وقد انتهى بنا الدرس إلى معجزاته صلى الله عليه وسلم، وأنها خمس وعشرون معجزة، فهيا نستمع إلى تلك المعجزات الربانية التي تدل في صدق على أن من أظهرها الله على يديه فهو نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكل معجزة كأنما تقول: هذا رسول الله، وسر ذلك أن يقوى إيماننا به صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وأن يزداد حبنا له حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا؛ ونصبح لا نرى من نتابعه ونمشي وراءه إلا هو صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين: [المعجزات المحمدية: إن المراد من المعجزات: ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله] فالمعجزة هي الشيء الذي تعجز البشرية أن تأتي بمثله، فمن جاء بتلك المعجزة فقد وهبه الله إياها وأعطاه إياها؛ ليدل ذلك على أنه رسول الله إلى الناس.
قال: [فيكون ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم معجزاً لغيره من سائر الناس] على سبيل المثال: انشقاق القمر، لو اجتمعت البشرية كلها على أن تقسم القمر إلى قسمين لما استطاعت؛ فإن هذا مستحيل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا ربه فانشق القمر، فكانت معجزة له.
قال: [بحيث لم يقدروا عليه أفراداً أو جماعات؛ لأنه خارج عن طوق البشر واستطاعتهم، فإن قرن] أي: ذاك الإعجاز [بالتحدي كان المعجزة الخاصة بالأنبياء، وإن لم يقرن بتحد فهو كرامة، يكرم الله تعالى بها من يشاء من أوليائه وصالحي عباده. إذ الفرق بين الكرامة والمعجزة أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي] أي: فإن كنت رسول الله فافعل فينا كذا وكذا، أو ادع الله أن يعطينا كذا وكذا، ومن ثم نؤمن بك فهذه معجزة، وإذا كان عبد الله من الصالحين فادع الله لنا يا فلان أن يكشف ما بنا، ثم يرفع يديه فيكشف الله ما بهم، فهذه كرامة. ولهذا تكون الكرامات للأولياء والمعجزات للأنبياء، ولا فرق بين الكرامة والمعجزة إلا أن المعجزة مصحوبة بالتحدي، والكرامة لا تحدي معها.
قال: [إذ الفرق بين المعجزة والكرامة أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي غالباً] أي: ليس شرطاً دائماً بل في الغالب [والكرامة خالية من ذلك؛ لأن المعجزة قائمة مقام قول الله تعالى: صدقوا النبي فيما يخبر به عني] أي: لسان حال المعجزة: صدقوا عبدي فيما يخبر به عني، ولهذا أعطيته هذه لتصدقوه [فالمعجزة مثبتة للنبوة مقررة لها؛ إذ بها يعرف النبي الحق من المدعي الكذاب] فلولا المعجزات لادعى الناس النبوة.
قال: [ولفظ المعجزة غير وارد في القرآن الكريم] أي: في آي الله وفي كتابه ليس هناك لفظ معجزة، إنما هناك لفظ آية: مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1] [وإنما الوارد لفظ الآية؛ لأن الأصل في الآية العلامة الدالة على الشيء، إذ يقول الإنسان لأخيه: فلان يقول لك: أعطني كذا أو كذا، فيقول له: ما آية ذلك؟ أي: ما علامته أنه قال لي: أعطه كذا أو كذا؟ فتريه خاتمه أو كتابه أو سيفه أو أي شيء خاص به، فيكون ذلك آية وعلامة على صدق ما ادعاه وطالب به.
ومن القول الشائع عند الناس قولهم: لا نبي إلا بالمعجزات، ولا ولي إلا بالكرامات، وهو قول في الجملة صحيح] أي: لا نبي إلا بالمعجزة ولا ولي إلا بالكرامة.
قال: [هذا وللحبيب محمد صلى الله عليه وسلم معجزات أكرمه الله تعالى بها، وصدق رسالته بمثلها. بلغت تلك المعجزات الألف معجزة، هكذا قرر أهل العلم إن لم تكن أكثر من ذلك، وها نحن نورد منها ما يحضرنا] وهي خمس وعشرون معجزة.
قال: [القرآن الكريم] وهو أعظم آية، فقد أنزل عليه صلى الله عليه وسلم كتابه الذي بين يدينا وفي صدورنا، ولا يدل على أنه أرسله ونبأه؟! فكيف تكون الدلالة إذاً؟ ولا آية أعظم من القرآن الكريم على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء يحمل كتاب الله.
قال: [لأنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، فدل ذلك على نبوته وعلى صدقه في رسالته؛ لأن القرآن الكريم معجز بحروفه وكلماته وتراكيبه ومعانيه، وأخبار الغيوب التي وردت فيه، فكانت كما أخبر. كما هو معجز أيضاً بالأحكام الشرعية والقضايا العقلية التي لا قبل للبشر بمثلها، مع التحدي القائم إلى اليوم بأن يأتي الإنس أو الجن متعاونين بمثل هذا القرآن، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]] هذا تحدي لله عز وجل للإنس والجن، فهل استطاعوا أن يأتوا بقرآن كالقرآن الكريم؟ وقد مضى على ذلك التحدي أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
قال: [وتحدى العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان على أن يأتوا بعشر سور مثله فما استطاعوا، قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]. وتحداهم بسورة واحدة من مثله فقال: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24]] إذاً فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] أن تلهبكم وتأكلكم.
وكلمة (ولن تفعلوا) هل استطاعوا أن يفعلوا؟ كم من سنة مضت؟!
فالفصحاء والبلغاء والشعراء وأصحاب المعلقات على الكعبة ما استطاعوا ولن يستطيعوا؛ لأنها معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم.
قال: [نفياً لقدرتهم على الإتيان بسورة مثل القرآن في مستقبل الأيام، وقد مضى حتى الآن ألف وأربعمائة واثنان وعشرون سنة، ولم يستطع الكافرون أن يأتوا بسورة من مثله. وبهذا كان القرآن معجزةً خالدة باقية ببقاء هذه الحياة، ولذا سيخلد الإسلام ويبقى إلى نهاية الحياة، لأن معجزته باقية كذلك].
وقد ذكرنا في الدرس الماضي أنه لولا القرآن بين المسلمين لانتهى الإسلام من أكثر من خمسمائة سنة بل ألف سنة، فما حفظ الله الإسلام إلا بالقرآن، وبينا أن المسيحية الصادقة الصحيحة -وهي الإسلام والحق- ما تعبّد بها أتباع عيسى إلا سبعين سنة فقط عبادة ربانية صحيحة، تزكي أنفسهم وتؤهلهم لرضوان الله، ثم داخلها الشرك -والعياذ بالله تعالى- والزيغ والزيادة والبطلان إلى أن أصبحت خرافة، فلولا أن الله حفظ هذا القرآن وتعهد به بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ولولا القرآن بين أيدينا وفي صدورنا لارتدت الأمة من مئات السنين.
إذاً المعجزة الأولى هي القرآن الكريم، وما ننسى أنه أعظم معجزة.
ومن قال: كيف؟ نقول له: تفضل اجمع البشرية كلها على أن تأتي بسورة من مثله. لكن الله يلجمها، ويقطع أنفاسها، ويقطع ألسنتها، وينتزع قوتها، فلا تجتمع، ولا تتفق.
قال: [فقد روى أحمد والبخاري في صحيحيهما أن أهل مكة] يعني: المشركين [سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية] أي: سألوه أن يريهم آية تدل على أنه رسول الله ونبيه [فأراهم القمر شقين. قال مطعم بن عدي : انشق القمر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد]، والآن لو يحدث مثل هذا لقال الملايين: سحرنا. وهذه هي طباع البشر؛ لا يريدون أن يتخلوا عن عبادتهم الباطلة وخرافاتهم وضلالاتهم أو على مراتبهم ومناصبهم، فيدفعون ذلك بقولهم: سحرنا ويصفقون، وهذا شأن البشر إذا هبطوا وانقطعت صلتهم بالله عز وجل. يقولون: ما تعجب ويفعلون أكثر.
قال: [وأنزل الله تعالى مصداق ذلك وهو قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]] ما الساعة التي اقتربت؟ نهاية حياتنا هذه، ونحن فيها [ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:2-3]].
قال: [وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل]
والشاهد في قوله: (يستسقى الغمام بوجهه) بمعنى: أنه يتكرر هذا الطلب، ويستجيب الله للرسول صلى الله عليه وسلم، ففي غير ما مرة يدعو الله أن ينزل المطر فينزله الله.
قال: [ومن معجزات الحبيب صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته وعلى صدق رسالته: نبوع الماء من بين أصابعه الشريفة. فقد قال أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر )] أي: حان وقتها [( والتمس الناس الوَضوء )] الوضوء بالفتح الماء الذي يتوضأ به، والوضوء بالضم: الفعل، أي: اسم الفعل [( فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء)] أي: الذي به الماء [( وأمر الناس أن يتوضئوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم. قال
إذاً رابعة المعجزات هي نبوع الماء من كفه صلى الله عليه وسلم.
قال: [ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه لما كان بالحديبية هو وأصحابه سنة ست من الهجرة، وكان بالحديبية بئر ماء، فنزحها أصحابه بالسقي منها] وقد كانوا ألفاً وأربعمائة رجل، نزحوا الماء من بئر واحدة [حتى لم يبق فيها ما يملأ كأس ماء، وكانوا ألفاً وأربعمائة رجل، وخافوا العطش فشكوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم، فجاء فجلس على حافة البئر فدعا بماء، فجيء به إليه فمضمض منه، ومج ما تمضمض به في البئر، فما هي إلا لحظات وإذا البئر فيه الماء، فأخذوا يسقون، فسقوا وملئوا أوانيهم وأدوات حمل الماء عندهم، وهم كما تقدم ألف وأربعمائة رجل] فهل يشك في رسالة من هذه حاله؟!
قال: [وهم أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم وأنزل فيهم قوله تعالى من سورة الفتح: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]].
وهنا لطيفة: فهؤلاء الذين رضي الله عنهم معروفون، وإن لم تعرفهم فمنهم العشرة المبشرون بالجنة، رغم أنفي وأنفك، فكيف يرضى الله عنهم ويعلن عن رضاه ثم يتراجع ويغضب عليهم؟! فكروا! ما كان يعرف مستقبلهم؟ ما يدري هل يكفرون أو لا يكفرون؟ فلهذا إخواننا الذين يكفرون أصحاب رسول الله يكونون قد كفروا؛ لأنهم كذبوا الله، ونسبوا إليه العجز وعدم العلم، ونسبوا إليه التردد والحيرة.
مرة ثانية: هل الله لا يعلم مستقبلهم؟ أما علم الله وجودهم وفعلهم قبل أن يفعلوه؟ أين القضاء والقدر؟
لقد علمك الله، وعلم كل ما يأتي منك قبل أن توجد بآلاف السنين، فكيف إذاً يعلن رضاه عنهم؟!
هذه ليست بدعوى، هذا كلام الله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] وكانوا ألفاً وأربعمائة، وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة.
فننبه إخواننا الغافلين والمغرر بهم والمخدوعين بالكتب، وما تحمل من الباطل فنقول لهم: أيرضى الله عن ناس ثم يسخط عليهم؟ إذاً الله ضعيف ما يدري، أو هذه فكرة البداء، يعني: كان كذا وبدا له كذا، وهذه صفة البشر الضعفة المخلوقين الذين يترددون لجهلهم.
أما الجبار الذي علم كل شيء قبل أن يوجده هل يتردد؟! فيرضى عليك اليوم لأنك طيب، وغداً يغضب عليك؟! أعوذ بالله.
وعلة هذا -يا أبناء الإسلام- الجهل وعدم العلم، فما اجتمعوا على كتاب الله ودرسوه وتدارسوه وعرفوا ما فيه من الهدى والعلم والنور، فالإيمان التقليدي: سمعنا كذا، لا ينفع، وصاحبه ينتكس ألف مرة.
قال: [ففيضان الماء من بئر جافة لا ماء بها حتى سقى منها أهل معسكر بكامله لم يكن إلا آية نبوة صادقة، تنطق قائلة: أن صدقوا محمداً فيما جاءكم به ودعاكم إليه؛ فإنه رسول الله إليكم حقاً وصدقاً].
قال: [روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه القصة التالية: قال: ( والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع )] هذا أبو هريرة يحلف بالله، فلما تبدل الحال واتسع الرزق على المؤمنين، وبعدما انتهت الحرب بينهم وبين المشركين تحدث أبو هريرة عن أيامه الماضية أيام المجاعة والحصار والحرب فقال: [( وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع )] أي: يضع حجراً ويربطه على بطنه حتى يقوى على المشي [( ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه )] يعني: رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من الباب الخاص [( فمر
قال: [( فقال:
قال: [( قلت: لبيك يا رسول الله! )] ومعنى لبيك: أجبت طلبك ودعوتك مرة بعد مرة [( قال: انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي )] أي: امش إلى أهل الصفة ونادهم، وقل لهم: الرسول يدعوكم، وهم جالسون جياع، لا طعام ولا شراب.
قال: [( قال -أي
وأنتم -أيها السامعون- بم تواجهون ربكم؟ نواجهه بأن نقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
هل فيكم جائع؟ أيجوع رسول الله ونشبع نحن ولا نحمد الله ولا نثني عليه؟
قال: [( وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها )] أي: إذا جاءت هدية أخذ منها الرسول صلى الله عليه وسلم له ولأهله، وبعث بالباقي لأهل الصفة، وإذا جاءت صدقة بعثها بها كلها إلى أهل الصفة؛ لأنهم آل البيت لا يأكلون الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس، أي: يغسلون بها ذنوبهم.
قال: [( قال
قال: [( وقلت: أنا الرسول )] أي: الذي أرسله إلى أهل الصفة يستدعيهم ليشربوا، وأنا لن يبقى لي شيء [فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم، وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن؟] هذه أحاديث نفسه، أي: يحدث نفسه.
قال: [( ولم يكن من طاعة الله ورسوله بد )] أي: لابد وأن أطيع الله ورسوله، فما أقول: لم يا رسول الله؟ هذا لا يكفينا.
قال: [( فانطلقت فدعوتهم، فأقبلوا واستأذنوا بالدخول، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال: يا
هذا رسول الله! ألسنا أتباعه؟! لماذا نحن ما نشرب من الفضلات ونتقزز؛ لأننا تتلمذنا على أيدي الكافرين، واسمع هذه الكلمة: [وهكذا تتجلى هذه المعجزة، وهي آية النبوة المحمدية؛ إذ قدح لبن لا يروي ولا يشبع جماعة من الناس كلهم جياع بحال من الأحوال، فكيف أرواهم وأشبعهم؟! إنها المعجزة النبوية! وآية أخرى للكمال المحمدي أن يكون هو آخر من يشرب من ذلك القدح الذي شرب منه جماعة من الناس.
وهنا يقال: ما بال الذين يتقززون من شرب السؤر ويرفضونه في كبرياء] حتى أصبح كل واحد له كأس.
فإن قال قائل: يا شيخ! أنت أعمى؟ ها هو المسجد النبوي يضعون لكل برميل ماء مائة كأس، اشرب وارم. هذا لا يجوز.
فكيف إذاً نجعل عشرات الكيسان، وكل من يشرب في كأس يلقيه خشية أن يتسرب إليه العدوى ويمرض.
لكن من أين جاء هذا النظام؟ هل من هولاكو أو من أين؟
هيا نعد هذا الكلام، وبلغوه! قال: [وهنا يقال: ما بال الناس الذين يتقززون من شرب السؤر] أي: من بقية الماء والطعام [ويرفضونه في كبرياء وخوف أيضاً أن يصابوا بمرض من ذلك؟ أين هم من هذا الكمال المحمدي؟ إنهم بعيدون كل البعد ذاهبون في أودية الأوهام حيث لا يسمعون ولا يبصرون].
من أين جاءنا هذا؟
الآن حتى في بيوتكم لا تشربون من كأس واحد، فهل ورثنا هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فإن قال قائل: يا شيخ! ألا تستحي أن تقول هذا الكلام، فهل تريدنا أن نموت؟ والله لتموتن. تريدنا أن نمرض؟ والله لتمرضن، أما يمرضون ويموتون يومياً؟ هل نفعهم لما شربوا في كأس كما شرب الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن الأمراض منتشرة أعظم مئات المرات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [وهنا يقال: ما بال الذين يتقززون من شرب السؤر ويرفضونه في كبرياء وخوف أيضاً أن يصابوا بمرض من ذلك، قال: أين هم من هذا الكمال المحمدي؟! إنهم بعيدون كل البعد ذاهبون في أودية الأوهام حيث لا يسمعون ولا يبصرون] أي والله ما عرفوا.
ونحن الآن نتقزز من إناء يشرب منه أخي أو زوجتي أو ولدي، والله ما أتقزز أبداً، ولا نقول: هذا شرب، بدلوه بإناء آخر، ذلكم الذين ما سمعوا ولا عرفوا، ولكن سمعوا من أطباء الغرب ورجالاتهم أنه ينبغي أن لا نشرب من سؤر الماء ولا طعام ولا فضلة ولا كذا؛ خشية أن تنتقل الجراثيم إلينا ونهلك، والله ليهلكن!
فهيا نترق ونسم ونعل فوق مستويات الهابطين من أهل الكفر والجهل، وعباد المادة والهوى والشياطين، ولا نأتسي بهم، ولا نقلدهم لا في لباسنا ولا في أكلنا ولا في شربنا ولا في جهادنا ولا في قتالنا.
نحن الأمة الصاعدة المنتصرة بالله.
ولكن لما احتالوا علينا، وأنزلونا من علياء كرامتنا أصبحنا نقلدهم.
أيها الحاضرون! أليس في بيوتكم صحون استقبال الهوى على سطوحكم؟ واحسرتاه!
من يقول: نعم في بيتي واشتريته، نقول له: أنت عاقل أو مجنون؟
قال: كيف؟ وأنا أعقل الناس.
نقول له: ما هي الفوائد التي تجنيها من هذا الدش على سطح بيتك؟ كم من مائة ريال في اليوم تأخذها؟ كم من عشرة ريالات تأخذها؟ قال: لا، ولا ريالاً واحداً.
نقول له: إذاً هل زاد في قوتكم البدنية وانتفى المرض من بيتكم بسببه؟
يقول: لا والله.
نقول له: لماذا؟ يقول: لا لشيء.
نقول له: إذاً أنت مؤمن أو لا؟
فإن قلت: أنا مؤمن، فاسمع القيادة المحمدية تقول: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) حتى الكلام، لا تتكلم بكلمة إلا إذا كان فيها خير لك ونفع، وإلا لا تقلها.
والله تبارك وتعالى يمدح أولياءه المعرضين عن اللغو: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3] واللغو في عربية القرآن ولغته: ما لا يحقق لك درهماً لمعاشك، ولا حسنة لمعادك يوم القيامة، فاللغو الباطل الذي لا ينتج فرنكاً، ولا درهماً، ولا حسنة، ولا فضيلة.
فهذا الذي يضع التلفاز بين يديه وبين أولاده ونسائه، والعواهر يرقصن، والرجال يصفقون، والأغاني والمزمار في بيت القرآن، يا للعجب! أين يذهب بعقولهم؟
فإن قال قائل: يا شيخ! لماذا هذا؟
أنا أقول: إن كان هناك فوائد تتحقق لهم نعذرهم وندعو لهم بالخير، لكن قد جربنا وعرفنا، والله ما هناك فائدة إلا أن تطرد الملائكة من بيته، ولا يصبح ملك يجلس في هذا البيت، بل ينزل منازلهم الشياطين، فتنتشر الأمراض القلبية من: الشح، والبخل، والحسد، والكبر، والعجب، والطمع، والتلصص، وحب الزنا، وحب الباطل، فتفسد بذلك القلوب وتتحطم، وتصبح كقلوب اليهود والنصارى.
أمع هذا نتساءل؟!
والعلة كل العلة هي في الجهل، فوالله ما عرفوا الله أبداً ولا أحبوه ولا خافوه، بل سمعوا به فقط، وما سألوا عنه ولا عرفوه ولا ولا، فكيف إذاً يحبونه فيتركون ما لا يحب، ويفعلون ما يحب.
إذاً العلة هي الجهل وظلمته، وهذه هي الحقيقة، واقرءوا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران:100] اليهود والنصارى يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100] وما قال: إن تطيعوا اليهود والنصارى بل قال: (فريقاً) أي: من المختصين والعلماء والمستشارين والفنانين والمدبرين، فهذا هو الفريق، ثم قال تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] أي: من أين يأتيكم الكفر وينزل بقلوبكم؟ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فالمناعة أن نعيش على كتاب الله، فيومياً نسمع ما يقول الله عز وجل، وما يهدي إليه، وما يأمر به وينهى عنه. أما الرسول فنعيش مع سنته، نعم الرسول ليس حياً، وإن كان حياً كما أنا حي فهل يوجد في كل قرية وكل بلد؟ الجواب: لا، هو موجود في المدينة، والله ما هو في مكة ولا في جدة ولا في الشام، لكن تعاليمه وسننه وما شرعه وقننه موجود في كل بلد.
العجب! قال: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] والحال أنكم تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ [آل عمران:101] فالذي تتلى عليه آيات الله صباح مساء يلقنها ويحفظها، ويبين له ما فيها لا يكفر، ومستحيل، كيف يكفر؟ ثم قال: وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] فلا تأكلون إلا على نظامه، ولا تشربون إلا على نظامه، بله ولا تنامون، ولا تقومون، ولا تركبون، ولا تهبطون -والله العظيم- إلا على سنته ونظامه.
فمن هنا علمنا أن إبعاد الأمة عن الكتاب والسنة هو الذي أوقعها في هذه المحنة، والجهل جاءها من بُعدها عن قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أسألكم بالله: لو كان أهل القرية كل ليلة يجلسون جلوسنا هذا من المغرب إلى العشاء، فالنساء وراء الستارة، والأطفال دونهن، والفحول أمامهن، والمعلم يعلمهم يوماً آية ويوماً حديثاً، وفي سنة واحدة أسألكم بالله: هل يبقى الجهل بينهم؟ هل يبقى بينهم التلصص، والجريمة، والخيانة، والكذب؟ هل يبقى من يفعل شيئاً قبل أن يسأل الشيخ يجوز أو لا يجوز؟ والله ما يبقى.
لكنهم مزقونا وشتتونا، وحولوا القرآن على الموتى يقرءونه. إذاً كيف يعرف الناس؟ من أين يتعلمون؟
فهذه الآية عجب عجب: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ [آل عمران:101] والله هو الذي قال هذا وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101]. فمعناه: إذا لم تتل علينا الآيات، ولم يكن بيننا سنة الرسول يكفروننا، وسهل عليهم أن نتبعهم، وهذا الذي حصل.
معاشر المستمعين! هيا نرفع أكفنا إلى ربنا ضارعين سائلين أن يغيثنا، وأن يسقينا، وهو على ما يشاء قدير.
اللهم يا حي يا قيوم! يا مالك الملك! يا ذا الجلال والإكرام! اللهم رب محمد والعالمين إنا نسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تسقي ديارنا هذه، وأن تغيثها يا رب العالمين.
اللهم اسقها وأغثها.. اللهم اسقنا وأغثنا، ولا تجعلنا من القانطين، يا ربنا! هذه أكفنا رفعناها إليك فاستجب لنا وأنت المستجيب دعاء عبادك المؤمنين، اللهم اسقنا وأغثنا، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، اللهم عجل بها يا رب العالمين، سقيا نافعة غير ضارة .. عامة غير خاصة، يا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين، ولا تحرمنا أجر دعائنا يا رب العالمين. وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر