أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى هذه المقطوعة الذهبية النورانية وهي: [بناء إبراهيم عليه السلام للبيت العتيق] وإبراهيم الخليل معروف لكل مؤمن ومؤمنة، بل معروف لليهود والنصارى وغيرهم، إنه أبو الأنبياء، فكل الأنبياء من ذريته، وأبو الضيفان أيضاً، وما عرفت الدنيا أكرم منك يا إبراهيم في ضيوفك.
وقد سجل القرآن هذه الحقيقة، قال عز وجل: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:26-27] وكم كانوا؟ ثلاثة أنفار، جبريل وميكائيل وإسرافيل. فقدم لهم إبراهيم عجلاً مصلياً -مشوياً-.
والبيت العتيق بمعنى القديم، وهذا معروف أيضاً لكل مؤمن ومؤمنة، وحتى لليهود والنصارى وغيرهم، والبناء هذا موضوع الحديث.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ولما وافق إسماعيل على إعانة والده على بناء البيت] وعرفنا أن إسماعيل ابن هاجر المصرية القبطية، التي أهداها ملك مصر إلى سارة امرأة إبراهيم عليه السلام. ولِم أهداها؟ لأنه شاهد فيها آيات الله، فما أن يحاول أن يمد يده ليلمسها حتى يصاب بالشلل الفوري، حصل له ذلك ثلاث مرات، فقال: أخرجوها عني وشنعوها. أي: أكرموها. فكان من جملة ما أكرموها به إعطاؤها جارية تسمى هاجر .
هذه جدتكم يا أبناء إسماعيل، أنجبت من إبراهيم -عندما تسراها- إسماعيل عليه السلام؛ لأنها جارية، ليست زوجة. وكيف تسراها؟ لأن سارة ابنة عمه وزوجته أهدته إياها.
وتألمت سارة لأنها مر عليها زمان وما أنجبت حتى تقدم بها السن؛ فراعت هاجر مولاتها -سيدتها- وما أحبت أن تزعجها أو تؤذيها عندما ترى طفلاً بين يديها هي محرومة منه، فقالت لإبراهيم: أبعدني عنها حتى لا نؤلمها أو نؤذيها، والمدبر الحكيم هو الله رب العالمين، فذهب بها إبراهيم إلى الوادي الأمين، حيث لا زرع ولا نخل ولا عنب ولا تين.
ولا ننسى أبداً عندما تركها وطفلها ليس معها إلا جراب فيه أقراص من العيش اليابس، وسقاء فيه ماء في ذلك الوادي، وقالت له بعدما قفل راجعاً إلى الأرض المقدسة: آلله أمرك بهذا يا إبراهيم؟ قال: نعم، فقالت: إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا.
لا تُنسى هذه أبداً في التاريخ.
هذا هو الإيمان بالله واليقين، هذا هو التوكل على الله رب العالمين، فما إن علمت هاجر أن الله أذن إلا ووثقت في الله وأنه لن يضيعها.
وعرفنا كيف عطش إسماعيل بعد أن انتهى ماء السقاية، وهو يتلوى على الأرض ويبكي، ولكن من أين الماء؟ وعرفنا كيف علت هاجر جبل الصفاء لعلها تشاهد ماءً أو من يحمل الماء، أو من يهديه إليها، وما وجدت فهبطت، وإذا بها تسرع في بطن الوادي تخب خبباً حتى تتجاوزه -وتلك سنة السعي عندنا، ورثنا الله إياها ذكرى لأم إسماعيل- ثم تصل إلى المروة فترقى الجبل، وتنظر يميناً وشمالاً فلا ترى شيئاً، حتى اكتمل لها سبع أشواط، وإذا بصوت يقول: أَسمعتَ أَسمعتَ فهل من غياث؟ وإذا بجبريل عليه السلام في صورة إنسان جميل الطلعة، كامل الذات، واقف على رأس إسماعيل وهو يتلوى من شدة العطش، فجبريل يجيء في صورة إنسان -إي والله الذي لا إله غيره- وكذلك كان يتردد على حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل المسجد في صورة دحية بن خليفة الكلبي .
إذاً: ما إن دنت حتى قال بعقبه في الأرض هكذا، ففاض ماء زمزم، وإذا بها تزمه حتى لا يسيح في الأرض، ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كذا ألف سنة، ويقول: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً )، لكن هي التي حصرته فأصبح بئراً في الأرض، وهل بقي بئر زمزم إلى الآن؟ إي والله إلى الآن، وويل للكافرين، كم عمر بئر زمزم؟ قريب من خمسة آلاف سنة أو ما إلى ذلك بطعمه ولذته وبركته: ( وزمزم لما شرب ).
وقد مر بنا كيف أن إبراهيم تعهد تركته مرتين، في المرة الأولى أرشد إسماعيل بطلاق زوجته، وأنها لا تصلح لدار النبوة، فليست أهلاً للطهر والصفاء، بقوله: غير عتبة بابك.
وفي المرة الثانية عندما وجد إسماعيل غائباً سأل عنه، قال: أين يذهب إسماعيل؟ فقالت: يصطاد. أي: يصطاد الغزلان والأرانب إذ ليس لهم من الطعام إلا الماء واللحم، ولا يستطيع شعب أن يعيش على هذا إلا أهل مكة، فلما سألها عن حالها؟ قالت: نحن في خير وعافية، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: يثبت عتبة بابه. وهذه المرأة هي التي ستكون جدة سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: [ولما وافق إسماعيل على إعانة والده على بناء البيت] عندما استشاره أبوه قائلاً: يا إسماعيل أمرني الله أن أبني بيتاً له هنا، فهل تساعدني؟ هل تتحمل هذه المسئولية معي؟ قال: نعم، على الرحب والسعة [شرع إبراهيم في البناء، وقد هداه ربه تعالى إلى مكانه] أما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] [الذي كان به قبل رفعه عام الطوفان] وهذا من باب العلم لا الجزم، وإنما نقول من الجائز، فلا نجزم ونقول: كان كذا ووقع كذا ونوقع المسلمين في اضطرابات.
فمنهم من يقول: إن الله رفع البيت قبل الطوفان. وله أن يرفعه، أليس هو الذي وضعه؟ بلى هو الذي وضعه. البيت من بناه؟ بناه الله لآدم بما شاء؛ لأن آدم وحواء غريبان في الدنيا، فلم ترَ الدنيا من عاش غربتهما قط، كان لا يوجد في العالم الأرضي سواهما، وقد كانا في أنس وكانا وكانا ..، فمن باب الرحمة بهما أن بنى الله لهما بيته، فإذا احتاجا إلى شيء يأتيان مولاهما فيسألانه عند باب بيته، وما زال البيت إلى الآن، فأيما مؤمن صادق الإيمان، طاهر النفس، زكي الروح، ذو علم ويقين .. يصيبه ما يصيبه فيأتي الله يسأله عند بابه إلا قضى حاجته.
وقول آخر وهو: أن البيت هدمه الطوفان أو السيول؛ لأنه في واد، والسيول إذا جاءت قوية تجرف ما شاء الله أن تجرف.
[أو هدمه بفعل السيول الجارفة، وعدم وجود من يقوم ببنائه، فأخذ إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان ما أخبر الله تعالى به عنهما في قوله:] الكلمات التي كانا يقولانها عند البناء مسجلة عندنا، محفوظة والله العظيم؛ لأنه كتاب الله.
هذه الكلمات قالها إبراهيم وإسماعيل وبلغتنا الآن وبيننا وبينها آلاف السنين [ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]] كانا يتناولان الحجارة ويتغنيان بهذه الكلمات الطيبات التي سجلها الله في كتابه: .. رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة:127] يتقبل منهما ماذا؟ هذا الجهد، وهذه الطاقة، وهذا البناء، وهذا من الكلمات التي امتحن الله بها إبراهيم، قال الله عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، منها: أن يبني له بيتاً في الخلاء، فلو صدر أمر إليك أن تبني بيتاً في صحراء فهل تستطيع؟ هذه أكبر مشقة. ولكن إبراهيم عليه السلام قام بذلك.
وقولهما: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] يسمى توسلاً إلى الله بأسمائه وصفاته، فلم يقولا: بجاه نوح، أو بحق سيدنا إدريس -مثلاً-.
[ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]] هل عرفتم ماذا سألا؟ هل سألا الدينار والدرهم! الدولة والسلطان؟! ماذا قالا؟ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128] أي: خاضعين لك، نسلمك كل شيء فينا، القلوب والوجوه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أي: واجعل من ذريتنا: أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وهاهي قائمة إلى الآن [ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا [البقرة:128]] أي: علمنا كيف نعبدك [ وَتُبْ عَلَيْنَا [البقرة:128]] يطلبان التوبة.
والذي يطلب التوبة نحن المنغمسون في الآثام والذنوب، ستقولون: يا شيخ لا تقل هذا؟
أنا أقول: لو لم نذنب ذنباً اليوم قط، إلا أننا نتقلب في هذه النعم وما شكرنا الله تعالى، أي نعم! ألا أدلكم عليها؟! إن هذا المسجد النبوي كان يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه هو ورجاله وهو ظلمة، ليس عندهم فانوس ولا مصباح، وكانوا يذهبون يبحثون عن الماء فيرحلون من بستان إلى بستان، وأنتم الآن تعيشون بهذه الكهرباء -وهي وحدها كافية- والمياه تفجرونها من جدران بيوتكم.
المهم: ذنبنا الذي يجب أن نعرفه -أيها الصالحون والصالحات-: أننا والله لمقصرون في شكر الله تعالى، لو قلنا طوال النهار: الحمد لله.. الحمد لله، ما كان ذلك كافياً والشاهد عندنا: وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، إنه شعور فياض حساس وعلم يقيني! إننا نتقلب في نِعم الله وأفضاله، وما شكرنا ولا أدينا ما يجب، فنحن في حاجة إلى أن يتوب الله علينا وهو التواب الرحيم.
[ولما ارتفع البناء] كان إسماعيل يناول وإبراهيم يضع حتى ارتفع البناء [جاء إسماعيل بحجر كبير مرتفع، فصار إبراهيم يعلو فوقه، ويواصل رفع البناء حتى فرغ] كلما فرغ من جهة يدفع الحجر إلى الجهة الثانية ويواصل البناء.
[وبقي الحجر تحت جدار البيت، وقد ارتسمت عليه قدما إبراهيم -وهو صلب ليس برطب- لتكون آية للعالمين] أما قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]؟!
وقد بلغني من أحد الطلاب: أن البعض يقولون: إن هذا الموجود ليس قدم إبراهيم! إن الذي يقول هذا الكلام يكفر؛ لأنه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكونهم ألصقوا به النحاس أو الذهب أو الفضة أو غيره حتى لا يبيد ويفنى لا بأس، ولكن الأصل -والله- أنه الحجر، وعليه قدما إبراهيم.
[ولما جاء الإسلام -ومرحباً به- شرع الله تعالى الصلاة خلفه] أي: خلف المقام [إذ قال تعالى من سورة البقرة: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]] هذا أمر من الله، أي: اجعلوا من مقام إبراهيم مصلى.
كيف ذلك؟
من طاف وفرغ من طوافه أتى خلف المقام وصلى ركعتين، يقرأ في الأولى بالفاتحة والكافرون، والثانية بالفاتحة والصمد، ومن لم يستطع لكثرة الطائفين أن يصلي خلفه مباشرة، صلى خلفه ولو على بعد مسافات، المهم أن يكون خلفه، إن الله عز وجل لا ينكر الفضل والإحسان.
هذا الحجر قدَّم خدمة لله تعالى في بناء بيته، فعرف الله تعالى له ذلك، بأن جعل أشرف عبادة تؤدى خلفه، والحسنة بالحسنة، فكل عبد يقدِّم لله عز وجل يعترف الله له بذلك، ولا ينساه أبداً، فماذا فعل هذا الحجر؟ أعان على بناء البيت فقط.
إذاً: جعل الله تعالى أشرف عبادة تؤدى خلفه، ودوّن ذلك في كتابه: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].
[ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت، أمره الله تبارك وتعالى أن يؤذن في الناس بالحج، كما قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]] أي: بعيد الغور.
[فطلع إبراهيم -عليه السلام- على جبل أبي قُبيس] وهو موجود إلى الآن [وهو من أقرب الجبال إليه، ونادى باسم الله تعالى قائلاً: أيها الناس، إن ربكم بنى لكم بيتاً فحجوه، والتفت بندائه يميناً وشمالاً -كما يلتفت المؤذن اليوم في أذانه للصلاة- فأسمع الله تعالى نداءه كل نسمة خلقها الله تعالى، فمن لبت حجت، ومن لم تلبِ لم تحج أبداً].
وقد بلغني أنه يوجد في مكة من لم يحج، بل مات ولم يحج، ما أجابت نفسه، ومعنى هذا: أن الأنفس أو الأرواح مخلوقة قبل خلق البشر، أي نعم، ويأتي بها الملك فينفخها من فمه في الرحم أو في تلك القطعة من اللحم.
[ومعنى لبت: قالت: لبيك اللهم لبيك، أي: أجبت طلبك مرة بعد مرة]
هذه المقطوعة عنوانها: (بناء إبراهيم عليه السلام للبيت العتيق)، فماذا فيها من نتائج وعبر؟
أولاً: تقرير بناء إبراهيم للبيت العتيق شرفه الله وكرمه] فلو قام اليهود أو النصارى أو غيرهم، وقالوا: إن إبراهيم لم يبنِ البيت، والله ما صدقناهم ولا قلنا بقولهم، فنحن موقنون أن إبراهيم عليه السلام بنى البيت، والآيات الكريمة شاهدة.
[ثانياً: بيان تعاون إبراهيم مع ولده إسماعيل على بناء البيت] لو سئلنا: من كان يعين إبراهيم وهو يبني البيت، نقول: هاجر؟! لا، فـهاجر امرأة، الذي كان يعاونه هو إسماعيل، وقد ماتت هاجر أيضاً. والدليل هو القرآن الكريم: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127].
[ثالثاً: بناء البيت كان على أسس وقواعد قديمة كان عليها قبل حادثة الطوفان. وفي هذا ترجيح للقول: بأن البيت كان من عهد آدم -عليه السلام-.
رابعاً: ارتسام قدمي إبراهيم على صخرة المقام] هذا الارتسام [آية خالدة من آيات الله تعالى، التي كان يعطيها الأنبياء عليهم السلام] وإلا الصخرة هل تغوص فيها رجل آدمي؟! لا يدخل فيها الحديد، ولكنها آية من آيات الله الذي يحيي العظام ويحيي الموتى، والله يخبر أن من الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ .. [البقرة:74] وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، يهبط الحجر من خشية الله.
[خامساً: تقرير القول بأن الأرواح مخلوقة قبل خلق أجسامها] ونحن نذكر أن الله عز وجل أخذ من ظهر آدم أرواح بنيه واستنطقها فنطقت، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173] [وأن الملك الموكل بالأرحام ينفخها في المضغة بإذن الله تعالى، فتسري فيها، فتحيا] ويوجد الجنين.
قال: [إنه أثناء قيام إبراهيم وولده إسماعيل ببناء البيت العتيق، كانا -عليهما السلام- يتقاولان ما أخبر به تعالى عنهما في قوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، إذ الضمير في قوله: (فِيهِمْ) عائد على ذرية إسماعيل وإبراهيم -عليهما السلام- فكان هذا مبدأ أمر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم].
ما هو مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ تلك الدعوة التي كان إسماعيل وإبراهيم يدعوان الله تعالى بها: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة:129]، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
[وقد قرر هذه الحقيقة بنفسه صلى الله عليه وسلم: إذ سئل عن مبدأ أمره؟ فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ) عليهما السلام].
سأله صلى الله عليه وسلم سائل: ما مبدأ دعوتك يا محمد؟ أو ما مبدأ أمرك؟ فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم ) دعا إبراهيم واستجاب الله، ( وبشارة أخي عيسى ) إذ عيسى عليه السلام قال لليهود من بني إسرائيل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] صلى الله عليه وسلم.
إذاً: عرفنا بداية أمر الحبيب متى كانت وكيف كانت، فقد كانت دعوة إبراهيم وإسماعيل، وهما يبنيان البيت وقرر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [لقد عاش إسماعيل بجوار البيت العتيق، وفي مكة أصهاره من قبيلة جرهم اليمانية القحطانية] عرفنا أن إسماعيل تزوج من امرأة جرهمية؛ لأنه لما نبع الماء ووجد في مكة بين الجبال زمزم جاءت قافلة من قوافل التجار سائرة في الأرض فاحتاجوا إلى الماء، فبعثوا رائداً لهم يستطلع، وإذا به يشاهد الطيور ترتفع وتهبط، فقال: لن يكون هذا إلا ماء -ذكي!- فجاء وإذا بـهاجر وإسماعيل عند نبع زمزم، فعاد إلى قبيلته قائلاً: تعالوا: ولما جاءوا نزلت هذه القبيلة إلى جوار هاجر مستأذنة منها، فقالوا لها: هل تأذنين لنا بالنزول هنا، لننتفع بمائك؟ عجب هذا! قبيلة فيها الأبطال والشجعان من الكفار المشركين يستأذنون امرأة مع طفلها؟! وقد قلت غير ما مرة: والله لو كانت فينا نحن أيها العرب المسلمون لكان من يركلها برجله ويقول: اسكتي! ألا تحسون بهذا الإحساس؟! أين العدل والمروءة والكرامة والشهامة والخير ..؟! قبيلة كاملة تستأذن امرأة في صحراء فتشرط عليهم ألا حق لهم بالماء؟! فأذنت لهم بالنزول فنزلوا.
هل تذكرون المصادرات أيام الاشتراكية والتأميم؟! هناك أناس ماتوا من الكرب، فهذا تؤخذ منه عمارته وهذا يؤخذ منه بستانه، هؤلاء من العرب.
ستقولون: يا شيخ لِم تلوم هذا اللوم؟ لأننا هبطنا، أي نعم، فقد كنا في علياء السماء فهبطنا إلى الأرض وهذه حالنا.
[وقد نبئ فيهم، وأرسل إليهم] نبأه الله لما بلغ الأربعين وأرسله إليهم رسولاً -إلى تلك القبيلة- [وإلى كافة من بالحجاز من العماليق] إذ لم يكن في تلك الديار إلا العماليق، فهو رسول الله إلى الجرهوميين القحطانين والعماليق [وأنجب إسماعيل أولاداً بلغوا اثني عشر ولداً] وكم من إنسان يلد هذا العدد، ليس هناك عجب.
[منهم: نابت ] من نبت ينبت [وهو أكبرهم، وهو حلقة السلسلة الذهبية المحمدية] والأحد عشرة الآخرون لهم حالهم [فـنابت من أولاد إسماعيل الاثني عشر، هو الذي اختير لأن يكون من آباء دعوة إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، واختفت حلقات السلسلة الذهبية فيما بين نابت وعدنان ] لم يعرف أحد كم بين نابت وإسماعيل من الولد أو كم سنة إلى عدنان ؟ هذه الحلقة اختفت.
ويذكر المؤرخون نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم، ولكن حسبنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( لا ترفعوني فوق
[وكان عدد الآباء ما بين نابت بن إسماعيل وعدنان يقدر بستة آباء، والجميع عاشوا بالحرم المكي، ولم يخرجوا منه، ومع هذا لم تضبط أسماء هؤلاء الآباء الستة، وصاحب النسب الزكي الشريف، حبيب الأحباء، وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم انتهى بذكر نسبه جازماً بما ذكر إلى عدنان ثم سكت وقال: ( كذب النسابون )، قال تعالى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [الفرقان:38]، فلهذا كان الانتهاء إلى حيث انتهى النبي صلى الله عليه وسلم بنسبه أولى].
إذاً: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن كذا.. إلى عدنان يقينية، وذكروا ما فوق عدنان ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( كذب النسابون ) فنسكت حيث سكت صلى الله عليه وسلم.
وهذه المقطوعة لها نتائج أيضاً موجزة وهي ما يلي:
أولاً: النسب الشريف بين إسماعيل وعدنان مجهول، ولا يصح الجزم بما ذكر النسابون، حيث بلغوا بالنسب الشريف إلى آدم عليه السلام.
ثانياً: صحة النسب الزكي من عدنان إلى عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم بالصحة لا يخالطها شك أبداً.
ثالثاً: توهين أقوال النسابين، وعدم الجزم بما يقولون].
فنقول: هو لما ذكر ومجّد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها )، هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يزيغ عنها إلا هالك ) زاد الكاتب: (ولا يعرض عنها إلا كافر فاسق فاجر)، ففهم الأخ هذا أو الابن بأن صاحب المقال كفّر وفسّق وفجّر من لم يقل بالمولد، وهذا فقط لعدم تأمله في الكلام؛ لأنه لما عرض وقال: ( وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) وهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، زاد هو: (ولا يعرض عنها) أي: عن الإسلام (إلا كافر فاسق فاجر) فلم يقل عن المولد.
هذا تصريح لفهم هذا الابن، أما كلمتنا على المولد، فاسمعوها:
غداً يحتفل الناس بالمولد ..
أولاً: قلت لكم وما زلت أقول على علم: الاحتفال بالمولد لم يعرف في ديار الإسلام .. في الحرمين الشريفين أو في عواصم الإسلام: بغداد ودمشق إلا في القرن الرابع فقط، وطوال ثلاثة قرون ونصف ما عرفوا شيئاً اسمه المولد، وهذه مسائل يقينية لا تقال بالهوى.
فما عرف المسلمون المولد إلا في القرن الرابع حيث بدأ، ولِمَ بدأ؟ لأن القرون الثلاثة انتهت، وأخذ الظلام يعم، وبدأت الفتن، وبدأ الجهل، وأعرض المسلمون عن القرآن وحولوه إلى الموتى، ووالله ما نزل ليقرأ على الموتى، وإنما ليقرأ على الأحياء ليفقهوا ويفهموا ويعلموا، لكن حولوه إلى الموتى وإلى اليوم، فقال بعض أهل العلم وبعض الناس: ما دامت الأمة نسيت كل شيء، فهيا نحيي ليلة المولد، لنذكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. وما أتي عام إلا ونحن نهبط، حتى تأصل هذا وأصبح -المولد- لابد منه؛ لأنه ذكرى!
وبلغ بنا الحد لما وُجدت الحركة الإصلاحية وأنكر الناس المولد بوصفه بدعة لم يقرها الشارع؛ أن يكفر الناس بعضهم بعضاً، فمن قائلاً: هذا يكره المولد ولا يقول به كافر، وآخر يقول: هذا يأتي بدعة المولد فهو مشرك.. وعمت الفتنة وتأصلت لعدم وجود النور، لأن الأمة جاهلة لا علم لها بالحقيقة.
وبقيت هذه البدعة إلى اليوم يحتفل بها المسلمون كذكرى من ذكريات الزعماء، وقد عرفنا: أن هذه البدعة باطلة ولا تصح وكذب؛ لأننا نرفع أصواتنا باسم الحبيب صلى الله عليه وسلم على المنارات خمس مرات في أربع وعشرين ساعة، فهل هذا ينسى حتى تقام له ذكرى؟!
مَن يذكر خمس مرات في منارات العالم الإسلامي بقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) هل ينسى؟ أين هذا النسيان؟ نحن نحييه ونسلم عليه بين يدي الله في كل صلاة بقولنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وتصله الصلاة على الفور كما هي، فعندما تجلس بين يدي الله، تقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات..) ماذا تقول بعد ذلك؟ ومن علمك هذا؟ أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو قلت: السلام على النبي لم تصح منك.
فالمسلمون فهموا من نبيهم أنه لابد من هذا، والآن بواسطة هذه المخترعات التي أخرجها الله آية من آياته، لقرب الساعة، أصبحنا نقول: السلام عليك أيها النبي وجهاً لوجه ويسمعها، ووالله إن غفلت لأعيدها، فإذا سلمت وأنا غافل أعيد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
أهذا تقام له ذكرى؟ أليس عيباً ونقصاً أن نشبه رسول الله بـأفلاطون ولينين وفلان.. وفلان، أولئك تقام لهم الذكريات لأنهم ماتوا وانقرضوا؛ لأنهم انعدموا فلم يبقَ لهم ذكر، وأراد أتباعهم وأقوامهم أن يذكروهم في العام مرة، فيقال: ذكرى لينين ، أنسوي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء؟!
ولكن لا لوم؛ لأن الأمة هبطت، ووالله لو نجتمع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت ربنا وبيوتنا، وذلك طوال العام وعلى مدى الحياة؛ ما بقي فينا جاهل ولا جاهلة، ولا ظهر شر ولا فساد، ولا خلاف ولا فرقة ولا عناد، ولا باطل، ولكن بعدنا عن النور الإلهي والحكمة المحمدية، فها نحن نتخبط في حيرتنا.
وما زلنا نصرخ -ووالله العظيم إني لعلى علم- من أراد لأمته أو لقومه أو لشبعه أو لبيته أن يستقيم أهله، فليجمعهم كل ليلة طوال العمر ويعطيهم ليلة آية وليلة حديث، من قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل يبقَ بينهم جاهل؟ ألم يعلموا أن الزنا شائع في ديار المسلمين وسببه الجهل؟ ألم يعلموا أن الفسق والفجور والشر والفساد سببه الجهل؟!
إذاً: ما الطريق إلى العلم؟!
أن نصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يدعو إبراهيم: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ماذا يفعل بهم؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، ونحن أغلقنا أبوابنا ومساجدنا وذهبنا إلى المقاهي والأسواق قرناً بعد قرن، فانتهى منا العلم وأصبحنا جهلة.
هل عرفتم هذه الحقيقة؟!!
أيما حاكم في بلاد العرب أراد أن يحيا شعبه وأن يستقيم وأن يطهر؛ فقط عليه أن يصدر قراراً بأن على المواطنين في كل ليلة أن يحضروا بنسائهم وأطفالهم إلى بيوت ربهم، ثم يوفر لهم العالم الذي يفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله لن يبقى ظلم ولا عناد ولا خلاف، ولا تعصب ولا مذهبية ولا طائفية ولا ..، ويقل الشره والطمع والتكالب على الدنيا، ويصبحون أسعد أهل الأرض وإن كانوا فقراء، وبدون هذا والله لن ترتفع لهم راية حق، ولا سادوا ولا كملوا، ومن يعش يذكر هذا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر