أما بعد:
فهذه بمشيئة الله عز وجل الحلقة الثالثة من سلسلة الحديث عن الدار الآخرة، وهي الحلقات التي يختص الحديث فيها بالموت وما بعده، وهي الرحلة الأساسية لكل إنسان في هذه الحياة، وهي الدار الباقية التي ينادى فيها أهل الجنة وأهل النار: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت) .
اللهم اجعلها جنة أبداً وخلوداً في جنة الرضوان يا رب العالمين.
وليس الحديث عن الدار الآخرة حديثاً للقنوط أو لليأس، ولكنه حديث يشحذ الهمم نحو الله عز وجل، ونحو الفرار إليه سبحانه وتعالى، وهو الذي أمرنا بالفرار إليه، والمسلم دائماً يفر من الدنيا إلى الله، ومن الناس إلى الله، ومن الابتلاءات إلى الله، ويعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
والحديث عن الموت وما بعد الموت يوسع صدر الإنسان الضيق، ويشرح صدر الإنسان المنغلق، ويضيء قلب المسلم العاصي، وينير الطريق لكل واحد منا، فما الذي ينجيه بعد الموت؟ وما الذي يوجب العذاب بعد الموت؟ عندما يدرك الإنسان هذه الحقائق كلها يدرك أنه في الدنيا ضيف، وأن الدنيا عارية مسترجعة مؤداة إلى رب العباد سبحانه وتعالى، وأنه لابد للإنسان أن يرحل منها؛ لأنه يسمع كلام الصادق صلى الله عليه وسلم محمد حيث يقول: (إنما أنا في الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) .
فالإنسان نهايته الموت، وإذا حملت أيها الإنسان جنازة إلى قبر من القبور فاعلم أنك سوف تحمل، وإن غسلت ميتاً فاعلم أنك بعدها سوف تغسل، وإن اشتريت كفناً لميت قريب أو عزيز لديك فاعلم أنه سوف يشترى لك كفن، واعلم أنك إن لحدت ميتاً أو وضعته في قبره فسوف يأتي عليك وقت توضع أيضاً في قبرك، وحتى من مهمته وشغلته أن يلحد الأموات في قبورهم، فإنه سوف يلحد يوماً ما، وسوف يموت يوماً ما، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
تحدثنا في الدرس الماضي عن الوصية، وقلنا: إنه لابد لكل مسلم ألا ينام إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه.
والوصية لا تخص المال أو العقار فقط، بل لو أن أحد أقاربك وأهلك لطم الخدود أو شق الجيوب، أو أن المرأة صاحت وقالت: يا سبع يا جملي لمن تتركنا؟ فكل هذا الكلام تكون قد أعلنت براءتك منه، وأوصيت بهذه البراءة، حتى إن نزلت إلى القبر كنت بريئاً من أي عمل يخالف ما جاء في الكتاب عن الله وما جاء في السنة عن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(هذا ما أوصى به فلان بن فلان -وتكتب اسمك- أنه يشهد أن لا إله إلا الله)، جاء في الحديث: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). اللهم اجعل آخر كلامنا لا إله إلا الله.
وأنت ولابد إما أن تموت بين صلاة الصبح والظهر، أو بين صلاة الظهر والعصر، أو بين العصر والمغرب، أو بين المغرب والعشاء، أو تموت بين العشاء والفجر.
والمسلم بطبيعته مواظب على الصلاة، فمادام مواظباً على الصلاة فكل الصلاة توحيد لله عز وجل.
كذلك المسلم دائماً يذكر الله، (من أصبح وأمسى ولسانه رطب بذكر الله أصبح وأمسى وليس عليه خطيئة) .
فإذا أصبحت وأمسيت ولسانك معطر بكلام الله عز وجل محيت عنك الخطايا، والمسلم أو المؤمن كله منفعة، فإن جالسته وحادثته وماشيته نفعك، وإن سافرت معه نفعك، وإن صاهرت منه أو صاهر منك نفعك.
فمن شكره جيرانه ورفقاؤه في السفر، والمعاملون له في الأسواق، والذين يشترون ويبيعون منه، فهذا لا يشك في صلاحه، (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).
إذاً: فالمسلم دائماً لسانه رطب بذكر الله، وأنت كمسلم تقعد مع المسلمين الصالحين الذين يذكرونك بالله، وتقعد مع الواحد منهم فيقول لك: سمعت في الدرس كذا، ورحت عند الشيخ فلان وقال كذا، وخطبة الجمعة التي مضت قال الخطيب فيها كذا، وقرأت في الكتاب الفلاني كذا، فكل مجالسته خير.
وأما لو جلست مع أصحاب الدنيا فإنهم ييئسونك من رحمة الله، ويقنطونك من فضل الله، ويضيقون عليك الدنيا حتى تنحرف أو تنتحر.
لكن المسلم يشرح صدرك ويقول لك: يا أخي أنت مغمور في نعم الله، (من أمسى معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) .
وربنا أنعم على قريش وقال: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4].
فمادام ربنا أعطاك الأمن والصحة فاحمد الله على نعم الله، واشكر الله على فضل الله، واعلم أنك كلما اتصلت بالله عز وجل جعل الله لك من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقك من حيث لا تحتسب؛ ولذلك قال رجل لسيدنا علي: يا أمير المؤمنين إن رزقي ضيق، قال له: استغفر الله.
كذلك من ليس عنده عيال عليه أن يستغفر الله، وإذا لم ينزل المطر على قوم يقال لهم: استغفروا الله، فقد قال الله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10] أي: يغفر الذنوب، فهذه أول ثمرة من ثمرات الاستغفار: غفران الذنب، ثم ماذا قال: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:11] .
فأول الخير أمن الطعام وذلك بنزول الماء.
ثم قال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:12] كل هذه من ثمرات الاستغفار.
إذاً: تكتب الوصية هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، أوصي من تركت من أهلي -زوجتك عيالك أمك أباك قرابتك- أوصي من تركت من أهلي أن يتقوا الله)، وهذه أعظم وصية تجعلها لأهلك؛ لأن كثيراً من الناس يوصي أولاده قائلاً: لو زرتم عمكم بعد الموت سأبقى قلقاً في تربتي، والمرأة عندما يأتي عليها الموت تقول: انتبهوا تزورون خالتكم فهي أكلت ميراث أبي ولم تعطني شيئاً، ولو زرتموها سأبقى حزينة في تربتي، وسأكون عليكم غضبانة إلى يوم الدين، فقولوا لها: اغضبي كيف شئت، وأما نحن فسنرضي الله عز وجل ونصل خالتنا.
ذهب رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله أذنبت ذنوباً كثيرة، قال: أما لك من أم؟ قال: لا، أما لك من خالة؟ قال: نعم لي خالة، قال: صل خالتك وبرها يكفر الله عنك كل الذنوب) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اذهب وزر خالتك، وقبل يدها كما تقبل يد أمك، وقبل رأسها كما تقبل رأس أمك، وقبل رجلها كما تقبل رجل أمك، وأمك التي تقول لك: لا تزر خالتك بعدما أموت، قل لها: لا، إن وصيتك هذه مخالفة لشرع الله، ولا ينبغي العمل بها.
فلا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج كل ذلك لا يكتب ثوابه للمتخاصمين.
وبعض الناس يكون مخاصماً لأخيه أكثر من عشرين سنة، وقبل أن يذهب للحج يقول: أرفع سماعة التليفون وأرمي ذنوبي عليه.
فنقول لهذا: ليس هناك أحد يرمي ذنوبه على الآخر، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] .
ويقول سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، فيأمر الله عز وجل أن ادفع بالتي هي أحسن، والنتيجة: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] أي: صديق قريب يهتم بأمرك.
وبعض الناس يقول: أنا أحاول مع خصمي ولا فائدة. نقول: أنت تحاول لكن ليس من قلبك، أنت تحاول من ظاهرك، ولو حاولت من قلبك لانقلب العدو إلى حبيب، والبعيد إلى قريب، والشانئ الكاره إلى محب راض عنك وترضى عنه.
اللهم انزع الغل والحقد والحسد من قلوبنا، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا يا رب العالمين.
إذاً: لابد أن يصلحوا ذات بينهم، وهذه أعظم وصية.
وهناك أسباب تجعل الأخ يغضب ويحقد على أخيه، منها: أن بعض الآباء يحابون ولداً على ولد، فنقول: لا تحابوا أحداً على حساب أحد، إن كنت تحب ولداً أكثر من ولد محبة قلبية فلا تظهرها؛ من أجل ألا يحقد بعض الأولاد على بعض، وسئلت الأعرابية وكانت حصيفة لبيبة فطنة كيسة: من أحب أبنائك إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يشفى، والمسافر حتى يعود. يعني: أنا أحب الولد الصغير أكثر حتى يكبر؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى من يقف بجواره، ولذلك إذا جاءك ولد على كبر أو بنت على كبر وزوجت البنات الكبار أو الأولاد الكبار وأعطيتهم حرفة أو صنعة، فمن الواجب أن تحجز، للصغير مبلغاً يساوي ثمن تعليمه الحرفة حتى يستوي بإخوانه الذين سبقوه، مع مراعاة سعر العملة.
إذاً: فالذي يجعل الإخوان يغيرون من بعض ويحقدون على بعض، ويقاطع بعضهم بعضاً، فهذا قد وقع في خطأ كبير، والأولاد قد لا يظهرون هذا الأمر أمامك حياء منك، أو خجلاً من أمهم، مع أن القلوب تشتغل في الداخل؛ ولذلك رأينا أن يوسف الصديق لما قال له رجل: إني أحبك، بكى، فقيل: ما لك يا يوسف، يقول لك: إني أحبك فتبكي؟ قال: وهل بلغني من السوء ما بلغني إلا بسبب الحب، أحبني أبي فألقاني إخوتي في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فألقوني في غياهب السجن، كل هذا بسبب الحب.
إننا بحديثنا هذا لم نخرج عن حديث الدار الآخرة؛ لأن من ضمن الذي ينجيك يوم القيامة أن تسوي بين أبنائك وبناتك، وإذا أحببت ولداً لطاعته وهدوئه ودماثة خلقه وبره فلا تظهر ذلك إلا من باب النصيحة، تقول: انظر إلى أخيك كيف يعمل إنه طائع بار محسن، ولا تزد على ذلك؛ لأن الأولاد الآن أصبحوا من العناد بمكان، فإذا أمرتهم بشيء فعلوا عكس الأمر الذي أمرتهم به.
وسيدنا النعمان بن بشير لما ذهب به أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله إني نحلت ابني
إذاً: لا تميز أحداً على أحد.
وانتبه أن تذهب وتنتمي لطريقة أو فرقة أو طائفة أو جمعية، بل أنت مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهي طريقة واحدة وخط واحد: كتاب وسنة.
اللهم اجعلنا من أهل الكتاب والسنة يا رب العالمين.
قال تعالى: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة:133] فجمع أولاده حوله حين جاءه ملك الموت يقبض روحه، فقال لهم: إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]؟ لم يقل: أريد أن أؤمن مستقبلهم بالأموال لا، بل أراد أن يطمئن على العقيدة، وسيدنا زكريا لما دعا ربه قال: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:6] أي: يرث العقيدة والتوحيد والنبوة والاستقامة، وسيدنا زكريا لم يترك وراءه الأموال وإنما ترك التوحيد والنبوة.
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133]، فقال الأولاد: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، فهذه هي وصية الأنبياء والرسل لأبنائهم.
كذلك سيدنا عيسى لما شعر أن بني إسرائيل لن يرضوا بالإيمان قال الله عنه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52] سبحان الله، فالحواريون أمنوا وأسلموا.
وقال أتباع سيدنا موسى: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126].
وقال سيدنا يوسف في آخر القصة: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] هذا الكلام يقال في آخر الحياة.
وبلقيس ملكة سبأ لما جاءت إلى سليمان قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44]، ولم تقل: أسلمت لسليمان، لا، بل قالت: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ [النمل:44]، فلا واسطة بينك وبين الله.
قيل: لـعلي بن أبي طالب: ما المسافة بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة.
قل: يا رب، يقل: لبيك يا عبدي، أهذه المسافة قريبة أم أنها غير قريبة؟ وتطرق باب الله في أي وقت، وباب الله لا يغلق أبداً، اللهم! فتح لنا أبواب رحمتك، وأكرمنا ولا تهنا يا رب العالمين، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير.
(أن يحضرني بعض الصالحين قرب الوفاة؛ ليذكرني بحسن الظن بربي وبرجاء رحمته).
يعني: إذا كنت في صحة فليكن الخوف أكثر من الرجاء، وأما إذا جاءك المرض وأحسست أن هذا مرض الموت فليكن الرجاء أكثر من الخوف.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو ينازع الروح فقال له: (بم تشعر؟ قال: أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي، قال: أبشر! فما اجتمعا في قلب عبد إلا وأدخله الله الجنة) .
قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] أي: يكون خائفاً من أمر الآخرة وما فيها، وفي نفس الوقت عنده رجاء وأمل في رحمة الله، ولذلك عندما دخل أبو موسى الأشعري على سيدنا عمر بعد أن طعنه أبو لؤلؤة أعطوه كأساً من لبن فنزل من جرحه مشوباً بالدم، فعرفوا أن الطعنة جاءت في جدار المعدة ففتحتها، وهذا دليل أنه اختلط بالدم، فبكى عمر وقال لابنه عبد الله : يا عبد الله ضع رأسي على الأرض، وكان سيدنا عبد الله قد جعل رأس أبيه في حجره، فلما قال له: يا بني ضع رأسي على الأرض، فوضع رأسه على الأرض من أجل أن تصدق فيه نبوءة الحبيب صلى الله عليه وسلم ويموت شهيداً رضي الله عنه، وكان يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً، ليت أم عمر لم تلد عمر ، ثم قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة، انظر إلى هؤلاء الذين يبحثون عن الآخرة، وبعد أن نشرح لكم ونوجز لكم أمر الوصية سنقف مع وصيتين: وصية أبي بكر الذي هو أعظم الناس وأفضل الخلق وأكرم الأمة بعد رسول الله، ولو وضع إيمانه في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجح إيمان أبي بكر. وسننظر بم أوصى عند الموت؟
الوصية الثانية: وصية الحجاج بن يوسف الثقفي ، سننظر بم أوصى عند الموت؟ وشتان ما بين الوصيتين.
اللهم أكرمنا بحسن الختام يا رب العالمين.
قال عمر : (يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: إن عمر بن الخطاب ولا تقل لها: أمير المؤمنين؛ فما عدت لكم بأمير.
الإمارة انتهت، لا تقل لها: أمير المؤمنين؛ حتى لا تظن عائشة أنه يجب عليها طاعة أمير المؤمنين، وإنما لها الخيار في الأمر الذي ستخبر به.
انظر يا أخي ماذا تقول هذه الشخصيات العظيمة، اللهم ألحقنا بهم يا رب، ولا تحرمنا رؤيتهم والمكث معهم ومجاورتهم في الجنة يا رب العالمين.
وقل لها: إن عمر فيستأذنك أن يدفن بجوار صاحبيه. وصاحباه هما: سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيدنا أبو بكر ، يستأذن أم المؤمنين عائشة ، وعائشة كانت تريد أن تدفن بجوارهما؛ لأن هذا أبوها وهذا زوجها.
فلما جاء عبد الله بن عمر إليها وجدها تبكي، وقالت: والله ما من شجر ولا مدر ولا حجر حتى الدودة في باطن الصخرة إلا وقد حزنت لما حدث لأمير المؤمنين عمر ، هذا كلام السيدة عائشة ، فقال لها عبد الله بن عمر : إن عمر يستأذنك أن يدفن بجوار صاحبيه أتأذنين؟ قالت: كنت أردته لنفسي، ولأثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله من عندها قال له: وافقت يا أمير المؤمنين، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني، وقبل أن تدفنوني اذهب فاستأذن منها مرة أخرى، فربما استحيت وأنا على قيد الحياة، ولا تستحيي مني بعد موتي.
يقول برنارد شو : كلما قرأت عن شخصية عمر بن الخطاب ظننت أنه أسطورة من أساطير القرون الوسطى.
يعني: أنه شيء غير واقعي.
إذاً: فأنت أيها المؤمن توصي أن يحضرك الصالحون؛ لأن عمر بكى وتوجس خيفة وقال: ويل لـعمر إن لم يرحم رب عمر عمر ، وبكى وأجهش بالبكاء، فبكى من حوله، فقال أبو موسى الأشعري له: يا أمير المؤمنين لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه
وسيدنا عمر قد سمع هذا الحديث من الرسول كما سمعه أبو موسى ، ولكن الخوف غلب عليه، فلما سمع هذا الحديث من أبي موسى قال له: أعد علي يا أبا موسى ، فقال له: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه
فعند الموت يحضر الصالحون الذين يذكرونك بالآخرة ولا يذكرونك بالدنيا وبلائها.
فكل الخلق سيموتون، وسيدفنون تحت الأرض: العظيم والحقير، الصغير والكبير، الغني والفقير، وليس هناك أحد يدفن فوق الأرض أبداً، بل كلهم تحت الأرض.
يا ابن آدم القبر يناديك كل يوم ويقول: يا ابن آدم رويدك وأنت تسير فوق ظهري، كن شفوقاً علي حتى أكون شفيقاً بك بعد أن تموت، لا تدك الأرض بقوة، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] .
وأول صفة من صفات عباد الرحمن كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] اللهم اجعلنا منهم يا رب، يعني: الذين يمشون بتواضع وتذلل لله، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].
والموت يكون للبدن فهو الذي يتعفن ويتحلل، ولذلك نوسع القماش الذي نكفن فيه الميت؛ لأنه بعد أيام ينتفخ وينتفخ، وبعدما ينتفخ تأتي البكتيريا وتبتدئ الديدان فتأكل اللحم والشحم حتى لا يبقى إلا الهيكل العظمي، وبعد سنوات لو لمست الهيكل العظمي يذوب مثل الرماد.
وأما الموت للروح فهو ترق، فالروح تنطلق في الملكوت عند رب الملكوت سبحانه، أي: روح المؤمن، فروح المؤمن في عليين، اللهم اجعلنا منهم يا رب، وهذا في كتاب مرقوم يشهده المقربون.
وأما الروح الثانية والعياذ بالله فهي في سجين: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ [المطففين:8] وهي روح الكافر.
إذاً: تعود كل نفس وروح من العالم الذي جاءت منه، فالبدن جاء من التربة فيعود إلى التربة، والروح تنطلق في هذا الكون، تنطلق إلى مكان لا يعلم به إلا الله عز وجل، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] .
فأنا عندما يحضرني الصالحون فإن سيذكرونني بالله وبرحمته، وسيكلمونني بالكلام الطيب، وسيلقنوني كلمة التوحيد، لكن لا تثقل على الذي ينازع الروح عند تلقينه كلمة التوحيد؛ لأن الذي يموت لا تعرف حالته ولا وضعه، فأنت تنظر إليه وهو أمامك، ولكن هو يرى ما لا ترى ويسمع ما لا تسمع، فهو مثل الطائرة عندما تقلع تبدأ تجري على الممر ثم بعد ذلك الطيار يقوم بفصل الأنوار ويوقف التكييف من أجل أن تستعد الطائرة للإقلاع، ويقول لك: اربط الحزام، وامتنع عن التدخين، فهذه اللحظة الحاسمة في انطلاق الطائرة، ومغادرتها للأرض، وأصعب اللحظات عند الطائرة حين تمر في ممر المطار، فالطائرة تستجمع كل القوى من أجل أن تغادر الأرض، فهكذا مغادرة الروح قريبة من هذا الأمر، فالميت الذي ينازع الروح يكون في حالة أنت لا تعرفها.
وهذا إمام أهل السنة سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما جاءه الموت وابنه بجواره كان يقول له: يا أبت قل كلمة التوحيد، قل: لا إله إلا الله، فكان يشير بيده أن لا ، فخاف وارتعد، وبعدما أفاق من غشوته قال له: يا بني لا تثقل على الذي يموت، قال له: لماذا يا أبت؟ قال له: لقد شعرت بعطش شديد ورأيت كأنما إبليس جاء لي بكوب من الماء، يقول لي: أسقيك من هذا وتقول كلمة الكفر، فكنت أقول: والله لا أقولها أبداً.
أما الإنسان المقيم على المعاصي فربنا يفتنه ساعة الموت والعياذ بالله، فيأتي الشيطان إليه في صورة أبيه أو أحد أقربائه الذين ماتوا قبله فيقول له: هل تعرفني؟ يقول له: نعم، فيقول له: أنا مت قبلك، فإن أردت أن تدخل الجنة فمت على دين النصارى أو مت على دين اليهود، فيتبعه والعياذ بالله، فهذا الذي يفتن عند الموت، اللهم لا تفتنا لا في الحياة ولا عند الموت، ولا في القبر ولا بعد القبر يا رب العالمين.
فأنت يا مسلم أكثر من الطاعات من أجل أن يأتيك ملك الموت وأنت ثابت، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] .
وأحاديث الدار الآخرة ليست من العقل، وإنما هي من الكتاب والسنة، ولا نستطيع أن نأتي بشيء من عندنا؛ لأن هذا شيء يخرج عن القياس، وإنما نقول: قال الله قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا تثقل علي المحتضر حين تلقنه لا إله إلا الله، لكن لو أن مجموعة من الصالحين كانوا عند المحتضر فقالوا لأحدهم: يا فلان ألا تقوم لترقي فلاناً، فيقول: يا جماعة أريد منكم قبل أن أرقيه أن توحدوا الله، فقال كل القاعدين حول الميت: لا إله إلا الله، فالمحتضر من ضمنهم سيقول: لا إله إلا الله، وينطق بشهادة التوحيد، فهذا من أجل أن تخرج هذه الكلمة من فمه فيلقى الله عليها، فيبعث في الموحدين يوم القيامة.
والميت يحس لكنه لا يتكلم، أليس سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم لما دفن قتلى المشركين في قليب بدر قال: (يا أهل مكة إني وجدت ما وعدني حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قال الصحابة: عجباً يا رسول الله أتخاطب جيفاً؟ فقال: والذي بعثني بالحق نبياً إنهم لكلامي أشد استماعاً منكم، ولو قدر لهم أن يردوا لقالوا: نعم وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً) .
أن يمنع القيم عليه الورثة من إخوانه وامرأته وأبنائه من رفع الصوت بالنياحة والندب ولطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، والدعاء بدعوى الجاهلية كان تقول المرأة: يا سبعي يا جملي، لمن تتركنا؟ هذا من دعوى الجاهلية، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية) .
يعني: خرج من الملة والعياذ بالله.
وأيضاً المسارعة بقضاء ما علي من الدين، يوصي بذلك؛ لأن أهم شيء يخرج من التركة الدين، فلو كان على أبيك دين فسارع بقضائه؛ لأنه يظل محبوساً في قبره إلى أن يسدد عنه الدين.
وأيضاً يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، والمرأة في خمسة، الثلاثة الأثواب هي الأول: القميص يكون للميت إلى نصفه، والثاني: يكون من حقويه إلى تحت الرجلين، والثوب الثالث: نلف به الجسم كله.
ويوصي بألا يكفن بثوب من حرير أو ثوب غال؛ لأن كثيراً من الناس يأتون بثوب غال جداً ويكفنون به الميت، وبعدما ينزل في القبر ينزل واحد بموس أو سكينة ويمزق الثوب؛ من أجل ألا يسرقه الذين ينبشون القبور، فمثل هذا الصنيع يغضب الميت، وحرام أن يدفن الميت في ثوب غالي الثمن.
والحمد لله أن الناس قد عرفوا وفهموا وأدركوا هذه الحقيقة.
ويوصي بمنع خروج النساء إلى المقابر مطلقاً سواء مع الجنازة أو في الأعياد أو في الجمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) فأمك لو قالت لك: أريد أن أزور قبر أبيك حتى لا يغصب علي، فقل لها: لن يغضب عليك، وأنت لو قعدت في بيتك هذا خير، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـفاطمة : (يا
أيضاً يستحب السكوت عند تشييع الجنازة، فقد جاء في الحديث: (إن الله يحب الصمت عند ثلاثة: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة).
فلم يقرءون القرآن عند الجنازة مع أنه يستحب الصمت عندها؟!
وأيضاً يسرع بالجنازة، فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: إذا حملتم جنازتي فأسرعوا وعجلوا بها، فإن كان خيراً فقد قدمتموني إليه، وإن كان غير ذلك فشر تطرحونه من فوق أعناقكم.
ولذلك الميت المؤمن إذا حمل على الأعناق يقول: أسرعوا أسرعوا، لو رأيتم ما أرى ورأيتم ما ينتظرني لأسرعتم بجنازتي، وأما الميت العاصي والكافر فيقول: يا ويلي يا ويلي علام تسرعون؟ لو رأيتم ما أرى لأبطأتم بجنازتي.
كذلك جاء في الحديث: (ما من ميت يصلي عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه يوم القيامة) .
وإذا كثر عدد المصلين على الميت كان دليلاً على أن الله سبحانه وتعالى يكرم هذا الميت.
وأيضاً يوصي ويقول: من يضعني في قبري يقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الدفن يقف المشيعون عند قبري ساعة.
وأما الناس الذين يجلسون على القبور فحرام فعلهم ذلك، لا تجلس على القبر؛ لأن تجلس على جمرة فتحرق ثوبك خير لك من أن تجلس على قبر ميت، والدولة مسئولة أمام الله عن ساكني القبور.
وإذا رأيتم الرجل يأكل أو يشرب أو يتكلم في أمور الدنيا، أو يضحك عند القبور فاعلموا أنه مطموس البصيرة، بعيد عن رب العباد سبحانه.
إذاً: يجلس المشيعون بعدما يدفن الميت ساعة، يستأنس الميت بهذا الجلوس والاستغفار والتثبيت عند السؤال.
والتعزية مشروعة إذا خلت من البدع والمحرمات، وينبغي إحضار أحد العلماء ليفقه الحاضرين في دين الله، وأما أن يؤتى بالمقرئين والمنشدين وغير ذلك من البدع فلا؛ لأن كل هذا شيء لم يرد لا في كتاب ولا في سنة، وإنما هذه بدع يجب أن تنتهي من البيوت، وكان الصحابة رضوان الله عليهم عندما يموت الميت يقفون عند القبر بعد دفنه، والناس الذين دفنوا يعزون أهل الميت يقولون: آجركم الله، البقاء لله، وليس هناك شيء اسمه: البقية في حياتك ولا غير ذلك من الكلام الباطل، وليس هناك أن صاحب الميت وأهله يقعدون في البيت ويلبسون السواد ويأتي الناس للتعزية، ليس هذا من الإسلام.
أيضاً يمنع أهل البيت من صنع طعام يجمعون عليه الناس، بل المفروض أن يصنع الطعام لأهل الميت؛ لأنه جاءهم ما يشغلهم، فقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم)، لكن النساء لما يحضرن للأسف الشديد في المآتم، هذه أخته وهذه ابنة عمه، وهذه ابنة خاله، وهذه ابنة أخيه، فتراهن يقعدن فيأتي الصبح ثم الظهر ثم العصر فيقوم أهل الميت بتقديم الأكل والقهوة والشاي وغير ذلك، وأهل الميت في حزنهم.
أقول: لو رجعت إلى البيت ووجدت نساء في البيت جئن للعزاء فاطردهن والعهدة علي؛ لأن في هذا إبطالاً لبدعة من البدع، إن لم تطردهن أنت فمن الذي سيطردهن!
وسيدنا عمر رضي الله عنه لما دخل في مأتم وجد نسوة جالسات بينهن واحدة تعدد مآثر الميت، فقال لـعبد الرحمن بن عوف : اضربها يا ابن عوف إنها تأمر بالجزع والله قد نهى عنه، وتنهى عن الصبر والله قد أمر به، وإنها تسكب دموعها بدنانيركم.
إذاً: لما تجد نساء في البيت اطردهن، سواءً كنّ من قرابتك أو من غير قرابتك، ليس هناك نساء يجلسن في البيت للعزاء؛ لأن اجتماعهن في المآتم شر.
تحررت الوصية في يوم كذا، في سنة كذا هجرية وميلادية، والموصي فلان، والشهود فلان وفلان.
وإذا أتاني الموت تلك وصيتي بالله لا تبغوا لها تبديلا
أرجو حضور الصالحين فإنهم يرجون يوماً للحساب ثقيلا
يستغفرون لي الإله لعلني يوم الوداع أفوتكم مقبولا
وشهادة التوحيد دوماً لقنوا فقد اطمئن بها الفؤاد طويلا
بصري يغمض تلك روحي قد سمت فادعوا إلهاً غافراً مأمولا
الآن غطوني بثوب آخر وسلوا الإله اللطف والتسهيلا
دفني يعجل لا تخلوا جيفتي من بينكم روحي تروم طويلا
لا تلطموا، لا تصرخوا، لا تكفروا سأكون عن أخطائكم مسئولا
وقضاء ديني فاحذروا إهماله مما تركت فقد أردت قبولا
أثواب تكفيني تكون ثلاثة بيضاً وهذي فضلت تفضيلا
ودعوا الحرير فإن ذاك محرم ولم الغلو فلن يدوم طويلا
وأيا نساء محارمي وقرابتي أجبن ربكمُ أطعن رسولا
بالبيت قرن لا تزرن مقابراً لا تلتمسن لقوله تأويلا
صلوا علي ثم اكشفوا نعشي وأحيوا سنة وتبتلوا لإلهكم تبتيلا
وإذا خرجتم تتبعون جنازتي فالصمت حينئذ يكون جميلا
ولتسرعوا بجنازتي يا إخوتي رب العباد غداً لنا مأمولا
باسم الإله كذا على دين الرسول ضموا الرفات ولا أريد عويلا
استغفروا لأخيكمُ وكذا اطلبوا تثبيته فعسى يحوز قبولا
مالي يقسم قسمة شرعية يا وارثي فنفذوا ما قيلا
والثلث للفقراء قدر جائز إن تفعلوا كان الثواب جميلا
يا من أخذتم للسرادق محفلاً من أجلكم كان العذاب وبيلا
وكذا الولائم فاتركوها واجعلوا حبل الصلاة بربكم موصولا
وبرئت من شر ابتداع يبتغى عن سنة لا تبتغوا تحويلا.
هذه هي الوصية.
لما شعر أبو بكر بدنو الأجل قالوا له: يا أبا بكر أفلا نطلب لك الطبيب؟ قال: قد جاء، قالوا: وماذا قال لك؟ قال: قال: إني فعال لما أريد. ثم قال: نادوا عمر بن الخطاب ، وبعد ذلك كتب:
هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة ولم يكتب هذا ما أوصى به أبو بكر الصديق ولا سيادة اللواء فلان أو المستشار فلان أو الدكتور فلان، لا، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة.
وهذا أبو الحسن الشاذلي رحمه الله لما مات ورآه تلميذه في الرؤيا قال له: ماذا صنع الله بك؟ قال له: راحت تلك الإشارات، وضاعت تلك العبارات، وتاهت هذه الألقاب، وما نفعنا إلا ركيعات صليناها في جوف الليل والناس نيام.
فسيدنا أبو بكر قال: هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وفي أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، أني أولي من بعدي فأخذته لحظة من الغيبوبة، والذي كان يكتب هو عثمان بن عفان ، ولو كان غير عثمان لكتبها لنفسه، لكنه كتب عمر بن الخطاب ، فرجع إلى أبي بكر عقله وفاق من غيبوته فقال: رد علي ما كتبت يا عثمان ، قال عثمان : كتبت: إني أولي عليكم من بعدي عمر بن الخطاب قال أبو بكر : عجباً أوحي بعد رسول الله؟! فكان عمر هو الذي أراد أبو بكر أن يوليه الخلافة من بعده، وبعد أن كتب عثمان الوصية أمره أبو بكر أن يخرج إلى المسجد ويقرأ على المسلمين وصية أبي بكر، فقرأ عثمان على المسلمين ما أملاه عليه أبو بكر ، فأقام بعض الناس ببلبلة وقالوا: إن عمر كان عنيداً علينا والرسول صلى الله عليه وسلم بيننا، وكان عنيداً علينا وأبو بكر بيننا، فما بالك لو صار الأمر إليه.
ماذا سيعمل بنا؟!
فدخل عثمان ونقل رأي الشعب للخليفة، وأنهم معترضون، فقال سيدنا أبو بكر : أجلسوني، فلما جلس قال: أتخوفونني بالله؟ إن سألني الله يوم القيامة وقال لي: يا أبا بكر من تركت على عيالي؟ أقول: يا رب، تركت على أهلك خير أهلك، تركت عليهم من قال فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عش حميداً، والبس جديداً، ومت شهيداً)، وقال فيه: (أول مؤمن يأخذ كتابه بيمينه
كل هذا ولا تريدون أن أجعل الخلافة لـعمر بن الخطاب! فاقتنع الحاضرون بغير قهر.
ثم قال: يا عمر ، إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله في الليل، وإن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقل عليهم ذلك، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخف عليهم ذلك، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف يوم القيامة، ثم قال: ألم تر يا ابن الخطاب أن الله أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء؛ لكي يكون العبد راغباً راهباً يلقي بيده إلى التهلكة، ولا يتمنى على الله غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي، فلا يكونن غائب عليك أحب من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت.
ثم ننتقل إلى الحجاج، لقد مات في سجن الحجاج (90000) مسلم، وقتل (14000) مسلم بدون جريرة، وتعال إلى حالة الحجاج عند موته؛ من أجل أن تتعظ إن كنت تريد أن تموت مثل موت أبي بكر الصديق أو مثل موت الحجاج والعياذ بالله ولا أحد يريد أن يكون هكذا.
نظر الحجاج إلى السماء عند موته وقال:
إن ذنبي وزن السماوات والأرض وظني بربي أن يحابي
فلئن منّ بالرضا فهو ظني ولأن مر بالكتاب عذابي
لم يكن منه ذاك ظلماً وبغياً وهل يهضم رب يرجى لحسن الثواب؟
وكتب آخر كلام له للوليد بن عبد الملك يقول له: قد كنت أرعى غنمك، وأحوطها حياطة الناصح الشفيق برعية مولاه، فجاء الأسد -قصده بالأسد ملك الموت- فبطش بالراعي ومزق المرعى، وقد نزل بمولاك ما نزل بأيوب الصابر، وأرجو أن يكون الجبار أراد بعبده غفراناً لخطاياه، وتكفيراً لما حمل من ذنوبه.
إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس مما هنالك
فحسبي بقاء الله من كل ميت وحسبي حياة الله من كل هالك
لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا ونحن نذوق الموت من بعد ذلك
فإن مت فاذكرني بذكر محبب فقد كان جماً في رضاك مسالكي
وإلا ففي دبر الصلاة بدعوة يلقى بها المسجون في نار مالك
عليك سلام الله حياً وميتاً ومن بعدما تحيا عتيقاً لمالك
ودخل عليه يعلى بن منذر المجاشعي قال: يا حجاج كيف حالك؟!
قال: غماً شديداً، وجهداً جهيداً، وألماً مضيضاً، ونزعاً جريباً، وسفراً طويلاً، وزاداً قليلاً، فويلي إن لم يرحمني الجبار، قال يعلى : يا حجاج ! إنما يرحم الله من عباده الرحماء الكرماء، أشهد أنك قرين فرعون وهامان ؛ لسوء سيرتك، وترك ملتك، وتنكبك عن قصد الحق وسنن المحجة وآثار الصالحين، قتلت صالحي الناس فأفنيتهم، وأطعت المخلوق في معصية الخالق، وأرقت الدماء، وضربت الأبشار، وهتكت الأستار، وسست سياسة متكبر جبار، لا الدين أبقيت، ولا الدنيا أدركت، أعززت بني مروان، وأذللت نفسك، وعمرت دورهم، وأخربت دارك، فاليوم لا ينجونك ولا يغيثونك إن لم يكن في هذا اليوم ولا ما بعده، لقد كنت لهذه الأمة هماً وغماً، وعياء وبلاء، فالحمد لله الذي أراحها بموتك، وأعطاها مناها بخزيك، وخرجت روح الحجاج .
يا إخواننا، هذه طريق الصالحين طريق أبي بكر ، وهذه طريق المتجبرين؛ طريق الحجاج .
نسأل الله أن يجعل طريقنا طريق الصالحين.
اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها.
اللهم توفنا على الإسلام.
اللهم ألحقنا بالصالحين، وارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وسامحنا وتقبل منا.
اللهم أحينا إن كانت الحياة خيراً لنا، وأمتنا إن كان الموت خيراً لنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وجزاكم الله خيراً، وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر