وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الليلة مع سورة الدخان المكية، وهي من آل حم، وورد في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة ولكنها ضعيفة، والمستحسن منها هو: ( من تلاها يوم الجمعة أو ليلة الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة )، فمن الآن إن شاء الله نأخذ في قراءتها يوم الجمعة في بيوتنا، في بيوت ربنا، في طرقنا ذاهبين آيبين، ما نتركها؛ لأنها بشرى لنا ببيت في الجنة، هذا بالنسبة لمن يحفظها غيباً، والذي لا يحفظها غيباً ويحسن قراءتها في الكتاب يقرؤها في المصحف، والذي لا يحسن أمره إلى الله، ندعو له بالخير.
وها نحن مع هذه الآيات التسع، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:1-9].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: حم [الدخان:1] ما معنى حم؟ الله أعلم بمراده به، ومثل (حم)، (طسم)، (الم)، (المر)، (ن)، (ق)، (ص)، (يس).. هذه الحروف المقطعة الصحابة ومن بعدهم إلى اليوم يقولون: الله أعلم بمراده بها. يفوض أمر فهمها إلى الله، هذا الذي ينبغي.
أولاهما: لما كان العرب لا يريدون أن يسمعوا القرآن، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، إذا سمعتم محمداً يقرأ أو أبا بكر أو عمر ، فصيحوا أنتم بأعلى أصواتكم حتى ما يسمع السامعون القرآن، خشية أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم فيؤمنوا، هكذا فعلوا.
فكانت هذه الحروف المقطعة التي ما سمعوا بها ولا عرفوها في لغتهم تجعلهم يضطرون إلى أن يصغوا ويسمعوا، إذا أخذ القارئ يقرأ: كهيعص [مريم:1] فلا بد أن يسمع، هذه الحروف ما سمعوا بها، ولا نطقوا بهذا الكلام، فيصغي، فأفادت هذه الحروف هذه الفائدة العظيمة، عطلت ذلك الحكم الباطل الذي صدر منهم، وهو ألا نسمع، فإذا بهم يضطرون إلى السماع ويسمعون، وإذا أصغى العربي الذي نزل القرآن بلغته ليستمع يدخل النور في قلبه ويؤمن. هذه لطيفة.
فالله يقسم بما يشاء، حتى بالتين والزيتون وطور سينين، ولكن الإنسان عبد الله لا يحل له أن يحلف إلا بالله، الإنسان لا يحل له ولا يجوز له أن يحلف بغير الله أبداً، لا بأم ولا أب ولا كعبة ولا بيت ولا مصحف ولا نبي، لا يجوز لنا أن نحلف إلا بربنا، فنقول: والله، أو بالله، أو تالله، أو: ومن رفع السماوات ومن بسط الأرض، ومن خلقنا، ومن رزقنا.. فهي أيمان بالله وصفاته.
أما أن تحلف: وحق فلان، والنبي، والكعبة، ورأسك، ورأس أمي؛ فهذا -والله- شرك من أنواع الشرك؛ لأن الذي تحلف به سويته مع الله، فالله يُحلف به، فسويت مخلوقاً مثل الله، أليس هذا هو الشرك؟ أشركت هذا في عظمة الله.
العلاج بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطبيب الحكيم، إذ كانوا في الجاهلية يحلفون باللات، بالعزى، بمناة، يحلف بها ستين سنة، ودخل في الإسلام اليوم، فما يستطيع أن ينساها، ففجأة يقول: واللات، فوضع الحبيب صلى الله عليه وسلم علاجاً لهذه الفتنة، فقال: ( من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله )، فيمحو ذلك الإثم الذي تعلق بقلبه، فليقل: لا إله إلا الله، آمنت بالله، فيزول ذلك الإثم ويمحى، هذه الكلمة تمحوه، وكلمة الحلف بغير الله هي التي ألصقته بالقلب وأثبتته فيه، فلما قال: لا إله إلا الله، آمنت بالله؛ انمحى وزال، فهذا بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعه مسألة أخرى: فأهل مكة كانوا متعودين على القمار، ما لهم مزارع ولا مصانع، التجارة فقط، فكانوا يلعبون القمار، فما ينتبه المرء المسلم منهم حتى يقول: تعال أقامرك، بعد ذلك ينتبه أنه مسلم، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق ) بدينار بدرهم بحفنة تمر ليزول ذلك الإثم، فهذا هو الطبيب الحكيم.
فإن جرى على لسانك: تعال ألعب معك القمار، فتصدق بصدقة، -أية صدقة صغيرة أو كبيرة- تمح هذا الإثم والعياذ بالله.
فكيف نقول: ليلة النصف من شعبان؟
والله تعالى يقول أيضاً: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] وليلة القدر في رمضان أم في شعبان؟ في رمضان.
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3] فهيا نطلب هذه الليلة، إذاً: إذا دخل رمضان فاجتهد أن تحيي لياليه لتحصل على هذه الليلة، فمن أول ليلة صل العشاء وتهجد آخر الليل، فلا بد أن تظفر وتفوز بليلة القدر وهي تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وكسراً، ألف شهر تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وزيادة، فكل من أدرك رمضان وقامه فاز بهذه الليلة ليلة القدر، تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وزيادة.
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3] منذرين من؟ البشرية، أنذرها الله وخوفها ما هي مقبلة عليه من سخط الله وغضبه، من فتن الدنيا وويلاتها، من عذاب الآخرة جهنم وبئس المصير.
هذا خبر الله: إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]، إي والله إنك لمنذر يا رب العالمين، أنذرت البشرية إن لم تؤمن وتستقم على منهج الحق فوالله! لا تسعد، بل تشقى وتخبث وتفسد في الدنيا، ثم تخسر الخسران الأبدي في الآخرة بأن تخلد في عالم الشقاء، تخلد في النار.
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3] في إنزال كتبنا.
واعلموا أن كل شيء سبق أن كتبه الله في كتاب المقادير، وما هو كتاب المقادير؟ اللوح المحفوظ؛ إذ إنه تعالى أول ما خلق خلق القلم، ثم قال: يا قلم اكتب، فقال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة.
هذا اللوح المحفوظ هذا الكتاب إذا جاءت ليلة القدر يؤخذ منه أحداث السنة بكاملها، فهذا يموت وهذا يحيا، هذا يولد له، هذا يفقر، هذا يعز هذا يذل.. كل ما فيها، حتى إن الرجل -والله- ليتزوج ويولد له ويموت في نفس العام، يتزوج وتحبل امرأته بعد سبعة أيام، وتلد بعد تسعة أشهر وما يتم العام إلا وقد مات زوجها، إذاً: كتب في كتاب المقادير هذا.
وهذه الأحداث التي تشاهدونها والله! كلها في كتاب المقادير، وتنزل صورة منها من اللوح المحفوظ ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم تنفذ كلها في عام واحد، واقرءوا قوله: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:4-5] هذا الرب تبارك وتعالى، هو الله الذي أمر هذا، فلا بد أن تؤخذ صورة من اللوح المحفوظ ليلة القدر وتطبق كاملة، ما يغيب منها شيء ولا يضعف شيء.
لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ [الدخان:8] فالأصنام والأحجار، وعيسى، ومريم ، ومن يعبدون من دون الله هل يحييون؟ يميتون؟ من يحيي ويميت؟ ليس إلا الله، إذاً: هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ولا يعبد معه سواه.
وما هي العبادة معشر المستمعين والمستمعات؟ هي طاعة الله في أمره ونهيه، مع حب الله تعالى والخوف منه.
العبادة: فعل ما أمر الله بفعله، واعتقاد ما أمر الله باعتقاده، وقول ما أمر الله بقوله، مع حبه تعالى والخوف منه، هذه هي العبادة.
لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8] إي والله، يقول لكفار قريش: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8] إذاً: فآمنوا واتقوا، آمنوا واعبدوا ربكم، أنتم تؤمنون بأن الله خالقكم ولا تعبدونه! فهذا العلم باطل ما ينفع، ما هو بيقين.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان فضل ليلة القدر وأنها في رمضان ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: بيان فضل ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فأي فضل أعظم من هذا؟ ما فاز بها أحد إلا فاز بعبادة ثلاث وثمانين سنة تسجل له.
[ ثانياً: تقرير عقيدة القضاء والقدر وإثبات اللوح المحفوظ ].
ما معنى القضاء والقدر؟ قضى: حكم، وقدّر: بين الكمية والعدد، قدّر المخلوق المحكوم به في كميته، في زمانه، في مكانه، هذا القضاء والقدر، فهذه الآية دلت على القضاء والقدر.
[ ثالثاً: إرسال الرسل رحمة من الله بعباده، فلم يكن زمن الفترة وأهلها أفضل من زمن الوحي ].
فإرسال الرسل رحمة من الله عز وجل، أليس كذلك؟ ليبينوا للناس الطريق ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة، فإرسال الرسل هل الله في حاجة إليه؟ لا والله ما هو إلا رحمة بعباده؛ حتى يبين لهم الطريق ليسلكوه فيكملوا ويسعدوا، هذا هو الواقع في إرسال الرسل.
[ رابعاً: لم يكن إفراد المشركين بربوبية الله تعالى لخلقه عن علم يقيني، بل هم مقلدون فيه، فلذا لم يحملهم على توحيد الله في عبادته، وهذا شأن كل علم أو معتقد ضعيف ] كما بينا غير ما مرة.
فكفار العرب يقولون: الله هو الذي خلقنا وخلق السماوات والأرض، لكن قولهم هذا ما هو عن علم وبصيرة وفهم ووعي، لو كانوا على علم وبصيرة فلن يعصوا الله أبداً ولن يخرجوا عن طاعته، ولن يكذبوا رسوله، ولن يكفروا بكتابه، لكن تقليد فقط جيل عن جيل يقولون: الله خالقنا هكذا، ولهذا ما انتفعوا، ما هي بيقين في قلوبهم، لو كانت يقيناً لعبدوا الله وطلبوا من رسول الله ما يعبدون به الله حتى يحبهم ويكرمهم، ولكن عن جهل فقط، وهذه عامة، فكم من مؤمن يقول: أنا مؤمن فقط، ما يعرف معنى مؤمن، يقول: محمد رسول الله.. محمد رسول الله، فلم كان رسول الله؟ اتبعه، امش وراءه، قلده حتى تعلم أنه رسول.
فالعلة هي الجهل والعياذ بالله تعالى، فهيا بنا نعمل على إذهاب ظلام الجهل وندخل في أنوار العلم، باجتماعنا في بيوت ربنا كل ليلة من المغرب إلى العشاء على دراسة كتاب الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك طول العام، فوالله! لهذا طريق العلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر