إسلام ويب

تفسير سورة الجاثية (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دائماً ما يكون الجزاء من جنس العمل، فالذين كذبوا بآيات الله وأعرضوا عنها يعرض الله عنهم يوم القيامة، وينساهم كما نسوا يوم لقائه، ويستهزئ بهم زبانية جهنم كما كانوا يستهزئون بأنبياء الله وعباده المؤمنين، ويحشرون إلى جهنم لهم فيها عذاب مقيم، لا يخفف عنهم وما هم منها بمخرجين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن مع خاتمة سورة الجاثية، وهي من آل حم المكيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:33-37].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية:33] أي: ظهر لهم، لمن؟ لأصحاب النار، للمشركين الكافرين الفسقة الفجرة الظالمين المفسدين، الذين ماتوا على الشرك والكفر والفسق والفجور، فحين تقدم لهم الملائكة كتبهم وما حوته من أعمالهم الباطلة السيئة الفاسدة يظهر لهم ما عملوا.

    وَبَدَا لَهُمْ [الجاثية:33] ظهر لهم سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية:33] فشاهدوا كل قبائحهم مكتوبة من الفسق والفجور إلى الشرك والكفر.

    ثانياً: وَحَاقَ بِهِمْ [الجاثية:33] وأحاط بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الجاثية:33]، ألا وهو عذاب الدار الآخرة؛ إذ كانوا يسخرون، يستهزئون بعذاب يوم القيامة، ولا يؤمنون به، ولا يصدقون به، ذاك العذاب الذي كانوا يسخرون منه ويهزءون يحيط بهم في جهنم.

    وهنا يروى أن العاص بن وائل قال لـخباب بن الأرت وكان له دين على العاص : لئن بعثنا كما تزعمون وكان لي مال وأولاد فسنعطيك هناك! أسدد ما تطلب مني، وهذا هو الاستهزاء والسخرية.

    وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الجاثية:33] ذاك العذاب الذي كانوا يستهزئون به أحاط بهم من كل جانب، فهم في جهنم والعياذ بالله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ...)

    قال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:34] من الذي يقول لهم هذا؟ الرب، الله تبارك وتعالى يقول لهم: اليوم ننساكم ولا نلتفت إليكم ولا ننظر إليكم، ولا ننجيكم ولا نخرجكم مما أنتم فيه من هذا الهم والكرب العظيم، نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية:34] أما كانوا مكذبين بالبعث والدار الآخرة ناسين منكرين مستهزئين؟ ملايين البشر اليوم من اليهود والنصارى والمجوس والكفار نسوا الدار الآخرة، هل يذكرونها؟ هل يبكون إذا ذكروها؟ هل يسارعون إلى الصالحات؟ هل يبتعدون عن الطالحات والمفسدات؟ الجواب: لا.

    وَقِيلَ [الجاثية:34] من القائل؟ الله جل جلاله، يقول لهم: الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية:34] الذي أنتم الآن فيه في جهنم، أو في عرصات القيامة وساحة فصل القضاء.

    معنى قوله تعالى: (ومأواكم النار وما لكم من ناصرين)

    وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ [الجاثية:34] والمأوى يدل على الخلود والبقاء في المكان الذي يؤويه.

    وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:34] من ينصرهم؟ الأصنام، اللات، الحجر، عيسى، الملائكة؟ والله! لا يجدون من ينصرهم حتى يخرجهم من النار، وقد أخبر الجبار بهذا: وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:34]، من أين لهم من ينصرهم؟ هؤلاء الذين ماتوا على الشرك والكفر، على الفسق والفجور، أصحاب النفوس الخبيثة المنتنة العفنة التي تعفنت بأوضار الذنوب والآثام والعياذ بالله.

    هكذا يقول لهم الرب تبارك وتعالى: اليوم ننساكم مقابل نسيانكم أنتم لهذا اليوم، ما كانوا يذكرون الدار الآخرة ولا يعملون لما ينجيهم فيها ويسعدهم أبداً، بل كانوا يعيشون على الفسق والفجور، وعلى الباطل والشر والفساد، فنعوذ بالله منهم ومن حالهم.

    وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ [الجاثية:34] هي المأوى الذي تأوون إليه، والمنزل الذي تستقرون فيه ولا تخرجون منه أبداً، وتبقون فيه أبداً لا موت ولا حياة.

    وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:34] لعلكم تقولون: يوجد من ينصرنا! فوالله! لا ناصر لهم أبداً، وسيخلدون في جهنم، اللهم إلا أن يكونوا من أهل التوحيد فإنهم لا يخلدون في النار، أما المشركون الكافرون فهؤلاء خلودهم أبدي، أما الفساق والفجار من أهل الإيمان من أية أمة فإذا دخلوا النار وعذبوا فيها أحقاباً يخرجون منها بإيمانهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا ...)

    ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ [الجاثية:35] هذا الذي أنتم فيه من العذاب والبقاء في جهنم بسبب ماذا؟ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [الجاثية:35] هذا هو السبب، اتخذتم آيات الله القرآنية سخرية وهزواً، لا تقرءونها، لا تحفظونها، لا تسألون عن معانيها، لا تعملون بما فيها، بل تسخرون وتستهزئون والعياذ بالله تعالى.

    ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ [الجاثية:35] التي هي آيات القرآن الكريم هُزُوًا [الجاثية:35] أي: سخرية واستهزاء، وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية:35] من الأكل والشرب والنكاح واللباس والمراكب والمساكن، هذا هو همهم، هذه هي قلوبهم، هذه حياتهم، لا يذكرون الدار الآخرة ولا يفكرون فيما بعد الموت، بل ولا يفكرون في الموت حتى هلكوا على تلك الصورة البشعة، فهم في جهنم والعياذ بالله تعالى.

    ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ [الجاثية:35] أي: بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [الجاثية:35] فلم تؤمنوا بها ولم تعملوا بها، وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية:35] والحياة الدنيا تغر أو لا؟ أصحاب المال والطعام والشراب واللباس والمراكب يغترون اغترار عجب، ما يفكرون في الدار الآخرة أبداً، ولا يذكرونها، مشغولون باللهو والباطل.

    معنى قوله تعالى: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)

    وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية:35]، إذاً: فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية:35] فاليوم يوم القيامة، يوم دخلوا جهنم لا يخرجون منها، من يخرجهم؟ من يقوى على إخراجهم؟ لا ملك ولا نبي ولا ولي، فضلاً عن الأصنام والأحجار التي كانوا يعبدونها.

    فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا [الجاثية:35] أبداً، أي: من النار، وتظنون أن النار حفرة فيها نار؟!

    نحن نلفت النظر إلى الشمس، هذا الكوكب النهاري الملتهب، قالت العلماء: هو أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وهو كذلك، أكبر من الأرض هذه بمليون ونصف مليون مرة، كله نار ملتهبة، إذاً: فكيف جهنم؟ كيف تكون؟

    قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية:35] من يعتبهم حتى يقولوا: تبنا، لنرجع إلى الدنيا؟ والله! لا عتاب ولا لوم أبداً؛ لأنهم إذا استعتبوا قالوا: تبنا فأرجعنا إلى الدنيا لنعود إلى الإيمان وصالح الأعمال، وهذا مستحيل يوم القيامة، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية:35] أبداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين)

    ثم قال تعالى: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36]، بعد ذلك الجمال والكمال، تلك القدرة العظيمة والعلم والحكمة، ذلك كله استوجب حمد الله وحده، إذاً: فلله الحمد لا لغيره.

    ومن هنا ينبغي أن لا تفارق ألسنتنا كلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، إن أكلنا، شربنا، ركبنا، نزلنا، لبسنا، قلنا، سكتنا، نمنا، استيقظنا، دائماً نقول كلمة الحمد؛ لأنها لله، فلله الحمد.

    والحمد: الوصف بالجميل، كل الجميل لله تعالى؛ إذ هو خالق الجمال وواهبه، فإذا حمدت فلاناً على علمه أو على ماله أو على تقواه فمن وهبه ذلك؟ الله، إذاً: فالحمد لله، فلله الحمد خاصة دون من سواه، ولو نستعرض ما في السورة من أولها إلى آخرها فسنقول حينئذ: الحمد لله، لا لسواه.

    فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ [الجاثية:36] أي: السبع وَرَبِّ الأَرْضِ [الجاثية:36] أي: الأرضين السبع، رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36] من الملائكة والإنس والجن، ربهم وخالقهم وموجدهم والمتصرف فيهم والحاكم فيهم، سبحانه لا إله إلا هو، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36] ومن هم العالمون؟ الملائكة، والإنس، والجن، هؤلاء العوالم، فالحمد لله رب العالمين، فهو رب السماوات، ورب الأرض، ورب العالمين، ورب كل شيء، والله! لا ذرة ولا مجرة في الكون إلا والله خالقها ومالكها والمتصرف فيها، رب كل شيء ومليكه.

    فَلِلَّهِ [الجاثية:36] لا لغيره الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ [الجاثية:36] السماوات سبع، والأرضون -والله- سبع، رَبِّ الْعَالَمِينَ [الجاثية:36] خالقهم ومدبر أمرهم والحاكم فيهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)

    ثم قال تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ [الجاثية:37] أي: العظمة والسلطان والقدرة والقوة الأبدية.

    وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الجاثية:37] العظمة لله في السماء وفي الأرض، السلطان لله، القدرة لله، الحكم لله، هو الذي يعطي ويمنع، ويطرد ويدخل الجنة، هو عز وجل له الكبرياء في السماوات والأرض، ولن تكون لغيره أبداً، وأما من كان ميتاً وحيي ثم يموت فهل يستحق العظمة والجلال والكمال؟ الذي إذا جاع لم يستطع أن يمشي هل يستحق الكبرياء؟

    وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ [الجاثية:37] الغالب الذي لا يغلب، العزيز في انتقامه، ينتقم من الجبارة والطغاة والمتكبرين والمشركين والكافرين، ويذلهم ويهينهم؛ لعزته التي لا تقهر أبداً.

    الْحَكِيمُ [الجاثية:37] في تدبيره، في قضائه، في حكمه، في خلقه، لا يخلو شيء من حكمة الله عز وجل، وقد بينا هذا مرات.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    الآن مع هداية الآيات.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: بيان أن الاستهزاء بآيات الله وشرائعه كفر موجب للعذاب ].

    من هداية هذه الآيات التي تلوناها وتدارسناها من آخر سورة الجاثية: أن من يستهزئ بآية من كتاب الله، بحديث من أحاديث رسول الله، بصفة من صفات الله، بسنة من سنن رسول الله كافر خارج من الملة.

    [ ثانياً: تقرير قاعدة: الجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان ].

    هذه قاعدة قرآنية ثابتة: الجزاء من جنس العمل، إن كان العمل صالحاً فالجزاء الجنة، وإن كان العمل فاسداً فالجزاء النار.

    [ ثالثاً: مشروعية الحمد عند الفراغ من أي عمل صالح أو مباح ].

    مشروعية حمد الله تعالى عند الفراغ من أي عمل، فالله عز وجل لما بين ما شاء أن يبين في هذه السورة قال بعد ذلك: (فلله الحمد).

    و(الحمد لله) هذه الكلمة تزن الدنيا بما فيها، ولا تفارق ألسنتنا ما حيينا: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795349