أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: فإننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة من يوم الجمعة ندرس السيرة النبوية الشريفة من كتاب هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، وقد انتهى بنا الدرس إلى وقفة القصيرة، فهيا بنا معشر الأحباء نجلس مع هاجر نؤانسها في وحشتها.
هاجر ! من هي هاجر هذه؟ إنها أم إسماعيل، هذه التي أهداها ملك مصر إلى سارة زوج إبراهيم، ثم أهدتها هي لزوجها فتسراها فأنجبت إسماعيل، وقد سبق أن عرفنا كيف خرج بها إبراهيم من أرض القدس، وكيف كانت تعفّي آثارها حتى لا تنزعج ضرتها سارة -على الجميع السلام-.
قال:[وقفة قصيرة: فهيا بنا معشر الأحباء نجلس مع هاجر نؤانسها في وحشتها ونستجلي العبرة من موقفها] الذي وقفته.
قال: [هاجر امرأة مؤمنة كسائر المؤمنات تهاجر من بلدها، وتخرج من دارها حتى لا تؤذي ولية نعمتها].
أي ضرتها سارة . لم؟ لأن سارة عقيم لا تنجب، وهاجر جارية رزقها الله الولد -إسماعيل-.
ولا شك أن للمرأة غيرة فتتألم، فـهاجر للطفها وظرفها وحسن عشرتها، وآدابها وأخلاقها وكمالها لم ترد أن تضر بضرتها، وأرادت أن تبتعد بطفلها عنها.
فهل يفعل المؤمنات اليوم مثل هذا؟ قل لي: هل فعل الرجال مثل هذا؟ نعم يوجد، ولكن بندرة وقلة وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24]، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
قال: [تلك المؤمنة الأولى سارة بنت هاران عم إبراهيم الزوج الكريم]. سارة هي بنت عم إبراهيم عليه السلام، وإن قال قائل: ولوط ابن أخ إبراهيم؟
الجواب: آزر بن تارح أبو إبراهيم له أخ اسمه هاران ، وإبراهيم له أخ اسمه هاران ، هاران الأول ولد سارة بنت عم إبراهيم فتزوجها إبراهيم، وهاران الثاني أخو إبراهيم أنجب لوطاً عليه السلام، فلوط ابن أخ إبراهيم، ولا لبس.
قال: [علمت هاجر ما أصاب سارة من الغيرة فآثرت غربتها عن أذية سيدتها، فيا له من موقف تقفه هذه المصرية الزكية فهلا تأسى بها الضرات؟! وهلا عرف هذا أحباؤنا -أحبهم الله- فيؤثر أحدهم بالنفع أخاه، ويتحمل الأذى في سبيل رضاه؟!].
هل هذا ممكن؟ هذه جملة نورانية: وهلا عرف هذا أحباؤنا -أحبهم الله- فيؤثر أحدهم بالنفع أخاه، ويتحمل الأذى في سبيل رضاه؟!
قال:[هذه عبرة] وباللغة المصرية عبّارة -أي: يعبر بها من مكان إلى مكان- هذا معنى العبرة.
قال: [وأخرى: تُتْرك هاجر بواد قفر موحش، لا أنيس به من قريب ولا من بعيد، وتظهر مخاوفها ولا تكتم ما انتابها من غم وهم، فتقول لإبراهيم: إلى من تكلنا؟] أي: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ [وما إن تسمع جواب إبراهيم: نعم، الله أمرني بهذا، حتى تتجلى حقيقة إيمانها في مستوى لن يرقى إليه غيرها من نساء العالمين، إذ تقول: اذهب؛ فإنه لا يضيعنا]. تركها مع طفلها إسماعيل ومعها جراب من خبز وسقاء من ماء، وقصر وقفل راجعاً إلى أرض الشام، فتقول: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ ثم تقول: آلله أمرك؟ فيقول: نعم، فتقول على الفور: اذهب، فإنه لا يضيعنا.
اللهم ارزقنا قسطاً من هذا التوكل ولو نسبة (1 %).
أين درست هذه؟ ومن أي جامعة تخرجت؟!
هذه عاشت أياماً وليالٍ في حجر إبراهيم عليه السلام.
قال: [هذا هو الإيمان الذي نطلبه أيها الأحباء] متى نحصل عليه؟ [، وهذا هو التوكل، الثمرة الشهية لعقيدة الإيمان الحية.
إن إيماناً لا يثمر توكلاً كهذا إيمان ناقص قصير، وقليل يسير، فلننشد -أيها الأحبة- إيماناً كاملاً يثمر لنا الخشية والمحبة معاً وتوكلاً كهذا!] أي: الذي رأيناه في هاجر .
قال: [ولنترك هاجر تبيت ليلتها بالواد الأمين] هيا بنا نترك هاجر تبيت ليلتها بالواد الأمين، . أي واد أمين هذا؟ إنها مكة؛ إذ كانت فقط واد ليس به أحد [لنعود إليها بعد حين نستقصي أخبارها، ونتعرف على أحوالها؛ لأنها رحم لنا] رحم لنا أو لا؟ يا أبناء إسماعيل! إن هذه جدتكم [ومنبت عز ومجد كانا لنا، إنها أم إسماعيل، أحد آباء سيد المرسلين محمد الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
تقول الأخبار الصادقة: إن هاجر قد نفد ماء سقايتها، وعطشت وعطش إسماعيل طفلها، فدارت تطلب الماء، وحارت وكبدها تكاد تفض وهي ترى طفلها يتلوى من شدة العطش، ونظرت، فإذا أقرب مكان عال إليها هو جبل الصفا، فأتته ورقيته، ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر ماء ولا أحداً، ونظرت أمامها فإذا أقرب مكان عال إليها هو جبل المروة، فهبطت ذاهبة إليه]. وهذا هو مشروع السعي لنا، إحياء لذكرى أم إسماعيل، أحيا الله ذكراها ففرض السعي علينا في الحج والعمرة.
قال: [فانتهت إلى بطن الوادي، فأسرعت وخبت فيه حتى اجتازته] والخبب للرجال سنة، فإذا وصلنا إلى الميل الأخضر أسرعنا، وإذا فرغنا مشينا؛ إحياء لذكرى هاجر أم إسماعيل، أما النساء فليس عليهن خبب ولا سرعة؛ لضعفهن وعدم قدرتهن على هذا، أما الرجال الفحول فنعم من السنة لهم ذلك، إلا عاجز لمرض وكبر مثلاً.
قال: [وواصلت سعيها حتى انتهت إلى جبل المروة فرقيته، ونظرت يميناً وشمالاً فلم تر شيئاً، فهبطت عائدة إلى الصفا حتى اكتمل سعيها بين الصفا والمروة -وهي تطلب الماء لولدها ولها- سبع مرات] اكتمل السعي سبع مرات بأربع وقفات على الصفا وأربع على المروة.
قال: [وعندها -وهي على أحد الجبلين-] الصفا أو المروة [تسمع صوتاً غريباً فتقول في لهفة: أَسمعتَ أَسمعتَ فهل من غياث؟!
وترمي ببصرها نحو ولدها، فإذا برجل قائم على رأس الطفل تحت الدوحة] وهي الشجرة عظيمة [وما إن دنت منه حتى قال بعقبه هكذا -يرفس الأرض- وإذا بعين ماء تفور].
إذاً: بئر زمزم من حفرها؟ الأرتوازيات؟ لا. بقدم جبريل فقط، حك الأرض ففار الماء -والله العظيم-.
قال: [وإذا بعين ماء تفور، وكم كانت فرحة هاجر بسقيها إسماعيل! وأخذت تزمها بالتراب والحجارة؛ تمنع سيلانها على وجه الأرض خشية أن تنضب] ظنت أنها إذا سالت من هناك نضبت [ولو تركتها فلم تحطها بما أحاطتها به من تراب وحجارة لكانت عيناً معيناً، كما أخبر بذلك] أبو القاسم [حفيدها السيد الجليل محمد إمام المرسلين وسيد جميع العالمين عليه أفضل الصلاة وأزكى وأبرك التحية والتسليم] إذ قال في صحيح البخاري : ( رحم الله أم إسماعيل لو تركتها لكانت عيناً معيناً )، لكن شاء الله أن نستخرجها بالدِلاء ستة آلاف سنة، والآن الحمد لله بالساحبات التي تسحب، فالحمد لله.
بعد أن عرفتم هذه القصية الجميلة! ما هي ثمرتها؟ هل تريدون أن تجنوا الثمار أو ليس لكم بها حاجة؟ هل أنتم في خير.. شباع ليس لكم بها حاجة؟! نريد أن نستثمر، وأن نجني العبرة ونأخذها من الدرس.
ونبدأ بالجزئيات فقط من باب التذكير:
أخونا فتح دكاناً في المدينة النبوية ليبيع أنواع البقالة، وفي نفس الوقت يبيع مجلات فيها الدعارة والخلاعة، فيدخل عليه المؤمن قائلاً: أي عبد الله! ماذا تبيع؟ يكفيك ما تبيع من الأطعمة وأنواعها، وهذه المجلة مذمومة ذمها أهل العلم، فيها صور العوار في الغلاف، تطالعها المرأة فتفتن، ويطالعها الشاب فيهلك.. هذا لا يصلح، توكل على الله. فيقول: الزبائن إذا لم يجدوا المجلة لا يشترون من عندنا!
هل هذا توكل على الله أم على المجلة؟ أسألكم بالله على من توكل هذا؟ على المجلة!!
وآخر يبيع التبغ، وتعرفون التبغ، لا عرفكم الله به! التبغ هو ذاك الدخان، هو تلك السجائر التي ابتلي بها الناس والعياذ بالله -اللهم نجهم واشفهم- هؤلاء تسجل عليهم خطايا يومياً بالأطنان؛ لأنهم يؤذون الملائكة، والذي يؤذي الحرس الإلهي الذي وكل به فينفخ في وجهه الدخان والنار، والرائحة الكريهة، أين يذهب يا عبد الله؟!
أما علمتم أن الله وكل بنا ملكين من صلاة الصبح إلى صلاة العصر، فيعرجان ويأتي ملكان من العصر إلى الصبح وذلك مدى الحياة؟ أما قرأتم: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]؟
ستقول: يا شيخ! الملائكة لا يتأذون بالرائحة الكريهة، فهم ليسوا بشراً!
هذا هو جوابك؟!
اسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أيها الناس من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مساجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، ( من أراد أن يبصق فلا يبصق عن يمينه ولا عن شماله فإن عن يمينه ملكاً، ولكن يبصق بين يديه وتحت قدميه ).
فيكفي المدخن هذه الجريمة فقط، والأخرى بدل أن يطيب فاه وينظفه بالسواك في كل ساعة وفي كل صلاة يفرض عليه أنتن رائحة وأعفنها! ثم يذكر الله! هل يجوز هذا؟!
أسألكم أيها البصراء: لو أن أحداً أخذ ورقة وكتب فيها باسم الله، ثم غمسها في خرأة ماذا تقولون؟ هل يبقى مؤمناً؟ هذا يضرب على رأسه لأنه كفر!
إذاً: فكيف يجوز لعبد الله أن يدخن ويعفن فمه وحلقومه وباطنه وتمر عليه فتقول: السلام عليكم، فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هل ذكر اسم الله أو لا؟ عندما أخرجه وأجراه على مجرى نظفه أو وسخه؟
هذا من باب المثال، والحمد لله انتهى التدخين والمدخنون، ولم يبقى إلا القليل والحمد لله.
قافلة كاملة تستأذن امرأة مع طفلها: يا هذه! أتأذنين لنا في النزول إلى جوارك لننتفع بالماء؟ فتأذن لهم، بشرط ألا حق لهم في الماء، لو كان واحد من جماعتكم اليوم لضربها برجله أو لوى رأسها، وقال: انزلوا! لِمَ لم يفعل العرب هذا؟ لأنهم يتمتعون بكرامات، وما اتسخت أذهانهم ولا قلوبهم ولا توارثت بحب الدنيا والشهوات.
قال: [واشترطت ألا يكون لهم حق في الماء، فقبلوا الشرط ونزلوا، فكانت هذه بداية عمارة مكة في العهد الإبراهيمي السعيد] وبدأت مكة تعمر من هذا الوقت.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [أين الذين يتشدقون بالديمقراطية] أين هم؟ نريد أن نراهم [والعدالة الاجتماعية؟ أين هم؟ إنهم في الحضيض الأسفل إزاء هذه الواقعة التاريخية الثابتة بالوحي الإلهي: امرأة غريبة الدار، تملك بئر ماء في صحراء تستأذنها في النزول إليها رفقة كاملة برجالها ونسائها، تستأذنها في النزول في جوارها، فتشترط عليهم في النزول بجوارها وهي تحب الأنس -أيضاً- ألا يكون لهم حق في الماء فيقبلون الشرط ويرضونه وينزلون!!].
أين أدعياء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟! هراء وتضليل وخرافات!
[هذه خلة فاضلة كريمة من خلال العرب في الجاهلية فكيف بهم في الإسلام لولا الصرفة التي صرفوها بمكر الثالوث الأسود: المجوس واليهود والنصارى] كان العرب هكذا، ولكن من صرفهم عن مصدر كمالهم حتى هبطوا؟ الثالوث الأسود، من هذا الثالوث؟ يتكون من أية عناصر؟ والله لمن المجوس، واليهود، والنصارى.
يقول قائل: يا شيخ! كيف صرفوهم بالسحر أم بماذا؟ صرفوهم بأن قالوا لهم: القرآن يُقرأ على الموتى فقط، هل بلغكم أن العالم الإسلامي يقرأ القرآن على الموتى أم لا؟ وهل نزل القرآن ليقرأ على الموتى أم على الأحياء؟
وصرفوهم عن السنة كذلك، فتقرأ كتاب الفقه طوال العام لا تجد فيه قال الله ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنسوهم الله ورسوله، فلا كتاب ولا سنة، فتمزقت الأمة وتلاشت وتمرغت في أوضار الحياة والجهل.
هذا الذي حصل! ما بقي للعروبة اسم على حقيقته، وإلا العربي أسد في كمالاته وقوته وشجاعته.
هذا هو الواقع ولهذا قلنا: هذه خلة فاضلة كريمة من خلال العرب في الجاهلية فكيف بهم في الإسلام؟! الله الله في القرون الثلاثة الأولى كيف كان العربي؟ كان إذا شرق أو غرب وجدت العدل والشجاعة والرحمة والإخاء ..
وهذا منظر: في اليرموك أو في غزوة اليرموك كان هناك جريح يصرخ من شدة العطش، فسمعه آخر فنقل الماء إليه، فإذا بآخر يقول: آه، فيقول الأول: أعطه، فيذهب إلى الآخر فيقول ثالث: آه، فيقول الثاني: أعطه، حتى مات الجرحى كلهم، وكل منهم يؤثر أخاه بالماء.
هذا أيام كان العرب يعيشون على نور الله، ولكن جهّلوهم وضلّلوهم وأهبطوهم، ثم ركبوا عليهم ورفسوهم، وبعدما رفعوا أرجلهم علينا تركونا كالبهائم!!
قال: [واستشار إبراهيم إسماعيل في ذلك قائلاً: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] فأجاب إسماعيل قائلاً: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
وأراد إبراهيم تنفيذ أمر ربه فخرج بإسماعيل ولده إلى منى، ليذبحه قرباناً لربه حيث أمره، ولما تله للجبين] أي صرعه على وجهه [والمدية بيده] أي السكين [وقبل الإجهاز عليه ناداه ربه: وَنَادَينَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105] وفداه بذبح عظيم، أي بكبش أملح كبير، فترك الولد وذبح الكبش، وفاز بالرضا الولد والوالد].
هذا امتحان وإلا لا؟
إنه امتحان وابتلاء. لو جعت ليلة واحدة هل ستصبر؟ ستقوم في الليل تبكي وتذكر الله، بل نخشى أن تبعث من يخطف الخبز من يد صاحبه.
هذا جزاء من ابتلاه الله فصبر، ونحن إذا ابتلينا نضجر ونسخط ونفجر، وإذا عفا الله عنا وأكرمنا نسرف ونعبث ونلهو؛ لأنه لا رشد لنا! قولوا: لا تلمنا يا شيخ! لأننا ما رُبّينا في حجور الصالحين، ولكن نعيش كالحيوانات.
يجب أن يتربى المرء بين أبوين صالحين وبين مربين ربانيين في بيوت الرب كل ليلة؛ ليتعلم العلم، وليزداد النور في قلبه وبصره وسمعه، فلا يمضي عام إلا وهو رباني لا ينطق بالسوء ولا يتحرك حركة فيها أذى.
إن في صبر هاجر على ذبح ولدها وصبر إسماعيل على ذبح نفسه لآية -أي علامة- دالة على طيب الأم وولدها فلذا اختارهما الله لأن يكونا جدين لسيد المرسلين الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
[إن طيبوبة الأصول تنتقل إلى الفروع، وقد تزهوا الفروع على أصولها] أليس كذلك؟
إن محمداً صلى الله عليه وسلم علا فوق إسماعيل وإبراهيم.
[وجاء الخليل مرة أخرى يتعهد تركته] المرة الأولى انتهت، وعاد إلى أرض القدس وجاء بعد عام أو عامين أو ثلاثة يتعهد أسرته، وتلك المؤمنة محرومة من الولد، فهل أعطيت بعد ذلك ولد؟ الله أكبر! فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] .. هي التي صكت وجهها وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات:29-30] أبشري يا سارة .
[وكان إسماعيل عليه السلام قد كبر وبلغ وتزوج امرأة جرهمية من الرفقة التي جاورتهم بمكة، ومن لحق بهم من قومهم] تزوج إسماعيل بعد أن بلغ من قبيلة جرهم النازلة بجوارهم، والخاضعة لسلطان أمه في الماء.
[فدخل إبراهيم وسلم على امرأة ابنه، وكانت هاجر قد توفيت] ماتت هاجر رحمة الله عليها، ولكن أين هي مدفونة؟ لعلها في حجر إسماعيل، وحجر إسماعيل معروف، ذاك هو المنزل الذي كان يسكنه ومات فيه ودفن فيه، فالأنبياء يدفنون حيث يقبضون، هذه سنة الله، لكن احذروا لو أتيتم إلى الحجر أن تنادوا وتستغيثوا بإسماعيل فتكفرون وتشركون.
[فقال: أين إسماعيل؟] بعد أن سلم [قالت: ذهب يصيد] فليس عندهم -والله- إلا الماء واللحم، يصيدون الأرانب والضباء والغزلان ويشربون ماء زمزم [وسألها عن حالها مع زوجها، فلم تذكر خيراً] وهذه كنساء اليوم، لا يقلن إلا نحن في شقاء، وفي بلاء، وفي تعب، وما إلى ذلك ..
[فقال: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: يُغير عتبة بابه] وهذه كناية لطيفة: فغير عتبت بابك يا إسماعيل: أي استبدل هذه المرأة بأخرى، فهذه لا تصلح، ليس لهذه أن تنجب سيد المرسلين، أو ليست أهلاً لذلك، وتعرفون هذا من نسائكم، فقليل الصالحات، من يقلن: الحمد لله، فنحن في خير، عندنا الرطب، وعندنا الماء .. وتذكر نِعم الله، أما الجامعيات: فتطلب كذا، وتطلب كذا وكذا.. حتى ينهار الفحل! فمن أين له أن يأتي بهذا كله؟
ستقولون: لِمَ الشيخ يتحرش بالجامعيات؟
لأني أقول لكم: لا تعلموا نساءكم أكثر من معرفة ربهن، وطاعة مولاهن، وتربية أولادهن، وطاعة أزواجهن، وإلا يعلون عليكم ولا تنتفعوا بهن، فتصبحون تحت، وأنتم الآن فوق، وأنتم لا تأخذون بالنصائح؛ لأنكم اقتديتم بالشرق والغرب، ولكن اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناته وأزواجه، والمؤمنات: من فاطمة الزهراء إلى أمي أنا فقط، هل كان النساء موظفات في المكاتب؟ لا. ما توظف أحد من فاطمة الزهراء إلى أمي، ولا امرأة واحدة، وعشن صالحات ومتن على ذلك.
أما الآن: مستقبلي يا بابا.. مستقبلي يا بابا! فيقول الأب: يا بنيتي الزمي البيت واقرئي كتاب الله، وصومي وصلي، وساعدي أمك على مهامها في بيتها، وإذا كبرت زوجناك بمؤمن تسعدين به وتُسعدينه خير لك من الدنيا وما فيها.
فتقول: لا. مستقبلي يا بابا! أريد شهادة لأتوظف بها!!
اللهم أدم هذه النعمة على أهل هذه البلاد، فليس هناك وظيفة، الآن نحن مكبوتون كبتاً، ولولا هذه الحكومة لأصبحنا نتنافس من تقبل ابنته في الوظيفة، ستقولون: يا شيخ! كيف تقول هذا، أليست بلادنا الأخرى هكذا؟!
أسألكم بالله! إنهم يطلبون الوظائف لبناتهم ونسائهم مع الرجال!
عرفتم لماذا نقول لا للجامعيات؟! وأنا أحب مثلكم كل مؤمن ومؤمنة، لكن فقط من باب لعل الله أن ينفع من يسمع أو تسمع، فلا خير مستقبلاً في تعليم البنات العلم الذي لا يزكي أنفسهن ولا يطهر أرواحهن ولا يهذب أخلاقهن، وكيف يتم ذلك والوظيفة هي المطلوبة؟! ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )، إن الرجال الفحول الذين لم يطلبوا العلم لله لم يستفيدوا منه.
[وجاء إسماعيل من الصيد وأخبرته بالخبر، فقال: ذاك أبي، وقد أمرني بطلاقك، فالتحقي بأهلك] لم يتردد؛ لعلمه بصدق أبيه ومعرفته.
فلهذا نقول: يا بني! انظر، فإذا كان أمك وأبوك صالحان طيبان، وقد نصحا لك أن تطلق فطلق، أطعهما فإنهم أعلم منك وأعرف، وإن كانا فاسدين والمرأة صالحة وإنما هي الغيرة والحسد والجهل فلا تطلق، واعصهما؛ ( إنما الطاعة في المعروف ) فهمتم هذه القاعدة وإلا لا؟ أو ما تأخذون بها؟!
وقد رأيت شاباً من تلاميذنا تزوج عشر مرات، حتى ماتت أمه، كل ما أتى بامرأة ومكثت شهراً أو عاماً، قالت له أمه: هذه لا تصلح طلقها، حتى وضع الأمر في يدها هي تزوجه وتطلقه!
إذاً: إذا كان الأبوان صالحين خذ بنصيحتهما وإن أعجبتك المرأة وشهتك مالها، فهما يعرفان ما لا تعرف، وإن كانا من الهابطين وكانت المرأة صالحة -كما ترى- فلا تطعهما. وهذه القاعدة أخذناها من إبراهيم لما زار ابنه إسماعيل وقال: إذا جاء زوجك أقرئيه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل من الصيد تفرس قائلاً: هل زارنا أحد؟ فقالت: نعم، فسألها ماذا قال، فقالت: يقول لك: غير عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وقد أمرني بطلاقك، فالتحقي بأهلك.
[مضى زمن -يطول أو يقصر- وبدا لإبراهيم أن يتعهد تركته، فجاء مكة] من الشام من القدس [ودخل حجر إسماعيل فسلم وقال: أين إسماعيل؟ وسألها عن حالهم؟ فذكرت خيراً] أي قالت: نحن في خير وعافية، والحمد لله على الماء والعيش والأمن، ففرح إبراهيم. وهذه هي المؤمنة!
[فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، وقولي له: ثبت عتبة بابك] أي: ركز عليها وثبتها، كناية عن الزوجة، وهذه يفهمها ذو اللب والعقل، فالمرأة هي عتبة الباب، يدخل الخير أو الشر من طريقها.
[وعاد إبراهيم إلى الشام ومضت الأيام -وقد تطول أو تقصر- وبدا لإبراهيم أن يطلع على تركته، فجاء مكة فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له تحت دوحة عظيمة قريبة من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنع كما يصنع الوالد بالولد والوالد مع الولد] أي: احتضنه. وتعرفون هذا! فلم يقبل خديه وشاربيه وعينيه -كما تفعلون- بل احتضنه وضمه إلى صدره، والذي أخبر بهذا هو أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
[فقال إبراهيم: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال إسماعيل: فاصنع ما أمرك ربك، قال إبراهيم: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها] من الأرض. وهذه هي بداية الكعبة.
من نتائج هذه المقطوعة من السيرة وعِبرها ما يلي:
أولاً: تعهد الوالد أهل ولده بزيارتهم، والتعرف على أحوالهم من الوقت إلى الوقت] فلا يهجرهم دائماً كما نفعل.
[ثانياً: قوة الفراسة والعمل بها، فإن إبراهيم -عليه السلام- تفرس في امرأة ابنه أنها غير صالحة له، لِما سمعه منها من شكاة، وإن إسماعيل عمل برأي والده وطلق امرأته.
ثالثاً: مشروعية استعمال الكنايات في المخاطبات، فقد كنى إبراهيم عن المرأة بـعتبة الدار.
رابعاً: مشروعية معانقة الولد للوالد وعكسها] الولد يعانق الوالد والوالد يعانق ولده [ويقاس عليهما غيرهما] أيضاً، كصديق أو قريب جاء من بعيد فلك أن تحتضنه، أما التقبيل من الوجه كما يُفعل عندنا فلا، لم يرد ولا ينبغي، إلا النساء يقبلن بعضهن كيف شئن، أما الرجل يكفي أن يحتضن، أو يقبل جبهة أبيه أو شيخه.
[خامساً: مشروعية استشارة الوالد ولده، وطلب العون منه على أمره] استشار إبراهيم إسماعيل على البناء، قال: تساعدني؟ قال: نعم.
[سادساً: قدم البيت العتيق، وأنه أول بيت وضع للناس، كما قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]].
والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر