اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار. اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.
اللهم فرج كرب المكروبين، اللهم فرج كرب المكروبين، اللهم فرج كرب المكروبين، ولا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
اللهم حبب الإيمان إلينا وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا مولانا من الراشدين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، وأصلح يا رب! أحوالنا، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، إنك يا مولانا! على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله وسلم على البشير النذير، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب! تسليماً كثيراً. وبعد:
فقد عشنا حلقات ثمانياً في الجنة، وهذه هي التاسعة بإذن الله رب العالمين، اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رب العالمين!
والمسلم يعيش على الأمل، ويعبد الله عز وجل والأمل يحدوه إلى رحمة الله، فلولا الأمل لما استمرت الحياة، ولولا أن يحيا الإنسان على الأمل لضاقت السبل بين يديه، ولكن المؤمن دائماً يجب أن يكون مؤملاً في رحمة الله عز وجل، بعد أن يسلك الأسباب التي قدرها الله له، بأن يتجنب المحارم ويستقيم على طريق الله، ويتوكل على الله حق التوكل، وأن يكون بما في يد الله أوثق مما في يده هو، وأن يزهد في الدنيا، وألا يزهد في مجالس العلم. وهناك أناس كثيرون جداً عندهم زهد لكن ليس في الدنيا، وإنما زهده في مجالس العلم، وربما هذه النصف الساعة التي نجلسها في مجالس العلم يكون بيننا فيها رجل صالح أو امرأة صالحة فينظر الله إليه نظرة رضا فيرضى عن الجميع من أجله.
ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه عندما يجد صغاراً يلعبون في الشارع يدخل وسطهم، ويقول: السلام عليكم، فيردون: وعليك السلام يا أمير المؤمنين! فيقول: ادعوا لي، فيفهم الأولاد، فهم أولاد الصحابة، ويقولون: أندعو لك يا أمير المؤمنين؟! فيقول: إنه لم يجر عليكم القلم بعد، ولم تزل دعوتكم غضة طرية مقبولة.
وكان ابن عمر يختم القرآن كل ليلة جمعة، ويرتب أموره هكذا، فيختم القرآن أربع مرات في الشهر، ونحن نريد أن نعمل مثل ابن عمر إن شاء الله، ومن أحب قوماً حشر معهم.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن يا رب، ومن المحبين لأهل القرآن يا رب!
فـابن عمر كانت تأتي ليلة الجمعة فيجمع أولاده وأطفال الحي ويدعو في ختام القرآن والأطفال يؤمنون على الدعاء.
ولم يكن يعمل مثل المصريين اليوم يوزعون الثلاثين جزءاً على ثلاثين شخصاً ويقولون لك: نحن ختمنا القرآن.
ويريدون أن يعملوها بالحساب مع الله، وهذا استهبال، وكل واحد إنما قرأ جزءاً، وأنا لا أقول لك: حرام ولا بدعة، لكن لا أقول لك إنك أخذت ما أخذه من قرأ القرآن كله.
وهذا الأمر انتشر بين الناس كلهم، ونحن نريد أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصريون اخترعوا شيئاً لم يعرفه الصحابة وكأنهم أنصح من أبي بكر في الإيمان، وأقوى ديناً من عمر ، وأنصح يقيناً من عثمان ، وأقرب إلى الله من علي ، وأعلم بسنة رسول الله من عمار ومن بلال ! فهؤلاء لم يعملوا هذه الحكاية، وهذه لم تظهر إلا في عصور التكاسل عن العبادة، فنقعد كلنا قعدة واحدة وكل واحد يقرأ جزءاً، وما أسهلها من طريقة، فهي سهلة جداً.
ويقول لك: جاء في الحديث: (سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن). ويقول لك: الذي يقرؤها ثلاث مرات كأنه قرأ القرآن كله.
ونعم هي تعدل ثلث القرآن؛ لأن القرآن ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، وفيه تقريباً ألف آية تتحدث عن التوحيد، فثلث القرآن يتحدث عن التوحيد؟ وسورة الإخلاص كلها عبارة عن توحيد، وفيها المعايير التي في الألفين آية التي في التوحيد، وليس معنى هذا: أن من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات كان كمن ختم القرآن.
وقد ورد في الحديث أن: (من صلاة في المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة، وصلاة في مسجدي هذا تعدل عشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة)، يعني: الذي يصلي ركعتين في المسجد الحرام يثاب ثواب مائة ألف ركعة، ويأخذ ثواب مائة ألف ركعة، وهذا خطاب جميل جداً، فلو صليت في أسبوع ثلاثمائة ركعة، فاضرب ثلاثمائة في مائة ألف يصبح لنا عند ربنا صلاة ثلاثين سنة، وهذا استهبال واستهزاء، وإذا قيل هذا الكلام للناس فإنهم يتلكئون في العبادة.
والعبادة لها قانون، كما أن للكرة قانوناً، حتى المخرج يقعد أمام الكاميرا ويقول لك: هذا غير مضبوط، أعد المشهد مرة أخرى. سبحان الله! المخرج عنده قانون في التسجيل وفي الإخراج، وأنت في دين الله تريد أن تمشي من غير قانون؟! ونحن لنا كتاب وسنة، ولنا علماء، وما زالت والحمد لله مصر مليئة بالخير بفضل الله عز وجل، وأهل العلم الصادقون فيهم، والمزيفون موجودون أيضاً في كل مكان، ونحن لا نريد أن ننحرف بعيداً عن كتاب الله، فاللهم اجعلنا من العاملين بكتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم يا رب العالمين!
آخر الآيات التي توقفنا عندها في الحلقة السابقة كانت مع سورة يس، وكانت مع صاحب يس حبيب النجار ، فإن حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21]، يعني: إذا كنت تريد أن تدخل الجنة فاتبع المرسلين.
والإسلام أعظم من هذا بفضل الله، هذا اسمه ضحك على الدقون، أناس مجانين يقودون أهل العمى.
وأفضل ما يحب أن يسمعه الرب من عبده كلمة: يا رب! والرب مشتق من التربية، والذي رباني هو الله، فهو الرب، والمرأة تسمى باسم لطيف جداً: ربة البيت، والمرأة قد تغضب جداً إذا كانت موظفة كبيرة أو أستاذة في الجامعة أو مهندسة، ثم تترك العمل وتخرج جواز سفرها أو البطاقة الشخصية الجديدة وفيها أنها ربة منزل، وتراها أعظم مهنة، ونحن عندنا الأم المثالية هي أن تكون ربة منزل.
فربنا اختارك لأجل أن تقعد هذه القعدة، فإذاً: هو يحبك، لكن المهم أنك تحبه، وكلنا نحب ربنا، ولكن درجاتنا في الحب مختلفة، أو تعبيراتنا في الحب أو عن الحب متباينة، فشخص يعبر عن الحب بكثرة البكاء، وشخص يحب ربنا بأن يقوم الليل، وآخر يصوم ويكثر من الصيام، وشخص يتصدق، وشخص يستخدم جاهه في خدمات الناس، وشخص يفرج الكربات عن الناس. فكل يعبر عن حبه لله عز وجل والتقرب منه بالعمل الذي يسره الله له. اللهم يسر لنا حبك يا رب العالمين! قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] وأحب العباد إلى الله كما قال: من أحبني وحببني إلى عبادي وحبب العباد إلي، وكونه يحبب العباد إلى الله ويحبه هذه واضحة، أما كيف يحببه للعباد فقال الله: يذكرهم بنعمائي، فيحبني عبادي، فأحبهم، فأرضى عنهم، فأنعمهم في الجنة، فيبدأ العبد يذكر الناس بنعم الله عليهم، وأنت حين تعد نعم الله لا تستطيع أن تعد، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] ولا يستطيع إنسان أن يحصي نعم الله أبداً.
اللهم علمنا ما جهلنا وذكرنا ما نسينا يا رب العالمين.
والخوف من الله معروف، والخوف من الذنوب حتى لا تلقيك إلى الهاوية، ويختم لك بها، اللهم اختم لنا بخير يا رب!
وخف ممن لا يخاف الله، وهذه مقولة ذات وجهين. فمثلاً: شخص لا يخاف من ربنا، ويفطر عمداً في رمضان، وتجده يشرب الدخان في نهار رمضان، فتقول له: عيب يا أستاذ فلان! فيقول لك: نحن لم نخف من ربنا، نخاف منك أنت؟! فهذه بدعة، ولو كان هناك دولة إسلامية فإنها تأخذه وتضعه في السجن وتمنع عنه الأكل، ولا تعطيه الأكل إلا في ساعة المغرب؛ لأنه يفطر في رمضان، فيجب أن يشهر به؛ لأنه مجاهر بالمعصية.
والمرأة لما دخلت على الحجاج بن يوسف فوعظته وأغلظت في الموعظة، فقال الذين حول الحجاج: اقتلها يا أمير! تتجرأ وتكلم الرأس الكبير بلا أدب، فتبسمت المسلمة وقالت: أصحاب أخيك فرعون كانوا أفضل من أصحابك. فقال: لماذا؟ قالت: حاشية فرعون قالوا لـفرعون : أَرْجِه وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشعراء:36-37]، يعني: أنظره قليلاً، واعرض الوجه الآخر والرأي الآخر.
ونحن نقول دائماً: إن كثيراً من حكام عصرنا في البلاد التي تقول: إنها إسلامية لا يوجد عندهم ربع ديمقراطية فرعون، فإن فرعون المتجبر كان عنده ديمقراطية، فقد أراد أن ينتظر قليلاً؛ لكي يعرضوا وجه النظر الآخر.
فالمصيبة أن يكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول. ويقول: إنه لم يقله. فلا تقعد تتجادل مع شخص لا يفهم في الدين، فتقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قال، ويقول لك: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل، فتخرجه من ملة الإسلام من غير أن تشعر. وقد تقول له: هذا في البخاري ، فيقول لك: البخاري كم فيه من حديث ضعيف!
ثم يطلع من بين السواد نور، ويطلع في حلكة الليل ضياء القمر. وإذا ادلهمت الظلماء وأحلولك عليك ظلام الظلم من حولك فثق أن الفرج قريب، وإذا ضاقت واستحكمت وظننت أنه لا مخرج ولا فرج منها فاعلم أن فرج الله آت، فإذا ضاقت عليك جداً جداً وقلت: إنها أقفلت فاعرف أنها ستفتح الآن ما دام أنها اشتدت جداً، فالله يترك العبد يأخذ كل أسبابه حتى يقول: يا رب! انتهيت من الذي عندي، فيقول له: نحن نخلص لك الموضوع، ويقول للشيء: كن فيكون. فعندما تضيق بك الأحداث وتشعر أن كل الدنيا ضدك وأنك مظلوم وتقول: قد أقفلت ولا يوجد نتيجة فاعلم أن للكون مدبراً، وأن لله يداً تعمل في الخفاء، فدعها تعمل ولا تتعجلها، فإن الله لا يعجل لعجلة عبده، وإنما يقضي الأمر في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، وبالطريقة التي يريد لا بالطريقة التي تريد.
وأبو حمزة رحمه الله تابعي والتابعون لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما رأوا الصحابة، فقال: وأنا يا رب أي: عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما عاهد عليه السبعة، فذهب يحج قادماً من الشام إلى مكة، وبينما هو يمشي تخلف عن الركب يقضي حاجته، فرجع وقد مشي الركب، فمشى وحده، فسقط في بئر ليس فيها ماء، قال: فقلت: أستغيث؛ لعل أحداً ينقذني، فتذكرت بيعتي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ألا أسأل أحداً شيئاً -والفلسفة الكذابة في زماننا هذا تقول: قل: يا سيدنا الشيخ! فسيجيبك، وهذا نظام لا ينفع- فسمع أصواتاً خارج البئر، والعربي كان يعرف البئر الذي فيه ماء والبئر التي ليست فيها ماء بالصوت، فقالوا: هذه البئر ليس فيها ماء، فحتى لا يقع فيه أحد نسده، وأبو حمزة تحته، فأتوا بخشب سدوه بالتراب، قال: فكدت أن أستغيث لولا أني تذكرت بيعتي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ألا أسأل أحداً إلا الله، قال: فجلست راضياً. قال: فإذا بيد تمتد وتقول: هات يدك يا متوكل! يا مؤمن! قال: فأعطيته يدي فانتشلت من البئر، فرأيت نفسي على وجه الأرض، فلم أر أحداً، فسمعت صوتاً يقول: أرأيت ثمرة التوكل يا عبد الوكيل!
والقصة هذه تصديقها أقرب إلى قلبي من تكذيبها؛ لأن هذا كلام تابعي من التابعين، ولكننا نحن نقيس بمقاييس المادة والنجاة وعدم النجاة، وكلما ازداد بالله يقينك كلما قلت أسبابك، وخطوتان وتصل: خطوة عن الدنيا، وخطوة إلى الآخرة، لأن اليقين يعوض السبب.
قال ابن عطاء الله: سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار.
يعني: كأن القدر له سور، فمهما تكن عندك من همة، فإن العمل لا يتم إلا بمرضاة الله، ففي حلكة الليل البهيم يظهر النور المضيء.
وأسامة رضي الله عنه وعن أبيه زيد لما رأى كافراً في إحدى الغزوات ورفع السيف عليه قال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله فقتله أسامة ، فبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال: (يا
ولكن هناك نواقض لها، وعليها نحيا وعليها نموت وعليها نبعث إن شاء الله آمنين، ونحن لو قطعنا إرباً لما كان يثنينا ذلك عن قول: لا إله إلا الله ونشر كلمة لا إله إلا الله، وهذا قدرنا، ونحن كتب علينا جميعاً أن نسبح ضد التيار.
قال تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28]، أيعقل هذا؟ وهل هذا يكون سبباً لقتله؟
وربنا ابتلى فرعون بالجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فقد امتلأت البلاد جراداً، والسماء غيمت من الجراد الذي ملأ السماء المصرية، وأكل الزرع، فقال فرعون: يا موسى! ادع لنا ربك، فإن كشف عنا هذا آمنا بك، فقال: يا رب! سيؤمنون فاصرف عنهم الجراد، فجعل الله الجراد يذهب إلى البحر، فرجع فرعون عن كلامه.
فابتلاهم بالحشرات في الثياب وفي البيوت فكانوا ينظفون البيوت ثم يجدونها ممتلئة؛ ابتلاء من الله، فقال: يا موسى! ادع لنا ربك يكشف عنا ما نحن فيه، ويأخذ القمل والحشرات التي تؤذينا وتمتص دمنا وسنؤمن، فقال: يا رب! فزالت من غير مبيد ولا غيره، فرجع فرعون عن كلامه.
ثم ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالضفادع، فإذا كان الواحد منهم قاعداً كانت الضفادع من حوله تتقافز، فعندما يتكلم إذا بالضفدعة تدخل في فمه، برغوث واحد لا يتركك تنام إلى الصباح، فما بالك بالضفادع؟ وفي عام أربعة وثمانين وخمسة وثمانين لما أتى الإسرائيليون أتوا لنا بالفيران كانت تأكل آذان العيال ومناخيرهم في الريف، فهذه ابتلاءات من الله؛ لعصيان العباد لله عز وجل.
ثم ابتلاهم الله بابتلاء شديد جداً، وهو الدم، فقد كانوا يطبخون الطبيخ -حتى في قصر فرعون- ثم يغرفونه في الأطباق، ويضعونه أمام فرعون، فتتحول إلى دم، فحرص على الأكل وعلى المطابخ وعلى الطباخين وعلى القصر، ومنع الدخول عليهم، ومع ذلك كانوا يغرفون دماً، فاستغاثوا بموسى، فدعا ربه، فكشف ربنا عنهم.
وكان سيدنا أبو حنيفة رضي الله عنه يقنع العالم كله ما عدا امرأته، ولما كانت تستفتيه بفتوى ويجيبها تقول له: أنا لست مقتنعة بهذه الفتوى، فيقول لها: من تريدين أن تستفتي، فتقول له: أبو يوسف تلميذه، فيقول لها: إن شاء الله حين نصلي العصر سآتي بـأبي يوسف، فيذهب إلى أبي يوسف ويقول له: امرأتي تريد أن تستفتيك فتوى والسؤال كذا، فيقول له: وما هي الإجابة؟ فيقول له: الإجابة كذا، فيقول له: حسناً، فيأتي إليها فتقول له: والله أنا سألت أبا حنيفة سؤالاً ولست مقتنعة برأيه، فيقول لها: وما هو السؤال؟ ثم يقول لها: نفس الإجابة، فتقول له: هكذا الإجابة.
فمؤمن آل فرعون قال لهم: إن كان كذاباً فأنتم لم تخسروا شيئاً، فبدأ بقضية الكذب؛ لكي يعمل لهم تفريغاً نفسياً واستمالة قلبية له، فقال لهم: أنا معكم إنه إن كان كذاباً فالكذب سيرجع إليه، ونحن لن نخسر شيئاً، وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، إن كان هذا الرجل صادقاً وقد وعدكم بالخير إذا أحسنتم، وبالشر إذا أسأتم، فسنذهب إلى الهاوية.
وأبو حنيفة رضي الله عنه، قيل له: يا أبا حنيفة ! في كم تختم القرآن؟ قال لهم: في الصلاة أم في خارج الصلاة؟ يعني: السؤال ناقص هكذا، وسبحان الله! له ختم هنا وختم هنا، وأحدهم يقول لك: أنا مرة يا أستاذ! من سبع سنين ختمت القرآن في رمضان مرة، وهذا يقول لهم: في الصلاة أو في خارج الصلاة، فقالوا: لا، في الصلاة في كم تختم القرآن؟ فقال: في صلاة الليل أم في صلاة النهار؟ اللهم ربنا احشرنا في زمرة الصالحين.
قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] ففرعون رأيه بصراحة أنه لا يوجد شيئاً صحيحاً ولا شيئاً مضبوطاً إلا الذي يراه فقط، وقد قال عن سيدنا موسى عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] ومن الذي يظهر الفساد في الأرض غير فرعون؟! ولكنه يقول عن سيدنا موسى: أنا أخاف أنه يغير دينكم ويفسد المسائل، وفي هذه الأيام يقول بعضهم: أنت تعرف أن الذي يضيع البلد هؤلاء أصحاب المساجد وأصحاب اللحى والجلاليب وما الذي يغضبك من صاحب الجلابية البيضاء؟ فهو مثل الملك يمشي، فما الذي يغضبك منه؟ والذي يصلح البلد إما أصحاب الجامع، أو غير أصحاب الجامع، ولن يصلحه إلا الذي بينه وبين ربنا تواصل، وينزل ربنا الرحمة من أجله.
قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ [غافر:30] وهؤلاء الأحزاب هم الأمم السابقة التي حقت عليها كلمة الله عز وجل، وأين الاتحاد السوفيتي اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ والمذيع الفرنسي يقول في النشرة: الاتحاد السوفيتي سابقاً. فربنا قال للاتحاد السوفيتي: زل فزال. وأمريكا لو أرادت أن تنهي الاتحاد السوفيتي ففي كم من السنوات كانت ستنهيه؟ أفي مائة سنة؟ فقد كانت مغلوبة منه ومن القنابل النووية التي عنده، وبين غمضة عين وانتباهتها لا يوجد اتحاد سوفيتي.
فانظر إلى الأحداث نظرة إيمانية، وانظر إليها بمنطق البصيرة لا بمنطق البصر، وإعلامنا ليس له دعوة بهذا المنطق، فلا يدخل في هذه القضية.
ولما استعمرت فرنسا الجزائر يقول لي أستاذي: إننا حين كنا نعلم الفاتحة كانت المديرة الفرنسية تسأل: ماذا تقول لهم؟ فيقول: أنا أعلمهم نشيد العلم؛ لكي لا تطرده. فقد كان الحس الإسلامي موجوداً عند شعب الجزائر، فالشعوب الإسلامية مبرمجة على الإسلام، وفطرتها مع الإسلام، والبعد عن الإسلام هذه مسألة مرحلية، ولن تكون العودة إلا إلى كتاب الله، وهذا يقين عندي ثابت منذ سنوات طويلة، والذين يسمعون خطبنا من السبعينات والثمانينات يسمعون مني هذه المقولة، وإن شاء الله لن ينتهي هذا القرن، ويبدأ القرن الواحد والعشرون إلا والإسلام هو الذي على الساحة في كل البلاد إن شاء الله.
قال تعالى: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ [غافر:31] وقوم نوح قد عاثوا فساداً في الأرض، فأغرقهم ربنا، وكذلك عاد وثمود، وكل هذه الأمم المتجبرة.
قال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ [غافر:31]. ويذكرهم لينتبهوا أن يحصل لكم مثل ما حصل للأمم السابقة، وقد صدق كلام الرجل، سبحان الله!
قال تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]؛ وربنا يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فهو يتركه ثم يتركه ثم يتركه ويرفعه عالياً ثم حين يقع لا يستطيع القيام.
والابن يقول لأبيه: يا أبت! قد كنت باراً ورحيماً وشفيقاً بك، فهل عندك حسنة؟ فيقول له يا بني! أنا أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟
وأنت نفسك حين ترى ابنك ستهرب منه، وتهرب من امرأتك، كما قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف:67]. وسنرى وضع المتقين هناك إن شاء الله، اللهم اجعلنا من المتقين يا رب العالمين!
قال تعالى: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32] فينادون كل واحد فلا يسمع أحد، وعملك هو الذي ينجيك، اللهم حسن أعمالنا يا رب!
قال تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33] تولين مدبرين من النار لما تأتي عليكم، والعياذ بالله رب العالمين، قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24]، أي ليتني كنت عملت خيراً، وقدمت خيراً.
و(يا ليت) هذه لا تنفع، وأنت الآن في الأمنية فافعل، فبدلاً من أن تقول: (يا ليت)، فالأمنية موجودة، والعمل موجود، والمساجد موجودة، ومجالس العلم موجودة، وكتاب الله موجود، وأهل العلم موجودون، والخير موجود، والمال الذي تقدر تزكيه منه موجود، فأنت في الأمنية، ولن ينفعك أحد يوم القيامة.
قال تعالى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر:33] فليس هناك أحد يعصمك من الله إلا رحمته، وعملك هو الذي ينصرك يوم القيامة، اللهم حسن أعمالنا يا رب!
قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:33] نعم، ربنا يضله -والعياذ بالله رب العالمين- بعمله.
قال الله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31] فربنا لا يظلم أحداً، ولكن الناس كانوا أنفسهم يظلمون.
قال تعالى: حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [غافر:34]. مرتاب يعني: عنده شك وريبة وقلق، فهو يقول: هذا طريق السلامة، وهذه طريق الندامة، وهذا طريق يذهب ولا يرجع، فمن أين تريد أن تمشي؟ فامش في طريق السلامة.
فأقرب الخطوط الموصلة بين نقطتين هو الخط المستقيم، وربنا يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فإذاً هو أقصر الطرق، فلا تتخبط وتنحرف وتبعد بعيداً، فطريق الله واضح، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك). وهي الطريق الواضح، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة جالسين فخط لهم خطاً على الأرض، وقال: (هذا طريق الله المستقيم)، ثم خط خطوطاً متعرجة منه وقال: هذه طرق الشيطان حولها، فالذي يبعد عن الطريق يأخذه الشيطان الذي على مفترق الطريق، فإن لم يستطع الرجوع يوصله إلى الشيطان الذي بعده، ثم إلى الذي بعده، ثم إلى الذي بعده فيجد نفسه تائهاً في الصحراء.
ومن الذي أتى لهم من الريف؟ سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يمثل نفسه بهذا الرجل الذي جاء من الريف؛ ليريحك من الدنيا ويجعلك راضياً قانعاً، ذكر الله طعامك، والتوكل على الله سقاؤك، والرضا عن الله مسكنك، ثم قال لك: أطعني، فإن أطعتني دخلت الجنة، وإن عصيتني دخلت النار، والذين سلكوا خلف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نجوا، والذين انحرفوا عنه هجمت عليهم شياطين الدنيا فما بين قتيل وأسير. وانظر ما أحلى كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، وما أجمل تشبيهاته، اللهم اجعلنا من أتباع رسولك يا رب العالمين!
هنا يرد على فرعون في قوله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] فمؤمن آل فرعون يرد عليه ويقول: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38].
ثم قال: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [غافر:39] فالقلم الذي في جيبي متاع، والبساط الذي أجلس عليه متاع، وهذا الكرسي متاع يزول، فالحياة الدنيا متاع تزول، سبحان الله!
قال تعالى: وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] القرار يعني: الاستمرارية والاستقرار فيها.
قال تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى [غافر:40]. الذي يعمل سيئة يأخذ سيئة، ومن عمل شراً فلن يجني من الشوك العنب، ومن زرع بطيخاً خرج بطيخاً.
قال تعالى: فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] هنا جاء لذكر الجنة، فالذي يعمل صالحاً وهو مؤمن، وهل هناك من يعمل صالحاً وهو غير مؤمن، مثل أديسون صاحب الكهرباء عمله هذا صالح، ولكنه ليس مؤمناً، فسيؤتى به يوم القيامة ويقال له: أنت من؟ فيقول: أنا أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي، فيقال له: أنت عملته لماذا؟ فيقول: عملته من أجل الإنسانية المعذبة، فيقال له: والإنسانية المعذبة ذكرتك بالخير أو لا؟ فيقول: نعم ذكرتني بالخير، فيقال له: إذاً: أخذت نصيبك، وإنما صنعت ليقال: عالم. ولو كان مسلماً لحسب له على كل نور صدقة جارية.
قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40]؛ وفي الدنيا تأخذ مرتبك على قدر السلم الوظيفي الذي لك، فواحد يأخذ ثلاثين جنيه، وآخر يأخذ مائة جنيه، وثالث يأخذ ألف دولار، والرابع يأخذ خمسة آلاف. ولكن في الجنة تأخذ بغير حساب.
قال تعالى: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]. وما أجمل هذا الكلام! فهو يقول لهم: أنا أقول لكم تعالوا، فإن تبعتموني واتبعتم هذا الرجل دخلتم الجنة، وسمى الجنة نجاة، قال: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] وهم لم يقولوا له: تعال ادخل النار؟ لا، وإنما قالوا له: ابق معنا، كما لو دعاك أخوك؛ لأن بنته ستتزوج في الهيلتون في قاعة سبعة آلاف لليوم والليلة، فهؤلاء لا يدعونك لعرس، وإنما يدعونك دعوة إلى النار.
قال تعالى: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ [غافر:42] وهم لم يقولوا له: تعال اكفر بالله، وإنما قالوا له: تعال اعمل معنا مثل ما نعمل. وهذه هي دعوة الكفر والعياذ بالله، وهي تبتدئ هكذا، فتجد المسلم الشاب يكون ولداً صالحاً وبعيداً، وولد يقول له: اشرب الدخان، حتى تبقى رجلاً، وخذ من أنفك، فيبدأ الولد تدريجياً حتى يبتلى، فيقال له: أنا لم أضربك على يدك، وكذلك يبتلى من الملصقات التي يجدها في البسكويتات وفي الشوكلاتات وغيرها ويصلقها على يده، وهذه الملصقات فيها أشياء معينة تصنعها مؤسسة يهودية عالمية، وتعمل الصمغ الذي في هذه الملصقات، وتضع فيه شيء من المخدر الذي يؤثر على الجلد، الذي بعد مدة تجعل الولد مدمناً على المخدرات.
وما الفائدة إذا كنت تبني وغيرك يهدم، فأنت تبني الولد في المسجد وتقول له الكلام والمبادئ والمثل، وهو يعرف أن الراقصة في نصف ساعة تأخذ عشرة آلاف جنيه، ولو أن أباه وعائلته لا يأتون بعشرة آلاف مليم فإنه يصبح غلبان.
فلا راحة لهذا الشعب ولا أي شعب مسلم إلا بالعودة إلى كتاب الله والسير على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر:41-42]، أي: أنا أقول لكم: تعالوا إلى العزة؛ لأن العز كل العز في طاعة الله، والذل كل الذل في معصية الله، وسبحان من أعز الذليل بطاعته! وأذل العزيز بمعصيته! سبحان الله!
قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ [غافر:43]. فهذا الكلام الذي تقولونه لي ليس له وجه من الصحة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالانحراف والفسق والفجور والبعد عن طريق الله ليس له دعوة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ [غافر:43] فمرجعنا كلنا إلى الدار الآخرة.
قال تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غافر:43-44] فعندما تأتي الآخرة ستعرفون أن هذا الكلام حق.
ثم قال بعد ذلك: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، لأنهم قرروا قتله، فقال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غافر:44].
قال تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45] فنجاه الله بقوله: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ بصدق، وكان الله معه، وجربها وسترى، وأنت كمسلم تيقن بالله عز وجل وتوكل عليه حق التوكل.
قال تعالى سورة الزخرف: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف:66].
فهم ينتظرون الساعة وستأتيهم بغتة.
والساعة أو القيامة قيامتان: قيامة صغرى وقيامة كبرى، فإذا مات العبد قامت قيامته الصغرى، ويقول لك بعضهم: يا سيدنا الشيخ! لا يزال الوقت طويلاً، ألم تقل: إن الشمس ستطلع من المغرب، والمسيح الدجال يظهر، والدابة والدخان؟ نقول: نعم، ولكن لو مت هذه الليلة ولم تر هذا كله فقد قامت قيامتك.
قال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف:66]، وقال تعالى في سورة محمد: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] يعني: ظهر.
فكل خليل يمسك بيد خليله يوم القيامة؛ ولذلك روي في الأثر: (أكثروا من الأخلاء الصالحين؛ فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة). فتكثر من الأصحاب، فإن لم يأخذك هذا يأخذك هذا.
والخليل ينكر خليله يوم القيامة، فأصحاب القهاوي والانحرافات والنوادي لا يعرف بضعهم بعضاً، كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] فأنا وأنت عبدان مأموران؛ لأن العبودية عبوديتان: عبد عبادة، وعبد عبودة.
فعبد العبادة: أن يعبد الله رب العالمين.
وعبد العبودة: أن يعبد المال والزوجة والجاه والمنصب والمسئولين. والعبودية هذه عبودية وذل، والمؤمن لا يذل إلا لله، ويذل للمؤمنين، ويصبح عزيزاً على الكافر.
قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] المتقي يقال له وهو خارج من القبر: أكان لك خليل في الدنيا تحبه؟ قال: أنا كنت أحبه؛ لأنه الذي أخذ بيدي إلى الخير وهو الذي علمني الصلاة، وهو الذي صنع في كذا، قال: تحب أن تراه؟ قال: أتمنى؟
فيذهب إلى الثاني فيقول: هل كان لك خليل في الدنيا تحب أن تراه؟ فيقول: نعم، أنا أتيت أزرع فيه خيراً فوجدت عنده خيراً كبيراً جداً، وأتيت أعلمه فأصبحت أتعلم منه لما وجدته استقام على الطريق، فيقال: خذوا بأيدي بعض وادخلوا الجنة.
وعندما ينادي الله عز وجل يوم القيامة (يا عباد) فكل العباد يرفعون رءوسهم أبو لهب وأبو جهل وأبو بكر كلهم، فكل من هو عبد في أرض المحشر يرفع رأسه.
وعندما يقول: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68] يفرح الكفرة والفجرة، ويقولون للمؤمنين: انظروا تساوينا معكم، أنتم تصومون وتصلون، ولا تنظرون ولا تسمعون، ونحن تساوينا معكم، وقد أذللتم أرواحكم.
ثم يقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف:69]. فيطأطئ الكفار والفجار رءوسهم، ويرفع المؤمنون رءوسهم فرحين بهذا النصر الحقيقي، وفي الحديث: (إنما الأعمال بخواتيمها).
فيزينك وأنت تدخل الجنة ما دمت قد زينت نفسك بزينة الإيمان والتقوى ولباس التقوى في الدنيا، فربنا يزينك في الجنة بزينة أكبر، اللهم زينا بالإيمان في الدنيا وبالجنة في الآخرة يا رب العالمين!
قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71]، أي: وأكواب أيضاً من ذهب. والصحفة هي: الطبق الواسع الذي يكفي عشرة يأكلون فيه.
وأنت ما دمت حرمت على نفسك في الدنيا ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم عليك من الأكل في الذهب والفضة فإن ربنا يوم القيامة سيؤكلك في الأطباق والصحاف والأكواب والأباريق من الفضة والذهب، وإن أكلت منهما في الدنيا فلن تأكل منهما في الآخرة.
وَفِيهَا [الزخرف:71]، أي: في الصحاف والأكواب، مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، يعني: عينك ليست كالعين التي تنظر إلى الفول وتتحسر، وإنما تنظر إلى أنواع الأكل وتنبسط، فلها كل ما تشتهيه، سبحان الله!
ومن كرم الله عليك قوله: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، يعني: من النعمة، فوجه المسلم يقابل وجه المسلم، ولذلك كان سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا كلم أحداً أعطاه وجهه، وكان يوزع وجهه على الجالسين، لدرجة أن كل أحد يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مهتماً إلا به، فانظر حلاوة أخلاق الحبيب.
قال تعالى: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71] في نعمة الخلد هنا، فلا يأس ولا قلق.
قال تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. والعبد يولد وله مكانان: مكان في الجنة، ومكان والعياذ بالله في النار، فيؤتى للمؤمن في الجنة ويقال له: هذه الجنة لك؛ لأن هذا نصيبك في الجنة، والجنة الثانية كانت لفلان الكافر الفاجر الذي دخل النار وأنت ورثت مكانه، فلك جنتان، جنتك أنت، والجنة التي ورثتها، قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [المؤمنون:10-11].
والكافر يقال له: خذ، هذه قطعتك والعياذ بالله في النار، والقطعة الثانية قطعة المؤمن الذي نجاه ربنا وأنت ورثت قطعته، فيا نعم ميراث المؤمن! ويا بؤس ميراث الكافر! وبالله عليك الكلام الجميل الحلو هذا والنعمة التي هي من الله ألا تستوجب منا الصبر والعمل الصالح والتوكل على الله؟
وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: تخرج عن كل يوم لا تستطيع أن تصومه ما تطعم به مسكيناً.
الجواب: الحقيقة الإنسان عندما يسمع هذا الكلام يقشعر جلده وبدنه، وعلى المرأة أن تكثر من الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله قبل أن يهبط غضب الله عليها. ونسأل الله أن يهديها ويهدينا ويهدي عصاة المسلمين.
شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر