أما بعد: لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى غزوة هي رابع الغزوات؛ إذ الماضية ثلاث، وهذه هي الرابعة، وهي غزوة صغيرة لكن أحداثها جليلة، وعبرها وفوائدها عظيمة وهي [غزوة حمراء الأسد] وحمراء الأسد في طريق مكة على أميال من المدينة.
قال: [إن من مظاهر الكمال المحمدي في كل جوانب الحياة العسكرية والمدنية على حد سواء خروجه صبيحة الأحد] لأن معركة أُحد كانت يوم السبت، ويوم الجمعة كان يوم التشاور، وانتهت المعركة في يوم واحد، وفي صبيحة يوم الأحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وكانت ليلتها ليلة بكاء وعويل ودموع وآلام، فما من بيت في المدينة إلا وسقط منه شهيد، ومع هذا ومن الغد صباحاً كان الإعلان عن الحرب والخروج! لماذا؟
[لإرهاب الأعداء في الداخل والخارج] أي أعداء في الداخل؟ إنهم المنافقون واليهود، أعداء في الداخل، ولو ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: انكسر ابن أبي كبشة، وانتهى، ولن يخرج مرة أخرى للقتال، لكن خروجه دل على أنه أقوى مما كان، وأقدر على خوض المعارك مما سبق، هذه هي الحكمة.
والعدو في الخارج كذلك ينهزم، فمن فكر في أن يتم البقية الباقية من محمد ورجاله ويكر عليهم مرة أخرى يتراجع عن ذلك إذا سمع أنه خرج لقتال أبي سفيان مرة أخرى، وينتهي ذلك التفكير. وهذه هي المناورات السياسية العسكرية.
قال: [إنه بعد الهزيمة النكراء التي أصابت المسلمين يوم السبت ما راع الناس إلا ومؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بالخروج لملاحقة أبي سفيان بن حرب وجيشه] يمشي وراءه ويطارده [وقال: ( لا يخرج معنا إلا من حضر معنا معركة أمس )] لِم قال النبي: الذين قعدوا وما خرجوا معنا يوم أمس وما جرحوا وما أصيبوا وما تعبوا فلن نقبلهم في غزوتنا هذه، ونحن في غنى عنهم؟! والمفروض أن يأخذ من الذين جلسوا، فهم أقوياء ما تعبوا ولا جرحوا ولا تألموا، ونفوسهم -أيضاً- حزينة أنهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهم أكثر حماسة للقتال. إنها الحنكة السياسية، والحكمة المحمدية.
[فخرج المؤمنون ومن بينهم أخوان جريحان، فكان خفيف الجرح يحمل أخاه، فإذا تعب وضعه يمشي ساعة] ثم يحمله. كان هناك أخوان خرجا يحمل أحدهما الآخر وكلاهما مجروح! لكن من كانت جراحاته خفيفة كان يحمل الآخر، وإذا عيا وضعه يمشي قليلاً ثم حمله!! ولولا الإيمان لما تم هذا في الخلق! فهذه آيات الإيمان وعلاماته.
قال: [حتى وصلا معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية أميال من المدينة، حيث عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد.
واستأذن جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج فأذن له] مع أنه لم يخرج معه في الأمس، لكن كان له سبب، وهو أن جابراً لما خرج والده قال له: لا تخرج، اجلس مع أخواتك فأنت الكفيل والولي، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذره وأقره، فلما طلب جابر بن عبد الله الخروج قال: لا بأس. فأنت وإن لم تخرج إلى أحد لكنك تأخرت بسبب، يعني: أنت أردت الخروج، لكن والدك الشهيد ما أذن لك، وقال لك: الزم أخواتك. وهذه من الرحمة المحمدية.
قال: [فأذن له بعد أن عرف عذره، وهو أن والده الشهيد عبد الله بن عمرو بن حرام لم يأذن له في الخروج إلى أحد، وأوصاه بأخواته السبع، إذ لم تطب نفس عبد الله أن يترك سبع بنات ليس معهن رجل] فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأذن له.
قال: [وما زال النبي صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى مر به معبد الخزاعي ] كان مسافراً في طريقه من خزاعة، وخزاعة بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أوثق الصلات، فقد كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم معاهدة حلف ضد المشركين [وخزاعة مسلمها ومشركها كانت عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: موضع سره وثقته، لا تُخفي عليه شيئاً من الناس في تهامة- فقال معبد -وهو يومئذ مشرك-: يا محمد! أما والله لقد عز علينا ما أصابك] وناداه باسمه العلم لأنه ليس بمؤمن متأدب، وإلا قد نزل قرآن: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] يعني قولوا: يا رسول الله ويا نبي الله! لكن بحكم أنه مُظلم النفس بالكفر والشرك قال يا محمد! [ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء] واصل مشيه حتى أدرك معسكر المشركين بالروحاء [وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه] درسوا ليلتهم وفكروا فقالوا: بم رجعنا؟ وماذا حققنا من هذه الحملة؟ ثم أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه [إذ قالوا: أصبنا منهم ما أصبنا، فكيف نرجع قبل أن نستأصلهم؟
فلما رأى أبو سفيان معبداً ] في المعسكر [قال له: ما وراءك يا معبد ؟!] يعني: من أين أتيت وماذا خلفت وراءك من أهوال أو أحداث؟ [قال: خرج محمد وأصحابه يطلبونكم في جمع لم أر مثله أبداً] وألمانيا هزمت فما بالك بـأبي سفيان [فقال أبو سفيان : ويحك! ما تقول؟] أي: ما لك؟ ماذا أصابك؟ [قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل] يعني: عجل! فليس هناك عند القوم تباطؤ. وفعلاً ما تردد أبو سفيان ، وقال: الرحيل! وانحلت العزيمة.
[فقال أبو سفيان : فوالله لقد أجمعنا الكر عليهم لنستأصل بقيتهم. قال معبد : إني أنهاك عن ذلك! والله لقد حملني ما رأيت] من عظمة جيش محمد [أن قلت فيهم أبياتاً من الشعر، قال أبو سفيان : وما قلت؟] وأبيات الشعر في ذاك الزمان كانت المثل [قال: قلت:
كادت تُهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل] أي: جماعات الخيل كطير أبابيل. وهذا شعر ارتجالي!
[تردي بأسد كـرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل] وصف عجيب!
[فظلت عدواً أظن الأرض مائلة لمّا سموا برئيس غير مخذول] وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
[فقلت ويل ابن حرب من لقائكمُ إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول] والبسل: قريش.
من جيش أحمد لا وخش تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فأوقع هذا الشعر في نفس أبي سفيان هزيمة] وقعت الهزيمة الآن [وذكر كذلك رأي صفوان بن أمية إذ سبق أن كفه عن الرجوع إلى المدينة عندما عزم على الرجوع] صفوان بن أمية حاول أن يكف أبا سفيان عن الرجوع إلى المدينة، فما استجاب له، فلما جاء معبد زاد الطين بلة [وقال له: لا تفعل، فإن القوم قد حرنوا، وإني أخشى أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا، ولذا أمر بالرحيل والعودة إلى مكة] من يدبر هذا الملكوت؟ إنه الله جل جلاله وعظم سلطانه.
[وأثناء ذلك مر به ركب من بني عبد قيس، فقال لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة] أي نشتري الطعام [قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها، وأحمّل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ؟] يعني: بلغوا رسالتي وأنا أملأ لكم هذه زبيباً في الحج المقبل من سوق عكاظ [إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم] هذه هي الرسالة التي حملها: (بلغوا محمداً أنا عزمنا أن نعود إليه لاستئصاله) والمكافأة زبيب من سوق عكاظ.
[وكان هذا مجرد مناورة من أبي سفيان يريد بها تغطية هزيمته لما سمع من معبد ] أراد أن يغطي هزيمته فعمل مناورة [ولما وصلت القافلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغوه رسالة أبي سفيان قال: ( حسبي الله ونعم الوكيل )] هم بلغوا الرسالة كما هي، والنبي قال: ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [وفي هذا نزل قول الله تعالى من سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]] لما بلغهم أن أبا سفيان سيكر عليهم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: ( حسبنا الله ونعم الوكيل).
والسبب هو أن إبراهيم لما حكم عليه النمرود بالقتل بعد أن اتخذ قراراً جماعياً بأنه لا بد من قتله حتى يبذر الرعب في طريق الشعب فلا يتابعه أحد، أمر بأن توقد ناراً أربعين يوماً، يساهم فيها الصغير والكبير من الشعب بالحطب، حتى كانت المرأة تنذر للآلهة نذراً حزمة من الحطب، وأخبرنا ذوو العلم الرباني أن من تعرفونها في بيوتكم الآن وهي: الوزغة الخبيثة أنها -والله- كانت تنفخ النار لتتأججها تغيظاً على إبراهيم، فمن وجد وزغة فليقتلها فإن في قتلها حسنة عظيمة، وكانت أمنا عائشة رضي الله عنها تضع جريدة نخل في حجرتها، وكلما رأت وزغة قتلتها، وعرف هذا عامة المسلمين، وفي قرانا كنا نعرف هذا.
إذاً: المشركون -كما قلت لكم- أسهموا كبيرهم وصغيرهم في جمع الحطب، واشتعلت النار حتى أصبح الطائر لا يمر من فوقها لقوتها، ثم فكروا في كيفية إلقاء إبراهيم فيها، فوسوس لهم الشيطان وأوحى إليهم أن يصنعوا منجنيقاً، أو ما يسمى بالمقلاع ويضعوه فيه ثم يقذفون به إلى النار!
وفي أثناء طيرانه من المقلاع إلى النار عرض له جبريل فقال: يا إبراهيم! هل لك حاجة؟! فقال: "أما إليك فلا، ولكن حسبي الله ونعم الوكيل!" يعني: حسبي الله -يكفيني الله- وهو نعم الوكيل! وصدر أمر الله الوكيل الذي اعتمد عليه الخليل، قال تعالى: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فوالله ما أحرقت ولا أتت على شيء من جسمه ولا ثيابه إلا على الحبال الذي كانت في يديه ورجليه، وخرج وجبينه يتفصد عرقاً، قالت العلماء: لو لم يقل الله: (سلاماً) لقتلته من البرد! ولكانت أشد عليه من الثلج، وهو احتراس عجيب، فهو كلام الله عز وجل!
ثم ودعهم إبراهيم عليه السلام قائلاً: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99] فترك البلاد وأهلها، وخرج معه ابن عمه لوط بن هاران وامرأته سارة أيضاً، وكانت هذه أول هجرة لله في الدنيا، أخبر بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأول هجرة وقعت في التاريخ البشري هي هجرة إبراهيم من بابل العراق إلى أرض القدس والشام.
إذاً: عرفنا هذه الكلمة: (حسبي الله ونعم الوكيل)، وعلينا أن نقولها عند الحاجة، وأن نفوض أمرنا إلى الله، لا إلى شرطي ولا إلى حاكم ولا إلى جماعة، فما دمت يا عبد الله! تعيش لله فإن نابك شيء فقل: حسبي الله ونعم الوكيل! يكفيك الله عز وجل بها.
قال: [وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد أربعة أيام: الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء] أين أبو سفيان ؟ أين رجاله؟ معبد دوخهم. وهذا رجل الإعلام الحقيقي، فقد هزمهم بالأبيات التي أنشدها [ثم قفل راجعاً إلى المدينة، فظفر في طريقه بـمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص ] وهو متمرد [وبـأبي عزة الجمحي أيضاً، وقد تخلف عن المشركين نائماً] أي: كان في معسكر مع أبي سفيان ، ولما مشوا كان نائماً فتركوه [وكان أبو عزة قد أسر يوم بدر، واسترحم الرسول صلى الله عليه وسلم فرحمه فمن عليه] وأطلقه [وعاهده ألا يقف موقفاً ضده، وخان] بعد أن أسر في بدر استرحم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه فأطلقه، وأخذ عليه عهداً: ألا يقف ضده أبداً، ووافق على هذا، ثم خان العهد وجاء في أحد ليقاتل مرة أخرى. إذاً: يجب أن يقتل ولا يرحم مرة ثانية.
قال: [وجاء مع المشركين إلى أحد؛ فلذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله فقتل] ويستحق [وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )] كم مرة لدغنا من اليهود أيها العرب والمسلمون؟! هذه قاعدة قعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )؛ لأن المؤمن حي ذو وعي وبصيرة وفقه وولاية ربانية؛ كيف يلدغ من جحر مرة ثم يرجع إليه ثانية؟! ولعل أوروبا استعملت هذه الحكمة، لكن لم ينسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من الغيظ والحقد، وإنما نسبوها إلى كافر من كفارهم، فهم يستعملونها ولكن لا تنسب إلى الإسلام ورسوله، لفطنته صلى الله عليه وسلم وذكائه وولايته لربه.
قال: [وأما معاوية فهو الذي مثل بـحمزة في أحد] ومعاوية هو: ابن المغيرة بن أبي العاص ليس معاوية بن أبي سفيان ! وكان قد مثل بـحمزة في أحد فقطع أنفه رضي الله عنه [فقد ضل الطريق] ذاك نام حتى أتاه الركب، وهذا ضاع في الطريق، تخلف لأمر ما وهو سائر فساقه الله! وعثر عليه المسلمون [فأتى دار عثمان وقد استشفع بـعثمان ] جاء المدينة ولجأ إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه لقرابة بينهم [فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه، على أنه لو وجده بعد ثلاثة أيام ليقتلنه] قبل شفاعة عثمان على أنه لو وُجد بعد ثلاثة أيام يقتل؛ لأنه لا خير فيه ولا يُؤمن أيضاً، فلعله يغتال بعض الصحابة.
[فجهزه عثمان لقرابته] يعني: بالطعام وغيره [وقال: ارتحل] عجّل [فارتحل فأخطأ الطريق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتحل من حمراء الأسد وقال لأصحابه: ( إن
يعني: لجأ إلى عثمان والرسول صلى الله عليه وسلم كان في المدينة قبل أن يخرج، واشترط عليه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبقى بعد ثلاثة أيام، فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً من حمراء الأسد وهي على بعد ثمانية كيلو مترات أو تسعة من المدينة قال لأصحابه: ( إن
قال: [وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً] لم يلق حرباً ولا قتالاً [وأرهب بذلك العدو المنافق في الداخل] من كانوا بالأمس فرحين بالهزيمة، فخروج الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يجعلهم في موقف ترتعد منه قلوبهم [والمشركين في الخارج، فصلى الله عليه وسلم! ما أعظم حكمته وأجل سياسته وأكمل صبره!].
أولاً: بيان مظاهر الكمال المحمدي من شجاعة وصبر وتحمل وحسن سياسة وكمال تدبير] هذا كله تجلى في غزوة أحد.
[ثانياً: بيان فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عليه من طاعة وصبر وتحمل واستجابة لله والرسول] وهذا ظاهر، ألم يخرج الأخ يحمل أخاه؟! والله ما تخلف أحد حتى جاء المأذون له في البقاء يستأذن فخرج. وخرجوا إلى من؟ إلى جيش أضعاف جيشهم وهم جرحى مكسورين، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
[ثالثاً: تأثير الدعاية في نفوس غير الصابرين؛ ولذا كان خطر الدعاية عظيماً ووجب اتقاؤه] وقد كان للدعاية أثر في جيش أبي سفيان ، وما زالت الدعاية تفعل العجب إلى الآن؛ فلهذا الرشداء والحكماء في ديارهم لا يسمحون للألغاط وكلام الصحف وغيرها أبداً؛ حتى لا تؤثر على الشعب.
وأضرب لكم مثلاً: لما اهتزت الدنيا وقامت وقعدت -وخاصة إذاعات العرب والمسلمين وصحفهم- بأن أمريكا وصلت إلى القمر وروسيا في طريقها إلى ذلك -ولعلكم كنتم أحداثاً يومها فلم تسمعوا بهذا- كانت يومها إذاعات العرب تتكلم عن أولئك الذين صعدوا إلى القمر وكأنهم محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: حرام هذا وعيب! أتتبجحون وتتمدحون بانتصارات أعدائكم؟! أين يُذهب بعقولكم يا عرب؟! أخفوا هذا وتجاهلوه، وقولوا: ما كان ولن يكون! إبقاء على روح أممكم وشعوبكم، ومجلة صينية قرأتها بلساني ونظرتها بعيني ادّعت أن هذه فرية وكذبة من الدولتين العظميين للتمويه على البشرية واستغلالها وإذلالها، وأنهم لم يصعدوا إلى سطح القمر، وأن ما حصل لم يكن سوى مناورات في جبال، تمت كالأفلام السينمائية!
هذا كله حفاظاً على شعبها من الذوبان والانهزام من القوتين العظميين آنذاك روسيا وأمريكا، وأعلن الطيار الأمريكي بعد ذلك أنهم كذبوا، وما استطاعت أمريكا ولا روسيا أن تكذّب ذلك الخبر وسكتوا، ونحن نقول: طلعوا القمر!! قلنا لهم: القمر؟! رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاوز السبع الطباق، وأنكرتم هذا وكذبتموه وما قلنا شيئاً!! والسبب في هذا هو تأثير الدعاية على نفوس غير الصابرين؛ ولذا كان خبر الدعاية عظيماً.
ومن هذا الباب لا يحل للمواطنين أن يتكلموا على جيشنا، ولا انتصاراته ولا هزائمه، بل يردوا ذلك إلى المسئولين، قال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] أي: بمجرد أن يظهر شيء تجدهم يذيعونه بين الناس للفتنة، وما يحل لنا هذا في ديارنا، فأمورنا يجب أن تمشي بسرية، سواء كانت هزيمة أو انتصار.
[رابعاً: تقرير مبدأ: ( المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين )].
[خامساً: مشروعية الشفاعة في غير الحدود الشرعية] عثمان رضي الله عنه شفع، وأجاز الرسول صلى الله عليه وسلم في الشفاعة غير حد، أما إن زنا شخص أو قتل فلا يحل لك أن تشفع فيه، فالشفاعة جائزة في غير الحد، أما في الحدود فلا شفاعة، هذا هو الشرط.
وتسمعون ما يجري في البوسنة والهرسك، وأن قوات الأمم المتحدة المهزومة تتمالأ مع الصرب، وإخواننا يتصدون للبلاء والعذاب، فماذا نصنع؟
قلت: لو قام أحد الكتاب والعلماء وأصحاب المراتب العالية وقال: لِم لا نقول لأوروبا وأمريكا: لقد فشلتم في إنقاذ هؤلاء البشر، ونحن أحق منكم بإنقاذهم، وفتحت تركيا بابها؛ لأنها هي الجسر إلى تلك البلاد، وأصبح كل يوم وفي كل صباح تنزل بها الكتائب من ماليزيا إلى موريتانيا، لتصفية حساب الصرب نهائياً! ثم يقولون: الآن أنقذنا البشرية! فنحن أصحاب الرسالة، نحن المسلمون! ولو فعلوا هذا لارتفعت راية لا إله إلا الله في عنان السماء، ولا يكلفهم ذلك شيئاً، ولكن فقط نحتاج إلى رجل علم وبصيرة وسياسة!
أما عجزت أمريكا؟ وهُزمت جيوش بريطانيا وفرنسا وقالوا: ما استطعنا! إذاً نقول لهم: اتركوهم ونحن أحق بهذا، ولن نتجاوز حدود البوسنة والهرسك، وينزل كل صباح خمسة آلاف مدججين بالسلاح لمدة شهر، وعندها هل يستطيع الصرب أن يتكلموا أو يرفعوا رءوسهم؟ لم لا نفعل هذا؟ إن الله لا يوفقنا لأننا لسنا بأوليائه، وأعلنا الحرب عليه؛ فلهذا لا يهدينا الله، ولو رجعنا وتبنا إليه لهدانا وهو الهادي لعباده الصالحين؛ لكن لأننا ما واليناه ما والانا، ولم يهدنا، فإلى الله البكاء والشكوى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر