أما بعد:
ها نحن مع أحداث السنة السادسة من الهجرة النبوية، قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [عمرة الحديبية وبيعة الرضوان والصلح فيها] معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سنرجع إلى الوراء مسافة ألف وأربعمائة وخمس عشرة سنة، ونقضي هذه الساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما يقومون به من جليل الأعمال وعظيم الأفعال، وكيف يتم هذا لولا فضل الله علينا ورحمته؟!
والآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، والعمرة معروفة وهي: زيارة بيت الله للطواف به وأداء النسك بالعمرة كالسعي والتقصير أو الحلق، والحديبية: مكان على الطريق القديم ما بين جدة ومكة، وهي على بعد عشرين كيلو متر تقريباً من مكة، وتم في ذلك المكان بيعة الرضوان تلك التي قال الله في أهلها: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وأما الصلح الذي تم فيها فهو صلح عجب! تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش وكفارها.
[فانتدب المؤمنين من حوله للخروج] وانتدابهم خلاف أمرهم، فلو أمرهم لما صح أن يتخلف منهم أحد، وهذا هو الفرق عند أهل الفقه جعلنا الله وإياكم منهم، فالأمر إذا كان للوجوب فلا يصح أبداً التخلي عنه وتركه، وإذا كان للندب والاستحباب فمن قدر فليفعل ومن لم يفعل فلا إثم عليه.
قال: [لأداء نسك العمرة في الشهر الحرام] والعمرة في الأشهر الحرم أفضل منها في الشهر الحلال [فخف ناس] ما تباطئوا [وثقل آخرون] نظروا إلى أحوالهم وظروفهم وأولادهم فتباطئوا وقعدوا [وجلّ من ثقل كان من الأعراب النازلين حول المدينة] و الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]، وتغمد الله برحمته عبده عبد العزيز آل سعود لما حكم أخذ يحذر البوادي؛ لأن البادية أهلها لا يفقهون، فكان يرسل إليهم من يعلمهم الكتاب والسنة، وهذا هو الواجب. فالذين تثاقلوا وما خرجوا مع الحبيب صلى الله عليه وسلم كانوا من البدو الذين حول المدينة.
[وأحرم صلى الله عليه وسلم، وأحرم من معه ملبين بالعمرة] وأحرموا: دخلوا في الحرم، أو فيما هو حرام، كأصبح: دخل في الصباح، وأمسى: دخل في المساء، وأحرم: دخل في الإحرام. وكان ذلك بأن اغتسل وتطيب وصلى ما شاء الله أن يصلي وقال: لبيك اللهم عمرة.
وما كان عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه ولا أولادهم ولا أحفادهم يحرمون من المدينة، وإن كان هذا جائزاً، فالسنة أن يحرم من آبار علي (ذو الحليفة)، ولا بأس أن يغتسل أحدنا في بيته أو فندقه ويتطيب ويلبس إزاره ورداءه ولا يلبي؛ حتى إذا وصل الميقات -إن كان الوقت متسعاً للنفالة- صلى ركعتين أو فريضة ثم يلبي، وإن كان من أهل الطائرة اغتسل وتجرد، وإذا ركب الطائرة وارتفعت قال: لبيك اللهم لبيك، بعد ارتفاعها فوق آبار علي، ومع هذا يجوز للإنسان أن يحرم من الرياض أو من دمشق، لكن فيه كلفة وتعب، ولعله أن يأتي ما يبطل إحرامه فكيف يصنع؟ فمن السنة أن نحرم من الميقات.
إذاً: أحرم صلى الله عليه وسلم وأحرم من معه ملبين بالعمرة، قائلين: لبيك اللهم لبيك عمرة، لا رياء فيها ولا سمعة، ثم واصلوا التلبية: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابة لك بعد إجابة، لقد دعوتنا لزيارة بيتك فها نحن ملبين طلبك. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. ونعم الكلمات هذه، فهي صلب التوحيد وأسه.
الحمد لله سقناه مرة معنا من المدينة، وضعناه في مؤخرة السيارة، وهي نعمة كبيرة أن تذهب بشاتك إلى ربك من بلدك، أما أن تشتريها من مكة فليس فيها تعب، ألا تريد أن تحسن التملاق والتزلف إلى الله عز وجل؟! النبي وأصحابه ساقوا معهم قرابة سبعين جملاً.
[وبذلك كان واضحاً تمام الوضوح أنه صلى الله عليه وسلم لا يريد حرباً، وإنما يريد -قطعاً- الاعتمار لا غير] كونه يسوق الإبل وهو محرم هذا يؤكد أنه لم يأت لقتال قريش، وإنما خرج من أجل التقرب إلى الله، والتزلف إليه، بعد أن حُرم من الاعتمار سنوات ثم أتيحت له الفرصة، وهذا كله تدبير ذي العشر جل جلاله وعظم سلطانه.
[ولما وصل صلى الله عليه وسلم عسفان] وهو مكان قريب من مكة [لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال له: إن قريشاً قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل] والعوذ: جمع عائذ وهي الناقة حديثة النتاج، والمطافيل: الإبل مع أولادها [قد لبسوا جلود النمار] والنمار جمع نمر، يدبغ جلده ويلبس للحرب، وهو مظهر من مظاهر القوة [وقد نزلوا بذي طوى] قريب من مكة، وهذا المكان يسن الاغتسال فيه لمن جاء حاجاً أو معتمراً، لكنه الآن قد أصبح داخل مباني مكة [يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً] يعاهدون الله وهم مشركون كفار، لكن كانوا أشراف الكفار، يؤمنون بالله ويحلفون به ويهدون الهدايا إليه، وكفار اليوم كالبهائم والحيوانات [وهذا خالد بن الوليد في خيلهم] وخالد مضرب المثل في القيادة، وما زال أبطال الغرب يعرفون عن خالد ما لا تعرفونه أنتم، يعرفون كل الجولات التي قام بها ليهدّم صروح الكفر والباطل، وقد لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقبلا يشترى بالملايين، ما هو؟ سيف الله في أرضه.
وأول ما برز كان في قيادته للمسلمين عندما تجمع الروم وأعدوا عدتهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مائتي ألف، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين أو ثلاثة ألاف لمواجهة مائتي ألف، ودارت المعركة، وأخذ خالد القيادة، ولما سقط حامل رايتها، فما هي إلا جولة وقد استخرج خالد واستل أولئك المؤمنين كما تسل الشعرة من العجين من المعركة وعاد إلى المدينة.
قال: [ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول بشر قال: ( يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب )] وهذه كلمة رحمة منه صلى الله عليه وسلم فلم يقل يا ويل قريش! ولكن قال: يا ويح قريش! [( ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس فإن أصابوني -بقتل أو غيره- كان الذي أرادوا هم، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين، والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله )] وحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا، ولم يقل: وحق أبي إبراهيم أو وإسماعيل؟ فوالله ما كانوا يعرفون حلفاً بغير الله. ولما هبطنا أصبحنا نحلف بالله مرة، وبسيدي عبد القادر عشرين، بل نحلف بكل شيء، بالملح الذي بيننا! وبالطعام! وبهذا اليوم! وما تركنا شيئاً إلا ألّهناه لنغيظ الله عز وجل! أعوذ بالله منا، ما حملنا على هذا؟ والرسول على المنبر يقول: ( ألا من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، لا باللات ولا بالعزى ولا بمناة ولا بغيرها، والحمد لله لاحت أنوار التوحيد من حوالي خمسين سنة، وأصبح الذين يحلفون بالأولياء أقلية.
وأزيدكم بياناً: كان القاضي في بلاد العرب، إذا حكم على رجل باليمين يحلّفه بالسيد فلان. يقول: إذا قلنا له احلف بالله يحلف سبعين مرة ولو كان كاذباً، أما إذا قلنا له: امش إلى ضريح السيد فلان يخاف ويعترف بأنه ظالم!! قال: [( أو تنفرد هذه السالفة )] والسالفة: صفحة العنق، كناية عن الموت.
[فقال الناس: خلأت] الناقة [فقال: ( ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ) أي: عن مكة] يقصد فيل أبرهة الحبشي الذي جاء غازياً مكة ليدمرها، وقد بنى بيتاً عجيباً ليحجه العرب وتنتقل التجارة كلها إلى بلاده، كان مادياً خالصاً كأنه شيوعي، وكان كلما وجه الفيل إلى الكعبة يقف ولا يمشي، من حبسه؟ إنه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هنا: ( حبسها حابس الفيل )، أي: لكيلا تدخل مكة الآن.
[ثم قال: ( لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها )] هذا كمال محمدي [ولما اجتازوا المضايق بين الجبال الوعرة وانتهوا إلى واد من أودية المنطقة، قال لهم: ( قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه )] فارتفعت معنوياتهم، وسمت آمالهم بهذه الكلمة [فقالوا ذلك، فقال: ( والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها )] وأصابهم ما أصابهم [وقال: (انزلوا)، فقيل: يا رسول الله! ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج صلى الله عليه وسلم سهماً من كنانته] والكنانة: كالحزام الذي يوضع فيه الرصاص، والآن موجود عند العسكر والبوليس، فالسهام كانت توضع في الكنانة وتخرج منها ويرمي بها.
قال: [وأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلُب، فغرزه فيه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن -أي: نزلوا حوله- يسقون ويشربون ويتوضئون كأنهم نزلوا حول نهر من ماء] وهذا من آيات النبوة، فبعد أن أعطاهم سهماً من كنانته قال لهم: اغرزوه في هذا الماء فغرزوه ففاض الماء [ولما رأت خيل قريش عدول النبي صلى الله عليه وسلم عن الطريق إليهم عادوا إلى مكة] قالوا: استرحنا، وذهب الخوف. أو فهموا أن بشراً لما خوف الرسول عدل وعاد إلى المدينة فدخلوا هم مكة.
[ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المنزل الذي نزله جاءه وفد من خزاعة] وهي قبيلة معروفة من أشهر القبائل [برئاسة: بديل بن ورقاء الخزاعي ، فكلموه] أي: الوفد كلم النبي صلى الله عليه وسلم [وسألوه عن السبب الذي جاء به، فأخبرهم بأنه لم يأت يريد حرباً] ووالله لكذلك [وإنما جاء زائراً البيت ومعظماً لحرمته، ثم قال لهم نحواً مما قال لـبشر بن سفيان ، وعاد الوفد إلى قريش كوسيط، فقال لقريش: يا معشر قريش! إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت للقتال، وإنما جاء زائراً هذا البيت؛ فاتهموهم وجبهوهم] مجابهة قاسية. أي: اتهموه بأنه يتملق أو يميل إلى محمد صلى الله عليه وسلم [وقالوا: وإن كان جاء لا يريد قتالاً فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً] أي: بالشدة والقوة [ولا تتحدث بذلك عنا العرب] فيقولون انهزمت قريش. عنترية وعصبية!
[وبعثت قريش سفيرها مكرز بن حفص بن الأخيف ، ولما وصل رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقدم نحوه حتى قال صلى الله عليه وسلم: (هذا رجل غادر)] فراسة ونور النبوة [ولما انتهى ووصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه، قال له نحواً مما قال لـبديل بن ورقاء وأصحابه، فرجع السفير الغادر، فبلّغ قريشاً ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثت سفيراً آخر] انهزموا [وهو الحليس بن علقمة سيد الأحابيش، ولما وصل] هذا السفير [ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه )] يعني: هذا من قوم يتعبدون الله عز وجل فأثيروا الإبل أمامه؛ ليعرف أنكم ما جئتم للحرب، وإنما جئتم للعمرة وهذا هو الهدي.
[فلما رأى الهدي سيل عليه من عُرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس في محله] لأن البعير إذا جاع يأكل وبر البعير الذي إلى جنبه، لأنهم محبوسون في مكان واحد وليس هناك أكل [رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى] لأنه كان من المتعبدين.
إذاً: فرق بين المتأله المتعبّد وبين الغادر واللص والمجرم. هذا الرجل ما إن نظر إليه النبي حتى قال: (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه )، وفعلوا، فلما رأى الهدي سيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس في محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى [فقال لهم ما رأى، فقالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك!!] أي لا علم لك بالحرب ولا بغيرها ..
[فلما رأت قريش الجدّ من الحليس والغضب لله، قالت: مه، كف عنا يا حليس ! حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به، يريدون تحقيق بعض الأهداف أو اشتراط بعض الشروط دفعاً للمعرة عنهم في نظرهم] ولكن كان للغضبة هذه أثرها. فهل في العالم الإسلامي اليوم رجال من هذا النوع؟ ما أظن! أما احتل اليهود ديارهم؟ أما أهانوهم؟ أين السياسة والساسة؟ ليس لديهم نور؛ لأن النور من الملكوت الأعلى. اللهم تب علينا وعليهم.
[وبعثت قريش بـعروة بن مسعود الثقفي ] هذا من رجال الطائف، وهو الذي قيل فيه: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، يعنون: أبا جهل أو عروة بن مسعود الثقفي، يعني: لم نزل هذا القرآن على محمد اليتيم؟ لم لا ينزل على أبي جهل أو على عروة بن مسعود الثقفي من رجالات العرب؟! وهذا اقتراح منهم، فأسكتهم الله عز وجل.
قال: [فما لبث أن جاءهم فقال لهم: يا معشر قريش! إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثونه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد، وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد! أجمعت أوباش الناس] أي: أخلاطهم وكذا الأوباش بمعنى واحد [ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلونها عليهم عنوة أبداً، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك] يعني: أصحابه وتركوه وحده [و أبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، فقال: امصص بظر اللات، أنحن ننكشف عنه؟
قال: من هذا يا محمد؟ قال: ( هذا
[فيقول عروة : ويحك ما أفظعك وأغلظك!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عروة : من هذا يا محمد؟ قال: ( هذا ابن أخيك
نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر