أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود، على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع فاتحة سورة الأنعام، وبالأمس تدارسنا منها ثلاث آيات، وما أكملنا دراستها، فهيا بنا نعيد دراستها بعد تلاوتها المرة والمرتين والثلاث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:1-3].
أولاً: توحيد الله عز وجل، بأن يُعبد وحده ولا يُعبد معه سواه؛ لأن هذه العبادة هي مفتاح دار السعادة، فو الله لا نجاة ولا كمال ولا سعادة إلا بواسطتها، فمن عرف الله معرفة حقيقية أثمرت له حبه في قلبه، فأصبح يحب الله أكثر من نفسه، فضلاً عن ماله وولده والناس أجمعين، ثم تثمر له الرهبة من الله، والخوف منه، هذا الإيمان الذي يثمر الحب والخشية هو العامل الأول الذي يقوي صاحبه على أن يستقيم على منهج الله طوال حياته، فلا يميل يميناً ولا شمالاً، ولا يتأخر القهقرى، بل يواصل سيره إلى باب الجنة دار السلام، وذلك بوفاته ولفظ أنفاسه الأخيرة.
ثانياً: الإيمان بهذا القرآن كتاب الله عز وجل، ومن أنزله عليه، ألا وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الإيمان بالبعث والجزاء، البعث من الأرض من جديد، ثم الوقوف في ساحة فصل القضاء، ثم الحساب، ثم الجزاء، إما بالنزول في دار السلام، وإما بالهبوط إلى دار البوار.
هذه السورة من أولها إلى آخرها تعمل على تقرير هذه المبادئ الثلاثة.
عهدنا فيما بيننا: أن من صنع باب خشب وأحسن صنعه يمدح ويثنى عليه، من خاط ثوباً فقط وأحسن خياطته يمدحونه ويثنون عليه، طاهية تطهو طعاماً فيلذ ويطيب للآكلين تمدح ويثنى عليها.
والله هو الذي خلق السماوات والأرض، ونحن نقول: السماوات والأرض، فما السماوات وما الأرض؟ هذه الطباق السبع، سماء فوق سماء، وما فيها من المخلوقات، كيف يتم خلقها، من يقدر على خلقها وقد خلقت؟ هو الله جل جلاله، فهذا الذي استحق الحمد بمعنى كلمة الحمد.
ثم من أوجد الظلمات والأنوار، والظلمات جمع ظلمة، والنور واحد، وهذا التعبير القرآني، الظلمات تجمع لأنها متعددة، ظلمة كل معصية بظلام، وأما النور فواحد، النور واحد، وهو نور الحياة الذي به يشاهد بعضنا بعضا، والنور المعنوي الذي هو نور القلوب، الذي بواسطته تنظر القلوب إلى ربها وتعرفه، فهذا الذي يستحق أن يعبد بكامل العبادة، وهو الذي يستحق الحمد والثناء، والوصف بالجميل، أما من عداه ممن عُبدوا دونه وعظموا وأكبروا، وتمدح بهم، وأثني عليهم؛ فهل هم أهل لذلك؟! ولهذا استحق العبادة وحده، ولا يستحقها معه سواه.
إن من أوجد الظلام والنور هو الذي يعبد، لا نفس الظلام والضياء، وكذلك الذين عبدوا الشمس والقمر وبعض الكواكب، من خلق هذه الكواكب؟ لم لا نسأل؟ وكذلك الذين هبطوا وعبدوا عيسى ووالدته، من خلق عيسى، من أوجده، من رفعه؟ أمه من خلقها، من صانها وحفظها، من أكرمها؟ كيف يعبدان مع الله؟ وعبدوا غير عيسى وأمه، وعبدنا نحن أيام ظلمتنا الأولياء، عبادة كما يعبد الله، بالعكوف على الأضرحة، بالتمرغ على التربة، بالإقسام والحلف، بالاستغاثة والدعاء، بالذبح والنذر وما إلى ذلك، كيف يجوز تسوية مخلوق بخالق، كالذي يريد أن يسوي النعل بصانعه، هل يعقل هذا؟ نعلك في رجلك تسويه بمن صنعه وهو ذو عقل وكرامة آدمية، كيف يمكن هذا؟! تدعو صانعه فيسمعك ويجيبك، وتدعو النعل فهل يجيبك؟! يسمع صوتك؟! يعطيك حاجتك؟! ولهذا تعجَّب الجبار عز وجل فقال: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] بربهم: أي بخالقهم ورازقهم، ومدبر حياتهم، وهو الذي يملك حياتهم وموتهم، وغناهم وفقرهم، يسوون به غيره، أين العقول؟! أين الفهوم؟! أين المدارك؟! أين.. أين؟! والجواب: الكفر موت، من كفر مات، والميت هل يلام إذا لم يسمع؟! يلام إذا لم يجب؟! لا يلام. فالكافرون أموات غير أحياء وما يشعرون.
فمن نفخت فيه روح الإيمان فحيي، فأصبح يسمع ويبصر، ويقول ويفهم، ويعطي ويأخذ، نعم هذا حي، أما من فقد روحه فقد مات، والإيمان بمثابة الروح، من فقده مات وهو ميت.
لو كان الكافر يقول: لا نموت نعم لا يبعث، لكن ما دام يموت ويتحلل ويصبح تراباً؛ إذاً لا يملك أن لا يبعث، فالذي خلقه أولاً من طين يخلقه مرة ثانية.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا [الأنعام:2]، أية قدرة أعظم من هذه؟ قضى آجالنا، هذا يعيش خمسين، وهذا عشرا، وهذا سنة، ولا يتخلف أبداً ولو على لحظة واحدة، ولا يستطيع إنسان تحت السماء أن يقول: أنا أملك ألا أموت، أو لا يموت ولدي أو أبي، أو أنا أستطيع أن أؤخر هذا سبعين سنة أخرى.
وأجل آخر للبشرية كلها، مسمى عنده ومعروف يومه وساعته ولحظته، هذا الذي يستحق أن يعبد أم عيسى؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الملائكة؟ هذا الذي يستحق أن يعبد أم الأولياء، فضلاً عن الأحجار والأصنام والتماثيل؟ إذ تلك ما عبدوها لذاتها، وإنما عبدوها يستشفعون بها عند الله عز وجل.
العرب أذكياء بالفعل، ومع هذا عبدوا اللات والعزى، ولكن ما قالوا: تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي، أبداً، قالوا: إنما نتقرب بها إلى الله.
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الزمر:1-3] ماذا يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
لأنك إذا سألت عربياً في البادية، في الحضر: من خلق السماوات ؟ ما يقول: اللات، وهو إذا استطاع أن يبول عليها بال عليها، فكيف يقول: اللات؟ من خلقك أنت؟ ما يقول: العزى ولا اللات، يقول: الله. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] قل فأنى تؤفكون.
فاقتنعوا بأن هذا القرآن كلام الله، ما هو من عند محمد صلى الله عليه وسلم، بل يوحى إليه ويملى عليه ويؤمر بأن يقول. واستطاعوا أن يضعوا لنا قاعدة، وهي موجودة في هوامش كتب الفقه المالكي وخاصة الحطاب على خليل، يقولون: تفسير القرآن صوابه خطأ، من فسر القرآن كتفسيرنا هذا إن أصاب فهو مخطئ آثم، وأنتم أيها المستمعون آثمون، فاحذروا من الحلقة.
وخطؤه كفر، وإذا فسر وأخطأ فقد كفر، فأصبح لا يجتمع الناس على تفسير كتاب الله، في القرى والمدن والحواضر حتى في مكة، ما يجتمعون عليه، إذاً ماذا يصنعون بالقرآن؟ يقرءونه على الموتى، إذا مات السيد فلان الغني الرئيس الفقيه العالم؛ فإنهم يقرءون عليه ثلاث ليال، وبعضهم سبع ليال، وبعضهم أربعين ليلة، وقد ذكرت لكم ما بلغني أنهم جعلوا نقابة، النقيب فلان في التلفون، إذا توفي لك قريب فدق عليه التلفون: نريد طلبة قرآن الليلة عندنا ميت، يقول: من فئة المائة ريال أم المائتين، يعني: إذا كان غنيا فمن فئة مائتي ريال لليلة الواحدة، وإذا كان فقيرا فمش الحال بالمائة ريال.
هكذا فعلوا بكتاب الله من إندونيسيا إلى موريتانيا، لا يقرأ القرآن إلا على الموتى، وإلى الآن ما زالوا يتشدقون بعض التشدق، يسمونه عشاء القبر.
والشاهد عندنا في أن النور الإلهي ما استطاعوا أن يطفئوه، كلام الله ما استطاعوا أن يمحوه، فاحتالوا فصرفوا القلوب عنه؛ لتعيش الأمة في الظلام والموت لا في الحياة.
والسنة تقرأ للبركة، في الجوامع الكبيرة حين يدخل رمضان يجتمع أعيان البلاد والأغنياء وأهل الفراغ، ويقرءون فيه البخاري للبركة، هذا رأيناه في الديار الجزائرية ووجدناه في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وموجود في غيرهما، السنة تقرأ للبركة، كيف للبركة! نتبرك بالحديث، والحديث يقول: ( من أحدث فليتوضأ )، تعاليم، كيف نتبرك به؟ ماذا نصنع به ما دمنا لا يجوز لنا أن نعمل به، ولا نقرأه للهداية؛ لأن فيه الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وغير ذلك، ونحن استغنينا بكتب فقهائنا نصلي ونصوم ونحج ونعتمر، فماذا نصنع إذاً بهذه السنة؟ أنهجرها؟ دعنا نجتمع عليها للبركة، فهمتم ما فعل العدو أم لا! هذا ما هو بعدو جاهل مثلنا، هؤلاء كبار المفكرين في النصارى واليهود والمجوس، كيف وصلوا إلى هذا؟ واستطاعوا أن يربطونا إلى الأرض ويلصقونا بها، وإلى الآن نحن لاصقون بالأرض.
والله لو كنا أحياء ما رضينا ليلة واحدة أن تنقسم أمتنا إلى ثلاثين أو أربعين دولة، لتبقى مهانة فقيرة ، وقد كان في أربع وعشرين ساعة إمام المسلمين فلان والأمة كلها أمة واحدة، ويطبق كتاب الله وهدي رسول صلى الله عليه وسلم.
وأوضح من هذا حفنة من اليهود أذلتنا وأهانتنا، وداست كرامتنا، وحطمت هكذا شرفنا، ونحن في حياء نتخبط ليل نهار، ماذا نصنع مع اليهود؟ أين يذهب بعقولنا؟ إننا متنا. اللهم أحينا! اللهم أحينا!
إذاً: من خلق الظلمات والنور؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه هو الذي خلقنا من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده، ما الأجل المسمى عند الله؟ قلنا: الأجل أجل يوم القيامة، والأجل الذي قضاه لنا ما هو؟ أجلنا. الذين نصلي عليهم كل صلاة انتهت آجالهم أم استعجلت؟ انتهت. محددة باللحظة والثانية، هذا هو الله خالق السماوات والأرض والظلمات والنور.
إذاً: فـ(الله) علم، خالقنا اسمه الله، الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وخلقنا، وخلق لنا الآجال والدنيا والآخرة، اسمه الله، هذا هو الاسم وهو الاسم الأعظم، هذا الاسم الذي ينادى به الجبار عز وجل، هذا الذي تتناول طعامك باسمه: باسم الله، هذا الذي تحمده وتقول: الحمد لله، هذا الذي يملأ قلبك حبه والخوف منه، هذا هو الله.
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، وهو الله في السماوات وفي الأرض إله معبود، لطيفة: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]، والمعنى: وهو المعبود في السماوات وفي الأرض، أي نعم، هو المعبود بحق، ولا يستحق العبادة غيره من العوالم العلوية أو السفلية، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، أي: المعبود في السماء، والمعبود في الأرض، الخلق خلقه، والنعمة نعمته، وهو الذي يستحق أن يعبد في السماوات وفي الأرض.
الجارحة الثانية: البصر، العينان نبصر بهما، نكسب بهما أم لا؟ انظر إلى السماوات، إلى الكواكب، إلى المخلوقات؛ يزيد إيمانك وتعظم مودتك ومحبتك لله، انظر نظرة حسد تتحطم، انظر نظرة محرمة إلى مؤمنة، إلى أمرد تتلذذ به تهلك، وتكون قد اجترحت سيئة عظيمة.
واللسان وهو أعظمها، المصريون يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك، هذا مثل مصري، يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك، وحسبنا أن يقول الحبيب هكذا بيده: ( كف عليك هذا ) أي: لسانك، ( قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا
الشاهد عندنا أن هذه الجارحة أكبر مصيبة، هذه جارحة اللسان.
رابعاً: اليدان، بهما تأخذ وتعطي، الذي يتناول سيجارة بيده اليمنى ويدخلها في فمه اجترح سيئة أم لا؟ اجترح سيئة. والحلاق في صالون الحلاقة وبيده الموسى تلمع، فيحلق لحى الرجال فلا يبقى لهم شعر، ولا ما يدل على فحولتهم، هذا ماذا صنع؟ اجترح سيئة أم لا؟ أكبر سيئة تخنث رجالنا، على الأقل اترك بعض اللحية -لحية سعودية- لنعرف أنه ذكر، أما أن تحلق الشارب واللحية فأنت تخنثه أم لا؟ كيف يجوز هذا مقابل عشرين ريال، والله لو تعطى مليون ريال ما تقبل هذا، فكيف تخنث فحلاً من فحول الإسلام، إلا أنك تقول: هو الذي طلب، انصح له، بين له، لا تسمح له أبداً أن يفعل هذا، حسن له اللحية وزينها لا بأس، أما أن تحلق اللحية والشارب فلا.
واليد بها السرقة والدم والدمار، وبها العطاء والزيادة، فهي جارحة.
والرجل أيضاً تمشي بها أم لا؟ يمشي في ليال سوداء أربعين كيلو متر ليحضر عرسا، وخمس خطوات عند المسجد ما يخطوها، أربعين كيلو متر يمشيها ليحضر حفل فلان والزوجة الفلانية، والمسجد عند الباب لا يستطيع الذهاب إليه! يصلي في البيت، إذاً: الرجل جارحة أم لا؟
وأعظم الجوارح الفرج، الفرج الذي ينتج البنين والبنات.
هذه هي الجوارح أم وإلا لا؟ بها الكسب، فقول ربنا: وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، ما معنى: نكسب؟ ما نجترحه بجوارحنا من خير وشر، هذه الجوارح، وحتى الفرج أيضاً فيه حسنة، أي نعم: ( وفي بضع أحدكم صدقة ).
وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، ولازم علمه ما نكسب الجزاء، وليس المراد أنه يعلم فقط، معناه أنه سوف يحاسبنا بدقة على كسبنا الخير والشر على حد سواء، فعجب هذه الآيات، نسمعكم شرحها مرة ثانية لتتأكدوا، وأنا أطلب منكم أن تحفظوا هذه الآيات، ثلاث آيات تصلون بها النافلة، لو عزمتم عليها أمس والله لحفظتموها.
فهمتم هذه أم لا؟ احمدوه وأثنوا عليه، ومجدوه وتملقوه واطلبوه، أما من أول وهلة تقول: ربنا اهدنا فما ينفع، والعوام يعرفون هذا، إذا أراد أن يطلب من شيخ أو من غني مسألة لا يقول له: أعطني، يقول: يا عم، يا سيد، عرفناك بكذا، سمعنا أنك كذا وكذا وكذا، بعد ذلك يقول: أعطنا كذا، فالله أولى بهذا أم لا؟
فكأنه تعالى يقول: قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:1-5]، تملق هذا أم لا؟! لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، إذاً: اهدنا الصراط المستقيم.
فلهذا قال: [كأنما قال: قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره].
موجبات الحمد له ما هي؟
أولاً: [الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] فالذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور وهما من أقوى عناصر الحياة؛ هو المستحق للحمد والثناء لا غيره، ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات، فيعبدونها معه، يا للعجب! هذا ما دلت عليه الآية الأولى.
أما الثانية: فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم، مندداً بباطلهم فيقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام:2]، لأن آدم أباهم خلقه من طين، ثم تناسلوا منه، فباعتبار أصلهم فهم مخلوقون من طين، ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له، وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه، وهو مسمى عنده معروف له، لا يعرفه غيره، ولا يطلع عليه سواه، ولحكم عالية أخفاه، ولم يُطلع عليه سواه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكون في وجوب توحيده وقدرته على إحيائكم بعد موتكم لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه.
وفي الآية الثالثة: يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، لا إله غيره ولا رب سواه، يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] من خير وشر، فهو تعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، ويعلم سر عباده وجهرهم، ويعلم أعمالهم وما يكسبونه بجوارحهم، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه].
اللهم ارزقنا ذلك، وأعنا عليه، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر