أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة المزمل المكية المدنية، وهذه الخاتمة مدنية، فلنصغ مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]. يقول تعالى لرسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَبَّكَ [المزمل:20] يا رسول الله! يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل:20]، أي: من الأصحاب. وقد تقدم أن الرسول كان يقوم الليل، وأن أصحابه كانوا يقومون الليل، وبعضهم نصف الليل، وبعضهم ثلث الليل، وبعضهم ثلثي الليل، حتى تورمت أقدامهم وانتفخت، فلما علم الله ذلك منهم أراد أن يرحمهم فيخفف عنهم، فلا يجعل قيام الليل واجباً على أحد، لا على رسول الله ولا على أصحابه, ولا على المؤمنين والمؤمنات، وإنما أن يكون مستحباً ومندوباً ونافلة وفضيلة، وأما الوجوب والفرضية فليس واجباً ولا فرضاً. فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [المزمل:20], أي: ساعات الليل والنهار يقدرها الله, ويحصيها ويعرفها كما هي. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] أنتم، وما تستطيعون تعدون ساعات الليل كاملة وتعبدون الله فيها. فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20], أي: نسخ ذلك الحكم, وعوضكم التوبة منه.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي في الليل ثلاثة عشر ركعة، وكان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين, ثم يصلي ركعتين, فلا تسأل عن طولهما، ثم ركعتين, ثم ركعتين, فهذه ثمان ركعات، ثم يصلي الشفع ركعتين، وفي آخر أيامه كان يصليهما جالساً، ثم يوتر بركعة، فتصبح إحدى عشر ركعة، وإذا أضفنا الركعتين اللتين في افتتاح الصلاة فهي ثلاثة عشر ركعة، ما زاد على ذلك فلا بأس، وما زال أهل الإيمان والصلاح يصلون هذا العدد، وفي رمضان منهم من يصلي ثلاثة وعشرين, ومنهم من يصلي خمسة وعشرين، والكل واسع. وقد قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20], يعني: بذلك القراءة في الصلاة التي تصلونها.
وقوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20], أي: من القرآن، في ركعتين .. أربع .. ست .. ثمان .. عشر، سواء مائة آية أو عشر آيات.
فبعدما خفف عنهم قيام الليل ويسره لهم وأصبح مستحباً فاضلاً, وليس فريضة ولا واجباً أرشدهم إلى ما هو أعظم، فقال: إذاً: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المزمل:20]. والقرض الحسن هو الذي ما فيه رياء ولا سمعة ولا غير ذلك.
هكذا يقول تعالى لهم: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل:20] يوم القيامة، الحسنة بعشر، والحسنة بمائة، والحسنة بألف، كما قال تعالى: هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
هكذا يرشد تعالى عباده المؤمنين, فقد يبين لهم أنه نسخ عليهم قيام الليل؛ لأنهم ما يستطيعونه، وأرشدهم إلى العلل التي تمنعهم من ذلك، وهي: السفر والجهاد والمرض، ثم أرشدهم إلى فعل ما هو خير، وهو فعل الفرائض من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد في سبيل الله, ثم بشرهم بأنه يتوب عليهم, ويغفر لهم, وهو الغفور الرحيم.
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي قرأناها وتدارسناها:
[ أولاً: بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجداً ] فقد كانوا يقومون أحياناً نصف الليل، وأحياناً ثلثي الليل، وأحياناً ثلث الليل، ثم لطف الله بهم وبنا, ورحمنا وإياهم, فرفع هذا الواجب وجعله مستحباً.
[ ثانياً: نسخ واجب قيام الليل, وبقاء استحبابه وندبه ] فقد كان قيام الليل كان واجباً، فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]. وبين أن هذا له وللمؤمنين معه، ثم نسخ الله تعالى هذا الواجب, وتركه مستحباً، والمستحب الفاضل من ركعتين إلى ثلاثة عشرة ركعة إلى ما شاء الله، في حدود طاقتك وقدرتك.
[ ثالثاً: وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ] فإقام الصلاة ليس نافلة ولا فضيلة، بل واجب وجوباً حتمياً، وكذلك إيتاء الزكاة لمن كان عنده مال صامت أو ناطق ووجب فيه الزكاة, فيجب أن يزكيه؛ لقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20].
[ رابعاً: الترغيب في التطوع ] بالنوافل [ من سائر العبادات ] من الرباط والجهاد، والصدقة بالمال، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذكر والدعاء. فقد رغبنا الله في النوافل كلها، فعلينا أن نتنفل, فإذا أدينا الفرائض فنأتي بالنوافل كذلك. والفرائض في خمسة أوقات، ولكن المصلين يصلون مئات الركعات في اليوم والليلة نوافل، وكذلك الزكاة محدودة بريالين ونصف في المائة، وعليه بعد أن يخرج الزكاة أن يتصدق، وهكذا. فقد رغبنا في النوافل، وهي: ما زاد عن الفريضة. فنؤدي الفريضة ونتنفل، هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
[ خامساً ] وأخيراً: [ وجوب الاستغفار عند الذنب, وندبه واستحبابه في سائر الأوقات؛ لما يحصل من التقصير ] فمن أخطأ ومن أذنب ذنباً فيجب أن يقول: أستغفر الله. وهذا واجب لا محالة. فأيما مؤمن أو مؤمنة ارتكب زلة يجب أن يقول: أستغفر الله، وهو عازم على ألا يعود لذلك الإثم, وهو باكٍ من أنه ارتكب هذا الإثم.
ففي هذه الآيات: وجوب الاستغفار عند كل ذنب، ومشروعيته طول العام كما قلت لكم. ومن هذا أنك تقول بعد الصلاة: أستغفر الله العظيم ثلاث مرات بعد كل فريضة. وكذلك أن تتخذ لك ورداً في اليوم أو في الليلة, فتستغفر الله مائة مرة، أو سبعين مرة كما كان الرسول يستغفر؛ إذ هذا عمل صالح, فلا نتركه إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر