أما بعد:
ها نحن مع أحداث السنة السابعة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ومع سبع سرايا درسنا منها أربع وبقي ثلاث، والسرايا: جمع سرية وهي جماعة من المؤمنين يبعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمهمة جهادية، ويكثر عدد السرية ويقل، وخامس السرايا كانت [سرية بشير بن سعد الأنصاري ] وهذا بشير هو أبو النعمان بن بشير ، وأنصاري أي: من سكان المدينة، والمدينة التي كانت تعرف في الجاهلية بيثرب كما جاء ذلك في سورة الأحزاب: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]، ما إن حلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت تعرف بالمدينة النبوية، والعوام يقولون: المدينة المنورة، وقد غلب أمرهم على أمر العلماء؛ لقلة العلماء وكثرة الجهال، وإلا هي من قرون تسمى: المدينة النبوية؛ إذ حل بها النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وبنى مسجده وإلى جنبه حجراته الطاهرات التي عاش بها مجاهداً عشر سنين، وقد عايشنا السنين الست، وها نحن مع السنة السابعة.
قال: [وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد الأنصاري في ثلاثمائة رجل إلى اليُمن من أرض غطفان] اليُمن: موضع أو مكان من أرض غطفان شمال شرق المدينة.
لم بعث بهذه السرية وعلى رأسها بشير بن سعد الأنصاري وعدد أفرادها ثلاثمائة؟ لابد من حكمة اقتضتها، والقائد صلى الله عليه وسلم حكيم -وكثيراً ما نقول ليس هو بحكيم فقط- بل أستاذ الحكمة ومعلمها، أما قال تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:129]؟!
قال: [من أجل جمعٍ من المشركين تجمعوا] لم تجمعوا؟ [للإغارة على المدينة النبوية] بلغه صلى الله عليه وسلم سواء بالإخبار الإلهي والوحي الرباني، أو بواسطة عيونه ورجاله أن جمعاً بمكان يقال له اليُمن من أرض غطفان قد تجمعوا للإغارة على المدينة؛ ليسلبوا ما وجدوا فيها من إبل وغنم وأموال.
وقد كان هذا [بإغراء وإمداد عيينة بن حصن الطاغية الظالم] عيينة بن حصن هو الذي أغرى هذه القبيلة وقال: تجمعوا واضربوا مدينة النبي، وخذوا ما فيها [فساروا إليهم يمشون الليل ويكمنون النهار] يمشون الليل وفي النهار يكمنون؛ حتى لا يُروا من مكان ما، وهذا هو التدبير الحكيم [وبلغ ذلك الجمع مسير بشير بن سعد الأنصاري فهربوا، فأصاب بشير وأصحابه نعماً كثيرة] النَعم ليس جمع نعمة، فالنعم والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وهي أموال هذه الديار [وأسروا منهم رجلين] ألقوا القبض عليهما وأخذوهما، وهنيئاً لهما [قدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما وحسن إسلامهما] هذا تدبير الله، وفضل الله وعطاؤه!
والأنصار كانوا يسكنون المدينة -وهما قبيلتان: الأوس والخزرج، وأصلهما من اليمن- نزحوا إليها بعد انهيار سد مأرب؛ لأنه لما كفر النعمة أصحاب اليمن أغرقها الله بسد مأرب، فمنهم من التحق بالشام، ومنهم من التحق بالمدينة، وهما هاتان القبيلتان، وحديث سبأ مبين مفصل في سورة سبأ، قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ:16-17].
فلما أقبل الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم وتهيئوا للإسلام؛ قامت الحروب -حروب الجهاد- فنصروه فسماهم الله الأنصار، واقرءوا قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100].
سرية عبد الله بن رواحة ] رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الله بن رواحة لما خرج مع الجيش الإسلامي إلى مؤتة استقبل المدينة وبكى، وكان ما توقعه، فقد استشهد في مؤتة رضي الله عنه، وهذه السرية يقودها الآن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه.
قال: [وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير بن رزام اليهودي ] والرزام عند المغاربة معروف [يجمع غطفان ليغزوه بهم] بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير بن رزام اليهودي يجمع غطفان ليغزوه بهم، فكيف وصل هذا النبأ إليه؟ إما أن يكون بالإعلام الإلهي أو بواسطة الناس القادمين من هنا وهناك.
قال: [فبعث عبد الله بن رواحة في ثلاثين راكباً] سياسة عسكرية! بعث بثلاثين راكباً على رأسهم عبد الله بن رواحة [من بينهم عبد الله بن أنيس ] وهو مبرز في القتال والجهاد والسياسة العسكرية [فأتوه بخيبر] وخيبر الآن مفتوحة تابعة للإسلام، وهذا اليهودي كان بها؛ لأن اليهود أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء على أن يشتغلوا بالفلاحة على أن يكون نصف غلّتها للرسول وأصحابه، ونصفها الآخر لهم.
[فقالوا له]: أي: المجموعة أو السرية [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلنا إليك ليستعملك على خيبر] خدعة، والحرب خدعة.
قالوا له: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك؛ لنأتي بك إلى المدينة؛ ليوليك خيبر، ويجعلك الحاكم العام فيها [حتى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كل رجل رديف من المسلمين] خاف فأخذ معه ثلاثين رجلاً، فكان كل واحد منهم لديه رديف من المسلمين [فلما بلغوا قرقرة نيار] مكان يقال له: قرقرة نيار [وهي من خيبر على ستة أميال] عشرة كيلو متر تقريباً [ندم اليهودي] لأنه فهم، وعرف أنه كيف يستجيب لهم؟!
قال: [فأهوى بيده إلى السيف ليضرب عبد الله بن أنيس ففطن له عبد الله فزجر بعيره ثم اقتحم عن بعيره يسوق القوم، حتى إذا استمكن من يسير اليهودي ضرب رجله فقطعها، فاقتحم يسير -وفي يده مخراش من شوحط-] عصا صعبة [فضرب به وجه عبد الله بن أنيس فشجه، فانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله] فانكفأ أي: مال كل رجل من المسلمين على من معه على البعير فقتله [غير رجل واحد من اليهود أعجزهم هرباً ولم يصب من المسلمين أحد] إلا ما كان من عبد الله بن أنيس .
[فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم] والرسول يومئذ في المدينة [فبصق في شجة عبد الله فلم تقح ولم تؤذه حتى مات رضي الله عنه] بصق رسول الله بريقته الطاهرة الطيبة الشافية في مكان الشجة والجرح فبرئت ولم تؤذه حتى مات رضي الله عنه.
سرية عبد الله بن حذافة
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة على رأس سرية، وأمر أفراد السرية أن يسمعوا لـعبد الله وأن يطيعوا] أمرهم أن يطيعوا القيادة، وهذا أمر الله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] حتى لا تكون الفوضى والاضطرابات والاختلافات.
[وسار بالسرية حتى إذا كان في بعض الطريق] حتى إذا وصل بعض الطريق [نزل منزلاً وطلب من أفراد السرية شيئاً فأغضبوه] بعدما خرج بالسرية، وانتهى إلى مكان ما، وطلب من أفراد السرية شيئاً أغضبوه فيه، يعني: ما وفوا أو ما أعطوه إياه! [وهنا قال لهم: اجمعوا لي حطباً فجمعوا، فقال لهم: أوقدوا ناراً] أي: أشعلوا النار في الحطب [فأوقدوا ثم قال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى] أمرنا أن نسمع لك ونطيع [قال: فادخلوها] أي: ادخلوا هذه النار [فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله من النار] يعني: لماذا هربنا إلى رسول الله من مكة ومن ديارنا أليس خوفاً من النار، فكيف إذاً نلقي بأنفسنا فيها؟!! [وعندها سكن غضبه وطفئت النار.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لو دخلوها ما خرجوا منها )] أي: لبقوا في النار إلى يوم القيامة وإلى الأبد، ثم علل فقال صلى الله عليه وسلم: [( إنما الطاعة في المعروف )] أي: إنما الطاعة تجب للإمام والقائد والمسئول فيما هو معروف من شريعة الله بالجواز أو الوجوب أو الندب، أما الطاعة في المنكر فلا تجب أبداً لأحد.
ونضرب مثلاً لذلك: لو أن شاباً تزوج فتاة جامعية أو موظفة فقالت له: احلق شعر لحيتك؛ حتى تطيب الحياة بيننا! فقال: يا زوجة هذه سنة، فقالت له: خير لك أن تحلق هذا، فهل يطيعها أو يطيع رسول الله؟! ماذا ترون؟
يطيع رسول الله لم؟ لأنها أمرته بمنكر كما أمر ابن حذافة السرية أن يدخلوا النار، والطاعة إنما هي في المعروف.
وإن قلنا: هذه زوجة لا تملك هذا، والزوج هو صاحب الأمر، فالرجل -مثلاً- إذا تزوج فتاة وتعودت على كشف وجهها وعنقها والتجوال في الأسواق، فلما ملك أمرها وأخذ بعصمتها قال: أي فلانة! لا تخرجي كاشفة عن وجهك، ولا يحل لك هذا أبداً؛ فأنت مسلمة وأنا مسلم، وأمرها، فهل تجب طاعته؟
نعم، يجب عليها أن تحتجب وتستتر!
لكن إذا أمرها بالعكس، يعني: كانت هي من أسرة مؤمنة طاهرة نقية مستورة ثم تزوجت هذا الأستاذ أو الدكتور فاستحى أن يقول له إخوانه: ما هذه الحية، لماذا لا تكشف وجهها؟ فقال: اسمعي، من الآن يجب أن تكشفي وجهك وتخرجي في الشارع.
هنا تطيع أو لا تطيع؟! أمرها بمعروف أو بمنكر؟ بمنكر، إذاً: لا طاعة أبداً لأحد في غير المعروف، فلا تطيعه، وإن ألزمها تطالب بالطلاق، وتطلق.
وكذلك مع الجيش والقادة، فإذا صدر أمر من القائد العام إلى الفصيلة الفلانية أن يحلقوا وجوههم حتى ترهبهم عصابات الكفر، هذه القيادة لها الحق في الأمر أم لا؟ نعم، لكنها أمرت هنا بمنكر، فلا يجوز طاعتها أبداً، فنحن مسلمون لا نحلق وجوهنا، وعلى هذا فقيسوا.
وهنا سائل يقول: الرجل يقول لولده اشتر لي دخاناً من السوق، فهل يشتري له أو لا يشتري؟
أقول: يعرض على والده أن هذا العمل ليس بصالح، وأن التدخين حرام، وأنه ولي الله، فكيف يلوث فمه بالرائحة الكريهة ثم يذكر اسم الله، فإن أصر وقال: لابد وأن تأتيني به وغضب، نقول لهذا الولد: اشتر له. لماذا؟ لأنه يوجد من العلماء من يدخن ويقول: هو جائز أو مكروه، فأصبح الذين يدخنون غير جازمين بحرمته، وأنه من معصية الله، فمن هنا يتصرف الحكيم بحسب ما يراه.
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نوجزها كالآتي] وهل استفدنا من هذه العبر؟! لا، لم؟ لأننا أموات.
فِعل من هذا؟ فعل العلي الحكيم، والذي نفسي بيده لو انتصر العرب على اليهود في الأعوام والأيام الأولى لأصبح المسلم أذل من كلب عندهم، فلو أنهم انتصروا بصيحة العروبة الخارجة عن كلمة: لا إله إلا الله؛ لارتفعت مطالبهم، وعلت نفوسهم، ولكن لتبقى هذه البقية، وتقوم بها الحجة لله على الناس يوم القيامة، وأنه لم يُنصر العرب، ومن يدير الملكوت سوى الله عز وجل، هل يرتفع شيء أو ينخفض بدون تدبير الله وقضائه وحكمه؟ مستحيل!
والآن نسمع في بلاد العرب والإسلام عن القتل وسفك الدماء وتفجيرات السيارات وذبح النساء والأطفال .. أي إسلام هذا؟! هل نحن مسلمون؟! ويقتلون باسم الجهاد!! فنقول: تعلموا أولاً الجهاد ما هو؟ إنهم جهلة لا يفرقون بين الكوع والبوع ويقولون: نجاهد! تجاهدون من؟ ولمن؟ وبمن؟ أجب عن الأسئلة الثلاثة؟
لقد قررنا الجهاد -في هذا المسجد النبوي- عشرات المرات، ولكن مع الأسف ليس هناك من يبلّغ الكلام أبداً، ومن أربعين سنة ما بلغنا أن شيئاً وقع من البلاغ، لا كُتّاب في صحف، ولا متكلمون أبداً، لم؟ لأننا ما زلنا هابطين!
أولاً: يجب أن يكون هناك إمام رباني مسلم عارف تلتف حوله الأمة بكاملها، أما أن تكون عصابات وجماعة تظهر هنا وجماعة هناك باسم الجهاد فلا، بل يجب أن يكون هناك إمام تبايعه الأمة التي تريد الجهاد من أهل الحل والعقد وغيرهم، ثم يقودهم فترة من الزمن على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والطهر والصفاء حتى يصبحوا أهلاً لتحمل التبعة والمسئولية والجهاد.
وحينئذ يجاهد من؟ يرسي سفنه على بلد كافر في ميناء من موانيه، ويراسل أهل تلك البلاد الكافرة بأن يدخلوا في رحمة الله أو يسمحوا للمجاهدين أن ينشروا الفضيلة ويمحوا آثار الرذيلة في تلك الأمة الهابطة بالكفر، فإن أبوا فالقتال من أجل نشر دعوة الله.
هذا هو الجهاد، ووالله لا جهاد غيره، وإذا لم نستطع أن نجتمع على رأي واحد فكيف نجاهد؟!
إن الجهاد الذي أهله شهداء، والذي لا أجر أعظم من أجره هو أن تبايع الأمة رجلاً أهلاً للبيعة أصله شريف وعرضه كامل، وعلمه وافي، طاهر وإلا لا تتفق عليه الأمة، فإذا بايعوه وحكّموه يأخذ في تربيتهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا يصبح بينهم فسق، ولا فجور، ولا شرك، ولا كفر، ولا باطل، ولا ظلم، ولا خبث، فيطهرون ويصبحون أولياء لله كلمتهم واحدة، ودعوتهم واحدة، وحينئذ نجاهد إذا كانت الفرصة متاحة للجهاد.
أما أن تخرج جماعة من داخل الإقليم وتعلن عن الجهاد، ويأخذون في قتل فلان وفلان، ويبدءون بالبوليس والحرس فيقتلونهم، وفي النهاية الخراب والدمار وقتل كل من يقول: لا إله إلا الله، بل بلغني اليوم أن هناك مسجداً دمّر، كيف هذا؟! أهؤلاء مسلمون؟!
لا يحل قتل من شهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولو اتهم بالتقية، فباطنه إلى الله، وإذا قال أنا مسلم كفى.
وتذكرون أيام الحديبية عندما جاء أحد سفراء قريش -بعد تكرر السفارة بين الرسول والمشركين عدة أيام- فشاهد الصحابة واقفين على رأس رسول الله، لا يبصق بصقة حتى يتلقفوها بأيديهم مساحين بها أجسادهم، فلما رجع قال: انتبهوا لن تغلبوهم، فهؤلاء يتبادرون بصاق قائدهم ويتمسحون به!
بل بوله صلى الله عليه وسلم شفى الله به أم أيمن مولاة رسول الله، وأم أيمن تركة ورثها النبي من أبيه؛ لأن عبد الله عندما مات ترك خمسة جمال وجارية هي أم أيمن ، ثم أسلمت وجاءت إلى المدينة مع مولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم في الشتاء يضع قدحاً تحت سريره يتبول فيه؛ لأنه لا يستطيع أن يخرج خارج البيت، بل حتى النساء كن يتبلون ويتغوطن خارج المدينة، ولا يوجد مرحاض قط، فالمرأة لا تخرج إلا في الليل وراء البقيع لتقضي حاجتها ثم تعود.
فاستيقظت أم أيمن -رضي الله عنها- يوماً عطشى فالتمست ماء -والبيت ظلام ليس فيه كهرباء ولا مصباح- فوجدت قِدراً ثقيلاً بالماء فشربته كله ونامت -ولو كان غير بول الرسول لكان مالحاً! وأنا لم أذقه ولكن معروف بالفطرة أن البول مر أو مالح وسلوا الأطباء- فاستيقظ صلى الله عليه وسلم ليريق ذاك البول خارج الحجرة فما وجده، فسأل أم أيمن أين ما في الإناء؟ فقالت: شربته فقال: ( صحة يا
و(صحة) كلمة تركها أهل المشرق وانتقلت إلى المغرب، تجد في المغرب الإسلامي إذا شرب يقول: صحة، أو أكل يقول: صحة، و(هنيئاً) هذه عند أهل الجنة، وأنتم أخذتم هنيئاً وليست لنا، وإنما لأهل الجنة، ولكن قولوا: صحة. والدعوة بالصحة أحسن! أي: صحح الله جسمك بهذا الطعام أو الشراب.
وهل المواطنون العرب والمسلمون مطيعون لأولي الأمر -دعك من المجاهدين-؟ لا، تجد النصب والاحتيالات، ولا يطيع المرء إلا فيما يحقق له ريالاً أو فائدة إلا من رحم الله عز وجل.
إذاً: نريد أن نكون المؤمنين فنطيع أميرنا بأمر الله تعالى، ومن ثم لا غش ولا خداع ولا رشوة ولا حسد ولا ولا.. وتزدهر البلاد، وتطهر النفوس، ولعل هناك من يقول: كيف نصل إلى هذا المستوى ونحن ما علمنا ولا ربينا في حجور الصالحين؟ ونحن نأسف عندما نكلف المؤمنين بما هم ليسوا بأهل له، فالذي لم يتربَّ في حجور الصالحين كيف يكون ذا آداب وذا أخلاق؟ وكيف يسمو وكيف يرتفع؟!
لماذا لا ننقل العلوم والمعارف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخواننا وبيوتنا؟ كل شيء يموت هنا؟ عيب كبير! لم لا نتحمل مسئولية الدعوة إلى الله عز وجل ونبلغ؟ هذه الأولى.
والثانية: نحن في جهاد، فهيا إلى الجهاد، ولكن كيف نجاهد؟
أولاً: قولوا لحكام المسلمين أن يجتمعوا في هذه الروضة في خمس وعشرين من رمضان -والآن الطائرات تنقل المسافر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في يوم واحد- ويبايعون إماماً لهم، فيقولون: أنت خليفة رسول الله، وكل الحكام في المناطق ولاة أمر، ثم يقومون بإعلان يبينون فيه أن البلاد كلها أصبحت واحدة، والدستور موجود -القرآن الكريم- يوزع على الأقاليم، ويبدءون في تطبيق القانون الرباني.
فما هي إلا فترة من الزمن وإذا بهذه الأمة أمة واحدة، إذا قالت: الله أكبر! ارتج الكون تحت رجليها، فألف مليون يستطيعون تغيير النظام العالمي بأسره، وحينئذٍ إذا قلنا لأوروبا الشرقية أو الغربية أو للصين أو اليابان ادخلوا في رحمة الله، وأنقذوا أنفسكم من النار، واتركوا أنوار السماء تحتل دياركم لفترة وتصفوا سوف يستجيبون إن شاء الله.
ومن ثم يتحقق مبدأ أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: لابد وأن يدخل هذا الإسلام كل دار في العالم بعز عزيز أو بذل ذليل، وهذا هو الجهاد، فأين نحن منه؟ ومن يجمع تلك القلوب وهي متناثرة، متباغضة، متعادية على الدنيا، متكالبة، ما عرفت ربها، ولا حنت ولا اشتاقت إلى لقائه؟! هذا مستحيل.
إذاً: لدينا طريقة أخرى وهي:
يجب أن يجتمع علماء أمة الإسلام عرباً وعجماً من كل دولة أو إقليم عالم أو عالمان، ويكونون هيئة عليا للدعوة الإسلامية كالرابطة المعروفة.
هذه الهيئة العليا مهمتها أن تُذكر أننا لسنا بحاجة إلى أن نغزو أي بلد كافر الآن، لم؟ لأن البلاد كلها مفتوحة من موسكو إلى طوكيو، وادخل كبر وصلِّ في أي مكان، لا يمنعك أحد.
إذاً: لسنا في حاجة إلى الجهاد بالسيف أبداً، ووالله ما نحن في حاجة إليه ولا يجوز، ففرنسا فيها أكثر من ثلاثة آلاف مسجد، وبريطانيا كذلك، وفي أمريكا الثكنات العسكرية، كل ثكنة فيها مسلم يعلِّم، نغزو من إذاً؟! أي: أراحنا الله من جهاد الرمح والسيف بتدبيره هو، ليس نحن من دبرناه، ولكنه تدبير الله.
هذه اللجنة تجتمع في مكة أو في مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم ثم ترسل رجالاتها يتجولون في العالم بكامله ويأتونها بخريطة لكل اللجان والجماعات والمراكز الإسلامية في العالم، ومن ثم تقدر اللجنة ماذا يحتاج أولئك من مال لنشر هذه الدعوة الإسلامية في سرّية كاملة، وعدم تبجح، ولا صياح؛ لأننا نجد في فرنسا كذا ألف مسجد، وفي بريطانيا كذلك وفي ألمانيا، فلابد من أئمة ودعاة ومبشرين وعلماء.
إذاً: نحتاج إلى مليار دولار كل سنة -مثلاً-، ونجمعها بالطريقة الآتية: يقولون: كم في أمة الإسلام من أناس؟ ألف مليون، إذاً: يفرضون على كل رجل ذكر مبلغاً يدفعه أداء لفريضة الجهاد -حتى إن استدانه فهذا شأنه- فتوضع ميزانية لا نظير لها، وتتولى اللجنة بعث الإمام والمربي والمدير من خيرة رجالاتها وأبنائها إلى المكان المطلوب، وتبعث معه بالكتاب الذي يُدرس، فتوحد الجماعات الإسلامية، وتصبح جماعة واحدة، فلا حزبية وطنية، ولا فرقة، ولا اختلاف، ولا مذهبية، ولا شافعي ولا حنفي ولا كذا.. ولكن مسلمون فقط.
وتمشي على بركة الله في صمت، ووالله لهذا هو الجهاد الآن، ويصبح الناس فرحين بأن يعطوا ثيابهم إن احتاجت هذه اللجنة إلى مال، ووالله ما هي إلا سنيات ونسمع أن الدولة الفلانية تحولت إلى بلد إسلامي فرئيسها ووزراؤها أسلموا لما يشاهدون من النور والرحمة والطهر، هذا هو الجهاد يا من يطلبون الجهاد!
نكتفي بهذا القدر وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر