السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقد انتهى بنا الدرس إلى الأخلاق المحمدية، والصفات النبوية الكاملة، وها نحن نواليها خلقاً بعد خلق، وانتهى بنا الدرس إلى خلق: [الشجاعة المحمدية].
قال: [إن الشجاعة خلق فاضل] اللهم ارزقنا هذا الخلق الفاضل [ووصف كريم] أي: فلان شجاع [وخلة] خصلة من الخصال [شريفة] عالية [لا سيما إذا كانت في العقل كما هي في القلب] فشجاعة القلب غير شجاعة العقل، وشجاعة القلب كشجاعة الأسود الضواري، وشجاعة العقل كشجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [وكان صاحبها من أهل الإيمان والعلم] بهذا الشرط، شجاعة مع العلم .. مع العقل .. مع الإيمان الصحيح، إيمان وعلم وشجاعة قلبية وعقلية، وهذه كلها اجتمعت في الحبيب صلى الله عليه وسلم.
قال: [والشجاعة في القلب عدم الخوف مما يخاف عادةً] معنى الشجاعة في القلب أن صاحب هذه الشجاعة لا يخاف مما يخاف منه عادة عند الناس [والإقدام على دفع ما يخاف منه بقوة وحزم] فهذه الشجاعة في القلب.
قال: [وفي العقل المضاء فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر متى ظهر أنه الحق والمعروف] فالشجاعة في العقل معناها المضاء والسير بقوة فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر متى ظهر أنه الحق والمعروف، فيقدم ولا يتأخر.
قال: [وقد كان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أشجع إنسان على الإطلاق] بلا استثناء [فلم تكتحل عين الوجود بمثله صلى الله عليه وسلم] قط، فلم تر الدنيا أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ومن أدلة ذلك] ومن أدلة هذا الحكم الذي حكمنا به، وهو أنه أشجع الخلق مطلقاً: [تكليف الله تعالى له بأن يقاتل وحده] فهذه الأمة بالملايين واختار الله واحداً وكلفه أن يقاتل وحده، لعلمه بأنه أشجعها. فالدليل على أن الله كلفه بأن يقاتل وحده: [قوله تعالى: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]]، فقاتل في سبيل الله لا تكلف أحداً إلا نفسك، من أراد أن يقاتل معك فليقاتل، لكن لا تكلف أحداً تقل: قاتل معي، ولولا علم الله بشجاعته وهو خالقها وواهبها ومعطيها ما كان يكلفه بهذا التكليف، والآية ظاهرة المعنى قوية الدلالة فيما نقول: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84]، أي: على القتال.
أولاً: شهادة الشجعان الأبطال له بذلك] أي: اعتراف الأبطال الشجعان له للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشجع الخلق [فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان من أبطال الرجال وشجعانهم بلا مراء] ولا أظن أحداً يشك في هذا قال: (كنا -أيام كنا معه صلى الله عليه وسلم نخوض المعارك في سبيل الله- إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم). أي: نتقي الضرب والطعان. وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا علي بن أبي طالب من أبطال الرجال بلا نزاع، قال: كنا إذا اشتدت الحرب نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ونختفي وراءه حتى يدفع عنا. وهل بعد هذا شجاعة؟!
قال: [ثانياً: موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله] وهذا دليل كالشمس في وضوحه.
إذاً من أدلة شجاعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهيا نقتدي به في ذلك: [موقفه البطولي الخارق للعادة في أحد] أي: في جبل أحد، حيث دارت المعركة هناك [حيث فر الكماة، ووجم الأبطال، وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم؛ لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم]. فهزيمة أحد لا مثيل لها، وسببها معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت جيوش المشركين ونزلوا وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم خروجهم، خرج برجاله، وفي أثناء المسير رجع ثلاثمائة من المنافقين، وعلى رأسهم ابن أبي عليه لعائن الله، ومشى الرسول في سبعمائة، ووضع على جبل الرماة ثلاثين رامياً أو أكثر، وقال لهم: الزموا أماكنكم كيفما كانت الحال، انتصرنا أو انهزمنا، فهذه أماكنكم لا تفارقونها، واضربوا العدو وارموه بها، وأقدم الرسول القائد صلى الله عليه وسلم وأقدم قومه، وما هي إلا ساعة وقد انهزم المشركون فارين هاربين، وكانوا قرابة ثلاثة آلاف، فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وشاهدوا الأصحاب يجمعون الغنائم، قالوا: ما الفائدة في بقاءنا هنا، فإن العدو قد انكسر وانهزم، فهيا ننزل ونأخذ كما يأخذ أصحابنا، ومع الأسف كان على رأس الخيل قائدها خالد بن الوليد تابع للمشركين، فما إن رأى خالد أن الجبل قد فرغ وأن أهله قد نزلوا إلا القليل منهم، حتى استولى على الجبل، ثم أوقعوا المسلمين بين شدقي الأسد، فكانت هزيمة، وتجلت هنا الشجاعة المحمدية، فلاذوا به والتفوا حوله.
ولعل أكثر السامعين ما تفطنوا!
أقول: لقد انهزم جيش رسول الله لمعصية واحدة، وهي أن الرماة الذين ألزمهم بالبقاء في الجبل لما شاهدوا الفرح والنصر هبطوا عصاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان سبباً للهزيمة، فكيف إذاً بجيوشنا لو نقاتل اليهود.
فإن قيل: يا شيخ! لقد قاتلناهم وانهزمنا عشرات المرات، أقول: لماذا؟ لأن النصر بيد الله، والله يضعه حيث شاء، وكيف يؤدب عباده وأولياءه إذا لم يؤدبه بمثل هذه الضربات ليفيقوا ويعودوا إلى رشدهم، واسمعوا وبلغوا، لقد تكرر هذا القول من هذا المكان، أن من لطف الله، ومن تدبير الله، ومن إحسان الله إلى أمة الإسلام، أن هزم العرب في قتالهم مع اليهود؛ لأنه يا عقلاء! لو انتصر العرب ويومها كان شعارات العروبة والاشتراكية عالية، وكانت كلمة الإسلام مهزومة، فلو انتصروا على ذلك الحال، لأصبح المسلم أذل من الشاة عندهم.
والذي يكلمكم على علم، والله العظيم، كيف قاتل العرب اليهود؟ هل قاتلوهم وهم يقيمون الصلاة ويجبون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟! كلا والله، إنما قاتلوهم وهم على أبشع صورة من الفسق، وأعظم من ذلك أنه لم تكن الروح إسلامية، بل كانت قومية .. وطنية .. اشتراكية، فلهذا من رحمة الله بنا هزمنا ليبقى الإسلام ويبقى أهله إلى ما شاء الله عز وجل.
وإن قلت: كيف؟
نحن نقول: انهزم جيش رسول الله وهو معه القائد الأعظم، وكانت هزيمة نكراء -راجعوها في سورة آل عمران من أولها إلى آخرها- وسببها معصية واحدة تتعلق بالقتال.
عرفتم هذه الآداب الإلهية أو لا؟ أدبنا الله؛ لأنهم تبجحوا قالوا: نحن أكثر من الجيش .. من هذا العدو فلن ننهزم، ولو قالوا: إن شاء الله لنجوا، لكن لا، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة! فانهزموا رضوان الله عليهم ولم يبق في الميدان سوى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب .. أنا ابن
قال: [وما زال في المعركة، وهو يقول: (إلي عباد الله، إلي عباد الله)]، فليس هناك مكبرات للصوت، لكن صوته وصل إلى نهاية أطراف الجيش: إلي عباد الله الهاربون الفارون [حتى فاء أصحابه إليه، وعادوا الكرة على العدو فهزموه في ساعة، وما كانت هزيمتهم أول مرة إلا بسبب ذنب ارتكبه بعضهم، وهو قوله: لن نغلب اليوم من قلة؟] لن نغلب اليوم.. ولو قالوا: إن شاء الله لكان رقعها، لكن قالوا: لن نغلب اليوم من قلة [إذ هذا القول كان عجباً، والعجب حرام]، بل هو من كبائر الذنوب والعياذ بالله، فيعجب بالنفس والمال والدولة والسلطان، وينسى الرحمن الذي بيده كل شيء.
قال: [وقد ذكرهم تعالى به في كتابه إذ قال تعالى من سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25] الآية].
لكن لم المسلمون ما يقرءون هذا القرآن؟
فيأتي الجواب: يا شيخ! يقرءونه على الموتى فقط، أما أن يجتمعوا هكذا عليه ويقرءون لا أبداً، ما هو معقول، هم مشغولون بدنياهم، وسر ذلك لتبقى آيات الله كما هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فلو أقبلوا على الله ووحدوا كلمتهم: لا إله إلا الله، ورايتهم وإمامهم، وقالوا: الله أكبر، لارتج الكون تحت أقدامهم، ولكن العدو الثالوث الأسود نفخ فيهم روح الموت والخراب والدمار عن طريق: الشرك، الخرافة، الانقسامات، الوطنيات، التحزبات، المذاهب، وكيف تجتمع هذه الأمة، وأنى لها؟ ولهذا تبقى ذليلة منكسرة مهانة للشرق والغرب، حتى يجمعها الله عز وجل.
قال: [وانتفض انتفاضة] هذا رسول الله [تطاير عنه أصحابه] تباعدوا من شدته [تطاير الوبر عن ظهر البعير] يا أهل الإبل [إذا انتفض. واستقبله بطعنة نجلاء في عنقه، هكذا تدهده منها عن فرسه مراراً وهو يقول: قتلني محمد، فمات منها -بالطعنة- بسرف، وهو عائد إلى مكة مع جيش المشركين]. هذه شجاعة. هيا نقتدي به أسوتنا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
إذاً فزع أهل المدينة ليلة لصوت سمعوه أن العدو قد داهمهم، فانطلقوا قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعاً، قد وصل إلى العدو قبلهم وشرده ورجع، وكان على فرس لـأبي طلحة ليس عليه لا سرج ولا عري، والسيف في عنقه وهو يقول: ( لن تراعوا .. لن تراعوا .. لن تراعوا ). وفي هذه القصة يقول أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ويقص هذه القصة.
قال: [شهادة عمران بن حصين رضي الله عنهما]، من عمران بن حصين هذا؟
لما جاء حصين إلى مكة ليسلم، والرسول في مكة، قال له: ( يا
فإن قيل: يا شيخ! جماعتنا يعبدون الأولياء في القبور، والله لا يخافونهم ولا يرهبونهم، فقط الشياطين تدفعهم لا رغبة ولا رهبة، ولو وقفت أمام ضريح تنادي خمسين ساعة .. خمسين يوماً والله ما تسمع صوتك، ولو كان الجوع يمزقك والله ما امتد إليك ربع قرص، ومع هذا تجد من يقول: يا سيدي فلان .. ويتمرغ عليه ويذبح له الذبيحة و.. و..
عرفتم ضعف البشر!
فـحصين كان يعبد سبعة وما اكتفى بواحد، فجاء للحبيب الحكيم صلى الله عليه وسلم، فسأله سؤال المنطق والعقل: ( كم إلهاً تعبد يا
ما ننسى هذه الكلمة الطيبة، هذا الحكيم صلى الله عليه وسلم: ( اعبد الذي في السماء واترك الذين في الأرض ). أما ولده عمران فاستقام حتى كانت الملائكة تسلم عليه وهو جالس في المسجد، بل كانت تصافحه. ولما اختل ذلك اليقين وضعف بعض الشيء ما أصبحت الملائكة تصافحه، لأنه أصيب بمرض يسمى البواسير، فاضطر إلى العلاج، فلما عالج ابتعدت عنه الملائكة؛ لأن من هذه الأمة سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وهم الذين لا يتداوون ولا يسترقون ولا يتطيرون، فكان عمران واحداً منهم ثم خرج منهم رضي الله عنه.
قال: [شهادة عمران بن حصين رضي الله عنهما إذ قال وهو صادق: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب] أي: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب العدو فيقدم ويتقدم أصحابه.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [كانت تلك شواهد شجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فنكتفي فيها بشاهد واحد، فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد]، فما تقدم من الأمثلة كانت مع شجاعة القلب، وأما شجاعة العقل ففيها مثال واحد يكفي أحسن من عشرين مثال.
قال: [وهو] أي: هذا الشاهد [موقفه من تعنت سهيل بن عمرو ، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية] أما صلح الحديبية فقد كان في السنة السادسة من الهجرة؛ لأن المشركين انهزموا في سلع أو غزوة الخندق، فقال الرسول: ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا )، ففي السنة السادسة أمر رجاله وقدرهم ألف وأربعمائة أن يأتوا مكة معتمرين فقط؛ لأن الله نصرهم في المدينة في غزوة الخندق والمشركون ذهلوا، فخرج، وما إن سمعت قريش بخروجه حتى أعدت جيشها لاستقباله، وهو صلى الله عليه وسلم ما خرج للقتال.
فصدرت سفارة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش في مكان يسمى الحديبية، وهو موجود إلى الآن، وتمت مصالحة على أن تدوم عشر سنين، وكان سهيل بن عمرو قبل أن يسلم رضي الله عنه يمثل قريشاً في الجاهلية، وكان من رجالات السياسة، فالرسول يملي والكاتب يكتب، واسمع ماذا كان.
قال: [إذ تنازل صلى الله عليه وسلم عن كلمة بسم الله إلى باسمك اللهم] فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل : ما نعرف الله الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم فقط، فهذه الكلمات ما نعنيها ولا نعرفها، اكتب باسمك اللهم، وتنازل رسول الله لشجاعته العقلية وكتب، فهو يريد أن يؤمن المسلمين عشر سنوات، وهم محاصرون في بيوتهم، ويريدهم أن يتنفسوا ويخرجوا للتجارة والدعوة.
قال: [وعن كلمة محمد رسول الله إلى كلمة محمد بن عبد الله] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال ممثل قريش: ما نعرف أنك رسول الله، ولا نؤمن بك، فلو آمنا أنك رسول لم نقاتلك؟ اكتب محمد بن عبد الله. فخضع لهذا وتنازل عن كلمة رسول الله.
هذه شجاعة عقلية فقد عرف ماذا ينتج عن هذا الصلح من فائدة، وإن نالوا منه منالاً لا قيمة له، فهو رسول الله أحبوا أم كرهوا، وبسم الله الرحمن الرحيم أحبوا أم كرهوا، لكن دفعاً لخطر فشل المعاهدة تنازل عن هاتين الكلمتين.
والآن لو زعيماً من زعيمكم يقول كلمة كهذه فإنكم تكفرونه كيف يتنازل عن هذه كلمة؟!
فإن قيل: هذا سياسي يريد أن ينقذكم. قلتم: لا، هذا كافر!! وكل هذا ناتج عن ضعف العقول وعدم البصيرة، فأين المعرفة والأمة جاهلة.
قال: [وقد استشاط أصحابه غيظاً، وبلغ الغضب حداً لا مزيد عليه، وهو صابر ثابت حتى انتهت الكتابة، وكانت بعد أيام فتحاً مبيناً، فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين القلبية والعقلية، مع بعد النظر وأصالة الرأي وإصابته، فصلى الله عليه وسلم ما بقي شجاعة أو جبن في العالمين].
إن شاء الله اكتسبنا شجاعة، وعلى الأقل إذا مرضنا لا نكفر، وإذا جعنا لا نسرق، وإذا أوذينا نصبر ولا نحارب ونقاتل.
يقول: [إن الصبر] ما هو الصبر؟ قال: [وهو حبس النفس على طاعة الله تعالى حتى لا تفارقها] أي: حتى لا تفارق النفس الطاعة أبداً [وعن معصية الله تعالى حتى لا تقارفها] فمن الصبر حبس النفس على الطاعة حتى لا تتركها، وعن المعصية حتى لا تقارفها أو تأتيها أو تفعلها [وعلى قضاء الله تعالى حتى لا تجزع له ولا تسخط عليه] فإذا قضى الله على عبده بما شاء في ماله .. في بدنه .. فيجب أن لا يظهر جزعاً لله وسخطاً، بل يصبر ويحتسب ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال: [هذا هو الصبر في مواطنه الثلاثة، وهو خلق من أشرف الأخلاق وأسماها، وهو خلق مكتسب] أي: يحصل عليه طالبه بالطلب [يحمل العاقل عليه نفسه، ويروضها شيئاً فشيئاً حتى يصبح الصبر ملكة لها ثابتة عفواً بدون طلب] أي: أن الصبر خلق عظيم يكتسب، ولا يأتي بلا طلب، بل تطلبه وتمرن نفسك وتروضها يوماً بعد يوم حتى تصبح ذا صبر.
قال: [يدل على ذلك أمره تعالى رسوله به في غير موطن من كتابه العزيز؛ وذلك كقوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]]، فيمرنه ويروضه ويعوده.
قال: [وقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، وقوله في أمر كافة المؤمنين به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]]. هذه أوامر الله في الصبر.
قال: [أولاً: صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قريش طيلة ما هو بين ظهرانيها بمكة، فقد ضربوه، وألقوا سلى الجزور على ظهره، وحاصروه ثلاث سنوات مع بني هاشم في شعب أبي طالب ، وحكموا عليه بالإعدام، وبعثوا رجالهم لتنفيذه فيه، إلا أن الله سلمه وعصم دمه؛ كل هذا لم يرده عن دعوته، ولم يثن عزمه عن بيانها وعرضها على القريب والبعيد]. هكذا كان يصبر.
قال: [ثانياً: صبره عام الحزن] أي عام الحزن هذا؟ قال: [حيث ماتت خديجة الزوجة الحنون، ومات العم الحاني الحامي المدافع أبو طالب ، فلم تفت هذه الرزايا من عزمه، ولم توهن من قدرته؟ إذ قابل ذلك بصبر لم يعرف له في تاريخ الأبطال مثل ولا نظير].
لقد كانت خديجة رضي الله عنها تحتضنه وتطعمه وتسقيه في بيتها، فهي زوجته، أما عمه أبو طالب فكان كالأسد، لا يسمح لأحد أن يؤذيه بأي أذى، فلما مات ضربوه وفعلوا به الأعاجيب، وصبر على هذه المصيبة صبر الأبطال.
قال: [ثالثاً: صبره في كافة حروبه؛ في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، وفي الفتح، وفي حنين، وفي الطائف، وفي تبوك، فلم يجبن ولم ينهزم، ولم يفشل، ولم يكل ولم يمل حتى خاض حروباً عدة، وقاد سرايا عديدة، فقد عاش من غزوة إلى أخرى طيلة عشر سنوات، فأي صبر أعظم من هذا الصبر؟] عشر سنين والحرب دائرة، ثم حربه الحكيمة! سلوني كم قتلى حروب عشر سنوات من المشركين والمؤمنين؟ ألفان وخمسمائة، الآن حرب بين العرب فيما بينهم في يوم واحد: ألفين وخمسمائة يموتون، لعلي واهم، الآن لو تحدث عندنا في ديارنا موجود هذا، آلاف يسقطون يومياً.
قال: [صبره على تآمر اليهود عليه بالمدينة وتحزيبهم الأحزاب لحربه والقضاء عليه صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته]. وإليكم بيان ذلك: فاليهود كانوا في المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النظير، فتآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، أما بنو قينقاع فقد بادروا بالحرب وهزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم إلى الشام، وأما بنو النظير فتآمروا على قتله، فحاربهم وأجلاهم، وأما بنو قريظة فتآمروا على قتله وحربه مع الأحزاب، فطوقهم وهزمهم شر هزيمة، وقتل منهم سبعمائة مقاتل، وقتلوا هنا في هذا المسجد، وصبر صبر الكرام وصبر الأبطال، وكان هو وحده في المدينة والقبائل تحوطه.
قال: [صبره على الجوع الشديد، فقد مات ولم يشبع من خبز شعير مرتين في يوم واحد قط] والله لقد كان يضع الحجر على بطنه ويشدها ليتمالك ويمشي، فلا جزع ولا قال: أنا جائع، ولا قال: أعطني يا فلان، أبداً، وهذا هو الصبر.
قال: [لقد صبر صلى الله عليه وسلم على كل ذلك، فلم يهن ولم تضعف همته، ولم تمس كرامته، ولم يدنس عرضه، ولو أوذي غيره بمعشار ما أوذي أو أصابه من البلايا والرزايا دون ما أصابه لتخلى عن دعوته، وهرب من مسئوليته، ووجد في نفسه مبرراً لذلك، ولكن الله عصمه فصبره وجبره وحماه وقواه؛ ليبلغ عنه رسالته، ويجعله آية للناس في صبره وحكمته وعفوه وكرامته وشجاعته وفي سائر أخلاقه؛ فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً].
الشيخ: السائل يقول: ما حكم استعمال السواك بعود الأراك أو الفرشة المعروفة، واستعمال أيضاً المعجون؟
الجواب: أما المعجون فلا أحب لمؤمن أن يستعمله، إذ تتسرب أجزاؤه إلى الحلق، فعليك أن تستاك وتستعمل معجونك قبل صلاة الصبح، أي: بعد تسحرك، أو استعمل هذا العجين أو المعجون بعد المغرب، أما وأنت صائم فلا تستعمله، خشية أن جزئيات منه تتسرب إلى حلقك، أما السواك بعود الأراك فهو مستحب ومندوب ومرغب في كل صلاة تصليها وعند كل وضوء، اللهم إلا ما روي عن إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من أنه كان يكرهه، أي: لا يرى الاستياك بعد الزوال، بعد الظهر، يعني: فعند وضوء العصر لا يستاك، للإبقاء على ذلك الخلوف في الفم؛ لأنه ورد وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، والخلوف هو تغير الفم من شدة الجوع وانقطاع الطعام والشراب، فيتغير الفم بالطبيعة والفطرة، وذاك التغير فيه رائحة غير حميدة، فالإبقاء عليه بعد الزوال -يقول أحمد- هذا أحب إلي؛ لأن الله يحب ذلك: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، وليس بواجب، ولكن مستحب. نعم.
الشيخ: السائلة تقول: ما حكم استعمال حبوب منع الحيض في رمضان حتى نواصل الصيام ولا نقطعه؟
الجواب: باجتهاد نقول والله الموفق: من الأفضل لها ومن الخير للمؤمنة أن لا تستعمل الحبوب لتفطر في رمضان، وتقضي خارج رمضان فتحصل على أجرين: الأجر الأول: أطاعت ربها بأن أفطرت لما حاضت، لأنها تثاب على هذه الطاعة. ثانياً: انسلخ رمضان ودخل شوال أو بعده فقامت تقضي؛ فهذا القضاء تؤجر عليه، فأجرها مضاعف، أما إذا استعملت الحبوب وما حاضت فلها أجر واحد.
ممكن تفهمون هذه؟ أليس الأجر في الطاعة أو لا؟
لقد أمرها الله على لسان رسوله إذا حاضت أن تفطر، فأطاعت وأفطرت فهي مأجورة، ثانياً: انقضى رمضان ودخل شهر آخر لتقضيه فقضت، وصامت ما فاتها، فهي مأجورة، وبذلك يكون قد حصل لها أجران، ولو استعملت الحبوب فما حاضت، فيكون لها أجر واحد. فلماذا إذاً تفرط في هذا، مع العلم أن هذا الأمر ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما في الأمر ورد أن النساء إذا حججن على عهد الأصحاب يستعملن نوعاً من العشب ليوقف الحيض ويمنعه من أجل أن تحج؛ لأنها إذا حاضت وهي حاجة فأين تبقى في مكة، ومن معها؟ وما هناك طائرة ولا باخرة ولا، وكيف ترجع إلى ديارها سنة كاملة؟ فكن يستعملن هذا النبات أو العشب ليحفظ أو ليقي من الحيض فقط، أما في رمضان فلا خطر في هذا أبداً.
الشيخ: يقول السائل: توفيت والدتي وعليها صيام رمضان، فهل أصوم عليها؟
الجواب: إن شئت صمت وإن شئت لم تصم، وإن صمت أجرت وحصل لها هي أيضاً الثواب، أما إلزاماً فلا، أما أنت فليس بملزم. نعم.
الشيخ: سائل يقول: أيهما أفضل: الصوم أو الإفطار في السفر؟ وأيهما أعظم أجراً؟
الجواب: الفقه في هذه القضية أنه إذا كان السفر يعوقك ويحول بينك وبين مرادك في سفرك فأفطر، واقض صيامك بعد عودتك، وإن كان سفرك لا يعوقه الصيام، فما أنت في حاجة إلى الإفطار، فصومك أفضل من إفطارك لو أفطرت.
مرة ثانية: هل يصوم المسافر أو يفطر؟
الجواب: جائز الصوم وجائز الفطر، لكن نريد الأفضل؟ فنقول: إذا كان السفر تتعب فيه وتعرق وأنت تعمل في واجباتك وعملك، والصيام يضعفك ويعجزك فأفطر أفضل لك من الصيام واقض، وإذا كان صومك لا يؤثر على سفرك، فأنت في الطائرة .. في السيارة .. في كذا ما عندك أي تعب فالصيام أفضل.
الجواب: الرعاف وهو الدم الخارج من الأنف، وكذلك الدم الذي يخرج من الدبر، أو يخرج من أي مكان لا يضر الصيام أبداً، ولا علاقة له بالإفطار والصيام، فإذا رعف وسال الدم منه وهو صائم، أو خرج الدم من بطنه كذلك فلا يفسد صومه بالدم خرج من أي مكان.
الشيخ: ما حكم قراءة القرآن للحاجة؟
السؤال: للحائض.
الشيخ: للحائض؟
الجواب: أولاً: تريد أن تتوسل إلى الله ليقضي حاجتها، فتقرأ له سورة أو سوراً وتقول: يا رب! أنا قرأت كلامك وتقربت به إليك فاقض حاجتي، هذه وسيلة مشروعة ومن أحسن الوسائل؛ لأن الله يحب أن يتلى كتابه؛ فأنت تتملقه وتتزلف إليه، كذلك تقرأ سورة البقرة وآل عمران، وتقول: أعطني، فيعطيك إن شاء الله.
أما السؤال وهو: هل الحائض تقرأ القرآن أو لا؟
الجواب: الأفضل لها أن لا تقرأ، بل تذكر الله وتدعوه وتكبر وتهلل ولا تصلي ولا تقرأ القرآن، إلا إذا كان لها سور تحفظها وخافت نسيانها، فرخص بعض أهل الفقه لها في أن تقرأها محافظة على تلك السور حتى لا تنساها بالمرة الواحدة، وما عندنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا شيء، وهذه نظرية كثير من أهل الفقه، فإذا كانت تخاف نسيان ما تحفظه فتتعهده حتى لا ينسى، وما عدا ذلك فلا تقرأ القرآن وهي حائض ولا نفساء.
الشيخ: آخر سؤال للأحباب، يقول: يدخل الإنسان المسجد فيجد جماعة صلت، أو بقيت لها ركعة، فهل يدخل معها أو ينتظر جماعة ثانية؟
الجواب: لا يصح جماعتان أو ثلاث في المسجد، بل جماعة واحدة، فإذا دخلت المسجد ووجدتهم في التشهد الأخير، فكبر: الله أكبر، واجلس وتشهد، وإذا سلموا قم وأتمم صلاتك، وكذلك إذا أدركت ركعة؛ لأنه غير مأذون أن نجعل جماعات في المسجد الواحد؛ لأنه عنوان للحزبية والتفرق والعياذ بالله تعالى. اللهم إلا في حال الضرورة، كأن يأتي مؤمن ويأتي الثاني فما وجد جماعة فيقول له: صل بي، فصل معه.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر