وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع هذه الآيات من سورة الزخرف المكية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:24-32].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ [الزخرف:24]، وفي قراءة سبعية: (قل أَوَلَو جئتكم)، وهذه قالها المرسلون من نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24] أفتؤمنون بي وتتبعونني أو لا؟ أخبروني إن جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الشرك والكفر والضلال والفساد.
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24]، قالتها كل الأمم لرسلهم: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24]، اعترفوا لهم بالرسالة، ومع هذا قالوا جاحدين منكرين مكذبين: لا نصدق بما تقولون، قالوها لنوح ولهود ولصالح ولإبراهيم ولموسى ولعيسى، وقالتها قريش في مكة، إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:24] منكرون مكذبون جاحدون، ما نقبل ما تدعوننا إليه.
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ [الزخرف:25] يا رسولنا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25]، كانت أسوأ ما تكون من دمار وخراب، وحتى قريش الذين نزلت فيهم الآية هذه أذلهم الله في بدر وقُتل منهم سبعون والعياذ بالله، أهلكهم الله وماتوا على الكفر.
فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف:25] كانت دماراً وخراباً.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ [الزخرف:26] الكافر المشرك وَقَوْمِهِ [الزخرف:26]، الكل ماذا قال لهم؟ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] اللهم إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27] أي: خلقني، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27].
تبرأ من عبادة الأصنام كلها، واستقر أمره على عبادة ربه فقال: إِلَّا [الزخرف:27] عبادة الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27] ومعنى فطرني: خلقني من غير مثال سابق، إيجاد لم يسبقه وجود.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] إلى ما فيه سعادتي وكمالي، سيهديني إلى ما يحب لي ويحبه هو من العبادات والطاعات، حتى أكمل بذلك وأسعد في الدارين، واستجاب له الرحمن الرحيم.
الجواب: لا، فلا خالق إلا واحد ألا وهو الله المعبود الحق، هو الإله الحق لا إله غيره ولا رب سواه أبداً.
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28] ورجع من رجع وهلك من هلك.
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ [الزخرف:29] بالحياة حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف:29]، من هذا الرسول؟ هذا محمد صلى الله عليه وسلم، ما هذا الحق الذي جاءهم؟ القرآن الكريم وما يحويه من الشرائع والعبادات والأحكام، هذا هو الحق وهذا الرسول صاحبه وحامله.
قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ [الزخرف:30] الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قَالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف:30] وليس بحق، بل هذه خيالات وضلالات، وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:30] غير مؤمنين ولا مصدقين، بل مكذبون وكافرون.
فهل فهمتم فلسفة الناس أو لا؟ الشيطان يمليها: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، ينزل على محمد الفقير المسكين، والوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود في الطائف من أعظم رجالاتهم، فقالوا: لِمَ لم ينزل القرآن عليهما؟
فالشياطين تحسن لهم الباطل وتزينه لهم للفتنة، فماذا قالوا؟ قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ [الزخرف:31] أي: الكريم العظيم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ [الزخرف:31]، قرية مكة العظيمة وقرية الطائف كذلك، الوليد بن المغيرة في مكة وعروة بن مسعود في الطائف.
فبماذا رد تعالى عليهم؟
قال تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] هذا غني وهذا فقير، وهذا مريض وهذا قوي وهذا ضعيف، نحن الذين قسمنا هذا، كيف يقترحون علينا أن نقسم على فلان وفلان؟
هذا إنكار عليهم وتوبيخ لهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]؟ من أين لهم ذلك؟ كيف يكون لهم؟ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32] هذا يملك مائة بعير ويملك كذا وكذا، وهذا فقير يتكفف بيديه، هذه قسمة الله.
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32] متفاوتة، والسر في ذلك والحكمة والعلة: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32]، وليس السخري هو الاستهزاء، وإنما المراد التسخير، أي: عمالاً، وهذه سنة الله، فلو أغنى الله أهل المدينة فمن أين سيجدون العامل مثلاً؟ لو أغنى الله أهل مكة كلهم فمن سيخدمهم؟
لا بد من وجود فقراء يعملون للأغنياء، هذه سنة العليم الحكيم، تدبير الله: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32] أي: عمالاً وخدمة، لهذا أغنينا فلاناً وأفقرنا فلاناً، أغنينا وأفقرنا عبادنا لهذه العلة؛ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32] لو كانوا أغنياء فمن يحرث الأرض؟ من يزرع؟ من يحصد؟ من يبني ومن يهدم؟
هذا تدبير العزيز العليم، فسبحان الله العظيم!
هكذا يقول تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الزخرف:32] أي: في الغنى والمال. لماذا فعل هذا؟
قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف:32] أي: خدماً وعمالاً.
وأخيراً قال تعالى: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] من قناطير الذهب والفضة، ورحمة ربك خير مما يجمعون من الأموال والتراث وما إلى ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر