وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع هذه الآيات من سورة الدخان المكية، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:10-16].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في الآيات السابقة التي تدارسناها قوله تعالى: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:7-9].
فكفار قريش الذين نزلت فيهم هذه السورة أخبر تعالى أنهم في شك، ما استجابوا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال الشك من قلوبهم، ما زالوا مصرين على الشرك والكفر والعناد والظلم والاعتداء.
أولاً: من أشراط الساعة الكبرى الدجال والدخان، دخان يصيب البشرية فتصاب بالزكام والعطاس، يخرج الدخان من مناخرها من أفواهها من عيونها، إلا المؤمنين فإنهم لا يمسون بذلك، آية خاصة.
الدخان يعم البشرية في وقت واحد، والمؤمنون ما يضرهم، المشركون والكافرون يصابون ببلاء ما يطاق من هذا الدخان، وهذا من أشراط الساعة الكبرى التي إذا ظهر شرط منها توالت وتتابعت، وعما قريب يظهر الشرط الأول.
أما الدخان هنا فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين حاولوا قتله، اضطروه إلى الهجرة فهاجر، عذبوا رجاله، إخوانه، أبناء الصحابة، فدعا عليهم بدعوة فقال: ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف )، اللهم اجعلها على أهل مكة ومن حولها سنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، يوسف الصديق ابن الصديق الكريم ابن الكريم، واستجاب الله له، فما نزلت قطرة ماء من السماء، ولا نبت نبت ولا عشب وكادوا يهلكون من الجوع، آية من آيات الله، دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة: ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) لعلهم يذكرون ويرجعون ويتوبون، فوالله! لقد أصابهم قحط وجدب فأصبحوا يأتون بصوف الغنم ويلطخونه بالدم ويشوونه على النار ويأكلونه، يأتون بالصوف وهو العهن المنفوش ويلطخونه بدم الحيوان ويشوونه ويأكلونه كاللحم.
ثم بعثوا رجالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يطلبون منه أن يدعو الله لهم ليرفع عنهم هذا القحط وهذا الجدب، ودعا واستجاب الله، ودعا لهم واستجاب الله وعادوا في أحسن ما يكون، هذا معنى قوله تعالى: فَارْتَقِبْ [الدخان:10] يا رسولنا، انتظر يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10].
فانتظر يوم تأتي السماء بدخان مبين، فالغبار يتعالى في الأرض كالسحاب، ثم من شدة الجوع يرفع رأسه فما يرى إلا الدخان، من شدة ما يصيب الرجل أو المرأة من الجوع يصبح يرى الجو كله دخاناً، ما يرى سماء والعياذ بالله.
يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ [الدخان:10-11] المراد من الناس هنا كفار قريش، هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:11] إي والله، سنوات وهم في القحط والجدب، جاعوا وكادوا يموتون بالجوع، أي عذاب هذا؟ عذاب أليم، دعوة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لشدة كفرهم وظلمهم وعنادهم، فاستجاب الله له، وقال: انتظر فسنستجيب دعوتك، وفعل تعالى.
ما نفعهم هذا الإيمان لأنه إيمان كذب، وهذا نظيره إيمان الفساق والفجار والكفار إذا حشرجت النفس في الصدر وشاهد ملك الموت يقول: آمنت، والله! ما ينفعه إيمانه أبداً.
فهؤلاء كفروا، أشركوا، فعلوا العجب، ولما شاهدوا العذاب قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12]، وما كشف عنهم العذاب إلا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إنا مؤمنون كذب، فقد رفع الله عنهم العذاب وعادوا إلى الشرك والكفر وحرب الإسلام والمؤمنين كما كانوا.
فهل عرفتم أنه في حال البلاء ما يقبل إيمان العبد، يقبل إيمان العبد في حال قدرته واستراحته، أما إذا غرغرت فقال: آمنت فما ينفع، إذا رفع السيف على رأسه أو المسدس في صدره فقال: آمنت فما ينفع، لا بد أن يكون في حال وعي وبصيرة وقدرة على الإيمان وغيره.
(أنى) أي: كيف لهم التذكر والبصيرة والمعرفة، وقد جاءهم رسول واضح بين كل شيء، كل ما فيه يدل على أنه رسول الله حتى مشيته، كلامه، كل ما فيه يدل على رسالته والقرآن ينزل عليه، ومع هذا ما آمنوا والعياذ بالله.
وهذا سب وشتم وتعيير، وهو -والله- كذب محض، والله! ما هو بمجنون، ولكن الذي علمه ربه، أنزل عليه كتابه، وبعث إليه جبريل رسوله يعلمه ويخبره، ما علمه الشياطين ولا السحرة ولا الدجالون أبداً، ولكن علمه الله رب العالمين.
فتولوا عنه هكذا وأبوا أن يستجيبوا ويسمعوا كلامه أبداً، حتى لما بعثوا وفدهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا لهم واستجاب الله لهم وزال ذاك القحط والدخان عادوا كما كانوا عناداً والعياذ بالله تعالى.
وهنا لطيفة علمية اعلموها: القلوب إذا قست والنفوس إذا خبثت ما ينفعها شيء في إيمانها، ما تؤمن، كالمرض القاتل الذي يصيب الجسم، هناك أمراض ما تعالج أبداً، ويقول الطبيب: خذوه عني، فكذلك القلوب إذا فسدت تشاهد الآيات ولا تؤمن بها وتقول قولتها كما سمعتم.
هذه اللطيفة العلمية، فعلى الدعاة والهداة أن يعرفوا هذه الحقيقة، وأن يدعو الناس إلى الله، فمن استجاب فذاك، ومن أعرض وأبى أن يستجيب فعليه إعراضه، وأنت لا يحزنك ذلك ولا يؤلمك؛ لأن القلوب بيد الله، هذه سنته، القلب إذا مرض صاحبه ما يشفى، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].
ومن شعر بضلاله وفساده وقرع باب الله: يا رب هدايتك، اللهم اهدني فيمن هديت؛ استجاب الله له، ما يرد الله تعالى داعياً يسأله الهداية أبداً، كل من طلب الهداية من الله وألح على ربه: يا رب يا رب؛ هداه، ويتغير قلبه ويصبح نوراً وإشراقاً.
لقد شاهدوا أنوار النبوة والقرآن ينزل عشر سنوات والرسول في مكة وما آمنوا، فلما شاهدوا هذا البلاء والقحط ادعوا أنهم سيؤمنون إن رفع، وما إن رفع ذلك العذاب حتى عادوا إلى الكفر والشرك والعياذ بالله، فهو تعالى أخبر بهذا: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] عادوا إلى ماذا؟ إلى شركهم وحربهم للرسول والمؤمنين.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: صدق وعد الله لرسوله واستجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ].
أما قال: ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف )؟ مرت عليهم سنوات ولا مطر، أصابهم القحط والجدب والجوع، ولما قالوا: آمنا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله له ورفع عنهم العذاب.
[ ثانياً: الإيمان عند معاينة العذاب لا يجدي ولا ينفع ].
يا معشر المستمعين والمستمعات! آمنوا، أسلموا، اعبدوا الله، اتقوه وأنتم قادرون على الطاعة والعمل، أما عند الغرغرة والمرض القاتل فما تنفع التوبة، الآن وقت التوبة، أما إذا حشرجت في الصدر وشاهدت ملك الموت ومن معه وقلت: لا إله إلا الله؛ فما يجدي ذلك ولا ينفع.
قال المؤلف في الهامش: [ لا منافاة بين هذا الدخان الثابت بالقرآن والسنة، وبين الدخان الذي هو من أشراط الساعة والثابت بالسنة الصحيحة في حديث مسلم ، وهو أنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ]، نار تخرج من عدن تسوق الناس كلهم إلى فلسطين إلى أرض المعاد، فهذه الآيات العشر ما ظهرت منها ولا آية، لكن اعلموا أنه متى ظهرت واحدة تتابعت فتوالت.
[ ثالثاً: بيان ما قابلت به قريش دعوة الإسلام من جحود وكفران.
رابعاً: إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك آية أنه وحي الله وكلامه تعالى ].
فإخبار القرآن بالغيب وصدقه في الخبر يدل دلالة قطعية على أنه كلام الله ووحيه، ما هو بشعر ولا تدجيل ولا كذب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر