أما بعد:
فهذه هي الحلقة الرابعة والعشرون في سلسلة حلقاتنا عن السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات، نسأل الله في بداية هذه الجلسة الطيبة أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا ربنا بفضله ورحمته شقياً ولا محروماً.
اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا عيباً سترته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صاحب صدر ضيق إلا شرحته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله.
ارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرةً ونعيماً.
اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، أكرمنا ولا تهنا.. أعطنا ولا تحرمنا.. زدنا ولا تنقصنا.. كن لنا ولا تكن علينا.. آثرنا ولا تؤثر علينا.. انصرنا ولا تنصر علينا.. وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين، غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين، آمين آمين يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
سأل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا كانت صحف موسى؟) أي: هل كانت عبارة عن سور، أم آيات محددة، أم على شاكلة القرآن، أم ماذا كانت؟
فقال سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كانت حكماً كلها، كان فيها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالحساب ثم هو يضحك، وعجبت لمن يؤمن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن أيقن بالجنة والنار ثم هو يغفل، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يركن إليها) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعل هذه تكون بداية لحديثنا اليوم في تكملة الحديث عن السيرة النبوية العطرة، وعن صلاة الجماعة وصلاة الجمعة وسجود السهو، وصلاة المسافر فكلنا على سفر.. كلنا في الدنيا مسافرون، وسوف تحط الرحال يوماً ليحاسبنا رب العباد سبحانه على صغير الأمر وكبيره.
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم عن صحف سيدنا موسى عليه السلام: (عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح) فما قيمة فرح العبد والموت ينتظره؟ ولذلك كان الصحابي الجليل سلمان الفارسي يتعجب من ثلاثة أنواع من الناس: مؤمل في الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يغفل عنه، وضاحك بملء فيه وهو لا يدري أساخط عنه ربه أم راض!
فالله لا ينسى، قال تعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6] فكل شيء مكتوب عند الله عز وجل، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كل سجل مد البصر) ، فيه كل المظالم والحسنات والسيئات.
فالإنسان إذا أراد أن يكتب ترجمة لحياة شخص العلمية فقط فإنه يحتاج لبيان ذلك عدة ساعات، وعندما يريد كتابة ذلك وتفريغه على الورق فإنه يحتاج إلى سجلات كثيرة، وسيضجر الإنسان من التسجيل لكن الملائكة لا يضجرون؛ لأنه عملهم، فهم ينفذون ما طلب منهم بلا كلل، فالملك لا يكل ولا يمل، وإنما هو يعمل لا يتوانى، فتكتب الملائكة اللفظات والخطوات والنظرات، وتكتب جميع أعمال الجوارح، وأعمال القلب، والمظالم إن كنت مظلوماً أو ظالماً.. تكتب لك الحسنات.. تكتب السيئات.. وتكتب كل حركة.
حتى قال ابن عباس : عندما يمسك الكافر بكتابه ويقول: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] قال: إن الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك.
إذاً: التبسم هذا إما أن تأخذ فيه ثواباً أو تأخذ عليه عقاباً، إن تبسمت في وجه أخيك عندما تلقاه كتبت لك عند الله حسنة؛ لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة.
وقد تودي ضحكة بسيطة صدرت من إنسان على سبيل السخرية والاستهزاء وازدراء الآخرين، وقد تكثر من الضحك والفرح في الدنيا ولكنك ستحزن يوم القيامة، وخصوصاً الذي يسخر ممن هو دونه في الوظيفة أو العمل، ويتلذذ بالسخرية من الناس وإدخال الرعب على قلوبهم، فمثل هذا أذنب وهو يضحك.
وقد يأتي الإنسان الموت وهو على خاتمة غير حسنة، كأن يأتي الموت رجلاً وهو يرقص في عرس، ومثل هذا يبعث يوم القيامة وهو على الحالة التي مات عليها.
فإن تجلس مع أناس يخوفونك فتجد أمناً يوم القيامة خير لك من أن تجلس مع أناس يؤمنونك فتجد خوفاًً يوم القيامة، قال تعالى في الحديث القدسي: (لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافاني في الدنيا أمنته في الآخرة) .
اللهم أمنا يوم الفزع الأكبر يا أكرم الأكرمين.
فيخرج للعبد من تحت العرش تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر.
فلو نظرت بعينيك فإن آخر ما انتهى إليه بصرك هذا هو السجل الواحد، وهي تسعة وتسعون سجلاً، فمنذ أن بدأ العداد يعد ويسجل عليك فذلك كان منذ بلغت الحلم.
والكتاب الذي ستمسكه بيدك هو الذي يقول فيه ربنا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عنقه [الإسراء:13] والطائر عبارة عن شهادة فيها مجمل الدرجات؟ وفي هذه الشهادة يجد الإنسان هل أكثر من السيئات فيكون ناجحاً بتفوق، أم العكس, أم أن نجاحك كان بسيطاً وشارفت على الرسوب، ولذلك فإن سورة الواقعة قسمتهم إلى ثلاثة أقسام: مقربين، وأصحاب يمين، وأصحاب شمال.
و الحسن البصري كان يقرأ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11] فيبكي ويقول: لقد ذهب السابقون والمقربون، اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
والأصل أن المؤمن يشعر نفسه بالتقصير لكي يعمل، فإن الإنسان متى اغتر بعمله فإن العمل بدأ يحبط وهو لا يشعر.
وهناك شهود عشرة على أعمالك المسجلة في الكتاب الذي ستأخذه يوم القيامة وهم: الشمس والقمر، ورقيب وعتيد الملكان اللذان يسجلان الحسنات والسيئات.
وبقية الشهود هي الجوارح، فاللسان ينطق، والأذن تقول: أنا سمعت، والعين تقول: أنا نظرت، والرجل تقول: أنا ذهبت، واليد تقول: أنا بطشت، والقلب يقول: أنا ظننت ظن سوء، فيسأل الإنسان جوارحه: ما الذي أنطقكم، فيقولون: أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [فصلت:21] .
وبعد ما يخرج للعبد من تحت العرش تسعة وتسعون سجلاً، يقول له الله: يا عبدي! اقرأ فيها فيقول: يا رب! أنت لا تظلم الناس شيئاً، فيقول: من أجل ألا يبقى لك حجة، فيطلع على الملفات من بدايتها إلى نهايتها، ومن فضل الله عليك أن جعلك تطلع على كتابك وسجلاتك.
وبعد أن ينتهي العبد من اطلاعه على سجلاته يقول له: إليك هذه الأسئلة الثلاثة:
السؤال الأول: هل ظلمك حفظتي؟ فيقول العبد: لا، يا رب!
السؤال الثاني وهو أغرب: ألك حسنة مخفية؟ فيقول: لا يا رب! لم يحصل.
السؤال الثالث وهو الأغرب: ألك عذر تعتذر إلينا به؟ أي: بين لنا السبب الذي أوقعك في الذنوب.
فاستغرب الصحابة من السؤال الثالث وقالوا: (أيقبل ربنا الأعذار يا رسول الله! قال: لا أحد أشد قبولاً للعذر من الله رب العالمين) لكن أين العذر فأنت الذي لم تكن تصلي.. أنت الذي لم تكن تزكي.. أنت الذي لم تكن تصوم.. أنت الذي لم تتق الله.. أنت الذي كنت ترتكب ما حرم الله.. هذا العذر الذي ستقوله لربنا سبحانه وتعالى..
فأول شيء في صحف سيدنا موسى: (عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح) فما دام الموت آتياً فبماذا يفرح الإنسان؟ ولذلك الإنسان الذي يدرك أنه ميت تجده شجاعاً زاهداً كريماً متوكلاً على الله، والإنسان الذي يعمل حساب الموت تجده بخيلاً جباناً خائفاً من الغد ضيق الصدر؛ وذلك لأن الدنيا تحيط به من كل اتجاه، لكن لو عاش في الآخرة بقلبه وقالبه لارتاح واطمأن كما قال الله لموسى: (يا موسى! خمس ختمت لك بهن التوراة: إن عملت بهن نفعك العلم كله، وإن لم تعمل بهن فما نفعك من العلم شيء، يا موسى! لا تخش ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني باق لا يزول أبداً).
إذاً: فالذي يخاف من الموت لا يخاف من السلطان ما دام سلطان الله باقياً، فإذا كنت متوكلاً على الله وظهرك تلجئه لمولاك الذي يقول للشيء كن فيكون وتوكلت على الحي الذي لا يموت فلا خوف. (يا موسى! لا تخش ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني باق لا يزول أبداً) والجملة الأخيرة نفهمها من سياق النص، لأن سلطان الله باق من غير أن يتكلم.
الثانية: (لا تخش فوات الرزق ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تنفد أبداً) فلا أخاف من الرزق؛ لأن خزائن الله ما دام أنها مملوءة فأنا لا أخاف، والله قادر على أن يجعل أهل الأرض على قدر واحد من الحال، ولكن الله جعل منا الغني ومنا الفقير ليختبرنا وليبتلينا ببعض، ولكي يرى حنان الغني على الفقير ويرى حب الفقير للغني وعدم تقديمه عليه.
وثواب الغني الشاكر وكذلك الفقير الصابر، ولكن الفقير الصابر هو الذي يدخل الجنة أولاً؛ لأن المال له طغيان، والفقير الصابر يدخل قبل الغني الشاكر الجنة بنصف يوم، واليوم عند الله قدره ألف سنة، إذاً: الفقير يدخل قبل الغني الجنة بقدر خمسمائة سنة، والسبب في ذلك أن صاحب المال الكثير سيحاسب من أين اكتسبه وفيم أنفقه، قال عليه الصلاة والسلام: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأله عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه).
والأموال أربعة:
مال جيء به من حلال وأنفق في حلال.
ومال أتى من حلال وأنفق في حرام.
ومال أتى من حرام وأنفق في حلال.
ومال أتى من حرام وأنفق في حرام.
والدرجة الوحيدة التي سيكرمك الله بها هي التي يأتي فيها المال من حلال ويذهب في حلال وقليل ما هم، بعكس الذي ليس لديه مال فإنه لا يحاسب كحساب الغني.
وروي عن سهل بن عبد الله أنه كان يعرف الطعام المشبوه قبل أن يمد يده ليأكل منه، فيمتنع عن أكله ورعاً وزهداً.
وهناك مال يأتي -والعياذ بالله- من حرام ولكنه يصرف في حلال، وهذا أيضاً يذهب بصاحبه إلى النار؛ لأن المنبع حرام، والذي يتصدق بالمال الحرام كالذي يغسل ثوبه النجس بالبول لا يزيده إلا نجاسة.
وهناك مال أتيت به من حلال وضيعته -والعياذ بالله- في حرام، وهذا يقود صاحبه إلى النار.
والنوع الرابع: مال أتى من حرام ويصرف في حرام وهذا أسوأ أنواع المال.
قال: (يا موسى! لا تغفل عن ذكري ما دامت روحك في بدنك فأنا لا أغفل عن ذكرك أبداً).
الرابعة: (لا تدع محاربة الشيطان؛ لأنه لا يدع محاربتك أبداً).
فالشيطان هو لابن آدم بالمرصاد، فهو لا ينساك، وقد وزع الشيطان جنوده عليك، فشيطان يؤذيك ويوسوس لك في الصلاة، وشيطان ينزغ بينك وبين زوجتك، وشيطان بينك وبين عيالك، وشيطان بينك وبين أهلك، وشيطان بينك وبين الجيران، وشيطان بينك وبين صاحب البيت، وشيطان بينك وبين صاحب العمل، وشيطان بينك وبين العمال الذين تحت يديك، وشياطين بينك وبين الحكومة، وشياطين بين الحكومة وبين الناس، ولو توكلت على الله حق التوكل لقهر لك كل هذه الشياطين؛ لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وما دام أنك قوي بالله فأنت تستطيع أن تنتصر على الشيطان. (يا موسى! لا تنس ذكر الموت أبداً؛ لأن ملك الموت يتفحص وجهك دائماً) ملك الموت كل يوم ينظر إليك.
إذاً: كان في صحف موسى عليه السلام: (عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك) ولماذا يضحك الإنسان؟ فإن كثرة الضحك تميت القلب، ولماذا يمضي كل وقته ضحك؟ ولذلك قال الفقهاء: إن من يضحك الناس -والذي نقول عليه: الكوميدي- تسقط شهادته في المحكمة، مثله مثل الآكل على الطريق، والشارب على الطريق، والفاسق وكثير الحلف، الذي يحلف على كل شيء.
وأسوأ العباد عند الله من يبيع سلعته بالحلف الفاجر. (عجبت لمن أيقن بالحساب ثم هو يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يركن إليها).
فهل رأيت وزيراً ظل في وزارة ستين سنة؟ الجواب: إن هذا لا يحصل، صحيح أنه قد يحصل في دول العالم الثالث لكن لا يطول جداً، فسيأتي عليه يوم ينزل من على كرسي الوزارة، فالدنيا لا تدوم لأحد من الناس فهي متقلبة، وقد يكون صاحب الأموال الطائلة والمناصب الكبيرة ليس مرتاحاً مع أهل بيته وعائلته، بينما الإنسان الفقير قد يكون في راحة كبيرة.
فما أجمل أن يحيا المسلم حياة ببساطة كما كان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يعيشون الحياة ببساطة كبيرة؛ لأنهم تعلموا البساطة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يجد عليه الصلاة والسلام حماراً فيركب.. ويجد بغلة فيركب.. ويجد ناقة فيركب.. ويجد حصاناً فيركب.. أو أنه يمشي، فله هيئة معينة في الركوب، أو في اللبس فإنه كان يلبس أي شيء، المهم الملابس التي تستر العورة.
وكلما عاش الإنسان بسيطاً كلما يسر الله له أموره حتى في الأعراس عندما يأتي ليزوج ابنته فإنه يسهل وييسر على من أراد الزواج من ابنته، فتظهر الفرحة والسرور على جميع أفراد العائلة؛ الزوج والزوجة وعائلة الزوجة، وهذا كله بسبب التيسير في الزواج.
وهكذا بعكس الذي يطلب لابنته مهراً باهظاً أو عالي التكلفة، فيطلب الذهب أن يكون على الشكل المعين، ويطالب بإقامة العرس في فندق عالي التكلفة، وقد يأتي برقاصة لترقص على رءوس الأشهاد، ويكون الفرح كله عبارة عن ذنوب ومعاصٍ وكل هذه الذنوب بسبب العريس، فبدلاً من أن يبدأ اليوم بالبركة وبالدعوات الخالصة يبدأ وللأسف الشديد بسخط من الله وغضب.
فالدنيا تتقلب بأهلها، فالأصل ألا يركن إليها الإنسان، فالمسلم لا تغره الدنيا، إن ضحكت له فلا يبتسم لعلمه أن ضحكها من بعده بكاء.
اللهم لا تجعلنا نركن إلى الدنيا، ولا تجعلنا نركن للذين ظلموا واجعلنا مع الذين يحشرون مع أهل الرحمة، ومع أهل البر والتقوى والمغفرة، واختم بحسن الخاتمة يا أكرم الأكرمين، آمين يا رب العالمين.
فالإنسان قد يسهو في الصلاة إما بنقص أو بزيادة، وليس ذلك عمداً، فمن تعمد أن يزيد في الصلاة شيئاً أو أن ينقص شيئاً بطلت صلاته.
صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالصحابة بعد عودته من غزوة الخندق صلاة العصر فصلى ركعتين ثم سلم، وكان يصلي وراء الحبيب المصطفى دائماً أبو بكر وعلى يمين أبي بكر عمر ، وهاذان الاثنان كانا أكرم اثنين عند سيدنا الحبيب، وكان يسأل دائماً قبل أن يبدأ في الصلاة: أين أبو بكر ؟ أين عمر ؟
وكان يقول: (ليلني أولو الأحلام منكم) أي: الذي يصلي خلفي يكون أعلم الناس؛ من أجل أنه لو حصل للإمام غلط أو نقض للوضوء فيتقدم للصلاة من هو خلفه.
ولذلك نحن دائماً نقول: لو كان في المسجد إمام راتب ودخل أعلم العلماء في هذا المسجد فمن باب أولى أن يصلي الإمام الراتب.. الإمام الذي تعود الناس أن يصلوا خلفه في هذا المكان؛ لأنه يعرف من الذي يصلي خلفه، إلا إذا أذن لهذا العالم فهو يتقدم للصلاة، وهناك نائب الإمام كما يسميه بعض الفقهاء، ويجوز أن يقف على يمين الإمام لوحده، فقد أجاز بعض العلماء ذلك ويكون متأخراً قليلاً ولكن أطراف أصابع قدمه تكون عند كعب الإمام فيسد الفرجة.
وحكم من أتى ليصلي فوجد صفاً خلف الإمام ولا أحد يصلي في الصف الثاني فهو مخير بين أمرين:
إما أن يسحب واحداً من الصف؛ ولابد أن نتفهم هذا الشيء، فعندما يسحبني شخص فإني ألين معه وأنسحب، لا أن يشد وأنا أشد، وإن شد الإنسان شخصاً فلم يتجاوب معه يتركه فإنه لا يعرف الحكم؛ وهو بذلك سوف يخرجه من خشوعه في الصلاة.
ولا تمسكه بعد الصلاة وتوبخه بأنه جاهل ولا يعرف الحكم.
فـأبو حنيفة قال: تعلمت خمسة مناسك من مناسك الحج من حجام، أي الذي يداوي الناس بالحجامة، وهو عمل ممتهن، أو كما يطلق عليه: مزين؛ لأنه يزين الإنسان بحلاقة شعره.
وقد ابتلي شباب المسلمين بأنواع من الحلقات المخيفة والتي نسأل الله عز وجل أن يعافي شباب المسلمين منها.
فإذا أتيت لوحدك في الصف فاسحب أخاك ليصلي بجوارك من أجل ألا تبقى وحدك، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الذئب يأكل من الغنم الشاردة) فوقوفك في الصف لوحدك يسهل للشيطان أن يوسوس لك.
إذاً: أنت مخير بن أن تجذب أخاً من الصف ليصلي بجوارك أو أن تقف وتصلي لوحدك.
وإذا دخلت من باب المسجد فوجدت صفين أو ثلاثة؛ فمن أجل أن تدرك الإمام في الركوع كبرت وركعت، ثم نظرت ووجدت أنه بينك وبين الصف مسافة شاسعة بمقدار صفين وهذه مسافة كبيرة، وقد أجاز بعض الفقهاء أن تتحرك خطوتين أو ثلاثاً فقط من أجل أن تنضم إلى الصف إن كان فيه فرجة، وهذا لا يبطل الصلاة.
وإذا دخلت في الصلاة فحصل خلخلة أو اتسعت فرجة في الصف الذي أمامك إما بسبب خروج مصل أو غير ذلك، فتقدم وسد الفرجة فقد جاء في الحديث: (من سد فرجة في الصف غفر له).
فسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر كانا خلف الحبيب في الصلاة قال: (فلما قرأ التشهد الأول -أي النبي عليه الصلاة والسلام- سلَّم، فهاب
(فبعد أن سلم خرج السرعان من المسجد) والسرعان جمع سريع وهؤلاء هم الناس الذي يخرجون من المسجد بعد التسليم مباشرة، فقال ذو اليدين : (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت وما نسيت قال له: بل نسيت يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: أحقاً ما يقول
وهذا النسيان الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم بيان لبعض أحكام السهو، وهو بهذا وضع قاعدة فقهية.
أما بالنسبة لسجود السهو، فالسهو جميعنا نقع فيه، وهذا ناتج عن الانشغال بغير الصلاة، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس لابن آدم من صلاته إلا ما عقل منها) أي: أن الملائكة يكتبون لك الشيء الذي أدركت بذهنك أنك تصلي.
ومن آداب خطبة الجمعة أن يستمع المصلي للخطبة وينصت، فلا يجوز الكلام أثناء الخطبة، قال عليه الصلاة والسلام: (من مس الحصى والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له، ومن قال لجاره: أنصت والإمام يخطب فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له) .
فالمساجد كانت قديماً مفروشة حصى، والآن الشخص الذي يلعب بسجاد المسجد فإنه حكمه نفس حكم من مس الحصى.
صحيح أن هناك بعض الخطباء يحمل المصلي على أن يبحث له عن عماد من أجل أن يتكئ فيأخذ نومة خمس دقائق حتى يقيم الصلاة، لكن الإنسان يحرص على الاستماع للخطبة.
ومن أحكام يوم الجمعة أنه لو جاء المصلي إلى صلاة الجمعة والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فإنه يصليها ظهراً.
أسباب السهو كثيرة منها: أكل الشبهات.. وأكل الحرام.. وحب الدنيا.. وكراهية الموت.. والإقلال من مجالس العلم.. والإقلال من قيام ليل.. والإقلال من صيام النهار.. والإقلال من التقوى.. قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بعمله: تقوى تحجزه عن محارم الله، وحلم يكف به السفيه، وخلق حسن يعيش به بين الناس).
وحسن الخلق يكاد يكون منعدماً عند كثير من الناس فتجده منذ أن يقوم من نومه حتى ينام وهو يتلفظ بألفاظ ليست جيدة، وهو بذلك يخالف صحابة رسول الله الذين كان كلامهم أشبه بالسكر، فيجد الإنسان بعض المسلمين يشتم زوجته وجاره، وهنا لا يمكن أن تحصل الرحمة؛ لأن اللسان يغرف مما في القلب، فالقلب آنية واللسان مغرفة، فإن كان قلبك مليئاً بالإيمان فلن يتكلم لسانك إلا بما هو خير.
فلو رفعت رأسي وقمت بالركبتين لكن يدي ما زالتا في الأرض وكذلك أطراف أقدامي فإنني في هذه الحالة إلى السجود أقرب، فأجلس للتشهد ولا أقوم.
وإذا كنت للقيام أقرب فلا تجلس وبعد أن تنتهي من التشهد الأخير سلم عن اليمين ولا تسلم عن الشمال، ثم اسجد سجدتي السهو ولا تقرأ التشهد مرة أخرى ثم تسلم على اليمين وعلى الشمال.
وهناك رأي يقول: إن النقص في الصلاة يسجد الإنسان له قبل السلام والزيادة بعد السلام، ولكن هذا الرأي قد يسبب في تشكيك الناس، فإن سجدتي السهو سجدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سلم بنص حديث ذي اليدين الذي رواه الإمام مسلم رضوان الله عليه عن ابن عباس .
وأما الإنسان الذي يشك هل قرأ الفاتحة أم لم يقرأها، فإن تذكر قبل أن يركع فقرأها فلا شيء عليه، وإن ركع ثم تيقن أنه لم يقرأ الفاتحة وهو قد ركع فصلاته باطلة؛ لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة الذي لا يجبره سجود السهو، ولو أنك قلت: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] ثم هويت نازلاً وأنت تقول: (وَلا الضَّالِّينَ) فإن الصلاة بطلت؛ فلا بد أن تقرأ الفاتحة كاملة وأنت قائم إلى أن تقول: آمين.
وحكم من لم يستو واقفاً بعد الركوع هو بطلان الصلاة، فلابد من الرفع والاطمئنان راكعاً.
والواجب على المصلي أن يطمئن في سجوده وركوعه، ويكون الاطمئنان بمقدار قولك: سبحان ربي الأعلى مرة واحدة، فالواجب عليك هو مرة واحدة ومن زاد فهو أفضل.
وإذا سها الإمام فقام بعد التشهد الأخير، أو أنه قام بعد آخر ركعة ظناً منه أن سيقوم للأخيرة فعلى المصلين خلفه أن ينبهوه فيقولوا بصوت مرتفع: سبحان الله، أما إذا كانت النساء خلفه فإنهن يصفقن بأيديهن لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل التصفيق للنساء).
أما إذا سها المأموم بأن يكبر الإمام للركوع فيسجد المأموم فلا يعلم أنه سها إلا عندما يسمع قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فعلى المأموم أن يقوم ليكمل الصلاة ولا شيء عليه ولا يسجد للسهو؛ لأن صلاة المأموم تجبرها صلاة الإمام.
قال: وأعطيته جانب رأسي الأيسر فلكزني، وقال: إن الرسول كان يحب التيامن في كل شيء، وهذه الثانية.
وبعد ذلك: قال: فجلست مبهوتاً يعني مستغرباً، فقال: إنك ما زلت في أرض الله فكبر الله واذكره، قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] وهذه الثالثة.
أما الرابعة فإن أبا حنيفة أراد الخروج فقال له: صل هنا ركعتين تشهد لك بها هذه الأرض يوم القيامة.
والخامسة قال له: جلست معي قليلاً ومن الواجب إذا صاحب المسلم مسلماً ولو للحظة أن يعرفه باسمه واسم أبيه واسم المكان الذي جاء منه، فقال له: أنا اسمي أبو حنيفة النعمان ، فعرف المزين أنه العلامة الفقيه واعتذر منه، فقال أبو حنيفة: والله! إنك لأفقه مني، وهذا يدل على حسن خلق أبي حنيفة .
عندنا صلاة جماعة وصلاة فرد، وعندنا صلاة حضر وصلاة سفر.
فالمسلم لا يصلي وحده في البيت إلا النوافل، وكما يقال: نور بيتك بالنافلة فهذه صلاة الفرد.
ويكون الإنسان مسافراً إذا قطع هذه المسافة بأي وسيلة من وسائل النقل، فإنه لا يعتد بالوقت وإنما يعتد بالمسافة.
وصفة صلاة المسافر هي: أن يقصر من الصلاة الرباعية فيجعلها ركعتين، ولا يصح القصر في صلاة الصبح؛ لأنها ركعتان وكذلك صلاة المغرب، فالقصر لا يكون إلا في صلاة الظهر والعصر والعشاء.
وقد أوجب ذلك: عبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وهذا رأي أبي حنيفة .
وأجازها مالك وقال الإمام أحمد : أن تقصر الصلاة في السفر أفضل من إتمامها.
ولو دخل مسافر مسجداً الإمام فيه مقيم فإن الفقهاء على رأيين:
يقول الإمام مالك إنك سجين الإمام، فصل ركعتين فقط وبعدما يقوم من التشهد للركعة الثالثة كن جالساً مكانك إلى أن يأتي هو بركعتين ثم يقرأ التشهد ويسلم فسلم معه، أو أنك تكمل معه.
ويصح أن يصلي المسافر بالمقيمين لكن لابد عليه أن ينبههم أنه سيقصر وعليهم أن يتموا الصلاة.
وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما صلى بالمسلمين يوم فتح مكة فقد قال: (أيها الناس! إنا قوم سفر فأتموا صلاتكم).
فلو أن مسافراً كان في الإسكندرية فصلى الظهر قصراً ثم صلى العصر كذلك، ثم بعد ذلك عاد إلى مكان إقامته في القاهرة فوصل إلى هناك قبل المغرب فإنه لا يعيد صلاة العصر، وهذا مثل شخص تيمم فلم يجد ماء، فبعد أن تيمم وصلى وجد الماء، فإن صلاته صحيحة ولا يعيد الصلاة.
أما إذا سافر من الإسكندرية ولم يؤذن للمغرب أو أذن فله أمران:
يجوز أن يصلي المغرب ساعة ما أذن وتجمع معه العشاء جمع تقديم، ويقصر صلاة العشاء.
ويجوز أن يؤخر المغرب رغم أنه أذن وعندما يصل القاهرة يصلي المغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً؛ لأنه قد وصل إلى مكان إقامته.
وهذه الأحكام تنطبق على من كان مسافراً في طاعة وليس في معصية، كأن يكون قد سافر للحج أو للتنزه وبغرض الترفيه المشروع على الأهل والأولاد وليس بغرض النظر إلى المحرمات أو غير ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر