إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام (34)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دعوة الإسلام هي دعوة الحق، والرسالة المحمدية هي الرسالة الخاتمة المهيمنة على كل ما قبلها من الرسالات، يشهد بذلك ما جاء في كتاب الله العزيز من الآيات، ويشهد بذلك امتلاء كتب السابقين بالتبشير بسيد المرسلين، وعلم أهل الكتاب بذلك علم اليقين، فمن أراد الفوز والفلاح فعليه باتباع الصراط المستقيم، والإعراض عن سبيل أهل الأرض من الغاوين، الذين هم عن دين الله معرضين، وعن شرعه ناكبين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم، قال: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، ولنستمع إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة ثم نشرع في تفسيرها وبيان ما جاء فيها، والله نسأل ألا يحرمنا العلم والعمل.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:114-117].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، ما المراد بالحكم؟ الحكم: هو الذي يحكم بين المختصمين والمختلفين، الحكم كالحاكم، إلا أن لفظ الحكم يدل على وجود خلاف وهو يحكم بين أهله ليبين لهم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.

    فالله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الذين طالبوا بالآيات ليصدقوه فيما يدعيه ويقول ويدعو إليه؛ لأنهم كذبوا برسالته صلى الله عليه وسلم، كما كذبوا بدعوته إلى الله تعالى ليعبد وحده، كما كذبوا بالبعث الآخر ولقاء الله عز وجل، إذ السورة المكية تدور على هذه العقائد الثلاث.

    يقول الله تعالى: قل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، تريدون أن نحكم غير الله؟ الآية التي تظهر لكم، والميت ينطق لكم، والمطر ينزل، هذه آيات، فهل هذه تساوي الله فيما يحكم به؟ ما قيمتها؟ فحسبي -إذاً- أن يحكم الله بيني وبينكم، وقد حكم بأنكم كافرون، مشركون، هالكون، وحكم بأني عبد الله ورسوله، فماذا أبغي بعد ذلك؟ ‏

    توبيخ الكفرة لإعراضهم عن معجزة الكتاب الحكيم المفصل لهدايتهم

    أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114]، تريدون ماذا؟ هذا الكتاب، وهذا القرآن العظيم، ولفظة (الْكِتَابَ) هنا دالة على عظمته، كتاب لا يقادر قدره أبداً، عجزت البشرية عن محاكاته، وعن الإتيان بسورة من مثل سوره.

    وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، أنزله إليهم لهدايتهم من الضلال، لإكمالهم وإسعادهم، وإنجائهم من الخسران والنقصان، أما نزل إليهم وإلى البشرية كلها؟ أنزل الله كتابه لماذا؟ لإصلاح البشرية وهدايتها، من أجل إكمالها وإسعادها، فله الحمد والمنة، فالحمد لله.

    أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، أي: القرآن، مُفَصَّلًا [الأنعام:114] غاية التفصيل، فيه العبادات، الآداب، الأخلاق، الأحكام الشرعية، القصص، الأخبار، كل ذلك في غاية التفصيل، أما يكفيني هذا شاهداً على رسالتي ونبوتي ودعوتي إليه تعالى؟ كيف نطلب لكم آية من الآيات وأعظم الآيات هي هذا الكتاب؟ ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وحق ذلك وثبت، تبعث الأمم ورسلها، والله لا توجد أمة أعدادها أكثر من هذه الأمة المحمدية، وأقرب دليل أن الأمم في مائة سنة أو سبعين سنة تنتهي، وهذه الأمة إلى الآن لها ألف وأربعمائة وسبع عشرة سنة، والإسلام هو الإسلام، والناس يدخلون فيه.

    الاستشهاد على صدق الرسالة المحمدية بعلم أهل الكتاب بحقيقة تنزيل الكتاب من عند الله تعالى

    أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114]، هذا أولاً. وثانياً: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114]، الذين أوتوا الكتاب يعني: التوراة والإنجيل، وأهله اليهود والنصارى، فالذين أسلموا كـعبد الله بن سلام وإخوته، ومن المسيحيين، الكل يعلم أن هذا الكتاب منزل من عند الله عز وجل بالحق، فهل بعد هذا تريدون شهادة دجاجة تنطق أو بعير يقول: هذا رسول الله؟ أيهما أفضل: أن يشهد علماء الكتاب ويصرحوا بصدق هذه النبوة وأن هذا كتاب الله أم طير ينطق؟ لأنهم يطالبون بالآيات الخارقة للعادة تشهد له أنه رسول الله، وفي علم الله أنهم لا يؤمنون، فما الفائدة من أن يحيي لهم فلاناً وفلاناً حتى يكلمهم وهم لا يؤمنون، والذي خلقهم وغرز غرائزهم وطبع طبائعهم قال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7]، وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا [الحجر:14] طول النهار فِيهِ يَعْرُجُونَ [الحجر:14] طالعين هابطين، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15]، أمثال هؤلاء يعطيهم معجزة؟ ماذا يستفيدون؟ والذي لا تؤثر فيه معجزة القرآن كيف سيؤثر فيه غيرها، أمي لا يقرأ ولا يكتب، وقد لبث فيهم عمراً من قبله أربعين سنة، ما قال كلمة منه ولا عرف، ثم ينزل عليه كتاب أعجز الإنس والجن، أفبعد هذا تطلب الدليل على أنه رسول الله؟! أعاقل أنت أم مجنون؟

    معنى قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين)

    وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:114]، يعني: التوراة والإنجيل، يَعْلَمُونَ [الأنعام:114]، يعلمون علم يقين؛ لأنهم عرفوا وآمنوا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، منزل من عند ربكم من الملكوت الأعلى بالحق مصاحباً له ويدعو إليه، ولا باطل فيه في قليل ولا كثير، وما نزل لإبطال الحق، ولكن لإحقاق الحق وإبطال الباطل، إذاً: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114].

    هذا من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فَلا تَكُونَنَّ [الأنعام:114] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، وهل الرسول يكون من الشاكين؟ ولكن أنتم أيها السامعون، فلا تكونن يا من بلغه هذا من الشاكين بعد هذا البيان، بعد هذا العلم وهذه البصيرة، والممتري: هو الشاك، والممترون: جمع ممتر، فَلا تَكُونَنَّ [الأنعام:114] يا رسولنا مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114]، وليس المقصود هو الرسول، بل من باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)، اسمعوا أنتم أيها الشاكون، لا تكونوا من الشاكين والممترين بعد أن لاحت أنوار المعرفة، وتجلت حقيقة أنه كتاب الله ووحي الله، وأن محمداً عبد الله ورسول الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)

    ثم قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115] حال كونها صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، (صِدْقًا) في الأخبار، كل ما أخبر الله به في الكتاب القرآني من أخبار الأولين والآخرين، والملكوت الأعلى، وفي الدنيا، وفي الآخرة، كل أخباره -والله- صدق، ولا يدخلها كذب، ولا يوجد بينها كلمة كذب، ومن هذا الوعود الإلهية والمواعيد، كل ما أخبر به من وعد أو وعيد هو صدق، وكل ما يخبر به الله في هذا الكتاب أحلف بالله إنه لحق وليس فيه شك أبداً.

    وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، ومنها: أنك من المنتصرين، سينصرك الله، وينصر معكم المؤمنين، إذ مضى بهذا كلام الله، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، سوف تدخل البشرية في دينك، ويلتف حولك الملايين، رغم أنف الكاشحين والغاضبين والساخطين، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، اطمئن فالعاقبة لك، النصر لك، دعهم يكذبون، ينكرون، يشكون، وسوف تنتهي هذه كلها، وتلوح أنوار الحق في مكة، ولا يعبد فيها إلا الله إلى يوم القيامة، ولا يبقى صنم ولا وثن، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115] يا رسولنا صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام والقضاء، أحكام الله المنزلة في هذا الكتاب، والله لا يوجد حيف ولا ظلم ولا جور ولا اعوجاج ولا انحراف قط، وسر ذلك أن الله عالم الغيب والشهادة، وسر ذلك أنه خلق الكون وقدره وكتبه قبل أن يوجده، فكيف -إذاً- يقع غير العدل فيه؟ وهكذا في الدماء، في الحدود، في الجهاد، في السلم، في الأموال، في كل الأحكام الشرعية القرآن أعدل ما نزل من السماء في بيان أحكام الله عز وجل، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام:115] يا عبد الله صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.

    صورة من اعتراضات السفهاء على أحكام الله تعالى الصادقة العادلة

    وهل يوجد حكم في القرآن ليس فيه عدل ؟ قالوا: نعم. قلنا: كيف؟ قالوا: التركة توزع، فالرجل يعطى سهمين، والبنت تعطى سهماً، أين العدل؟ وقالوا: الرجل يعطى النصف من تركة امرأته وهي تعطى الربع، وهو يعطى الربع وهي تعطى الثمن! وتخبطوا، وصعدوا وهبطوا وجاسوا كالكلاب؛ وما عرفوا أن جوابهم بكلمة واحدة، ذلك أن المرأة حفظ الله عيشها وقوتها أولاً بوالدها، وثانياً: بزوجها، وثالثاً: بأولادها، ورابعاً: بولاية الله لها، فلماذا تأخذ مثل الرجل؟ المرأة ملكة في بيتها، تأتيها الكسوة واللبن واللحم، والرجل يعرق ويجد ويحرث ويخرق الأرض ويطير في السماء ليأتيها بطعامها وشرابها، وهي جالسة على الأريكة، هل نعطيها النصف؟ سفاهة وعبث، وهذا شأن من لا يؤمنون بالله.

    قالوا: كيف يفضل الرجل على المرأة؟ هذا ما هو بعدل، العدل في حق المرأة -المحفوظ رزقها- أن يعطيها أكثر من الرجل! وحاولوا أن يفعلوا العجب، ولكن القرآن كتاب الله يبقى هكذا تلوح أنواره لمن يريد الهداية الإلهية حتى يرفعه الله تعالى.

    محاولة يائسة لتحريف القرآن الكريم

    وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا [الأنعام:115]، في الأخبار، وَعَدْلًا [الأنعام:115] في الأحكام، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، هل استطاع البشر أن يبدلوا كلمة واحدة في القرآن؟

    إن اليهود والمجوس والنصارى والبوذيين والهندوس وكل الدنيا ضد هذا القرآن، والله ما استطاعوا أن يبدلوا كلمة، ولو قدروا ما وصل القرآن إليكم الآن إلا محرفاً مبدلاً مغيراً، مزيداً فيه، منقوصاً منه، كالتوراة والإنجيل، هل التوراة ذات الألف سورة فيها النصف حق؟ والله لا يوجد، والإنجيل كذلك، لماذا؟ لأن الله ما تولى حفظهما، ولكن تولى حفظ القرآن الكريم، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    اجتمع مرة قسس ورهبان في السودان من قديم في مؤتمر، فقالوا : كيف نستطيع نحذف كلمة (قل) من القرآن؟ (قل) كم حرفاً فيها؟ حرفان: القاف واللام، قالوا: إذا استطعنا أن نحذف (قل) فإننا نستطيع أن نثبت ما قلناه أن هذا القرآن ما هو من عند الله، وإنما هو من ذهن محمد ومن شعوره الصحراوي، فاض بهذه العلوم، ما هو من عند الله، لكن (قل) هذه هي المحنة؛ لأن الله يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، وهل الرجل يقول لنفسه: (قل)؟ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ [آل عمران:64]، هل يقول: أنا أقول: قل يا أهل الكتاب، أو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، مستحيل أن يكون هذا كلامه ويقول: (قل)؟

    إذاً: فانفضوا خزايا نادمين، قالوا: مستحيل أن ننقص كلمة من القرآن، وذلك لحفظ الله له.

    إذاً: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، من أراد إغناءه ما تستطيع أن تفقره، من أراد إسعاده فلن تستطيع إشقاءه، من أراد كماله فلن تستطيع أنت هبوطه ونقصانه، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ [الأنعام:115] لأقوال عباده، الْعَلِيمُ [الأنعام:115] بأعمالهم، لا يقولن قائل كلمة أو بعض كلمة إلا وقد علمها الله عز وجل أولاً، سمع صوته وعلم مقاله، فاحذر يا عبد الله -إذاً- أن تقول الباطل أو تنطق بغير الحق، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله...)

    ثم قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ [الأنعام:116] يا رسولنا.. أيها المبلغ عنا.. يا محمد صلى الله عليه وسلم! وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] وإلى الآن، وإن تطع أكثر من في الأرض، فتسمع منهم ما يقولون، وتنفذ ما يأمرون، أو تترك ما ينهون، إن تطعهم ضللت وما اهتديت أبداً، بل يضلونك عن سبيل الله، تأملتهم هذه أم لا؟ أنت الآن في ديار المسلمين، إن تطع أكثر أهل المدينة والله ما اهتديت، ولن تهتدي إلى الخير، بل يشردونك وينفرونك ويضللونك، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، ما السبب في ذلك؟ قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]، فلهذا لا يحل أن نتبع غير أولي البصائر والنهى، لا نتبع غير أهل العلم والمعرفة، أما أن نتبع كل من يقول وينعق ونجري وراءه فوالله ما اهتدينا، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام:116]، فالذي ما عنده يقينيات ولا أنوار تلوح ولا ثقة فيما يروي عن ربه كيف تهتدي معه وهو يقول بالخرص والظن والشك والارتياب؟

    فلهذا -يا رسولنا- اثبت على الوحي الذي ينزل إليك، ولا تقبل آراء الناس واتجاهاتهم وما يسولون وما يقولون، وهكذا كل داعٍ إلى الله في القرية في أسرته، لو أطاع أخبار امرأته وبناته لا يستقيم، كل واحد يقول له كلمة، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، لأن أكثر من في الأرض جهلاء، ضلال عماة، لا يعرفون الطريق إلى الله، أليس كذلك؟ بلى، وما هي نسبة العالمين بالله والعارفين؟ ليست نسبة واحد إلى المليون.

    وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، هل تعرفون سبيل الله -هداكم الله إليه- ما هو؟

    إنه الصراط المستقيم، أما عندكم صورة منه؟ موجودة: أوامر عن اليمين، ونواه عن الشمال، وامش أنت مستقيماً حتى تقرع باب دار السلام، فإن ملت هنا إلى المنهيات وهبطت، أو ملت إلى ترك الأوامر والواجبات واعتزلت فوالله لن تصل، أتعرفون صراط الله أم لا؟ إنه الصراط المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج، كما قلت لكم غير ما مرة: أوامر عن اليمين، نواه عن الشمال، فولاية الله تعالى تمثل هذا، أي: محاب ومكاره.

    إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116]، إي: وما هم إلا يظنون ويخرصون، والخرص مأخوذ من خرص الفلاح حين يدخل البستان فيخرص بالتخمين: كم صاعاً في هذه، كم مداً في هذه النخلة. يقول ذلك بالخرص، كذلك الذي يقول بدون علم من الله ورسوله: هذا حلال، هذا حرام، هذا يجوز هذا كذا؛ فهو كالخراصين، يصيب في واحدة ويخطئ في عشر، فلا بد من العلم بمحاب الله ومكارهه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

    ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [الأنعام:117]، دعهم يقولوا ما شاءوا أن يقولوا، فربك -يا رسولنا- أعلم بمن يضل عن سبيله وأعلم بالمهتدين، والضال عن السبيل: هو الذي يخطئ الطريق، لا أمر ولا نهي، كالكفار كلهم، ولهذا رسمت في صورة في رسالة ستطبع خطاً مستقيماً في الصفحة، وعن يمينه وعن شماله الأوامر والنواهي، فالذين كفروا خرجوا خروجاً كاملاً عن الطريق، فتحطموا وتمزقوا ثم استقرت حالهم، فما بقي من يأسف ولا يكرب، الزنا عندهم حلال، الربا حلال، القتل حلال، والذين يخرجون من جهة ويعودون من أخرى يبقون في حيرتهم حتى يعودوا إلى الصراط بكاملهم، أو ينفصلوا فيتحطموا.

    وهنا تبجح الضلال والجهال وقالوا: الكفار ليس فيهم خلاف، بل عندهم استقرار في بلادهم، ونحن لماذا في اضطراب؟ فقلنا لهم: ما عرفتم لماذا؟ الكفار خرجوا عن طريق الله نهائياً وسقطوا فتألموا ثم سكنوا، فالزنا حلال، الربا حلال، لا عيب، لا حرام، لا باطل، ما هناك صراع، أما المسلمون فما انفصلوا عن الإسلام ولا قبلوه كاملاً، فهم في اضطرابهم وحيرتهم، إما أن يعودوا إلى الطريق السوي فيكملوا ويسعدوا ويهدءوا، وإما أن ينفصلوا نهائياً فيهلكوا ويهدءوا ويسكنوا بعد ذلك، إلا أننا نرضى بهم حيارى مرتفعين من جهة وهابطين من أخرى أحسن من الانفصال الكلي، أليس كذلك؟

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    والآن نكتفي بهداية الآيات، هذه الآيات تحمل هداية، تهدي إلى ماذا؟ إلى الوليمة في البستان الفلاني! تهدي إلى أي شيء؟ إلى رضا الله وجواره في الملكوت الأعلى، وذلك بتزكية النفس وتطهيرها بهذه العبادات الإلهية، وبذلك تصل إلى مستواها وتنزل بدار السلام.

    إذاً: كل آية لها هداية، كل آية في القرآن من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولن يستطيع ذو عقل أن ينقضها، وبينا ذلك مرات، ذلك أن هذه الآية من أنزلها؟ إنه الله تعالى، وهل هناك من يقول: أمي أو أبي؟ فمن أين جاءت؟ من الله، آمنت بالله منزلها، آمنت بجلاله وكماله، لا إله إلا هو. وعلى من نزلت هذه الآية؟ الذي نزلت عليه لن يكون إلا رسول الله، مستحيل أن يكون غير رسوله، كل آية تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، على علم يقيني.

    قال: [ أولاً: حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي ]، أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [الأنعام:114]، دل هذا على أنه لا يحل أن نتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    [ ثانياً: تقرير صحة الدعوة الإسلامية ]، الدعوة الإسلامية: دعوة الناس إلى الله ليعبد وحده ويسعد العابدون، هذه الدعوة صحتها ثبتت [بأمرين: الأول: القرآن الكريم. الثاني: شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كـعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي المسيحي وغيرهم ]، فهمتم هذا؟ الدعوة الإسلامية ثبتت بماذا؟ بالقرآن الكريم، وبإيمان أهل الكتاب، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام:114].

    [ثالثاً: ميزة القرآن الكريم: أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل ]، هذه ميزة القرآن، هذا ما امتاز به: كل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، لا حيف ولا ظلم ولا جور.

    [ رابعاً: وعود الله تعالى لا تتخلف أبداً ] إذا وعد الله، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، هل تم هذا لرسول الله وأصحابه أم لا؟ والآن والله ليتمنه لأية أمة في بلاد العالم في الشرق أو الغرب إن أقبلت على الله في صدق، وآمنت الإيمان الحق وعملت الصالحات، والله إن فعلت لمكن الله لها في الأرض ولسادت وحكمت، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55]، بم وعدهم؟ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55].

    [ خامساً: اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال ] كما بينت لكم؛ حتى أهل المدينة [ فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه ]، ولا يتبع ولا يمشى وراء أحد إلا أهل العلم، [ لقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89] ].

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797378