، فالصدق منجاة، ومن الخطأ أن تتوقع أن الكذب سينجيك، ذكر الإمام الغزالي أن رجلاً فر من أعدائه فوجد رجلاً يفتل الليف ويصنع منها الحبال، فقال له أخفني عندك، فقال له: لماذا؟ قال: هناك جماعة يجرون خلفي، فقال له: ادخل تحت كومة الليف هذه، فدخل تحت كومة الليف، فجاء الذين يجرون خلفه، فسألوه أرأيت رجلاً يمر من هنا؟ فقال لهم: نعم، ثم أخذوا يعددون أوصافه وهو يقول: نعم، ثم قال لهم: هو تحت كومة الليف هذه، فظنوا أنه يكذب عليهم واستبعدوا أن يكون متخفياً تحت كومة الليف فتركوه وذهبوا، فلما ذهبوا خرج الرجل من كومة الليف وأمسك بعنق صاحب الليف وقال، أما قلت لك أن تخفيني؟ فقال له: اسكت إن الصدق قد أنجاك، لأنه قال لهم: أنا لم أره، سيحرصون على أن يبحثوا عنه تحت كومة الليف.
تقدم أن السفر يكون لأسباب ثلاثة: إما سفر للعلم أو سفر للسعي على الرزق:
فإذا رأيت أن الرزق ضيق في بلد أسافر إلى بلد آخر، لكن المهم أن لا يغير المال من أخلاقي، وأن تكون النية صادقة لله: أوسع على أولادي ولا أنسى حق الله عز وجل، ولذلك قال: يا ثعلبة ! قليل تشكره خير من كثير لا تطيقه.
وقيل أيضاً: ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وقيل أيضاً: قليل يكفيك خير من كثير يطغيك، لأن القليل الذي يكفيك وتكون شاكراً أفضل من الكثير.
لأنك لو كان لديك مائة جنيه وأخرجت منها عشرين جنيهاً لله، وآخر لديه مليون جنيه وأخرج عشرين ألفاً، فالأول أنفق الخمس من ماله، والثاني أنفق واحداً من أربعين، فسبق درهم درهمين.
ويكون السفر كذلك للفرار بالدين:
فعندما تجد بلداً يعصى الله فيه وترتكب الفواحش ولا يوجد فيه أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر ولا مجالس علم ولا بيوت آمنة، حينها لك أن تهاجر إلى بلد تشعر فيها بالأمن والأمان.
ومن النوع الثالث كان فرار الصحابة وسفرهم رضوان الله عليهم إلى الحبشة وكان على رأس المهاجرين عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله، وجعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله، وغيرهم.
وفي كلام الخادم إلغاز لا يفهمه إلا الدهاة، ومن الإلغاز في الكلام ما حدث لـموسى بن عبد الله النصيري عندما كان أحد ولاة مصر في زمن أحد خلفاء الدولة العباسية، فغضب الخليفة العباسي على الوالي المصري وأراد قتله، لكنه يريد أن يأتي به إلى بغداد من أجل أن يقضي عليه، إلا أن أحد من في بيت الخليفة أدرك ما يريده الخليفة، فبعث له رسالة كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى إن.. وختم الرسالة وبعث بها إليه.
فلما فتح موسى الرسالة وجد فيها: يا موسى إن، فاحتار في أمر هذه الرسالة، وكان عنده جارية حافظة القرآن، ففطنت لمعنى الرسالة وقالت له إن صاحبك يريد أن يقول لك: يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20]، وهو بدوره أرسل رسالة إلى صاحبه كتب فيها: يا موسى إنا، فلما وصلته عرف الرد قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]. ومثل ذلك قول الخادم لـعمرو :
يا عمرو كما أحسنت الدخول فأحسن الخروج، فرجع عمرو مرة ثانية إلى الملك وقال له: أيها الملك! لي مائة من أصحابي أنا أحد تلامذتهم وأريد أن يشرفوا بلقائك، فاغتر الملك بكلام عمرو وقال في نفسه: بدلاً من قتل واحد نقتل مائة، فأذن له الملك بالذهاب وأمر حاشيته ألا يمسوه بسوء، ونجا عمرو مما كاد له الملك، وهذا شأن المؤمن كيس فطن.
فاستدعا النجاشي المهاجرين فجاءوا يقدمهم جعفر بن أبي طالب ، وكانوا قد اختاروه ليتحدث عنهم، فتكلم جعفر وقال: أيها الملك! كنا قوماً ضلالاً نستحل الحرمات، ونغتصب الأموال، ونسرق، ونرتكب الفواحش، ونقطع الرحم، ونجور في الحق، حتى جاءنا رجل منا لا ننكر نسبه، أمين لا يخون، صادق لا يكذب، يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ويصنع كذا وكذا أمرنا بأن نصل الأرحام، وأن نراعي الأيتام، وأن نعطي لكل ذي حق حقه، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فإن آمنا دخلنا الجنة فاتبعناه.
قال: والله إن ما يقوله هذا وما قاله عيسى يخرج من مشكاة واحدة، أنتم آمنون في أرضي، فانهزم عمرو في الجولة الأولى، فعزم على أن يكيدهم بأشد من كيده الأول فأتى الملك وقال له: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ومريم كلاماً، -يريد: كلاماً سيئاً- فاستدعاهم الملك مرة أخرى ثم قال لهم: ما تقولون في عيسى يا رجل، فقال: إن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح الله ثم قرأ عليه من سورة مريم، فبكى النجاشي ومن حوله وقال: لا أسلمكم لأحد أبداً، أنتم آمنون في أرضي.
فذهبوا إلى الصحيفة فوجدوا الأرضة وهي: دودة أو حشرة -قد أكلتها وما بقي منها إلا (باسمك اللهم)، خرج الرسول من شعب أبي طالب ، ليذهب بعد ذلك إلى الطائف وهناك يكذب في الطائف، وفي طريق عودته يؤمن به الجن ثم يعود إلى مكة فتموت خديجة ويموت أبو طالب فكأن النصير في الأرض ولى عنه، فعندئذ جاءته رحلة الإسراء والمعراج.
وهذا هو موضوع حلقتنا إن شاء الله في الدرس القادم بمشيئة الله.
فينبغي من الآن ألا تقول لأخيك: في ذمتك، وأن تتكلم مباشرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر