أما بعد: ها نحن الليلة مع سورة المرسلات المكية، وهي خمسون آية. ومن اللطائف الواردة فيها: أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: صليت بها فسمعتني أم الفضل -أي: أمه- فقالت: ذكرتني يا عبد الله ! إنها آخر ما سمعت من رسول الله، ( صلى بنا المغرب, فقرأ بالمرسلات ). فهيا بنا نصغي مستمعين إلى بعض الآيات تتلى علينا مجودة مرتلة, ثم نتدارسها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:1-15].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1], المرسلات: الرياح المتتالية بعضها بعد بعض. وقد حلف الله تعالى بها هنا، فالواو واو القسم, فقال: وَالْمُرْسَلاتِ [المرسلات:1]. وقد حلف هنا بخمسة أشياء: أولاً: المرسلات، وهي الرياح المتتالية, فقال: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1].
وثانياً: العاصفات، وهي: الرياح الشديدة القوية, التي تعصف بالشجر وتقتلعه، والمباني وتهدمها؛ لقوتها وشدتها, فقال: فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا [المرسلات:2].
وثالثاً: وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [المرسلات:3], وهي الرياح التي تنشر السحب والأمطار في السماء.
ورابعاً: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا [المرسلات:4]. والفارقات: الآيات القرآنية المفرقة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين التوحيد والشرك، وبين الخير والشر. فأقسم الله بهذه الآيات المفرقات.
وخامساً: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات:5]. والملقيات: الملائكة التي تلقي بالوحي على من اصطفى الله وأراد من أنبيائه ورسله, فقال: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [المرسلات:5-6], أي: يأتون بالوحي إما لإعذار من يستحقون الإعذار، أو بإنذار من يستحقون الإنذار، وإما بالرحمة وإما بالعذاب.
هكذا حلف الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، وقد حلف بمخلوقاته، فالمرسلات هو مرسلها, والعاصفات هو موجدها, وهكذا.
فالله عز وجل يحلف من أجلنا، فنحن عبيده؛ وذلك لتطمئن نفوسنا, وتسكن أرواحنا, وتهدأ قلوبنا بالخبر العظيم الذي أخبرنا به. وهذا الخبر العظيم هو قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7]. وهذا الخبر جواب القسم.
فاعلموا معشر المستمعين والمستمعات! أن من أراد أن يحلف فليحلف بالله، لا بالملائكة ولا بالكتب ولا بالرسل, ولا برأس فلان ولا بحق فلان، ولا بالكعبة ولا بكذا، واحذروا ما يفعله الجهال والعوام, فإنهم يحلفون بكل شيء، ونسوا الله عز وجل.
واعلم أنك حين تحلف بأحد تكون قد رفعت درجته وسويته بالله, وجعلته رباً مع الله. هذه هي الحقيقة. فلأنك رفعت قدره وعظمته وجعلته مساوياً لله حلفت به، فلهذا من حلف بغير الله فقد أشرك، وقد أعلن هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: ( ألا -أي: انتبهوا- إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت ). فما بقي لمؤمن أن يحلف بغير الله.
وقد عرفتم الآن: أن المحلوف به معناه: أنه قد رُفع إلى درجة الربوبية، وأصبح مثل الله، وإلا لم يُحلف به. فلا ترفع الطين إلى السماء, ولا ترفع الخلق إلى الخالق. ولذلك لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أبداً أن يحلف بغير الله، ومن تعمد ذلك وحلف فقد أشرك بالله في عظمته وألوهيته.
هكذا قال تعالى هنا: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [المرسلات:1-6]. وهذا القسم من أجل قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ [المرسلات:7]. وهو أن الجنة دار النعيم لأهل الإيمان وصالح الأعمال، وأن النار والشقاء للكافرين. والعياذ بالله تعالى. فالذي توعدون به لواقع لا محالة، فقد وعدنا بهذا الله عز وجل، فقد أوجد عالمين: عالم السعادة وسماه الجنة، وعالم الشقاء وسماه النار. ونحن في الدنيا نشاهد مظاهر للسعادة ومظاهر للشقاء، مجرد مظهر فقط، وأما السعادة الأبدية فهي في الجنة دار السلام، حيث لا مرض ولا كبر, ولا موت ولا غير ذلك, وأما الشقاء ففي جهنم, حيث لا رحمة أبداً.
وفي قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات:7] تقرير عقيدة البعث والجزاء، أي: لا بد وأن يبعث الله الإنس والجن بعد موتهم، وأن يحاسبهم ويجزيهم بما وعد.
ثم إن هذه النجوم تطمس, ولا يبقى فيها نور ولا ضوء أبداً, كما قال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ [المرسلات:8]. والذي يطمسها هو الله, الذي يقول للشيء: كن فيكون على الفور.
ثم قال تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ [المرسلات:9], أي: تفرجت وانشقت، كما قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:1-4]. فالسماء هذا السقف العظيم يتشقق ويسقط. وكذلك وَإِذَا الْجِبَالُ [المرسلات:10] الضخمة العالية, ومنها جبال التبت وجبال الحجاز نُسِفَتْ [المرسلات:10]. في أي مكان كانت هذه الجبال, فهي تنسف نسفاً, وتتحول والله إلى غبار. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات:11], أي: وقت الله لها وقتها, وهو ذلك اليوم يوم القيامة. والرسل جمع رسول. وعدد الرسل -يا طلبة العلم! ويا أهل الحلقة!- ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً والله, أولهم نوح عليه السلام, وآخرهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الأنبياء فمائة وأربعة وعشرون ألفاً.
والنبي غير الرسول، ولكن كل رسول نبي والله العظيم؛ إذ لا يرسل حتى ينبأ، ولما ينبئه ويخبره ويعلمه يبعثه، فكل رسول نبي, وليس كل نبي رسول؛ لأنه قد ينبئه ولا يرسله إلى أي قرية أو مكان في الأرض. فكل رسول نبي, وليس كل نبي رسول.
ثم قال تعالى بعد قوله: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات:11-12]؟ فيا عباد الله! هذا التوقيت الإلهي لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات:12].
وهذا اليوم الذي يتم فيه هذا الفصل مقداره خمسون ألف سنة، كما قال تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]. ويكون يوم الفصل هذا يوم تشقق السماء -كما تقدم- ويتغير الكون.
هكذا يقول تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات:12]؟ والجواب: لِيَوْمِ الْفَصْلِ [المرسلات:13].
ثم قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات:14]؟ أي: من أعلمك؟ فأنت لم يعلمك به أحد سوى الله عز وجل.
فاحذروا أن تكونوا من المكذبين! وقولوا: نحن والله من المصدقين، ولن نكون من المكذبين أبداً. فعلينا إذا سمعنا عن ربنا شيئاً وأخبرنا به أن نؤمن به ونصدقه، وإذا أخبرنا رسولنا بشيء صدقناه وآمنا به، ولن نكون أبداً إن شاء الله من المكذبين. والويل للمكذبين.
وكل كافر مكذب من أمريكا إلى الصين، وكل مشرك مكذب، وهكذا. والمؤمنون هم: المقيمون للصلاة، المؤتون للزكاة، الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، الذاكرون الله، الخاشعون بين يدي الله. وهؤلاء هم الناجون بحمد الله، ولا ويل لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في القبر ولا خارج القبر، فلا ويل لهم أبداً، بل الويل يومئذ للمكذبين. وقد بين تعالى صفاتهم في الآيات الآتية.
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:
[ أولاً: تقرير عقيدة ] ومبدأ [ البعث والجزاء ] أي: تحقيق وتقرير يوم القيامة، وأنه لا بد منه، وفيه تقوم الخليقة كلها بين يدي الله؛ ليحاسبها ويجزيها، إما بالجنة وإما بالنار، ولا مكان بين ذلك.
[ ثانياً: لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عز وجل ] فقد علمنا ربنا أن له أن يقسم بما يشاء من مخلوقاته، وأما نحن فلم يسمح لنا أن نقسم إلا به، وأما الله فيحلف بما يشاء، بالليل والنهار .. بالشمس والقمر .. بالتين والزيتون، وبما شاء الله أن يحلف، مع العلم أنه لما يحلف بالشيء يلفت النظر إلى أنه خلقه, وأنه هو الذي أوجد هذا التين, وأوجد هذا الزيتون, ورفع السماء, وهذا ليلفت النظر إلى أن نقول: آمنا بالله! ولا إله إلا الله!
[ ثالثاً: علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام؛ وهي انطماس ضوء النجوم، وانفراج السماء، ونسف الجبال ] وكيف تذهب هذه الكائنات وتذوب، وتصير بخار، والسماء كذلك.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ الوعيد الشديد بالويل -الذي هو واد في جهنم, تستغيث جهنم من حره- للمكذبين بما يجب التصديق به من أركان الإيمان الستة، والوعد والوعيد الإلهيين ] وللكافرين والفاسقين والفاجرين. وويل واد في جهنم، تستمد جهنم حرها منه، والعياذ بالله. فويل للمكذبين! سواء كانوا مع نوح أو كانوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، أو مع عيسى أو مع موسى. فكل من كذب الله ورسوله والله ما عبد الله ولا أطاعه, وهو من أهل هذا الويل, والعياذ بالله. ونحن نبرأ إلى الله من أهله.
قال في النهر: [ وقيل: إن هذا الوادي هو مستنقع صديد أهل الشرك والكفر؛ ليعلم أهل العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتناً، ولا أشد مرارة، ولا أشد سواداً منه، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم وادٍ في جهنم ] فهو أعظم واد من أودية النار, والعياذ بالله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر