أما بعد: ها نحن مع سورة القلم المكية، ومع هذه الآيات، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:8-16].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في الآيات الكريمة قول الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم:7]. وبناءً على هذا: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8] الكافرين. فقال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ [القلم:7] يا رسولنا! هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [القلم:7]. وهو الإسلام الموصل إلى سعادة الدارين، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم:7]. وأنت من المهتدين، وبناءً على هذا فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8]. فنهى ربنا تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عن طاعة المكذبين، وهم المكذبون بالله ولقائه، وبرسوله وكتابه. فهؤلاء لا تطعهم يا رسولنا! وهكذا على كل مؤمن ومؤمنة ألا يطيع كافراً أو كافرة في أمور الدين؛ حتى لا يعرضوا عليه دينهم, أو يتهاونون بدينه فيطيعهم, وهم لا طاعة لهم, وقد قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8] بالله ولقائه ورسوله, وهم الكافرون والمشركون في مكة. فعلى كل داع إلى الله ألا يطيع الكافرين إذا عرضوا عليه أن يشرب خمراً، أو عرضوا عليه أن يكشف وجه امرأته، أو عرضوا عليه أن يقول الباطل من أجل الدنيا، فلا يصح أن يطيعهم أبداً, وقد قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8].
والمداراة هي: أن تتنازل عن شيء من دنياك .. من مالك .. من صحتك؛ لتحفظ شيئاً من دينك.
والمداهنة عكس ذلك, فهي: أن تتنازل عن شيء من دينك؛ لتحصل على شيء من دنياك. هذه هي المداهنة والمداراة, فالمداراة هي: أن تداري الكفار بأن تتنازل عن شيء من دنياك .. من مالك .. من كذا؛ لتحصل شيئاً من دينك. فدارهم ما دمت فيهم.
والمداهنة هي: أن تتنازل عن شيء من دينك؛ لتحفظ شيئاً من دنياك. والمداراة جائزة, والمداهنة محرمة؛ لقول الله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9].
فيا معشر المستمعين والمستمعات! المداراة جائزة, وهي: أن تداري الفساق والفجار والكفار، وهي: أن تتنازل عن شيء من دنياك؛ لتحفظ شيئاً من دينك. وأما المداهنة فهي: أن تتنازل عن شيء من دينك؛ لتحفظ شيئاً من دنياك. فهذه محرمة, ولا تجوز أبداً. فاعرفوا هذا. وقد قيل: دارهم ما دمت في دارهم، ومعنى تداريهم كأن تعطيهم يشربون .. يأكلون، أو تعطي الشخص ريالاً، أو تقرضه المال, فهذا لا بأس؛ لتحفظ دينك. وأما المداهنة فهي: أن تتنازل عن الصلاة .. عن الصيام .. عن ذكر الله .. عن كذا؛ لأجل أن تحفظ دنياك, فهذا لا يجوز, فالمداهنة حرام, والله يقول لرسوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]. فلا تداهنهم.
إذاً: فقوله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ [القلم:10], أي: من المشركين, فهم يحلفون بالكذب, ويكثرون الحلف؛ حتى يضلوا الضالين, ويزيدوا في ضلالهم. والعياذ بالله. فهذا الرجل يا رسولنا! لا تطعه, وهو الوليد بن المغيرة أو عقبة بن أبي معيط أو أبو جهل . فهو واحد من هؤلاء في مكة.
والمهين: الحقير الذي لا قيمة له من المهانة، وهو كثير الفساد والشر والضعة. هذه توجيهات الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأمته تابعة له في ذلك.
وقوله: هَمَّازٍ [القلم:11], الهمز واللمز: الطعن. ومن هنا لا يحل لأحدنا أن يلمز أو يطعن في مؤمن أبداً، لا في عالم ولا جاهل. فلا نتصف بالصفة التي حرمها الله، فلا لمز ولا طعن، بل نقول كلمة الحق علناً، وأما الغيبة والنميمة وفلان فاسق وفلان كذا فلا نقول هذا, ولا نقبل عليه.
هذه ولاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليحفظه وليكمله، ولينصره ويؤدبه بهذه الآداب، ويعلمه بهذه العلوم والمعارف, وأمته تابعة له في ذلك.
وقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ [القلم:13], أي: بعد هذا الذي وصفناه به من كونه حلافاً مهيناً، همازاً مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، ومع ذلك فهو عتل، أي: ظالم معتدٍ، طبعه الاعتداء. وهو زنيم؛ لأنه ليس بشريف أبداً، فهو ليس من قبيلة قريش، بل من قبيلة أخرى.
وهنا لطيفة, وهي: إياك أن تغريك كثرة المال وكثرة الولد وتفسدك! فكثرة المال للإنسان وكثرة الأولاد يحمل على التكبر والتجبر والطغيان، وقد يحمله على عدم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا الطاغية سبب طغيانه هو كثرة ماله وأولاده, فتجده معتزاً بذلك متفاخراً مترافعاً، ولا يريد أن يذعن ولا أن يصلي ولا أن يطيع.
فقد كان هكذا إذا قرئت عليه آيات الله، أي: آيات القرآن الكريم، فبدلاً من أن يقول: آمنت بالله ويبكي؛ يقول: هذه أساطير الأولين، وليس هناك وحي ولا رسول ولا غير ذلك, وإنما هي حكايات فقط, يرثها من فلان وفلان ويتكلم بها. وهذا كفر واضح, بل هو من أبشع الكفر, والعياذ بالله. وقد عانى منه رسول الله، فقد لازمه ثلاث عشرة سنة, وكان يسمعه الليل والنهار، ويتعرض لحياته بالليل والنهار. فصلوا على رسول الله وسلموا تسليماً.
فهذا الرجل كان إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [القلم:15], أي: حكايات مما مضى, يعيدها محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن حكايات. مع أن القصص الذي فيه لا يمكن لأحد من الأرض أن يعرفها أو يقولها، ومع ذلك ففيه الأحكام والشرع, والعبادات والعقائد. فهو كتاب الله. ووالله لن تسعد البشرية لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالإيمان به والعمل به. ولكن هذا هو شأن الكافرين إلى اليوم، فالآن إذا قرأت القرآن على يهودي أو نصراني أو مشرك فلن يقول: آمنا بالله، ولن يقول: إن هذا كلام الله, بل يقول: أساطير الأولين. وذلك حتى تمتلئ جهنم بالناس. فهذه سنة الله. وسبب وجود هذا الكفر والكفار حتى يملئوا جهنم، فهذا العالم في عالم الشقاء, فهم ينزلون فيه ويملئونه.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: التنديد ] والعيب الشديد [ بأصحاب الصفات التالية ] المذكورة, وهي: أولاً: [ كثرة الحلف بالكذب ] فيا ويل الذين يحلفون بالكذب! ويكثرون من الحلف كاذبين؛ ليضلوا الناس, أو يسلبوا أموالهم, أو ينتهكوا أعراضهم.
وعلينا أن نحلف بالله فقط, ولا نحلف بغيره، ولا نكثر من الحلف ونحن كاذبون أبداً، ولا نحلف إلا بحق، وأما هؤلاء فيحلفون بالكذب, ويكثرون الحلف؛ لتضليل الناس إفسادهم.
ثانياً: [ المهانة ] فالذي يهين المؤمنين ويزدريهم ولا يحترمهم ولا يكبر من شأنهم فيا ويله.
ثالثاً: [ الهمز والنميمة ] أي: الذي يهمز دائماً, ويطعن في فلان وفلانة. فهذا الهمز ممنوع ومحرم, وهو من أقبح الصفات.
رابعاً: [ الغيبة ] أي: الذي يغتاب الناس ويتحدث في غيبتهم وينم ويقول: فلان يفعل، وفلان يفعل, ويقول هذا كذباً, والعياذ بالله. والمسلم لا يرضى بهذه الصفات, ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفات. ونعوذ بالله منها.
خامساً: [ البخل ] والعياذ بالله. فمن استطاع أن يسقي عطشان فيسقيه، أو يشبع جائعاً فيشبعه، أو يكسو عاري فيكسوه. فلا يبخل المؤمن أبداً.
سادساً: [ الاعتداء ] والظلم، فالذين يعتدون على الناس بظلمهم وبضربهم وبأخذ أموالهم وبقتلهم -والعياذ بالله- شر الخلق.
سابعاً: [غشيان الذنوب ] فنبرأ إلى الله أن نزني أو نرابي، أو نكذب أو نخون، أو نخدع أو نظلم مؤمناً، أو نغش أبداً، أو نترك فريضة من فرائض الله، أو نترك واجباً من واجبات الله، أو نغشى محرماً مما حرم الله من قول أو عمل أو اعتقاد؛ حتى لا نكون من أصحاب هذه الصفة الذميمة.
ثامناً: [ ثم الغلظة والجفاء ] والغلظة هي الشدة, وهي معنى عتل، والجفاء أي: فيه يبوسة، وليس فيه خير أبداً، بل كلماته قاسية، ونظراته قاسية، وهكذا. ونعوذ بالله من هذه الصفة.
تاسعاً وأخيراً: [ الشهرة بالشر ] والعياذ بالله. فهو يفعل الشر حتى يُسمع ويُعرف أن فلاناً يفعل كذا ويفعل كذا, والعياذ بالله تعالى. ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفات.
[ ثانياً: ] من هداية الآيات: [ التحذير من كثرة المال والولد؛ فإنها سبب الطغيان ] وتحمل الإنسان على الطغيان, كما قال تعالى: [ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ] فلما يرى أنه مستغنٍ وما يحتاج إلى أحد يطغى, والعياذ بالله.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلاً ] وسواء عامة أو خاصة، فمن كذب بآية فهو كمن كذب بالقرآن كله [ والعياذ بالله تعالى ].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر