وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه بمشيئة الله عز وجل: هي الحلقة الرابعة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، وهي الحلقة التي تخص الأسباب الموجبة لعذاب القبر، والأسباب المنجية من عذاب القبر.
فاللهم نجنا من عذاب القبر يا رب العالمين! واجعل هذه الجلسات خالصة لوجهك الكريم.
اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا.
اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله.
واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الوصية التي يجب أن يكتبها المسلم، وقلنا: إن من لم يكتب وصيته قبل أن يموت فلن يؤذن له بالحديث مع أهل القبور، ومن لم يكتب وصيته قبل أن يموت فسيحاول أن يكلم الناس يوم القيامة ولن يكلموه؛ لأن الملائكة سوف تخبر الناس أن هذا قد مات ولم يكتب وصيته.
إذاً فكتابة الوصية أمر بمنتهى الأهمية، وكتابة الوصية أمر يجب ألّا يغفله المسلم، ويستوي في هذا من عنده مال ومن ليس عنده مال، فهي وصية لا تخص المال في كثير الأمر ولا قليله، ولكن الوصية تخص كيفية الغسل، والبراءة من أي شيء يقال في الشرع الحكيم في قليل الأمر أو كثيره: من مسألة الدفن، واستقدام من يأتي ليقرأ على الميت سواء على القبر أو في البيت، أو الكلام الفارغ من المسلمين، وما زالت قلة الأدب سارية بني المسلمين في بدع الجنائز، من ذبح أمام النعش، إلى المغالاة في الكفن، والإتيان ببعض الناس من أجل قراءة ختمة أو ما يسمى بالعتاقة، كل هذه بدع لم يأذن الله بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن مسألة دواوين العزاء، والمقرئين المحترفين الذين ليس لهم عمل إلا أنهم يبتزوا أموال الناس تحت عنوان قراءة القرآن، وكل واحد يظن أن هذا القرآن يصل إلى الميت، وهذا غير صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) وتجد مثل هذه المناسبات للأسف الشديد في المساجد، وفيها من المنكرات ومن البدع ومن السرقات والبلايا ما يغضب الله عز وجل، وما لا يستطيع الإنسان حصره تحت بند واحد أو عدة بنود، ولكنها عناوين كثيرة للبدع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوب علينا وعليكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
وكما قال لنا أهل العلم: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، يعني: إذا عملت السنة في أضيق الحدود أحسن لك من أن تجتهد في أمر بدعي؛ فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله رب العالمين، وأهل البدع كلاب جهنم، يعني: كل مبتدع في الدنيا ويؤلف في الدين على ما يريد، فإنه يأتي ينبح على أهل النار في النار والعياذ بالله، فأنصح نفسي وأنصحكم بالبعد عن البدع جعلنا الله وإياكم من المحاربين للبدع، ولأهل البدع، ومن القائمين على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيأتي ملك الموت لقبض روح العبد، فيصبح الواحد منا -بعد أن كان في عداد الأحياء- صار في عداد الأموات، فيتحلل البدن ويعود إلى ما جاء منه وهي الأرض، قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55]، إذاً الرجوع مرة أخرى يكون إلى الأرض التي خلقنا أو كوِّنا أو أنشئنا منها.
فأول ما يدخل العبد القبر إذا كان -والعياذ بالله- عاصٍ، فإن القبر يقول له: (لقد كنت فرحاً وأنت على ظهري، فسوف تصير اليوم حزيناً وأنت في بطني، كم أكلت وأنت على ظهري من الألوان) أي: ألوان الطعام والشراب، (فاليوم يأكلك الدود في وأنت في بطني، لقد كنت تسير على ظهري -في الدنيا- وأنت أبغض عباد الله إلي، فاليوم ترى صنيعي بك)، ويضمه القبر ضمة تختلف فيها أضلاعه والعياذ بالله.
وإذا كان العبد صالحاً فإن القبر يقول له: (يا عبد الله! لقد كنت أحب عباد الله إلي وأنت على ظهري، فسوف ترى صنيعي بك، فينفتح له القبر مد البصر، فيرى مقعده من الجنة) اللهم اجعلنا منهم يا رب العباد، واختم لنا بخير، آمين يا رب العالمين، ولا تجعل الدنيا ولا الشيطان ولا الأولاد يلهونا عن عبادتك يا رب العالمين.
فعندما ينتزع ملك الموت الروح، ويحملك أهلك على الأكتاف، هنا انتهت المسألة كلها، فإن كنت في الدنيا تعادي وتحارب وترفع قضايا، تختلس وتناقض وتكذب وتنحرف، فقد جاءك من لا مهرب منه ولا انفكاك.
وهنا يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، يا ليت الدنيا ما غرتني، ولا الأولاد، ولا الزوجة التي كانت تكلفني فوق الطاقة، ولا أخي وأختي وخالي وعمي الذين قاطعتهم من أجل الشيطان الذي غرني وقطعني عن أهلي وعن أحبابي، وعن أقاربي وعن إخواني، وعن كل من أمرني ربي أن أصله.
وقد يضيق صدرك بأمور شتى: أمور العيال، وقلة ذات اليد، وغيرها من الهموم، وما من هم أنزلته بالله إلا وزال؛ لأنك أنزلته بمن يقول للشيء كن فيكون، وإذا أنزلت الهم بالناس ما زادك الناس إلا غماً وهماً.
لكن إن أنزلت الأمر بالله زال، قل: اللهم اشرح لي صدري، رب يسر لي أمري، رب وفقني، رب أذهب عني بلايا الدنيا وابتلاءاتها، فربنا أقرب إليك من حبل الوريد، ولعلكم تذكرون شوقي أمير الشعراء لما كان يخاطب الذين يرفعون الأثقال فيقول:
إن الذي خلق الحديد وبأسه جعل الحديد لساعديك ذليلا
زحزحته فتخاذلت أجلاده وطرحته أرضاً فصل صليلا
لمَ لا يلين لك الحديد ولم تزل تتلو عليه وتقرأ التنزيلا؟
قل لي نصير وأنت بر صادق أحملت إنساناً عليك ثقيلا
أحملت ديناً في حياتك مرة أحملت يوماً في الضلوع غليلا؟
أحملت في النادي الغبي إذا التقى من مادحيه الحمد والتبجيلا
أحملت مناً بالنهار مكرراً والليل من مُسدٍ إليك جميلا
تلك الحياة وهذه أثقالها وُزِنَ الحديد بها فعاد ضئيلا
فكل هموم الحياة عندما يوزن الحديد بها فإن الحديد يصبح خفيفاً، وما أثقل صحبة الثقلاء! وصحبة البعيدين عن رحمة الله عز وجل، ولذلك المؤمن عندما تصاحبه فإنه كالنحلة، إن أكل أكل طيباً، وإن أطعم أطعم طيباً، وإن وقف على عود لا يخدشه ولا يكسره.
مات منصور بن عبد الله، وهو أحد تابعي التابعين وهو رجل صالح، فرآه ابنه في المنام، فقال له: أبت ماذا صنع الله بك؟ قال: يا بني! سألني: يا منصور ! بم جئت؟ يا رب جئتك بست وثلاثين حجة، قال: ما قبلت واحدة منها، ثم قال له: بم جئتني يا منصور ؟! قال: جئتك بثلاثة آلاف وستين ختمة، قال: ما قبلت واحدة منها.
ثم قال له: يا منصور ! بم جئتني؟ قال: يا رب! جئتك بك، قال: لقد جئتني فغفرت لك. لا إله إلا أنت صاحب الفضل، إن قبل فتكرماً، وإن رد فعدلاً؛ لأن ربنا لو تكرم علينا وغفر لنا فإن ذلك بكرمه، يا كريم! أكرمنا يا رب العباد!
وسيدنا عطاء بن أبي رباح لما أفاض من عرفات أخذته سنة عند المشعر الحرام قبل الفجر، فرأى في المنام ملكين يقول أحدهما للآخر: كم حج البيت هذا العام؟ أي: كم عدد الحجاج؟ فقال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل ربنا منهم؟ قال له: ما قبل إلا من ستة، فقام سيدنا عطاء مرعوباً، ونحن للأسف الشديد لو أحدنا رأى الرؤيا هذه فإنه يمني نفسه ويقول: أنا من الستة، والصالح من اتهم نفسه، فما يزال الرجل يتعلم ويتعلم، فإن ظن أنه علم فقد بدأ يجهل.
فقام سيدنا عطاء مرعوباً من الرؤيا فقال لمن حوله من الناس، وكان حوله كثير من الناس: ألحوا على الله بالدعاء في أيام الحج، اجئروا إلى الله بالدعاء.
وفي آخر يوم في منى أخذته سنة من النوم، فلقي نفس الملكين وكان أحدهما يقول للآخر: كم حج البيت هذا العام؟ فقال له: ستمائة ألف، قال له: وكم قبل الله منهم؟ قال له: ما قبل الله إلا ستة، قال له: لكن هذا قليل! قال: لكن ربنا الكريم أعطى مع كل واحد من الستة مائة ألف.
والسماء لم تبك على الكافر الفاجر المجرم، ولن يدخل الجنة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، فلو أن الجمل دخل في خرم الإبرة فإن الكافر حينئذ سيدخل الجنة، والقضية أن الجمل لن يدخل في ثقب الإبرة إذاً فلن يدخل الكافر الجنة.
إذاً فالذنوب نوعان: نوع ستحاسب عليه في القبر، ونوع ستحاسب عليه أمام الله يوم القيامة، فإما أن يعفو الله عنك تكرماً وتعطفاً ومنة وفضلاً منه، وإما أن يأخذك بجريرتك فيحاسب على صغير الأمر وكبيره.
فالصحابي الذي استشهد في إحدى الغزوات كان الصحابة يقولون له: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! وكان أحد خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لو ترون ما أرى لرأيتم قبره وقد اشتعل عليه ناراً، فقالوا: لماذا يا رسول؟! قال: من أجل شملة قد غلها بدون وجه حق) يعني: وهو يحارب، وبعدما انتصر المسلمون أخذ شملة -مع أن الجندي له جزء من الغنائم- لكن أخذه بدون إذن القائد أو الموزع، أو بدون إذن حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فلما غل الشملة بدون وجه حق اشتعل القبر عليه ناراً.
قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، والغُل هو الطوق الذي يوضع في الرقبة والغُل غير الغِل، فالغِل هو الحقد أو الفوران النفسي نتيجة الغضب، وهذا غير الغُل وجمعها أغلال، وهذه الأغلال تعلق في الرقبة ويشدونه بها والعياذ بالله رب العالمين، لذلك قال ربنا: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85-86]، فيسوقونهم سَوق البهائم. اللهم أحسن لنا الختام يا رب العالمين.
وأغلب عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم سينالونه في القبر، وعذاب القبر ليس بالأمر السهل؛ لأن القبر إما يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة -والعياذ بالله- من حفر النار.
قال صلى الله عليه وسلم وهو يصف المنافقين: (يقعد أحدهم حتى توشك الشمس أن تسقط فيقوم ليصلي) صلاة العصر، أي: أنه يؤخر الصلاة إلى أن تكاد الشمس تغرب.
والصلاة في أول الوقت رضوان، وفي أوسطه رحمة، وفي آخره مغفرة، وهذا يدل على أن الصلاة في آخر الوقت هي ذنب يحتاج للمغفرة، وللأسف أن المسلمين يقولون: إن العشاء وقتها ممدود، وهذا خطأ، فإن صلاة الوتر هي التي وقتها ممدود، فيجب علي أن أصلي العشاء في وقتها وأما الوتر فتأخيره لا بأس به.
إذاً التثاقل عن الصلاة المكتوبة من موجبات عذاب القبر، وما أجمل أن يقوم الإنسان إلى صلاة الصبح -أي: صلاة الفجر- فيوقظ زوجته للصلاة، فإن لم تستجب له يقوم بسكب ماء على وجهها.
فقد جاء في حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً أيقظ زوجته لصلاة الفجر -أو الصبح-، فن لم تستيقظ نضح في وجهها الماء البارد، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها لصلاة الصبح، فإن لم يستيقظ نضحت في وجهه الماء البارد فاستيقظ).
فيقومون بتغيير المسميات فيسمون الربا فوائد واستثمار وأرباح، وفي الحقيقة هي خسائر ومصائب.
ولا يباح الكذب إلا في مواطن حددها الشرع الشريف.
فالكذب يباح في الإصلاح بين المتخاصمين، والكذب في الحرب، وكذب الرجل على زوجته ليصلح من شأنها، وهذا كله ليس بكذب.
وكان الكذب مذموماً عند السلف وإن كان كذباً على الحيوان، فقد روي عن أحد المحدثين أنه ذهب إلى محدث آخر يريد أن يأخذ الحديث عنه، فوجده يشير إلى ناقته بجمرة فيوهمها أن في حجره طعاماً حتى تتبعه، فسأله قائلاً: أفي حجرك شيء؟ قال: لا، فقال: إن كنت ستكذب على الناقة فلن تستحي أن تكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفض أن يأخذ الحديث عنه.
والكذب نجده منتشراً بكثرة في هذه الأيام سواء في الأسرة بأن تكذب الأم على أبنائها، أو على مستوى المجتمع، فإن المسلسلات كلها مبنية على الكذب، وما يحدث فيها من زواج وعقد وغيرها وهذه من الثلاث التي جدهن جد وهزلهن جد، وسيحاسب من يقومون بهذا يوم القيامة على هذه الكذبات.
إذاً: ثاني سبب من موجبات عذاب القبر: الكذب بكل أشكاله.
وقال عليه الصلاة والسلام: (سوف يأتي زمان على أمتي من لم يتعامل منهم بالربا أصابه غباره)، أي: شيء من آثاره، فمرتبك -على سبيل المثل- داخل فيه جزء من ضريبة الملاهي وضريبة الخمور، وهذا كله من الربا.
ولن أخوض كثيراً في الحديث عن الربا؛ لأن الحديث عنه يدمي قلبي، ولكن ندعو الله سبحانه أن يتوب علينا وعليكم من الربا صغيره وكبيره، قليله وكثيره.
والكارثة أن الغيره تجدها عند الحيوانات، بينما تنعدم في بعض الناس، وهذا غير مقبول.
وهذه المرأة تستحق العذاب في القبر إذا كان شعرها مكشوفاً فمن باب أولى من كانت عارية والعياذ بالله.
وأخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام عما يوجب العذاب فقال: (يا معشر النساء أكثرن من الصدقة؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قلن: ولم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير)، فالتي تؤذي زوجها بلسانها تتعرض للسخط الإلهي.
وقد جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من باتت وزوجها غضبان عليها باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح أو حتى تنزع) أي: حتى تسترضيه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والشهيد في الجنة، ونساؤكم من أهل الجنة: الولود الودود، التي إن غضبت من زوجها أو غضب منها زوجها دخلت عليه حجرته وصافحته وقالت: لن أذوق غمضاً حتى ترضى عني، هي في الجنة، هي في الجنة، هي في الجنة).
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يوصي النساء من أهل بيته فيقول لإحداهن: يا بنيتي هذا جنتك أو نارك، إن أطعتيه ستدخلي الجنة -أي: في طاعة الله-، وإن عصيتيه ستدخلي جهنم، إلى درجة أنه وصل الأمر أن يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من طلب زوجته -لحقه الشرعي- وهي على قتب -أي: فوق ظهر جمل- فمنعت نفسها منه باتت الملائكة تلعنها)، وويل لمن تلعنه الملائكة، فيجب على المرأة أن تتجنب إيذاء زوجها بلسانها، وإن تقدر ظروف حياته ولا تحمله فوق طاقته.
وقد تحمِّل المرأة الزوج فوق الطاقة سواءً المادية أو المعنوية، وهذا مثله مثل القتل فإنه نوعان: قتل مادي وقتل معنوي، فالقتل المادي: أن يُضرب واحد بحديدة فيقتل، أو يدوسه بسيارة، أو يضربه بمسدس.
وأما ثاني نوعي القتل: أن أدخل الاكتئاب والحزن على مسلم أو مسلمة من المسلمين حتى يموت كمداً، بمعنى: الإساءة، فهناك أشخاص ليلاً ونهاراً وهم تحت رقابة أهاليهم حتى يموت كمداً، وهذا يحاسب على أنه قاتل يوم القيامة، ومثله مثل الموظف الذي يعاند موظفاً مسكيناً، فيضغط عليه إلى أن يخرجه من العمل.
إذاً من أنوع وأسباب موجبات عذاب القبر -والعياذ بالله-: من تؤذي جيرانها بلسانها، وتحمل زوجها فوق طاقته، وتؤذي زوجها أيضاً بلسانها، ولنسائنا في الصحابيات أسوة حسنة، فإن الواحدة منهن تقول لزوجها بالليل: ألك حاجة؟ يقول: جزاك الله خيراً! تقول: أتدعني أصلي لربي الليلة؟ فتستأذنه أن تتنفل وتتهجد لله.
ويجب على الزوجة من أجل أن تصوم الإثنين أو الخميس أن تستأذن من الزوج، فإنه يوجد أزواج يتضررون من صيام زوجاتهم الإثنين والخميس.
والمرأة التي تترمل على أبنائها الأيتام وترفض الزواج مع أن هذا من حقها، أجرها كبير، فالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أول من يفتح له باب الجنة، فإن رضوان يقول: لم يؤذن لي أن أفتح لأحد قبل رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (فأجد امرأة تريد أن تسبقني، فأسألها: يا أمة الله؟! فتقول: إنها امرأة مات زوجها وترك لها يتامى فقعدت عليهم) فيدخلها الرسول معه.
ولا يصح للإنسان أن يأكل شيئاً من أموال الورثة الأيتام، فقد كان سيدنا عمر قاعداً عند صحابي يحتضر، فعندما فاضت روحه قام سيدنا عمر فأطفأ النور، فقال له: يا أمير المؤمنين! لم ذاك؟ قال: صار للورثة حق في هذا الزيت، أتريدون أن تطعمونا ناراً يوم القيامة؟ فأقارب الميت الذين يجلسون بحجة أنهم يواسون زوجة الميت فيأكلون ويشربون من أموال اليتامى، فهم لا يأكلون إلا النار، وسيعذبون بذلك في القبر ويوم القيامة.
فأكل مال اليتيم -والعياذ بالله رب العالمين- من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، فليتق الله ربه من كفل يتيماً من الأيتام، وليتق الله ربه من كان في رقبته أيتام يتولى الإنفاق عليهم، قال تعالى لأمثال هؤلاء: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6].
والغريب ألا تقوم السلطات بإقامة الحد على أمثالهم، وإنما يقومون بإدخاله السجن، فيكتسب فترة دخوله السجن مهارات أخرى من فنون السرقة وقطع الطريق.
وكل هذه الأعمال التي يقوم بها بعض الخطباء لن تنفعهم يوم القيامة، ولن ينفعهم في القبر ما عملوه وما نافقوه وما صنعوه.
وقد وصف أحد الحكماء حال الإنسان منذ أن يموت إلى أن يدخل القبر، وهو أبو العتاهية فقال:
وكأنْ بالمرء قد يبـ ـكي عليه أقربوه
وكأن القوم قد قا موا فقالوا: أدركوه
سائلوه كلموه حركوه لقنوه
فإذا استيأس منه الـ ـقوم قالوا حرفوه
حرفوه وجهوه مددوه غمضوه
عجلوه لرحيل عجلوا لا تحبسوه
ارفعوه غسلوه كفنوه حنطوه
وإذا ما لُفَّ في الأكـ ـفان قالوا فاحملوه
أخرجوه فوق أعوا د المنايا شيعوه
فإذا صلوا عليه قيل هاتوا واقبروه
فإذا ما استودعوه الـ ـلأرض رهناً تركوه
خلَّفوه تحت ردم أوقروه أثقلوه
أبعدوه أسحقوه أوحدوه أفردوه
ودعوه فارقوه أمسكوه خلَّفوه
وانثنوا عنه وخلَّوه كأن لم يعرفوه
وقال أبو العتاهية أيضاً وهو في لحظات الاحتضار أو الموت:
كأن الأرض قد طويت عليا وقد أخرجت مما في يديّا
كأني يوم يُحثى الترب قومي مهيلاً لم أكن في الناس شيا
كأن القوم قد دفنوا وولوا وكلٌ غير ملتفتٍ إليا
كأني صرت منفرداً وحيداً ومرتهناً هناك بما لديّا
كأن الباكيات علي يوماً وما يغني البكاء علي شيّا
ذكرت منيتي فبكيت نفسي ألا أسعد أُخيَّك يا أُخيّا
ألا من لي بأنسك يا أخيا ومن لي أن أبثك ما لديا
ثم قال: أشهد أن لا إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وفاضت روحه. وهذا يدل على أن تاريخ حياته كان خيراً، فيختم له بخير، اللهم أحسن خاتمتنا يا رب العالمين.
نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، فربنا عندما يعطيك شيئاً من الإيمانيات ثم ينزعه منك فهذا أمر سيء.
اللهم أكرمنا ولا تهنا يا رب العالمين.
قال أهل العلم: اهتزاز قلبك عندما اهتز الستر الذي بينك وبين الناس أثناء ارتكاب المعصية، ولم يهتز قلبك خوفاً من الخالق سبحانه دليل على انطماس البصيرة.
ومن خاف من الخالق أخاف الله منه المخلوقات كلها، فهذا سيدنا سهل بن عبد الله أحد الصالحين، كان في الجبل يحتطب، فأخذ حزمة من الحطب وأراد أن يضعها على حماره، فوجد الأسد قد قتل الحمار وأخذ يأكل منه، فسجد لله ودعا قائلاً: وعزتك وجلالك! لن أحمل حطبي إلا فوق من أكل حماري، فجاء الأسد إلى سهل بن عبد الله وكأنه كلب معلم، فوضع الحطب عليه وعاد إلى البيت، فاستغرب الناس من منظر الأسد والحطب فوقه، فقال سهل : نحن قوم نخاف من الخالق فطوع لنا المخلوقات كلها. فالمخلوقات صارت مطوعة له؛ لأنه يخاف من الخالق، ولذلك فإن المسلم إذا خاف من الخالق فإن الكل يحترمه ويحبه ويخاف منه، ومن اتقى الله أحبه الناس شاءوا أم أبوا.
ويدخل تحت ذلك من موجبات عذاب القبر: من يقدم كلام المخلوق على كلام الخالق، بمعنى أنه يصدق الحالف بغير الله ولا يصدق الحالف بالله، والمؤمن لا يتلاعب بالأيمان، وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، فلا يكثر الإنسان من الحلف؛ لأن كثير الحلف يعرف أنه كذاب، قال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10]، وكأن الحلاف يهون عند الله بسبب كثرة أيمانه.
ولذلك إخوة يوسف عندما كانوا كذابين أكثروا من الحلف، ولما كانوا صادقين ما حلفوا، قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]؛ لأن ما خرج من القلب وصل إلى القلب.
وعندما كانوا صادقين في المرة الثانية، قال لهم: أخوهم الكبير: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ [يوسف:81]، وفي قراءة: إِنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:81-82]، فهنا معهم شهود، لكن في المرة الأولى قال: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:17]، إذاً القرآن يعطينا حقائق غريبة.
فمن يقدم كلام الخالق على كلام المخلوق، ومن يصدق كلام المخلوق ويكذب الحلف بالله عز وجل، ومن لا يتأثر بآيات القرآن ويتأثر بمزامير الشيطان من أغاني وغيرها من أنواع الطرب فإن هذا موجب لعذاب الله في القبر.
فالمرأة التي تقوم بإخراج أسرار البيت إلى الخارج، والرجل الذي يقوم بإخراج أسرار البيت إلى الخارج، هذا فيه خيانة للأمانة، ومن ذلك أن يضع الإنسان مبلغاً من المال عند آخر فيضيعه، ومن يأتمنك على سر فتقوم بإفشائه فهذا من الخيانة.
فالموضوع كبير وخطر وقد تصيبنا الابتلاءات بسبب ذنوبنا التي لا ندري عنها، فيجب على كل واحد أن يراجع حساباته ويتوب؛ عسى الله أن يتوب علينا وعليه.
ومن ذلك ما قاله اليهودي: (السام عليك يا محمد! -يعني: الموت عليك- فقال: وعليكم، فقالت السيدة
وهم بذلك يدّعون أنهم يتفكرون، والإسلام يدعونا إلى التفكر في جميع أمور حياتنا وفي المخلوقات التي نراها: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، وقال تعالى وهو يحث: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا [الأنعام:11]، قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا [النمل:69]، أي: تفكروا، وقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، فكثير من آيات القرآن تدعو إلى إعمال الفكر والعقل.
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
نكتفي بهذا القدر من الدرس، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله، جزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر