وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع سورة الجاثية، وهي من آل حم المكيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:27-32].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الجاثية:27] يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض، هو خالقها وموجدها والحاكم فيها والمتصرف فيها، ولا يملك غيره شيئاً فيها، فهل هذا الإله الحق يترك وتعبد الأصنام والأحجار؟ أهذا الذي بيده ملكوت السماوات والأرض لا يسأل ولا يطلب ولا يتضرع إليه، ولا تطلب الحاجات منه، وتطلب من القبور والأشجار والأحجار؟
هل هذا الذي قدر على إيجاد هذا الملكوت كله يعجز عن أن يوجد البشرية مرة ثانية وقد أوجدها وسيعدمها؟ أيعجزه أن يعيدها مرة ثانية؟ والله! ما يعجزه، فما لهم إذاً يكفرون بالله، ويعبدون غيره ويكذبون رسله، وينكرون البعث الآخر ويدعون أنه لا حياة بعد الموت كما يقولون؟
وسبب ذلك ظلمة جهلهم وسيطرة الشياطين على قلوبهم، وإلا فهذا البرهان كاف: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الجاثية:27] لا يملك معه أحد شيئاً، فكيف يدعى معه من لا يملك؟ كيف يعبد معه من لا يملك؟ كيف يرهب ممن لا يملك؟ كيف يكذَّب بالبعث والجزاء يوم القيامة؟ يا للعجب!
يوم تقوم الساعة التي يكذبون بها ويجحدون وينكرون ويقولون: كيف نعيش بعد الموت؟ كيف نحيا؟ كيف نحاسب؟ كيف كذا؟ يوم تقوم هذه الساعة وتتجلى وتظهر بفناء هذا الكون والحياة الثانية يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27]، يخسر المبطلون الذين يعيشون على الباطل، وهل عبدة الأصنام والأحجار والشهوات والملائكة وعيسى ومريم مبطلون أو محقون؟ والله! إنهم مبطلون، الذين يعرضون عن شرع الله وما بينه لعباده من هذه الأحكام الشرعية وهذه العبادات مبطلون أو محقون؟ والله! إنهم لمبطلون، والفسقة الفجرة الظلمة مبطلون أو محقون؟ والله! إنهم مبطلون، فالمبطلون كلهم يخسرون، ويخسرون ماذا؟ هل شاة أو بعيراً؟ يخسرون أنفسهم وأهليهم، فوالله! ما يرى أحدهم أمه ولا أباه ولا امرأته ولا أخاه مليارات السنين والعياذ بالله تعالى، في عالم لا حد له ولا حصر، هذا هو الخسران، ما هو فقدك الوظيفة أو الشاة أو البعير، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27].
يوم ترى يا أيها السامع، يوم ترى يا رسولنا كل أمة جاثية على ركبها، ما هي واقفة، ما تستطيع، على الأرض جاثية على ركبها تنتظر ما يؤمر به.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا [الجاثية:28] الذي كتب عليها، وهو أعمالها وما دونه الملائكة واستنسخوه، كل أمة تدعى إلى ما عملت.
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28] ما العمل يرحمكم الله؟ إنه مشاهد، محسوس، ملموس، مرئي ليلاً ونهاراً، عمل صالح وعمل فاسد.
العمل الصالح: ما أمر الله به وبينه رسوله ورغب الله فيه ورهب من تركه، ذلكم هو العمل الصالح.
والعمل الفاسد: هو ما حرمه الله ونهى عنه رسوله وبينه، وتوعد الله عليه بأليم العذاب في الدنيا والآخرة.
هكذا يقول تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].
هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية:29] ما فيه كذب ولا زيادة ولا نقصان، بالحرف الواحد، الكلمة التي قلتها دونت كما هي، والنظرة التي نظرتها كما هي، والدليل قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
فالملائكة الكرام الكاتبون هذه مهمتهم، يدونون كل يوم ويسجلون وينسخون، ويجمع كل ذلك في كتاب واحد، ولا عجب الآن مما كشف الله تعالى عنه مما يدل على أننا -والله- لنقترب من يوم القيامة، فالآن هناك قطعة حديد على قدر الكف يكتب فيها ألف كتاب، خمسمائة كتاب، في لوحة على قدر الكف، إذاً: فلا تعجب أنك تعيش ثمانين سنة يكتب عملك ليلاً ونهاراً ويقدم لك في كتاب واحد، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:19-21] وهي الجنة، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:25-32] لم؟ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:33-34].
عجب هذا القرآن! فكيف يضل الضالون؟ كيف لا يهتدي الضالون؟ عجب، ولكن العدو حرمنا من كتاب الله وصرفنا عنه وأبعدنا عن تلاوته والتدبر فيه، بل ودراسته، حتى نعيش كما يعيشون على الفجور والضلال والفساد والشر.
قال تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] من الخير والشر.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ [الجاثية:30] ألا وهي الجنة دار السلام، هي رحمة الله بعباده، أوجدها ليرحمهم بها، جنات نعيم مقيم دائم لا يفنى ولا ينتهي أبداً.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الجاثية:30] آمنوا بماذا؟ بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر حق، أي: الدار الآخرة والساعة وما يتم فيها حق.
ثم عملوا الصالحات: جمع صالحة، ما هي الأعمال الصالحة؟ ما تستطيع أن تهتدي إليها أو تعرفها إلا من طريق كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما أن تسأل أهل العلم إن عجزت عن القراءة والكتابة، وإما أن تقرأ كتاب الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساعتها تعرف الصالحات ما هي، وتعرف ضدها وهي الباطلات المبطلات الفاسدات المفسدات، تعرفها كذلك معرفة حقة من طريق الكتاب والسنة، من طريق طلب العلم.
وقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون العلم من بعضهم، وهذا عبد الله بن عباس الغلام الطاهر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أقف عند باب العالم وأستحي أن أقرع الباب، فأجلس على العتبة وتأتي الرياح بالغبار فتغطيني، وأنام على العتبة، وأستحي أن أقرع الباب حتى يخرجوا إلي!
عبد الله بن عباس يأتي إلى باب الصديق أو عمر أو عثمان أو علي أو فلان أو فلان؛ ليسألهم وليطلب العلم منهم لأنه صغير، فيجلس إلى العتبة ويستحي أن يقرع الباب أو ينادي، فينتظر حتى يخرج الصاحب، فتأتي الرياح فتذر عليه الغبار وينام على العتبة، وحين يخرج أحدهم يأسف له: لم يا عبد الله ؟ لم ما قرعت الباب؟ لم ما ناديتنا؟
هكذا كانوا يطلبون العلم، والله! لمن الأندلس يجيئون على أرجلهم وعلى السفن إلى المدينة على عهد مالك ليرووا الحديث عن مالك ، ونحن ما نسأل ولا نعرف، والكتب متوافرة ولكننا مستمرون -والعياذ بالله- في اللغو والباطل وما إلى ذلك.
قال تعالى: ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الجاثية:30] هذه هي النجاة العظيمة، ألا وهي النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، الفوز ما هو؟ النجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الجاثية:30] ما هو ربح شاة أو بعير.
وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية:31] أجرموا على أنفسهم، وهل يجرم المرء على نفسه؟ أي نعم، كل ذنب تذنبه يقع على النفس ظلمة وعفناً ونتناً، إن لم تتب بسرعة وتمحه وتزيله يتأصل فيها، ثم ذنب ثم ذنب، وإذا بالنفس قد هلكت، فهي مظلمة مجرمة خبيثة منتنة.
كما قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:74-75] الآية.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية:31]؟ الجواب: نعم، كانت تتلى عليهم وكانوا مستكبرين وكانوا فاسدين مجرمين.
وَالسَّاعَةُ [الجاثية:32] آتية جائية لا محالة، والساعة هي يوم القيامة، لا رَيْبَ فِيهَا [الجاثية:32]، إذا قال لهم رسول الله هذا أو أحد الأصحاب، أو أنت تقول لفاسق أو فاجر فإنه يرد عليك: ما ندري ما الساعة؟ ما نحن بموقنين بأن هناك قيامة وبعثاً وجزاءاً وحياة ثانية، مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية:32] فقط وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] ما عندنا يقين على أننا سنبعث أحياء وسنجزى على أعمالنا.
والآية تشمل حتى ضعاف الإيمان، تشمل الكافرين وضعاف الإيمان الذين تراهم ما يعبدون الله، يؤمن بأن لا إله إلا الله، وقد يصوم، قد يصلي، ولا يبتعد عن فجور ولا ظلم ولا شر ولا فساد، وحين تذكره بالدار الآخرة يقول: ما نحن بمستيقنين إن نظن إلا ظناً! والعياذ بالله تعالى.
والله تعالى أسأل أن يتوفانا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، اللهم آمين.. اللهم آمين.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يقع يوم القيامة ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها الآن بفضل الله: تقرير البعث الآخر والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه كما سمعتم، تقرير البعث الآخر والجزاء على الكسب في هذه الدنيا.
[ ثانياً: تقرير عقيدة كتابة أعمال العباد وتقديمها لهم يوم القيامة في كتاب خاص ].
من هداية هذه الآيات: تقرير أن أعمالنا تكتب، والله! إنها لتستنسخ وتجمع ونجدها يوم القيامة في كتاب واحد، وقد بينت لكم أن الزمان قريب والساعة -والله- قريبة، عندي شريط فيه عشرة آلاف كتاب، فلا تقل: كيف تمضي ثمانون سنة وهم يكتبون ليل نهار، فكم سيكون حجم ما يكتبون؟
ومع هذا كان المؤمنون لا يخطر ببالهم ذلك، يعرف أن وعد الله حق وما أخبر الله به حق، وأما الآن فالذي يكذب بهذا أحمق ولا قيمة له.
[ ثالثاً: تقرير أن الإيمان والعمل الصالح سبب الفوز، وأن الشرك والمعاصي سبب الخسران المبين ].
من هداية هذه الآيات: أن الإيمان والعمل الصالح مفتاح دار السلام الجنة، وأن الشرك والمعاصي مفتاح دار البوار جهنم والعياذ بالله، فإما مؤمن عمل الصالحات، أو كافر فاجر والعياذ بالله، هذا في دار النعيم وهذا في الجحيم.
[ رابعاً: الظن في العقائد كالكفر بها والعياذ بالله تعالى ].
هذه حقيقة ما ننساها: الظن في العقائد كالكفر سواء بسواء، إما أن تكون موقناً وإلا فأنت كافر، لو شككت في رسالة محمد أو ظننت فوالله! ما أنت بمؤمن، لو ظننت في قدرة الله أو علمه أو حكمته أو رحمته أو كتابه مجرد ظن فأنت كالكافر؛ بدليل هذه الآية الكاملة: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية:32] هكذا قالوا، كانوا يظنون، فلهذا عقائدنا قائمة على اليقين، وما هو اليقين؟ مثاله: أننا نحن الآن موجودون، فهذا يقين، ونحن نسمع، وهذا يقين، فاعتقادنا بوجود الله تعالى يقين، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقين، وبالبعث الآخر يقين، وبكتاب الله يقين.. وهكذا، ما عندنا ظن، فمن ظن كفر والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر