أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى أحداث السنة الثامنة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ومضى -معنا من قبل- سبع سنين عايشنا فيها رسولنا وكأنه بين أيدينا، إلا أن قلوبنا قاسية، ما رقت ولا لانت، ولكن لا نيأس من روح الله. اللهم رقق قلوبنا، وزك نفوسنا، وهذب آدابنا، وكمل أخلاقنا؛ لنكون حقاً أتباع نبيك ومصطفاك صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: [أحداث السنة الثامنة من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم
ودخلت السنة الثامنة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم] من مكة إلى المدينة، فهجر الحبيب صلى الله عليه وسلم أهل مكة وما فيها فراراً بدينه، وتنفيذاً لأمر ربه عز وجل ونزل بالمدينة، فهو مهاجر، ويقول صلى الله عليه وسلم في ذلك: ( لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار )، أي: لولا الهجرة ومقامها ومنزلتها عند الله لكنت رجلاً من الأنصار؛ لحبه للأنصار، ولمعرفته بكمالهم أيضاً، وما أوتوه من الفضل؛ إذ هم الذين آووا المهاجرين ونصروهم، ولكن حفاظاً على منزلة الهجرة ودرجتها لا أتحول إلى أن أكون من الأنصار.
والهجرة هي: أن تجد نفسك في وضعية لا تستطيع أن تعبد الله تعالى فيها، فتهاجر إلى مكان تعبد فيه الله، سواء كان قمة جبل أو سفحه، فالهجرة هي: الانتقال من مكان ما لم يمكنك أن تعبد فيه الله وتغادره إلى مكان آخر -بعد أو قرب- لتعبد الله فيه؛ لأنك ما خلقت إلا لتلك العبادة، فإذا تعطلت ماذا بقي لك؟
ثم العبادة هي أداة تزكية النفس وتطهيرها، فوالله لا تطهر النفس ولا تزكو إلا عليها، فإذا تعطلت العبادة خبثت النفس وتدنست، وأصبحت كأنفس الشياطين، وهل صاحب النفس الخبيثة يُلقى بروحه بعد الموت للملكوت الأعلى؟ والله ما كان، نعم يرفعها ملك الموت، ولكن ما أن يصل إلى السماء الأولى ويستأذن فلا يؤذن له! واسمعوا دليلاً من كتاب الله من سورة الأعراف، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:40] وهل المكذب كالمستكبر عبد الله؟ أيكذب الله ورسوله ويعبده؟ مستحيل! هل يطأطأ المستكبر رأسه وينحني بين يدي الله؟ هل يقضي واجباً من واجبات الله؟ الجواب: لا. الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها أنفسهم خبيثة أم طيبة؟ والله لخبيثة؛ لأنهم ما استعملوا أداة التزكية والتطهير، منعهم من ذلك التكذيب والاستكبار، وكيف يعبد الله الذين كذبوا بالآيات القرآنية الحاملة لصنوف العبادات وضروب الطاعات -ومن كذب بها كمن استكبر عنها-؟ وإذا لم يعبده كيف تزكو نفسه أو تطيب أو تطهر؟
إذاً: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] وهذا تعليق على مستحيل! فهل البعير الأورق يدخل في عين الإبرة؟ والله لا يدخل، مستحيل! وكذلك ذو النفس الخبيثة مستحيل -بحكم الله- أن يدخل دار السلام، ويواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. أبعد هذا البيان نطلب بياناً؟
قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] من يطع الله والرسول يواكب هؤلاء؟ إي نعم، ما علة ذلك؟ لأنه زكى نفسه وطيبها وطهرها بهذه العبادات الدقيقة الموضوعة وضع الكيمياويات في دقتها، وعليها تزكو النفس البشرية، فمن لم يعبد الله عبادة صحيحة على أي شيء تزكو نفسه؟ مستحيل أن تزكو، وحكم الله الذي لا ننساه -وإن نسيه ملايين المسلمين- هو قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] ومن يراجع الله في حكمه؟! أما قال عز وجل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41].
إذاً: كن ابن من شئت، أو كن أباً لمن شئت، وكوني -يا امرأة- امرأة من شئت، فإنه لا قيمة لأبوة ولا لبنوة ولا لجنسية ولا لقبلية والنفس غير طاهرة، فالنفس الطاهرة فقط هي التي ترتفع إلى الملكوت الأعلى، أما النفس الخبيثة المنتنة فإنها تهبط إلى الدركات السفلى.
سرية غالب ] وقد عرفنا معنى السرية والسرايا فيما مضى، وأنها مجموعة تسر بالليل بأمر القائد صلى الله عليه وسلم؛ لتؤدي واجباً من واجباتها.
[وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي الكلبي إلى بني الملوح، فلقيه في سيره الحارث بن البرصاء الليثي فأخذه أسيراً] قائد السرية هو الذي أخذ هذا الرجل أسيراً [فقال: إنما جئت لأسلم] أراد أن ينجو فقال: أنا جئتكم لأسلم، أي لأدخل في الإسلام [فقال له غالب : إن كنت صادقاً فلن يضرك رباط ليلة] يعني: أمر رجاله أن يربطوه في خيمة حتى يتبين أمره، فقد يكون عيناً وجاسوساً لقومه [وإن كنت كاذباً استوثقنا منك، ووكل به بعض أصحابه] قال: تولوا أمره [وقال له: إن نازعك] قال القائد للوكيل: إذا نازعك هذا وأراد أن يهرب [فخذ رأسه] لأنه مشرك كافر، ولعله جاء عيناً للمشركين غير صادق فيما ادعاه [وأمره بالمقام إلى أن يعود] يعني: ابق حتى نرجع [ثم ساروا حتى أتوا بطن الكديد فنزلوا بعد العصر، وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني ربيئة لهم] أي: عيناً لهم.
[قال: فقصدت تلاً هناك يطلعني على الحاضر] وجد تلاً فطلع عليه ليراقب الساحة في المنطقة كلها [فانبطحت عليه] أي: على التل، والتل أرض مرتفعة لا كالجبل ولكن دونه [فرآني رجل منبطحاً] من العدو [فأخذ قوسه وسهمين، فرماني بأحدهما فوضعه في جنبي، فنزعته ولم أتحرك] إذ لو تحرك عرفوا وكلهم عيون [ثم رماني بالسهم الثاني فوضعه في رأس منكبي، فنزعته ولم أتحرك، فقال الرامي: أما والله! لقد خالطه سهماي، ولو كان ربيئة لتحرك] وهذا عفريت أيضاً.
قال: [فأمهلناهم] هذا القائد [حتى راحت مواشيهم] من إبل وأغنام وبقر [واحتلبوا] من مواشيهم [فشننا عليهم الغارة، فقتلنا منهم واستقنا منهم النعم] الإبل والبقر والغنم [ورجعنا سراعاً] إلى المحطة الأولى والمركز [وأتى صريخ القوم فجاءنا ما لا قبل لنا به حتى إذا لم يكن بيننا إلا بطن الوادي من قديد] تدفقت عليهم رجال المشركين [بعث الله عز وجل من حيث شاء سحاباً ما رأينا قبل ذلك مطراً مثله، فجاء الوادي بما لا يقدر أحد أن يجوزه، فلقد رأيتهم ينظرون إلينا ما يقدر أحد أن يتقدم.
وكان شعارنا في هذه السرية: أمت، أمت، وكنا بضعة عشر رجلاً] فقط.
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الآتي:
أولاً: بيان إنفاذ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه عز وجل في إبلاغ دعوته بلا كلل ولا ملل ولا فتور] ما تخرج سرية إلا ويعد أخرى ويرسلها؛ من أجل أن يُعبد الله عز وجل، ومن أجل أن تكمل البشرية وتسعد، تنفيذاً لأمر ربه بلا كلل ولا ملل أبداً.
[ثانياً: بيان الصبر والتحمل في ذات الله عز وجل وأنه شعار المؤمنين الصادقين] الصبر على الأذى وتحمل التعب والبلاء في ذات الله عز وجل شعار المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
[ثالثاً: مشروعية الغزو في سبيل الله ليعبد الله وحده، فيكمل الناس ويسعدوا على عبادته تعالى.
رابعاً: بيان إكرام الله تعالى لأوليائه بإنجائهم بالمطر والسيول وبما شاء من أسباب] ثلاثة عشر رجلاً تدفقت عليها قبيلة بكاملها، من حماهم؟ الله! بسحابة أمطرت مطراً حتى سال الوادي فلا يستطيع أحد أن يجتازه، وهذه كرامة الله لأوليائه.
سرية شجاع
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب إلى بني عامر في أربعة عشر رجلاً، فأصابوا نعماً] والنعم: الإبل والبقر والغنم [فكان سهم كل واحد منهم خمسة عشر بعيراً].
سرية عمرو بن كعب
وبعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات الأطلاع في خمسة عشر رجلاً، فوجد بهما جمعاً كثيراً فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا، وقتلوا أصحاب عمرو ] إلى رحمة الله [ولم ينج إلا هو] دعاهم إلى الإسلام فرفضوا، وحملوا السلاح وقتلوا السرية ولم ينج منها إلا قائدها الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم [وكانت ذات الأطلاع هذه من ناحية الشام -وهم من قضاعة- ورئيسهم يقال له: سدوس ].
إسلام كل من خالد وعمرو وعثمان ] خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص رجالات الإسلام المتفوقون وعثمان بن أبي طلحة .
قال: [إن في إسلام كل من خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة العبدري نصراً كبيراً] للإسلام والمسلمين [وفتحاً عظيماً للدعوة الإسلامية؛ ولذا كان إسلامهم حدثاً هاماً في تاريخ الدعوة، وقد تأخر إسلامهم إلى صفر من هذه السنة الثامنة.
وهذا بيان كيفية إسلامهم رضي الله عنهم وأرضاهم:
يقول عمرو ] وهو أشهر سياسي في الصحابة، لو اجتمع ساسة العالم اليوم من غير أهل الإيمان والإسلام لا يساوون نعله رضي الله عنه، ومن قال: كيف؟ نقول: ما هي آثار السياسة الجديدة في العالم؟ أليس الخبث، والنتن، والعفونة، والبلاء، والشر، والفساد، والكفر، ماذا أنتجت هذه السياسة؟! فلهذا لا نقبل سياسياً لا يستمد أنوار معرفته من نور الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يتخبط في الضلال، ولعل بعض الساسة حاضرون فيغضبون، وليغضبوا! وليقولوا: هذا الشيخ مجنون!!
فإذا قلتم: هناك ساسة خريجوا كليات السياسة في العالم، فنقول: أين آثار تلك السياسة؟ هل تجلت في الرحمة الإنسانية؟ هل تجلت في الطهر والصفاء؟ هل تجلت في العدل والمساواة؟ لا، ولكن عم الدنيا الخبث، وتعفن الكون من الباطل والشر والفساد، فأين آثار السياسة الرشيدة؟!
قال: [لما انصرفنا عن الخندق] والجمع خنادق، وهو حفر في الأرض، يقصد غزوة الخندق، ومن قرأ سورة الأحزاب يقف عليها موضعاً موضعاً، وكانت غزوة الخندق عبارة عن تألب المشركين في الشرق والغرب والجنوب والشمال على إنهاء الروح المحمدية، وإطفاء النور الإلهي الذي بعث به، والذي دبر هذه المكيدة، وجاء بجحافل الجيوش الكافرة يهودي اسمه: حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وذلك انتقاماً لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم له مع قومه (بنو النضير) من المدينة، فذهب يكيد ويمكر وجاء بالجيوش، ولكن الله هزمهم بعد خمسة وعشرين يوماً من البرد والعواصف.
وفي ليلة ست وعشرين أرسل الله ريحاً ما عرفتها الدنيا، فوالله! إن خيامهم لترتفع إلى عنان السماء، وقدورهم تُكفأ بما فيها من اللحم والطعام، فأعلن قائدهم أبو سفيان -رضي الله عنه وأرضاه- الرحيل، وأنه لا فائدة من البقاء، واقرءوا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأحزاب:9-10]، ولما انهزموا قال أبو القاسم -فداه أبي وأمي-: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ).
قال: [قلت لأصحابي: إنني أرى أمر محمد يعلو علواً منكراً] يعني: يعلو علواً لا يعرف [وإني قد رأيت أن ألحق بالنجاشي] لا أبقى في هذه الديار وألتحق بملك الحبشة [فإن ظهر] أي: محمداً [على قومنا كنا عند النجاشي] واسترحنا [وإن ظهر قومنا على محمد فنحن من قد عرفوا. فقالوا له] رفاقه [إن هذا الرأي] يعني: ما رأيته هو الرأي [قال: فجمعنا له، أي: للنجاشي أدماً كثيراً هدية] والأدم: تمر البرني، و( خير تمراتكم البرني )، أي: أخذوا كمية من التمر البرني هدية، والحبشة ليس فيها تمر.
قال: [وخرجنا إلى النجاشي، فإنا لعنده إذ وصل عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي صلى الله عليه وسلم] والله يسوق أقدراً لأقدار، ما إن وصل عمرو حتى جاء رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم [في أمر جعفر وأصحابه، فدخلت على النجاشي، وطلبت منه أن يسلم إلي عمرو بن أمية ؛ لأقتله؛ تقرباً إلى قريش بمكة، فلما سمع النجاشي كلامي غضب وضرب أنفه ضربة ظننته أنه قد كسره -أي النجاشي- فخفته، ثم قلت: والله! لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى لتقتله؟] رضي الله عن النجاشي فقد فاز بها، وكأننا نرى -في هذا المكان- الرسول يصلي عليه يوم مات، فقد بلغه نبأ وفاته بالوحي الإلهي، فخرج بأصحابه غرب المسجد وصلى عليه صلاة الغائب. والناموس الأكبر: هو الوحي الإلهي بواسطة جبريل عليه السلام.
قال: [قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو!! أطعه واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق] هل المسلمون أطاعوا رسول الله واتبعوه؟ أسألكم بالله! لو أطاعوه صدقاً واتبعوه حقاً أيذلون، ويهينون، ويفتقرون، ويتمزقون، ويتعادون، ويتحاربون؟! لا والله، ولكن ما أطعناه ولا اتبعناه.
قال: [وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنده] وصح هذا [فقلت: فبايعني له على الإسلام، فبسط يده فبايعته، ثم خرجت إلى أصحابي وكتمتهم إسلامي، وخرجت عائداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] بايع النجاشي على الإسلام، ووضع يده على يده، وهذه هي البيعة.
قال: [ولقيني خالد بن الوليد ] وخالد هو من كان سبباً في هزيمة المؤمنين في أحد؛ وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصى رجاله الذين على الجبل أن يثبتوا والرماح والنبل في أيديهم سواء هزم المسلمون أو انتصروا، فلما جالت الجماعات في المعركة وانهزم المشركون، وأخذوا فارين هاربين، والنساء مشمرات عن خلاخلهن، قال الرماة: انتهت المعركة، هيا نهبط لنأخذ الغنائم كما يأخذ إخواننا، فقال قائدهم: أنا لا آمركم أبداً ولا آذن، فالرسول أمرنا أن نقيم هنا ونثبت انتصرنا أو هزمنا، فهبطوا، فاحتل خالد الجبل، جبل الرماة -وهو موجود الآن عند قبر حمزة- مع رجاله وصبوا البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشتتوا وكانت الهزيمة.
قال: ولقيني خالد بن الوليد [وذلك قبل الفتح] إذ فتح مكة كان في السنة الثامنة من الهجرة [وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان ؟] وهذه كنيته؛ إذ ولده سليمان [قال: والله! لقد استقام المنسم] أي: تبين الطريق ووضح لنا، وعرفنا أن هذا الرجل على الحق [إن الرجل لنبي، أذهبُ -والله- أسلم، فحتى متى؟ فقلت: ما جئت إلا للإسلام، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، ثم دنوت فأسلمت، وتقدم عثمان فأسلم] هؤلاء من أبطال الإسلام، ولكن تأخر إسلامهم، وهو تدبير الله عز وجل؛ ليبلوا ويبتلوا.
إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الآتي:
أولاً: بيان فضل العلم الشرعي] كيف ظهر لنا هذا؟ [فإن النجاشي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لما له من علم بذلك] ما تقولون في هذه النتيجة؟
نعم والله! ما هبط بنا إلا الجهل، لقد جهلنا وما عرفنا ربنا، لا محابه ولا مكارهه، لا ما أعده لأوليائه، ولا ما أعده لأعدائه، فهبطنا من سماء الكمالات إلى الأرض، فركب ظهرنا العدو وساسنا، واستعمرنا وتركنا كالبهائم، إنه الجهل والله العظيم، وأضرب دائماً أمثلة:
أيها المؤمن! أنت في قرية تعيش أو في مدينة، أسألك بالله! هل رأيت أعلمكم يفسق ويفجر ويكذب ويثير الفتن؟ والله لا تجد. من هم الذين يثيرون الفتن والباطل والسرقة والفساد؟ أهم العلماء؟! والله للجهال! أقسم بالله! وأعلمنا هو أصفانا وأتقانا لربنا، واقرءوا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ولكن إلى متى نظل جهالاً؟ وما هو الطريق؟ وما الحل؟
الطريق هو أن نسلم -في صدق- قلوبنا ووجوهنا لربنا، قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، ثم أهل القرية في الجبل أو السهل، في بلاد العرب أو العجم، يتعهدهم إمامهم الذي يصلي بهم الجمعة ويقول لهم: معاشر الأبناء والإخوان لا يتخلفن بعد اليوم أحد -لا امرأة ولا رجل- عن صلاة المغرب والعشاء في مسجدنا هذا، إلا مريضاً أو ممرّضاً، أما الحيض فيجلسن بجوار باب المسجد.
ويصلون المغرب كلهم فلا يبقى في القرية أحد، ثم يجلس لهم العالم الرباني بعد صلاة المغرب -والنساء صفوفاً من وراء الستارة، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال الصغار المميزون من السابعة فما فوق صفوفاً كالملائكة مقبلين على طلب الهدى، والفحول جالسون أمام المربي- يعلمهم كل يوم آية واحدة من كتاب الله، من بين ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، فيأخذ المربي يتغنى بها، وهم يرددونها نساءً ورجالاً وأطفالاً بصوت خافت، وبعد عشر دقائق أو ربع ساعة يحفظها كل الحاضرين والحاضرات، فتكون آية تُشرق لها قلوبهم، وتزكو بها نفوسهم.
وبعد حفظها يأخذ في تفسيرها، وشرحها، وبيانها، ويضع أيديهم على ما كان أمراً لله فيها فينهضوا به، وعلى ما كان نهياً فينتهوا عنه على الفور، وعلى ما كان عقيدة فيعقدوه في قلوبهم فلا ينحل أبداً، وإذا كان أدباً أو خلقاً علّمهم إياه، وقال: من الآن نتأدب بهذا الأدب أو نتخلق بهذا الخلق.
فيصلون العشاء ويعودون لا همّ لهم إلا تلك الأنوار التي دخلت قلوبهم، وكلهم عزم وتصميم على أن يطبقوا ما علموه عن الله عز وجل، ويدخلون بيوتهم بعد صلاة العشاء، لا تلفاز ولا فيديو، ولا عاهرة تغني، ولا مزمار يزمّر، ولا تطلُّع إلى أوساخ الدنيا وخبائثها، فينامون مستريحين، ولا يطلع الفجر إلا وهم قيام يشهدون صلاة الصبح، ومنها ينطلقون رأساً إلى مزارعهم ومعاملهم ومتاجرهم يعملون، وكلهم قوة.
وفي الليلة الثانية: يشرح لهم حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من مرويات الصحاح، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وعرضه وماله )، فيتغنون بالحديث ربع ساعة ويحفظونه، فإذا رسخ في نفوسهم، وضعوا أيديهم على المطلوب منه، وهو أن المسلم الذي أسلم قلبه لله، لا يفكر إلا فيما يرضي الله، ومن أسلم وجهه لله لا يُقبل به إلا على الله سائلاً، ضارعاً، طالباً. ذاك هو المسلم.
يا من أسلمت قلبك ووجهك لله، هذا أخوك فاسمع ماذا قال الحبيب فيه: لا تكذب عليه، ولا تظلمه، ولا تخذله، فكله حرام عليك، دمه، وعرضه، وماله.
وهكذا تمسي القرية كلها في جسم واحد، ولو تركوا أبواب بيوتهم مفتوحة ما دخل منها عليهم أحد! وأعراضهم كذلك مصانة، لا يفضحها أحد!
وفي الليلة التي تليها آية، وما بعدها حديث .. وهكذا طوال العام، فإذا مرت سنة -أسألكم بالله- هل يبقى بينهم جاهل أو جاهلة لا يعرف الطريق إلى الله، أو لا يعرف محاب الله؟ هل يبقى بينهم من يكذب أو يفجر أو يسرق أو يشتم أو يحتال على ما في جيوبهم وأيديهم؟! والله! ما كان. هل يبقى بينهم من يجوع وهم شباع؟! والله! ما كان. هل يبقى بينهم عارٍ يقتله البرد وهم مكسوون؟! والله! لا يكون.
ولعل هناك من يقول: كيف تحلف يا شيخ؟! أي نعم أحلف؛ لأنهم عرفوا الطريق إلى الله، فلا يستطيعون أبداً أن يبيتوا شباعاً وأخوهم يتلوى من الجوع، والله! لا يكون.
وبقي: كيف يتحقق هذا الطهر، والصفاء، والأمن، والإخاء، والمودة، والحب؟! بالاشتراكية، بالبلشفة، بالإلحاد، بالعلم والعلمانية؟! بم يتحقق هذا؟ بالقبلية، بالوطنية؟ والله! لا يتحقق إلا بنور الله وحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الطريق -والله!- لا طريق سواه لإنقاذ هذه الأمة وإنجائها مما هي فيه، ورفعها إلى مستواها الذي كانت تعيشه في قرونها الذهبية الثلاثة، ما هو إلا الكتاب والحكمة، وبهذا النوع من التلقي، لا بالمدارس والكليات والجامعات.
وقد كتبنا كتاباً مفتوحاً إلى مسئولي أمة الإسلام علماء وحكاماً، ودرّسناه هنا من أوله إلى آخره في يومين أو ثلاثة، ولكن كأنما وضع على القبور، فما تحرك أحد، لا في الشرق ولا في الغرب، وبعثنا لخادم الحرمين -حفظه الله وأطال عمره- أن يأمر رابطة العالم الإسلامي بترجمته وإرساله للملوك والرؤساء وفعل -اللهم! احفظه واحفظ حكومته- ولكن الرابطة لم تفعل شيئاً، لماذا؟!
العلة: أننا ما زلنا هابطين، فما دقت ساعة النهوض والعودة إلى الكمال، مع أن هذه الخطة لا تكلفهم مالاً، ولا تعطل مصانعهم ومتاجرهم، وما هي إلا مريحة لهم، وقد قلنا إن الشرق والغرب في بلاد الكفر إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف دولاب العمل، وخرج الرجال والنساء إلى المقاهي والملاهي والمراقص والملاعب إلى نصف الليل، ونحن لا نستطيع أن نذهب إلى بيت ربنا نبكي بين يديه، ونسأله إنقاذنا؟ أعوذ بالله منا! أمسحورون نحن؟ ثم إذا عكفنا في بيت الرب ساعتين تعلمنا الهدى، وأخذنا بالنور الإلهي، فتنطفئ كل شعلة من المعاصي والجرائم والموبقات، ورجالنا إذا صلوا الصبح ذهبوا إلى أعمالهم، ليس الساعة السابعة أو الثامنة، ولكن رأساً يعملون وينتجون أكثر مما ينتج الكافرون في مزارعهم ومصانعهم. آه لم يحن الوقت بعد ..!!
[ثانياً: بيان تدبير الله في خلقه، وذلك واضح] بيّن [في تأخر إسلام خالد وعمرو وعثمان بن أبي طلحة من كمال عقولهم وذكائهم، وعظم دهائهم] ليدخل الله في رحمته من يشاء.
[ثالثاً: سماحة الإسلام إذ احتضن الثلاثة مع ما قاموا به ضده وما تصرفوا ضد أهله ومن مبادئه: ( التوبة تجب ما قبلها )] سماحة الإسلام ظهرت لنا في هذه القصة؛ إذ احتضن هؤلاء الثلاثة وقبلهم، ولو كنا نحن هل نقبلهم؟! هؤلاء قتّلوا وشردوا وفعلوا وفعلوا .. أو لعلنا نقول: اقتلوهم! وقد جربنا هذا، فعندما كانت تحارب الأمة الاستعمار الفرنسي أو الإيطالي أو البريطاني، ما إن ينتصر الشعب حتى يبحث عن الذين كانوا ضده، ويقول: اقتلوهم، اذبحوهم.. !!
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر