أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:12-15].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12]، اعلموا أن القرآن الكريم كتاب هداية، يهدي به الله عباده، فمن هنا هو دائماً مع الترغيب والترهيب. وبالأمس رهبنا ببيان جزاء الكافرين والمجرمين والفساق, وما لهم من المصير السيئ, والعياذ بالله. وبئس المصير، والليلة مع أهل الإيمان وصالح الأعمال, وما لهم من نعيم مقيم في دار السلام.
فالقرآن كتاب ترغيب وترهيب، فهو يرغب المؤمنين في العمل الصالح، ويبغض إليهم ويكره إليهم العمل الفاسد، ويرهبهم بما يسمعهم من العذاب الذي أعده لأعدائه الكافرين المشركين، ويرغبهم في بيان ما بيّن وهدى, وما أعد لعباده المؤمنين الصالحين. فقال تعالى هنا: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12]. فقولوا: إن شاء الله نحن منهم؛ لأننا نخشى ربنا ونخافه، وإن كنا بحيث ما يرانا أحد من عباده فوالله ما نستطيع أن نقول السوء، أو نعمل الباطل، أو نفجر أو نكذب أو نسرق, حتى ولو لم يعلم بنا أحد من أهل البلاد. فنحن نخشاه ونحن غائبون عن الناس، ونخشاه وهو غائب عنا ما نراه، ولو كنا نراه فإننا نخافه، ولكننا ما نرى ربنا، فهو فوق عرشه وفوق سماواته، وهو محيط بنا, ولكننا ما نراه، ولو كنا نراه ما كنا نقوى على أن نعصيه، أو نخرج عن طاعته. وهكذا المؤمنون الصادقون أولياء الله، فهم الذين يخشون ربهم بالغيب, أي: وهو غائب عنهم بحيث لا يرونه, ولا وهم غائبون عن الناس, ولا تراهم أعين الناس, فهم مع هذا لا يعصون الله، ولا يخرجون عن طاعته، ولا يفسقون ولا يفجرون. وهؤلاء وعدهم الله عز وجل بخير موعد، فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، أي: مغفرة لذنوبهم الماضية التي حدثت لهم، أو زلت أقدامهم وفعلوها في يوم من الأيام. فوعدهم بمغفرتها، وعدم المطالبة بها، وعدم المجازاة عليها، وأعد لهم أجراً كبيراً, ألا وهو الجنة، الأجر الكبير هنا, وهو الجنة دار السلام ودار الأبرار ودار المتقين. فقولوا: اللهم اجعلنا من المتقين الذين يخشون ربهم بالغيب.
ونحن يجب أن نخاف من ربنا, سواء كنا منفردين في الظلام أو في كذا، أو كنا مع الناس, فعلينا دائماً أن نخاف ربنا، وألا نقوى على معصيته والخروج عن طاعته أبداً؛ حتى تكون هذه البشرى لنا إن شاء الله. فقد قال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12], وسواء كانوا بيضاً أو سوداً .. عرباً أو عجماً .. في الأولين أو في الآخرين .. نساء أو رجالاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].
والآية معاشر المستمعين والمستمعات! تربينا تربية روحية, بحيث لا نخرج عن طاعة الله كيفما كانت الأحوال والظروف، وكما نخافه إذا كنا بين الناس خوفاً أن نفضح فكذلك لا نعصيه أيضاً هنا ونحن في الظلام بعيدين عن الناس؛ حتى نكون من هؤلاء المؤمنين الوارثين للجنة دار النعيم، إذ قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] لا حد له, ألا وهو الجنة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]. اللهم اجعلنا منهم.
ولا يسلم منا أحد من ذات الصدر، ولكن علينا نستعيذ بالله, ونلجأ إليه، ونقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ونترك تلك الوساوس ونبعدها عنا؛ لأن الله عليم بها، كيف لا وهو خالقها.
ومن هنا معشر المستمعين والمستمعات! يجب ألا ننطق بسوء وإن كنا في بيت مظلم، وإن كنا في صحراء ليس معنا أحد، فلا ننطق بسوء, ولا نسمح لخاطر سوء في قلوبنا, بل نطرده ونستعيذ بالله منه؛ لأن الله عز وجل يعلم من خلق, وهو الذي خلقنا، وهو اللطيف بنا، والخبير بأحوالنا وأمورنا، وبكل شيء في العوالم كلها.
وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا [الملك:15], أي: مهيئة مسهلة ملينة, تمشون عليها وتبنون, وترحلون وتنزلون. فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]. وهذه نعمة منه. وأنت الذي يعطيك ثوباً فقط أو خاتماً تقول: أنعم علي, وتحمده وتثني عليه وتشكره. والله هو الذي خلق الكون كله من أجلك، والأرض بكاملها ذللها وسخرها لك، فامشوا في مناكبها ونواحيها يميناً وشمالاً، طالبين الرزق بالتجارة .. بالصناعة .. بالفلاحة .. بما تريدون. هذا هو الله رب العالمين، وهذا الذي لا يُدعى إلا هو، ولا يحلف إلا به، ولا يخاف إلا هو، ولا يطمع إلا فيه. فهو الله رب العالمين, وإله الأولين والآخرين. وهو يعرفنا بنفسه هكذا؛ لنعرفه, فيزداد إيماننا وطاعتنا له عز وجل.
وهو هنا يقول عن نفسه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15], سواء كان زرعاً أو لحماً, أو خضرة أو ما كان. فالذي خلق ذلك هو الله, فهو رزق الله. ونحن ما نستطيع أن ننبت حبة عنب، ووالله لو تجتمع البشرية كلها لا توجد حبة عنب، ولكن الذي فعل هذا هو الله، فكلوا من رزقه, كما قال تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]. واشكروه على نعمه.
ثم قال تعالى: وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]. فهو من يسند إليه إحياء الموتى, وليس غيره والله, بل إليه خاصة إحياء الموتى. والنشور أي: نشرهم وإحياؤهم من قبورهم. ولا يقوى على ذلك غير الله, وليس له شريك في ذلك أبداً، بل إليه وحده النشور، الذي هو الحياة بعد الموت. وستموت البشرية كلها وهي في طريقها, ثم هو وحده الذي ينشرها ويوقفها بين يديه. فهذا هو الذي لا يعبد إلا هو، والذي يجب ألا يعصى، ويجب ألا يخرج عن طاعته، وهو الذي إليه حياتنا ومصيرنا, وإليه نشورنا، لا إله إلا هو, ولا رب سواه.
وخلاصة القول هذا: أن نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا الكتاب الله هو الذي أنزله, وهذه الآيات أنزلها الله. وقد نزلت على محمد بن عبد الله. فهو إذاً: رسول الله. وخلاصة هذه الزبدة: أن نشهد أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله. ومعنى ذلك: ألا نعترف بإله غير الله، وأن نعبد الله وحده، وأن نعبده من طريق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, إيماناً واقتداءً واتباعاً. وهذا هو سبيل النجاة. اللهم اجعلنا من أهله يا رب العالمين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: فضيلة الإيمان بالغيب، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن ] فقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12]. فالإيمان بالغيب من أفضل الفضائل، وقد سمعتم ما أعد الله لأهله في قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]. فهيا بنا لا نغفل أبداً ودائماً, فنحن نعلم أن الله معنا يسمعنا ويرانا، وأننا لا نستطيع أن نتحرك حركة إلا والله عليم بها، ومن ثمّ ما نعصي ربنا، وما نترك صلاة، وما نترك صياماً، وما نزني ولا نلوط، ولا نكذب ولا نخدع، ولا نغش ولا نظلم، ولا نتعاطى الربا، ولا نتعاطى الخبث والكذب، وهكذا؛ لأننا مع الله، وأولياؤه يكونون معه.
[ ثانياً: ] بيان [ مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما ] بإذن الله ربنا؛ إذ هو الذي بسط لنا الأرض، وذللها وسخرها؛ من أجل أن نطعم ونأكل ونشرب مما يوجده الله فيها، فنطلبه إما بالتجارة وإما بالصناعة، وإما بغير ذلك. ففضل الله علينا عظيم.
[ ثالثاً ] وأخيراً: [ تقرير عقيدة البعث والجزاء ] ويا معاشر المستمعين والمستمعات! الإيمان باليوم الآخر هو عقيدة البعث والجزاء، وأركان الإيمان الستة آخرها وسادسها: الإيمان باليوم الآخر. وهذا هو اليوم الأول الذي نحن فيه وآباؤنا وأجدادنا من آدم، وسيأتي اليوم الآخر والله لا محالة. فما إن تغرب شمس هذا اليوم وينتهي إلا ويأتي اليوم الآخر، وهو يوم البعث من القبور، والجزاء بعد الحساب على العمل في هذه الدنيا. والجزاء إما بالجنة دار النعيم، وإما بالنار دار العذاب الأليم، ولا شيء وراء ذلك. فلنحقق مبدأنا، ونعيش عليه مؤمنين بربنا ورسولنا، ونعبد الله, ولا نعصيه، ولا نخرج عن طاعته، ومن زلت قدمه وسقط فلينهض على الفور قائلاً: أستغفر الله, والعين تدمع, والقلب يرتعد, ولا يعود إلى ذلك الإثم وذلك الذنب حتى يموت. وبذلك تكون النجاة. وسوف نشاهد هذا قريباً، فما إن يأتي ملك الموت لأحدنا وهو على سرير الموت إلا ويرى الدار الآخرة, ويشاهد ملك الموت, ويعرف الدنيا وحقيقتها، ويعرف هل هو سعيد أو شقي قبل الدخول للقبر، وأما إذا دخل القبر فقد انتقل إلى الآخرة، ويشاهد النعيم المقيم أو العذاب الأليم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر