إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 1للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرف الله عز وجل مكة بأن جعل فيها أول بيت وضع للناس، وقد أمر نبيه إبراهيم عليه السلام بأن يهاجر بزوجه وولده إليها، ليكونوا اللبنة الأولى في بناء أول مجتمع مسلم حولها، فلما وصل بهما إلى الموضع الذي أمره ربه أراد الرجوع إلى الشام فاستوقفته زوجته تسأله لمن سيتركهم، فلما علمت أن الله أمره بذلك أدركت أن الله عز وجل لن يضيعها وابنها أبداً.

    1.   

    مقدمة الكتاب

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد ..

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! لنعلم أننا عدنا والعود أحمد إلى بعثة السيرة النبوية الشريفة من كتاب (هذا الحبيب -محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- يا محب).

    [بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة:

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلاة الله وسلامه ورحماته وبركاته على صفوة عباده وخيرته من خلقه محمد عبده ورسوله، وعلى أهل بيته الطاهرين وصحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه رسالة في سيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم رغب في جمعها وتأليفها بعض إخوة الإسلام لتكون تكملة -لكتاب- منهاج المسلم الذي اشتمل على أصول الدين وفروعه، اللهم إلا ما كان من السيرة العطرة للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وتحقيقاً لرغبتهم وضعت هذا الكتاب معنوناً بهذا العنوان: "هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب" فكان حقاً -الكتاب- رسالة العلم والإيمان والحب الصادق للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم].

    وأبشركم أن الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفرنسية، وسيجد فيه المستشرقون والمستغربون ما يعود بهم -إن شاء الله- إلى الصراط المستقيم، ويا ليته ترجم إلى لغات أخرى كالإنجليزية لانتشارها وعمومها، وسيهيئ الله له ذلك إن شاء.

    [ونظراً لكثرة ما جُمع وألف في الدين في هذا الفن -السيرة- فإني -تجنباً للتكرار والإطالة والاختصار- سلكت بتوفيق الله مسلكاً في جمعه وتأليفه ما جعله بفضل الله تعالى أمثلَ ما كُتب في هذا الفن سهولة ووضوحاً وشمولاً مع حسن التبويب، وجمال التفصيل، وزانه] أي: وجمّله [ما امتاز به من ترصيع كل مقطوعة منه بذكر نتائجها وعبر قد لا تخلو منها في غالبها. فكان بحمد الله تعالى كتاب البيت المسلم الذي يشيع بين أفراده حب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وينير ببيان حسن الأسوة معالم الهدى في دروب الحياة كلها الدينية منها والاجتماعية والسياسية؛ ولهذا فإني أدعو أهل كل بيت مسلم أن يجتمعوا على قراءته فيقتطعوا نصف ساعة من يومهم -أو ليلتهم- يقرءون فيها صفحة أو صفحتين حسب طول المقطوعة من الكتاب وقصرها، ويقفون على ما فيها من النتائج والعبر يقوون بذلك إيمانهم، وينمون معارفهم، ويهذبون أخلاقهم. وأعظم من ذلك اكتسابهم حب نبيهم وحب أهل بيته الطاهرين وصحابته الغر الميامين.

    وأخيراً! فاللهم اجعل عملي في هذا الكتاب صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، وارزقني به -ومن يقرؤه مؤمناً محتسباً- حب نبيك وشفاعته في النجاة من النار، واللحاق بمنازل الأبرار مع الرفيق الأعلى يا ذا الجلال والإكرام.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين].

    هذه مقدمة الكتاب، والكتاب يقرأ من عنوانه، والمقدمة هي العنوان، فهل ترغبون في دراسة هذا الكتاب أم ليس لكم به حاجة؟

    نرغب لأننا لا نكلف ديناراً ولا درهماً، فكل ما في الأمر أننا نصلي المغرب وننتظر صلاة العشاء والملائكة تصلي علينا -تقول: اللهم اغفر لهم! اللهم ارحمهم- حتى نفرغ من صلاة العشاء. فهل بعد هذا الخير من خير؟!

    فضلاً عما نكتسبه من علم ومعرفة قد علمناها ونسيناها، أو قد علمناها وفهمناها ثم طغت الحياة علينا فما أصبحنا نفهمها، فنجدد العلم والفهم والمعرفة.

    1.   

    أرض النبوة

    [أرض النبوة] أي: حيث كانت النبوة، والأرض التي وجدت فيها النبوة فتنسب إليها وتضاف فيقال: أرض النبوة.

    أين هي أرض النبوة؟

    قال: [بجبال فاران] ونحن لا نعرف جبال فاران، لكن الذين قرءوا التوراة والإنجيل عرفوا أن جبال مكة تسمى في التوراة والإنجيل بجبال فاران، وما زال بعض العرب في تلك الديار يفهمون هذا، ويعلمون ما هي جبال فاران.

    [بالوادي الأمين] وهل هناك واد أمين؟ ألا يوجد؟ إنه مكة؛ بلد الله، وهل مكة وادٍ؟ إي نعم. وما يدلك على أنها واد؟ أرض بين جبال إذا أمطرت السماء تنهمر المياه من كل صوب وحدب وتصبح مكة وادياً، وحسبك أنك إذا سعيت ووصلت من الصفا إلى الميل الأخضر أسرعت، حتى تنتهي إلى الميل المقابل، لم؟ لأن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام لما كانت تطلب الماء لولدها كانت عندما تصل إلى الوادي تهبط فتسرع بسرعة لتخرج منه وتتجاوزه؛ فهذا سيل ومسيل، ولهذا الوادي الأمين مكة.

    [بالأرض المباركة حيث بني فيها أول بيت للناس] لقد علمنا يقيناً أن أول بيت بني لابن آدم هو بيت الله بمكة، أما قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]؟!

    هذا إخبار من؟ الله العليم الحكيم. فكيف لا نؤمن إذن؟! ونحن بهذه الآية أعلم أهل الأرض.

    [كل الناس بمكة المكرمة دائرة المجد، ومهبط الوحي. بالبلد الأمين] قال الله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3] مكة أو لا؟ بلى. إنها مكة [حيث كان مولد سيد جميع العالمين] أو تشكون في سيادته على العالمين؟ لا. سوده الله ورفعه إليه، وجعله سيد العالمين، فصلوا عليه.

    [بديار الحجاز معقل الإيمان في آخر الزمان] إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يأرز إلى الحجاز، ويقيم بها وينزل بديارها ويفرغ العالم منه، أما المدينة بصورة خاصة: ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) والحجاز كذلك، فالإيمان يرحل من الشام والعراق وما وراء ذلك من الشرق والغرب ويأتي إلى هذه الديار؛ لأمر أراده الله عز وجل. ويكفي أن الحرمين العظيمين الشريفين بالحجاز، ديار النبي وديار الله، فكيف لا يأرز الإيمان ويفزع إليها عندما يضايق ويطارد من كل مكان؟!

    قال: [بها -مكة- طابت مغانيها، وجلت عن الحصر معانيها، بعث نبي آخر الزمان، الذي سنحدث عنه -إن شاء الله- الأحباء ببيان أيما بيان. ولنحبس الآن القلم ساعة؛ لنعود إلى الحديث عن أرض النبوة بعد ساعة].

    1.   

    الدوحة الكريمة

    قال: [الدوحة الكريمة] الدوحة: الشجرة العظيمة التي يستظل بظلها؛ لسعتها وكبرها.

    قال: [من ديار الكفر والطغيان، من أرض الشرك والظلم للإنسان خرج مهاجراً إبراهيم مع ابن أخيه هاران لوط عليه وعلى إبراهيم وآله السلام].

    وديار الكفر والطغيان أرض الشرك والظلم للإنسان هي أرض بابل، أرض العراق، التي خرج مهاجراً منها إبراهيم مع ابن أخيه هاران .

    والغريب أن صاحب القاموس قال: هاران بن تارح . وابن كثير قال: هاران بن آزر . لماذا؟ لأن الغافلين -وما أكثرهم- ومن زين لهم الشيطان ووسوس لهم قالوا: لا يمكن أن يكون آزر هو أبو إبراهيم ثم يدخل النار! مساكين!! ما قرءوا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]! أي آدمي إنسي زكى نفسه يصبح من أهل الجنة دار السلام وإن كان ابن يهودي أو ابن يهودية، ومن لوثها وخبَّثها بأغلال الشرك والمعاصي فلن يدخل دار السلام ولو كان أباً لإبراهيم ، أو أباً لموسى، أو أباً لمحمد صلى الله عليه وسلم.

    فانظر ذاك التملص والهروب. قال: هاران بن تارح ليس ابن آزر ، فـآزر ليس أباً لإبراهيم ولكن عمه، أيسميه الله أباً ويناديه به ثم تقول: لا لا، هذا عمه؟!! هذا كله وجد في عصور الهبوط من القرن الرابع والخامس، وإلى اليوم ونحن هابطون.

    إن آزر هو أبو إبراهيم فلم تارح ؟! قال الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام:74] أتقول: لا لا قل يا رب تارح وليس آزر ؟! هل يجوز أن نقول لربنا هكذا ونرد عليه؟ كيف هذا؟! وما هو الداعي؟!

    لا شيء. وإنما فقط حتى يقال إن والد الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة ليس في النار!! أأنتم أرحم من الله بعباده؟

    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أبي وأبوك في النار.. )، رجل لم يزكِ نفسه، لا صلى ولا صام، لا حج ولا اعتمر ولا جاهد .. أما كان مشركاً كالمشركين؟!

    قال: [واتخذ إبراهيم الأرض المباركة مهاجراً أرض الشام التي باركها الله للأنام، حل إبراهيم يوماً بديار مصر وهو يحمل رسالة التوحيد، فكان أن أكرم الله سارة زوج إبراهيم] سارة زوجته وبنت عمه [بعطية هي نعم الهدية إنها هاجر المصرية، أم إسماعيل وجدة العدنانين أجمعين].

    أتعرفون هذا ما سببه؟ إبراهيم عليه السلام لما هجر قومه بعد أن حكموا بإعدامه وألقوا به في أتون الجحيم وأنقذه الله عز وجل، فلما خرج من النار سليماً معافى ودعهم فهجرهم وهاجر، وخرجت معه زوجته سارة -بالسين من السرور- وابن أخيه لوط عليه السلام إلى أرض الشام، ساقهما الله إلى لأرض المباركة، فمشى فيها وطوف ثم رأى أن يتقدم غرباً، فدخل الديار المصرية يحمل رسالة التوحيد. لما وصل رأى الهابطون سارة وجمالها فقالوا للملك السلطان الحاكم: إن هناك امرأة وصفها كذا وكذا. هل نأتي بها إليك ؟! هذا الفعل من يقوم به؟ أهل لا إله إلا الله؟ لا. ولكنهم نوع من الهابطين السفلة.

    فقال الملك: ائتوني بها. فماذا يصنع إبراهيم؟ هل يقاتل؟ هل يعلن الثورة؟ ماذا يملك إبراهيم؟ إنما هو غريب في ديارهم. فقال: يا سارة ! إذا سئلت عني فقولي: أخي ولا تقولي زوجي. لأنها لو قالت: زوجي. إذاً يقتله الملك حتى يستحلها.

    فقال لها: قولي: أخي، واعلمي أنه لا يوجد في هذه الأرض مؤمن ولا مؤمنة إلا أنا وأنت، فأنت أختي وأنا أخوك. كل من على الأرض على الكفر.

    هل كذب إبراهيم؟

    لا والله. فأتي بها إلى الطاغية وأجلسوها إلى جنبه صنعوها و.. و.. فكان يحادثها ثم يمد يده إليها، فما أن تصل يده إليها حتى يصاب بالشلل الفوري فتيبس يده. فيقول لها: ادعي لي ربك! فتدعو وتعود يده، ثم يواصل الحديث والمداعبة والمفاتحة ويمد يده، فيصاب بالشلل مرة أخرى.

    فقال في الثالثة: ما أتيتموني إلا بهذه! أخرجوها عني وشنعوها . أي: أعطوها ما تريد.

    وكان من جملة ما أهدوها: هاجر خادمة تخدمها. وإلى عهد قريب كان الناس يهدون الخوادم، فإذا أراد شخص أن يكرمك وكان عنده كذا خادمة قال لك: خذ هذه. فأهدوها خادمة وهي هاجر .

    هذا تدبير من؟ تدبير ذي العرش العظيم، الله رب العالمين.

    ثم أهدتها سارة لإبراهيم. قالت: خذ هذه لتخدمك.

    هذه هي الحادثة.

    قال: [ووهبت سارة الكريمة جاريتها إبراهيم، فتسرّاها، فأنجبت إسماعيل]. ووهبتها لزوجها، ولها الحق لأنها تملكها. أما وهبت خديجة زيداً للرسول صلى الله عليه وسلم؟ زيد بن حارثة خديجة هي التي وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم عندما تزوجها ليخدمه.

    إذاً: سارة الكريمة وهبت جاريتها هاجر لإبراهيم، فتسرّاها. وما معنى تسراها؟ من السرور أم من السر؟

    من السر والسرور، فالجارية يتسراها مالكها بأن يحسن ثيابها وفراشاها ويعطرها ويطيبها ويقضي حاجتها وحاجته منها، هذه هي المسارّة، وتسر الجارية يتسراها بمعنى يحسن حالها ويصنعها ويطأها قضاءً لحاجتها أولاً قبل حاجته. والغافلون يعيبون على الإسلام هذه! هذه التي بين يديك تعيش محرومة من لذة غريزية مطبوعة عليها، فإن أنت أحسنت إليها أحسنت إليها بهذا، ولهذا أباح الله التسري، أما الجاهلون فيتخبطون في عمى وضلال.

    أيكون لك جارية مملوكة تعيش أربعين أو خمسين سنة لا تذوق هذه اللذة المفطورة عليها؟! تزوجها؟ أنت في حاجة إليها، فمن الإحسان إليها أن تحسن فراشها ولباسها وتقلل من خدمتها وتتمتع بها.

    قال: [ويسوق الله أقداراً إلى أقدار، فتضيق بـسارة الدار؛ حيث آلمها أن تلد جاريتها غلاماً زكياً وتُحرمه هي].

    ضاقت بـسارة الدار كيف؟ آلمها أن تلد جاريتها غلاماً زكياً وتُحرمه هي؛ لأن سارة كانت عقيماً لا تلد، والجارية التي أهدتها لزوجها ولدت. ألا تتململ؟ ألا تتألم؟! كيف لا؟! إنها الفطرة. فضاقت بها الدار.

    قال: [وبإذن من الله يخرج إبراهيم بجاريته -أم ولده-] لا يتصرف إبراهيم من تلقاء نفسه ولكن بإذن من الله [مستخفياً مستحيياً] خرج بها في الخفاء مستحياً من سارة التي أكرمته [فتُعفِّي هاجر آثار أقدامها مبالغة في إخفاء أمرها]. أي: تمشي في الطريق، ولما يظهر أثر قدمها تعفيه بالتراب؛ حتى لا تعرف سارة أين ذهبت.

    قال: [ولنخرج القلم الآن من الحبس] أما قلنا نحبسه؟! الآن نخرج القلم من الحبس [لنتابع الحديث عن أرض الأنس والقدس.

    إنه بالواد الأمين المحاط بجبال فاران من أرض طيبة مباركة، وتحت دوحة عظيمة وضع إبراهيم هاجر وطفلها، تاركاً لهما جراباً فيه طعام، وسقاءً فيه ماء وقفل راجعاً]. خرج إبراهيم بـهاجر وطفلها حتى وصل مكة. كيف وصل؟ هل هناك براق؟ هل هناك طائرات؟ لا. الله هو خالق كل شيء!

    فوصل إبراهيم بجاريته وولدها إلى مكة، ووضعهما هناك تاركاً لهما جراباً من طعام -والجراب كالكيس من جلد مدبوغ، يجعل فيه الخبز- وسقاء فيه ماء ثم قفل راجعاً إلى أرض القدس.

    قال: [ونظرت إليه هاجر والدهشة تأخذها والحيرة تنتابها، ثم تقول: إلى من تكلنا يا إبراهيم؟ وأردفت تساؤلها قائلة: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ فأجابها السيد الرحيم] من هذا السيد الرحيم؟ إبراهيم؛ لأن إبراهيم باللغة البابلية معناه الأب الرحيم . إبراهيم: أب رحيم.

    [فأجابها السيد الرحيم قائلاً: نعم. فردت عليه -وهي قريرة العين- إذاً فاذهب، فإن الله لا يضيعنا].

    هل توجد امرأة من هذا النوع؟! لو قال رجل لامرأته: يا فلانة! أنا أريد أن أترك البنك والعمل فيه، فماذا تقول؟ لا لا كيف نعيش؟ كيف نفعل؟ وإن كانت جامعية! فأين التوكل على الله؟!

    يا عبد الله! من فضلك استرزق الله من الحلال فأنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا تبع المجلات المحتوية على صور الخلاعة والدعارة! لا تبع الدخان والسيجارة، وبع الفلفل والزيت.. والله يرزقك. يقول لك: لا لا عيشنا يا شيخ! رزقنا! كيف؟!

    أين التوكل على الله؟!

    هنا لما تأكدت هاجر أن الله هو الذي أمر قالت: إذاً فاذهب، فإن الله لا يضيعنا.

    وأين تركها إبراهيم مع طفلها؟! تركها بين جبال في واد لا عنب فيه ولا تمر ولا شعير ولا خبز .. وإنما قوت في جراب وسقاية فيها ماء

    قال: [وذهب إبراهيم عائداً إلى أرض الشام] وأرض الشام هي: الأردن، غزة، فلسطين، لبنان إلى آخر ذلك .. كلها أرض الشام، وهذا هو العرف العام في القرآن والسنة.

    [ولما بعُد -حيث لا تراه هاجر -] مشى وبعد عنها بحيث أصبحت لا تراه [استقبل مكان البيت قبل بنائه] كان ما زال لم يبن البيت، فالبيت بناه آدم بواسطة الملائكة، ثم جاءت السيول ومرت القرون وانتهى، ولكن مكانه باقٍ [وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37]] و رَبَّنَا [إبراهيم:37] أي ربي ورب هاجر وإسماعيل والعالمين [ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]] متى قال إبراهيم هذا؟ لما وضع هاجر وإسماعيل وأراد العودة إلى أرض القدس.

    1.   

    وقفة قصيرة: (رحيل إبراهيم بهاجر وابنها إلى مكة)

    والآن [وقفة قصيرة] أيها المستمعون والمستمعات!

    [فهيا بنا -معشر الأحباء- نجلس مع هاجر نؤانسها في وحشتها، ونستجلي العبرة من موقفها:

    هاجر امرأة مؤمنة كسائر المؤمنات تهاجر من بلدها، وتخرج من دارها حتى لا تؤذي وليَّة نعمتها] من يتذوق هذا العسل؟ لم هاجرت ورغبت في الهجرة؟ حتى لا تؤذي سارة ؛ لأن سارة محرومة من الولد، فإذا نظرت إلى إسماعيل في حجر هاجر احترق قلبها بالهم والحزن، وهذه الحال تؤذي هاجر ولا تطيقها، فكيف تؤذي ولية نعمتها؟!

    فهل توجد هذه العاطفة عندنا؟!

    لا أحسبها توجد في (1%) منا! فهي توجد والحمد لله، لكن عند النساء ما أظن، أما عند الفحول ممكن توجد.

    [تلك المؤمنة الأولى سارة بنت هاران عم إبراهيم الزوج الكريم، علمت هاجر ما أصاب سارة من الغيرة فآثرت غربتها على أذية سيدتها، فيا له من موقف تقفه هذه المصرية الزكية فهلا تأسى بها الضرات؟!] من هن الضرات؟

    الطبينات أو الطبائن بلغة أهل المدينة، فالضرة: المرأة التي تحت زوج ومعها أخرى، وسميت ضرة؟ لأنها تضر بالأخرى فتأخذ عليها ليلة من الليالي.

    أبلغوا النساء هذا -وهن الآن يسمعن-: يا ضرة! لا تؤذي ضرتك، لا ترغبي أبداً في أذيتها، عيشي معها، تعاونا على عبادة الله وخدمة البيت والزوج، لم الغيرة والحسد والترفع والفتنة؟ أسألكن بالله هل يصح لمؤمن أن يضر مؤمناً؟

    والله ما جاز لك أن تضري مؤمناً ولو كان كناساً عند بابك، ولو كان من أفقر الخلق ومن أبشعهم صورة، لا يحل أذيته ولو بكلمة، فكيف بالتي تشاركك الحياة، وتبيت إلى جنبك وتظل معك؟!

    لو عرفن هذا المؤمنات والله ما ضرت إحداهن بالأخرى، ولكنها الجهالة.

    [وهلا عرف هذا أحباؤنا -أحبهم الله- فيؤثر أحدهم بالنفع أخاه، ويتحمل الأذى في سبيل رضاه!!] ليس خاصاً بالنساء فقط، فهلا عرف هذا أحباؤنا فيؤثر أحدهم أخاه بالنفع ويتحمل الأذى في سبيل إرضائه؟! أيوجد هذا؟

    يوجد إن شاء الله، يوجد من يتحمل الأذى في سبيل رضا أخيه حتى لا ينقبض أو ينكسر أو يتألم؛ لأن الإيمان هو المسيطر على المؤمنين، إنه نور يرى صاحبه به كل قبيح كما رأى كل حسن، ويقوى به على التحلي بالحسن والتخلي عن القبيح.

    [هذه عبرة] أو ليست عبرة [وأخرى: تُتْرك هاجر بواد قفر موحش، لا أنيس به من قريب ولا من بعيد، وتُظهر مخاوفها ولا تكتم ما انتابها من غم وهم، فتقول لإبراهيم: إلى من تكلنا؟ وما إن تسمع جواب إبراهيم: نعم، الله أمرني بهذا، حتى تتجلى حقيقة إيمانها في مستوى لن يرقى إليه غيرها من نساء العالمين، إذ تقول: اذهب؛ فإنه لا يضيعنا] عبرة هذه كالأولى أم لا؟

    [هذا هو الإيمان الذي نطلبه أيها الأحباء، وهذا هو التوكل؛ الثمرة الشهية لعقيدة الإيمان الحية.

    إن إيماناً لا يثمر توكلاً كهذا إيمان ناقص قصير، وقليل يسير، فلننشد -أيها الأحبة- إيماناً كاملاً يثمر لنا الخشية والمحبة معاً وتوكلاً كهذا].

    هيا نطلب هذا الإيمان، ولكن أين نطلبه؟ من مجالس الصالحين، من قراءة كتاب الله، من النظر في الكون وما فيه من آيات.

    [ولنترك هاجر تبيت ليلتها بالواد الأمين، لنعود إليها بعد حين نستقصي أخبارها، ونتعرف على أحوالها؛ لأنها رحم لنا]

    ما هي الذمة؟

    إنها مارية القبطية التي بعث بها المقوقس مع البغلة الدلدل.

    والرحم ما هو؟

    إنها هاجر ! أما ولدت إسماعيل أبانا أيها العدنانيون؟

    [ومنبت عز ومجد كانا لنا] أيام كنا أعزة أمجاد. ما سبب ذلك؟ من أين جاء؟ مِن هاجر أم لا؟!

    لكن لما تركنا الطريق وصرفونا عن القرآن والسنة وحولونا إلى ما يحبون هبطنا، فلا عز ولا مجد، نستعطف الكفار ونسترحمهم من أجل إبرة، ولم نفق بعد.

    إذاً: [إنها أم إسماعيل، أحد آباء سيد المرسلين محمد الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم].

    أزيدكم أم يكفي؟

    مداخلة: زيد الله يخليك.

    الشيخ: ما تعبتم؟

    مداخلة: لا والله، إنما نتذوق العسل.

    الشيخ: [تقول الأخبار الصادقة: إن هاجر نفد ماء سقايتها] ونفد أي: انتهى، شربته هي وابنها ليلة كاملة [وعطشت وعطش إسماعيل طفلها، فدارت تطلب الماء، وحارت] من أين؟ [وكبدها تكاد تفض وهي ترى طفلها يتلوى من شدة العطش، ونظرت، فإذا أقرب مكان عال إليها هو جبل الصفا، فأتته ورقيته ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر ماءً ولا أحداً، ونظرت أمامها فإذا أقرب مكان عالٍ إليها جبل المروة، فهبطت ذاهبة إليه] كما تشاهدون السُعاء عند السعي.

    [فانتهت إلى بطن الوادي، فأسرعت وخبّت فيه حتى اجتازته، وواصلت سعيها حتى انتهت إلى جبل المروة فرقيته، ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، فهبطت عائدة إلى الصفا حتى اكتمل سعيها بين الصفا والمروة -وهي تطلب الماء لولدها ولها- سبع مرات] عرفتم الآن لم السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بثمان وقفات أربع على الصفا وأربع على المروة؟

    [وعندها وهي على أحد الجبلين تسمع صوتاً غريباً، فتقول في لهفة: أَسْمعتَ أَسْمعتَ فهل من غياث؟!

    وترمي ببصرها نحو ولدها، فإذا برجل -قائم على رأس الطفل تحت الدوحة وما أن دنت منه حتى قال بعقبه هكذا -يرفس الأرض- وإذا بعين ماء تفور، وكم كانت فرحة هاجر بسقيا إسماعيل؟! وأخذت تزمها بالتراب والحجارة؛ تمنع سيلانها على وجه الأرض خشية أن تنضب، ولو تركتها -فلم تحطها بما أحاطتها به من تراب وحجارة- لكانت عيناً معيناً كما أخبر بذلك حفيدها السيد الجليل محمد إمام المرسلين وسيد جميع العالمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى وأبرك التحية والتسليم].

    ثمرة قصة رحيل إبراهيم بهاجر وابنها إلى مكة

    إذاً: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ثمرة القصة] ثمرة هذه القصة الطويلة ليست بالثمرة التي نأكلها أو نذهب بها إلى بيوتنا لأولادنا ونسائنا؟ أو ما لها ثمرة؟ لا بد من ثمرة!

    [إن لهذه القصة -التي قصصناها- ثمرة من أغلى الثمار وأشهاها إلى النفوس المؤمنة] أما الميتة فلا. ولكن [المؤمنة الطاهرة الزكية] ليست كل نفس مؤمنة، وإنما مؤمنة وطاهرة وزكية [إنها ثمرة التوكل على الله بتفويض الأمر إليه، والاعتماد عليه، أتذكر أيها المحب لما قالت لإبراهيم: إلى من تتركنا؟ آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم. فقالت: إذاً فاذهب؛ فإنه لا يضيعنا! إنها توكلت على الله ربنا وربها وأحسنت الظن به تعالى.

    فهذه العين الثرة] الثرة هي التي دائماً تسيل، فهل يوجد على وجه الأرض بئر دام ستة آلاف سنة؟ أمريكا ما وجدت بعد ولا كانت، إن زمزم مضى عليها قرابة ستة آلاف سنة -أو خلها أربعة آلاف سنة إذا شككت- أما تندمر، ولا تنسد، ولا تنتهي؟ وإلى الآن تسر وتطيب بالماء، وأكثر الناس كافرون لا يؤمنون!

    هذه آية واحدة تدل على الله وعلمه وقدرته.

    [(زمزم) كانت ثمرة توكلها على ربها وحسن ظنها به -عز وجل-] ذاك الألم الذي أصابها من الغربة والوحشة ومن تركها وحدها مع طفلها بلا شيء بعد توكلها على الله أنتج هذه النعمة! والآن نشرب زمزم في بيوتنا طوال العام.

    هذه بركة هاجر أو لا؟ أو ما تقولون بالبركة؟

    مداخلة: بلى.. بلى.

    الشيخ: إنها ثمرة توكلها على الله، ووالله لو توكل العالم الإسلامي اليوم على الله، واجتمع في هذه الروضة وبايعوا إمام المسلمين وقالوا: نحن أمة واحدة! لطُبقت الشريعة بسهولة وأقيمت الصلاة، وطابت النفوس وزكت الأرواح، وإذا بالعالم كله يرتعد وينحني! بالتوكل فقط. ألا يستطيعون، ألا يعرفون؟!

    نكتفي بهذا القدر وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796853