بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال المصنف رحمه الله: [وقد يقع الإبدال عمداً امتحاناً].
الإبدال يقع في بعض الأسانيد، وكذلك المتون، بإبدال راوٍ مكان راوٍ، وإبدال لفظ مكان لفظ، سواءً كان ذلك اللفظ من الأماكن أو من الرواة أو من المعاني أو غيرها، يبدلها بعضهم اختباراً، اختباراً لمن؟ إما اختباراً للطلبة وحفظهم، أو اختباراً للأستاذ وحفظه، وربما سمع ذلك الحديث فدون على أنه هكذا، فقبل أن يستبين الإنسان، ومثل هذا يعرف على ما تقدم الكلام عليه بجمع الطرق، أو مخالفة الحديث لغيره لما هو أصح منه.
قال المصنف رحمه الله: [ أو بتغيير حروف مع بقاء السياق، فالمصحف والمحرف].
لدينا تصحيف وتحريف، وقيل: إنهما بمعنى واحد، والتصحيف هو المشابهة بظاهر الرسم مع الاختلاف في النطق، فهذا يسمى تصحيفاً، يعني: الحروف رسمها واحد ونطقها يختلف، مثلاً حبان وحيان، وكذلك زبيد وزييد وغير ذلك، فالرسم واحد، ولكن النطق لاختلاف النقط اختلف من جهة اللفظ، كذلك حتى من غير التشابه أحياناً بالرسم في الحروف، ولكن يكون ثمة تشابه بالخط في الظاهر كحمد وعمر، فمحمد إذا كتبها الإنسان على سبيل الاستعجال تكون مشابهة لكتابته لعمر، فيكون رأس العين كأنه ميم، ثم أسفل العين كأنه حاء، ثم الميم توافق ميم محمد، ثم الراء تكون دالاً، وهكذا، فيكون ثمة مشابهة خاصة أن محمداً وعمر ليستا بمنقوطتين، فيقع في ذلك تصحيف.
ومن العلماء من يقول: إن التحريف هو إذا جاء بلفظ وصورة جديدة، كأن يغير محمداً إلى إسماعيل، فهذا اختلف في الرسم واختلف في النطق، ولا تشابه بينهما، وغالب التحريف يكون من الإنسان وهماً من ذاته أنه كتب أو نطق هذا الشيء، أو ربما يكون من بعض الرواة -وهو قلة- كذباً، فيغير بعض أسماء الرواة؛ إما أن يكون ذلك لتعدد الطرق أو نحو هذا، فنقول: هذا يعرفه العالم الحاذق المستبصر في هذا الأمر.
لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المتشابهات رسماً والمختلفات نطقاً، تتشابه من جهة الرسم، وتختلف من جهة النطق، وقد كانت الكتابة في الزمن الأول تكتب من غير نقط، ولكنهم يعرفونها، فمنها ما يعرف بسياقه، ومنها ما يعرف بضبط الأسماء، فيعرفون أن هذا الاسم لا يأتي تابعياً، وإنما يأتي صحابياً، أو هذا لا يأتي صحابياً، وإنما يأتي تابعياً أو تابع تابعي أو نحو ذلك، بخلاف ضعف الإنسان وجهله في مثل هذا، ربما إذا تشابهت عليه الأسماء نطقها بنطق واحد، فاختلط عليه الأول بالثاني؛ لأنه لا يعرف الطبقات، فمعرفة الطبقات مهمة، وممارسة اللفظ النبوي من جهة الحفظ، وإدامة النظر يعطي طالب العلم ملكة قوية بالتمييز بين السياقات ومعرفة كذلك مواضع التدليس.
قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني ].
هذه المسألة مسألة الرواية، رواية الحديث بالمعنى، نقول: إننا نقطع أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أصح الكتب عنه عليه الصلاة والسلام كصحيح البخاري و مسلم لم تنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام بحروفها كالقرآن، وإنما ثمة شيء من زيادة الحروف غير المغيرة للمعنى، وهذا دليل على تجوزهم، فلو كانوا يقطعون بالتحريم لثبت ذلك حفظاً وضبطاً كما ضبطوا القرآن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ السنة من ربه وحياً لفظاً، ثم يوردها معنى بحسب الحال، فإذا أوردها معنى للأمة أخذوها كذلك بمعرفة مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيروونها كما سمعوها، ولو زادوا في ذلك حرفاً أو نقصوه لا يؤثر في السياق ولم يكن ضاراً، ولم يكن أيضاً الناقل في ذلك آثماً، وهذا محل إجماع عندهم، ولهذا ضبطوا القرآن بحروفه بتمامه، وسياقاته، لا بتقديم ولا بتأخير، ولا بزيادة ولا نقصان، ولا بحرف واحد، وهذا يدل على التباين.
ولكن المصنف رحمه الله هنا أشار إلى مسألتين:
المسألة الأولى: الزيادة والنقصان مؤثرة وغير مؤثرة، وهذه الزيادة منها ما هي حروف، أو ألفاظ لا تؤثر بالسياق، وذلك كإيراد النبي صلى الله عليه وسلم في ثنايا حديث، فتجد أن الصحابة يقولون: صلى الله عليه وسلم، فعندما يأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جاء أعرابي إليه فقال: يا محمد! مثلاً يذكر بعدها: صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التجوز، لكن في القرآن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ[الفتح:29]، هل يأتي أحد ويضع بين قوسين: صلى الله عليه وسلم في القرآن؟ لا؛ لأنها زيادة حروف، ولا يجوز للإنسان أن يضيف حرفاً في القرآن، وأما في السنة ففي ذلك شيء من التجوز.
ولهذا نقول: الحروف والألفاظ اليسيرة التي هي من بيان تعظيم أو إجلال، ويعرفها القارئ بالسياق أنها ليست من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو الألفاظ حتى لو ظن قارئ أنها من كلام النبي عليه الصلاة والسلام التي لا تؤثر باللفظ ولا بالسياق في كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما يتجوز به الصحابة فضلاً عن غيرهم.
المسألة الثانية: هو تغيير اللفظ أو الحديث بتمامه بلفظ آخر يتضمن ذات المعنى، وهذا لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أفصح العرب، ويقول كما في الأثر: (أنا أفصح العرب، ولدتني قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر فأنى يأتيني اللحن)، وبنو سعد بن بكر هم من أفصح العرب، وقريش أفصحهم، فنشأ في بيئتين لا يمكن أن يلقن أو يطرأ عليه حرف من الحروف لا يأتي على لغة العرب، وهذا هو المراد (ولدتني قريش ونشأت) يعني: تربيت وأخذت اللسان في بني سعد بن بكر فمن أين يأتيني اللحن.
ولهذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي بألفاظ وعبارات ربما يستثقلها بعض التابعين حال رواية الصحابة عليهم رضوان الله للحديث، فربما تجوز بعض الصحابة بالإتيان بالحديث بلفظ مغاير، وهذه المغايرة منها ما هي مغايرة يسيرة، ومنها ما هي مغايرة كبيرة، ومنها ما هو اختصار لتقريب المعنى، ومنها ما هي أحاديث نجزم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها إلا مرة، أو نجزم أن الصحابي ما قالها إلا مرة، ولهذا حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، وهو في الصحيحين، قاله عمر بن الخطاب على المنبر مرة واحدة، ورواه عنه علقمة بن وقاص الليثي ، فنقول حينئذٍ: إن هذه الرواية عن علقمة عن عمر إنما هو سماع واحد، وأخرجه البخاري في كتابه الصحيح في سبعة مواضع، وكل موضع يختلف لفظاً عن الآخر، وإن اتفق من جهة المعنى، فتارة يختصر، وتارة يكون ثمة مغايرة في اللفظ.
ولهذا نقول: إن تجوز الأئمة عليهم رحمة الله في الألفاظ مع قطعهم ويقينهم أن الحديث ما جاء إلا من وجه واحد، ولا حكاه الصحابي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا في موضع واحد فنقل عنه؛ لأن الأصل في الصحابة خاصة في الخطب وأمثالها أنهم لا يعيدون الكلام، حتى لا يستثقله السامع إلا في حال البيان لأمر مهم حتى لا يستشكل الناس، أو ربما جاء أحد من الناس متأخراً فيعاد الكلام إليه، ولهذا جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله كما في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً حتى يفهم عنه)؛ لأن الإنسان ربما يدخل مجلساً وفيه العشرات من الناس، فيسلم في ابتداء الدخول وفي وسط الدخول وفي نهايته حتى يسمع الناس السلام، أما إذا دخل الإنسان مثلاً على واحد فيسلم عليه: السلام عليكم ورحمة الله، ثم لا يعيد هذه العبارة، أو دخل على اثنين أو نحو ذلك.
إذاً: التكرار في ذاته ليس مقصوداً في كلام النبي عليه الصلاة والسلام إلا لأجل الإسماع، وكذلك لأجل الإفهام.
وقد صنف غير واحد من العلماء في مسألة التصحيف والتحريف، وكذلك في جواز الرواية بالمعنى.
ونحن نقول: إن جماهير السلف على جواز الرواية بالمعنى من عالم بالمعنى، لا يغير الإنسان اللفظ ويحيل المعنى، فربما جاء بتراكيب أخرى.
الحديث كلما بعد مخرجه عن المدينة غلب عليه تغير اللفظ، لماذا؟ لورود العجمة، وأشهر الرواة تغييراً للمعنى هم الكوفيون، وهم أكثر الرواة من التابعين، والتابعون من الكوفيين أكثر من التابعين من المدنيين؛ لكثرتهم ووفرتهم وإقبالهم، والمدينة قليلة، والناس فيها قليل، ولكن لما مصرت الأمصار في العراق في الخلافة الراشدة كثر اجتماع الناس عليها، وذلك للرزق فيها وجوها، ولأنهارها وسعة العيش فيها، وتواطأ الناس بالإتيان إليها، ثم كانت موضعاً لانطلاقة كثير من الفتوحات؛ لقربها من الأطراف، بخلاف المدينة فهي بعيدة، فكان يستوطن فيها المجاهدون، ويستوطن فيها كذلك طلاب العلم وأصحاب المصالح من التجارات وغير ذلك، فكانت أكثر اتساعاً، وكان التابعون من أهل الكوفة أكثر من التابعين من أهل المدينة من الفقهاء، وكذلك الرواة.
ولهذا نقول: إذا تغير مخرج الحديث وبعد عن المدينة، فهذا أمارة على روايته بالمعنى أو تغير عن الأقل بعض ألفاظه.
وعلى طالب العلم إذا أراد أن ينظر في ألفاظ الحديث أو ورد لديه اختلاف بين حديثين في الألفاظ فإنه ينظر في رجال الإسناد، منهم المدنيون، ومنهم غير المدنيين، غير المدنيين هم الذين يغيرون.
وكذلك أن ينظر في العرب، وينظر في الموالي، فالموالي ليسوا عرباً بالطبع، ولكن أخذوا العربية تعلماً، فربما تعلموا العربية على غير ما وضع اللفظ عليه، فعلى طالب العلم أن يلتمس الأسانيد القوية من المدنيين والعرب حتى يقرب من اللفظ النبوي.
وكذلك: كلما علا الإسناد كان أقرب إلى اللفظ بخلاف إذا نزل، والحديث إذا رواه خمسة وتناقلوه، يختلف عن الحديث الذي يرويه اثنان؛ لأنه كلما زاد العدد في الإسناد زاد احتمال التغيير، فينقله واحد عن واحد عن واحد، ثم تبدأ استحالة المتن كلما تأخر.
وأما بالنسبة لقصور الأسانيد وعلوها فيبقى التغيير بذلك يسيراً، فينتقل من الأول إلى الثاني بتغيير يسير، ثم إلى الذي يليه بتغيير يسير، فإذا توقف بإسناد عالٍ كان أقرب من الإسناد النازل الذي فيه ستة أو سبعة أو نحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ فإن خفي المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل ].
الغرابة في الحديث ليست غرابة مطلقة، ولكنها غرابة نسبية، يعني: بالنسبة لنا، فألفاظ الوحي وألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام من جهة أصلها ليست غريبة؛ لأنها نزلت على عرب، ونزلت على وضع معين كان معروفاً مستقراً، فالوحي لا ينزل بغرابة، والأصل فيه البيان والظهور والجلاء، ولكن لما اتسعت البلدان واختلف وضع الألفاظ استشكل كثير من الناس بعض الألفاظ الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولأجل هذا ألف غير واحد من العلماء في غريب الحديث، فجاء غريب الحديث لـابن قتيبة وغريب الحديث للحربي ، وغريب الحديث لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، وغريب الحديث لـابن الأثير ، وغريب الحديث للسرقسطي ، وغير هذه المصنفات في أبواب غريب الحديث، ويرتبون كثيراً على المعجم، ومنهم من يرتبه على الأبواب، فيأتون باللفظ، ثم يأتون بورودها في الحديث، ثم يبينونها ويدللون عليها، إما من أشعار العرب، أو من سياقات أخرى تبين مراد النبي صلى الله عليه وسلم بها.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الجهالة].
قوله: (ثم الجهالة) الجهالة هي ضد العلم، والجهل مأخوذ ومشتق من الجهل، وهو انتفاء العلم، فعلم الإنسان بشيء هو ضد جهله به، وجهله ضده، والأصل في الجهالة أنها مردودة، أي: ترد الحديث، وهي علة أيضاً.
والجهالة على نوعين: جهالة عين وجهالة حال.
النوع الأول: جهالة العين هي التي لا تعرف فيها عين الراوي تحديداً، فلا يعرف نسبه، ولا يعرف حاله، ولا ربما موضعه الذي هو فيه، فإذا لم تجتمع فيه معرفة هذه الأشياء كان في الغالب من مجهول العين، فمجهول العين لا تقبل روايته لا في ذاتها ولا عاضدة لغيرها، لماذا؟ لأنه شبيه بسقط راوٍ لا يدرى من هو، وربما يكون كذاباً.
وجهالة العين تتباين وتختلف، فمنها ما هي جهالة عين لا تحتف القرائن بتعديل صاحبها، ومنها ما تحتف القرائن بتعديل صاحبها ولو كان مجهولاً في عينه، وذلك كأن يقول إمام من الأئمة: حدثني الثقة، ثم يذكر الحديث، أو يذكر شيخه، وهذا فيه نوع تعديل، ولكنه لا يخرجه ذلك عن جهالة عينه.
النوع الثاني: جهالة الحال، وهي الجهالة التي يعرف فيها عين الرجل، ومعنى (تعرف عينه) أن هذا فلان بن فلان، وأبوه معروف، ولكن لا تعرف حاله من جهة العدالة والضبط، كأن يأتي شخص يقول لك: أنا محمد بن زيد، وأنت تعرف زيد، فتقول: زيد بن فلان الذي في الحي الفلاني؟ يقول لك: نعم، هو في الحي الفلاني له ابن اسمه محمد؟ تقول: نعم، قد رأيته وزرته، وكان ابنه عنده، لكني لا أعرفه، فهذه جهالة حال، فهو عرف عينه وعرف أهله، وعرف كذلك اسم أبيه، ولكنه جهل حاله، فلا يدري هل الرجل صالح أو ليس بصالح، الرجل ضابط أو ليس بضابط وغير ذلك.
وللتفريق بين الجهالتين يقول العلماء: إن جهالة العين ما يرويه واحد عن المجهول، فيكون هذا مجهول العين، ولم يوثق بالطبع، وأما جهالة الحال فهو ما يرويه اثنان أو ثلاثة عن راو، ويكون في هذا مجهول الحال، إذا لم يوثق.
ونلحظ في كتب المصطلح وقواعد الحديث أنهم عند ذكرهم لجهالة الحال يهتمون بعدد الرواة الذين يروون عن المجهول، فيقولون: يروي عنه اثنان أو ثلاثة، وربما إذا وجدوا ثلاثة قالوا: ارتفعت عنه الجهالة، وهذا فيما أرى هو أخذ صحيح لكنه قاصر، فثمة مؤثرات في الجهالة قد تجعل الراوي إذا روى عنه اثنان أنه عدل وثقة، وربما يروي عنه ثلاثة ويبقى على جهالته. لكن ما هي القرائن المؤثرة في هذا؟ هي قرائن متعددة:
القرينة الأولى: معرفة التلاميذ من جهة العدد ومن جهة الجلالة.
وفي الرواة لدينا أمران:
الأمر الأول: العدد، فاثنان يختلفون عن ثلاثة، واثنان يختلفون عن واحد، وهكذا، وإذا زاد العدد فإنه كان أقوى اعتباراً ورفعاً لجهالة الراوي.
الأمر الثاني: عدالة في الرواة وقيمة، العدد وعدالة الرواة، فـمالك عندما يروي عن مجهول يكون أقوى من اثنين يروون عن مجهول؛ لأن مالك إمام لا يتفرغ لسماع حديث عن راوٍ ثم لا يكون عدلاً؛ لأنه شديد الاحتياط، وكذلك سفيان بن عيينة ، سفيان الثوري ، شعبة بن الحجاج وأضراب هؤلاء، فهؤلاء الواحد منهم أثقل من الاثنين والثلاثة، بل والأربعة إذا رووا عن مجهول، ولهذا ينبغي أن نلتفت إلى هذه الأشياء.
القرينة الثانية: النظر إلى شيوخ المجهول، فمجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره، وهذا أيضاً على النوعين السابقين، ينظر إلى العدد وينظر إلى القيمة، فمجهول يروي عن شيخين يختلف عن مجهول يروي عن شيخ واحد، ومجهول يروي عن مالك يختلف عن مجهول يروي عن غيره من الرواة من المتوسطين، ومجهول يروي عن رجل أجنبي يختلف عن مجهول يروي عن أبيه، فتفرده بروايته عن أبيه محتملة؛ لأنه من آل بيت أبيه، وإذا لم يرو هو عن أبيه، فمن يروي؟!
وعلى هذا نقول: رواية المجهول عن أبيه تختلف عن رواية المجهول عن أجنبي عنه، خاصة إذا بعدت البلدان، كأن يروي مجهول كوفي عن معلوم مدني، فإن هذا فيه غرابة، أين التقيا؟ ثم أيضاً كيف هذا الرجل يكون لديه همة في الطلب، ويذهب إلى المدينة ولا يسمع إلا هذا الحديث ويبقى مجهولاً، هذا فيه نوع من التعارض، وهذا من مواضع القدح، فننظر إلى كونه بلدي له وقريب منه، أخذ عنه أو كان بعيداً عنه.
القرينة الثالثة: أن ننظر إلى المتن الذي يرويه المجهول، فإذا كان المتن جليل القدر، ومن المعاني الظاهرة في الإسلام، فإن لدينا في معاني الحديث أصول وفروع، فالأول: ما يتعلق بالأصول ويدخل في هذا مسائل العقائد، ويلحق في مسائل العقائد الأصول الكلية في الإسلام كأركان الإسلام ونحوها، وإن لم تكن داخلة في باب العقائد أصالة، لكنها تلحق بذلك لكونها من الأصول والدعائم العظيمة التي بني عليها الإسلام. الثاني: لدينا فروع، وذلك ككثير من العبادات التي يفعلها الإنسان من السنن، والصلوات كصلاة العيد وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وقيام الليل، والوتر، وسنة الفجر، وتحية المسجد، وأبواب المعاملات، والنكاح، والطلاق، والحدود، والتعزيرات، والمواريث، فهذه فروع.
نقول: إن رواية المجهول لحديث في الأصول لا يحتمل منه غالباً، وروايته في شيء من الفروع هي دون ذلك، قد يحتمل منه تارة، ولا يحتمل منه تارة.
وكلامنا هنا على مجهول الحال، لا على مجهول العين؛ لأن مجهول العين لا تقبل روايته على الإطلاق، فلا يقوى بنفسه على الاحتمال، ولا يقويه غيره، ولهذا لا بد من النظر أيضاً للمتن الذي يرويه: هل مثل هذا يحمله أن يروي في فضائل الأعمال، أو في السير، أو في المغازي، أو في التفسير، أو في الفتن والملاحم، فهذه أمور سهلة يمكن للإنسان أن يتجوز فيها، وأما إذا روى معان كثيرة، فإن هذا مما لا يقبل.
والتقسيم في مسائل الدين فيه اعتباران:
الاعتبار الأول: اعتبار القيمة وهي الأصول والفروع على ما تقدم.
الاعتبار الثاني: الشهرة والخفاء، فنقول: إن أقسام معاني الحديث على نوعين:
النوع الأول: أعلام مسائل مشهورة، منها ما هو من أصول الدين، ومنها ما هو من فروع الدين.
النوع الثاني: مسائل أو معاني خفية، ويدخل في هذا أصول وفروع، ونشدد في النوع الأول كما نشدد في الأصول، ولو كانت فروع، ولا نشدد في الثاني ولو كانت أصولاً. ما هي أعلام المسائل؟ تتداخل عقيدة أو غير عقيدة، نجعل ما يتعلق بتوحيد الله والشركيات وغير ذلك يتساوى معه تشديداً، فمن أعلام المسائل الأذان، فالأذان يرفع في اليوم والليلة خمس مرات، وربما يضبط أعظم من الأصول، وربما يضبط أعظم من مسائل الزكاة مع كونه من أعلام المسائل والأمور السهلة، فإذا جاء أحد من الرواة بلفظ في الأذان لم يأت به أحد غيره، ألم نشدد عليه؟
يأتينا أحد يقول: إنكم بالاعتبار الأول قلتم: الفروع يتساهل فيها، نقول: نحن قسمنا من باب التقريب الأمور إلى قسمين، باعتبار قيمة المتن، وباعتبار الشهرة والخفاء، فإذا ضبطنا هذين الاعتبارين عرفنا موضع التساهل مع موضع التشديد.
ومن هذه المسائل أيضاً ما يتعلق بالجهر بالبسملة في الصلاة، وهذه من أعلام المسائل، فكم مرة يقرأ الإمام بالصلاة الجهرية في اليوم والليلة؟ يصلي ركعتين في الفجر، وركعتين في المغرب، وركعتين في العشاء، وربما زادت في بعض الأيام ركعتين صلاة الجمعة وأضيفت إلى هذا، وكذلك ربما جاء في بعض المواضع ما يتعلق بصلاة العيد وأشباهها، فهي إذاً تتكرر كثيراً في اليوم الواحد على الإنسان، والأصل أنها تضبط، ونحن نطالب التشديد فيها أكثر من تشديدنا لبعض مسائل الصيام، لماذا؟ لأن مسائل الصيام الفرضية حولية.
ولهذا ما يرد على مسامع الناس ويشتهر، ثم ينفرد به راو مثلاً مستور فإننا نشدد فيه، أو ربما حتى لو كان راوياً صدوقاً فيه ضبط، ولكن ضبطه يسير، فنرد تفرده بالروايات، ولهذا تجد جمهور الأئمة يعلون الأحاديث الواردة في الجهر بالبسملة في الصلاة، لماذا؟ لأنه لم يروها الكبار، وأشهر ما جاء في هذا هو حديث نعيم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلى بنا أبو هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2]، ولما انتهى قال: هذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وهذه المسألة ينبغي أن يرويها مالك عن نافع عن ابن عمر ، أو يرويها سالم عن ابن عمر ، لأنه يراه الكبار، فمن أقرب الناس إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دنواً موضعاً، أليس العلية من الكبار؟ نعم، خلف النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة أبو بكر و عمر و عثمان ، علي بن أبي طالب ، وليست أمراً عارضاً، بل على سبيل الدوام، ومثل هذه تطبق.
بل قد نشدد في بعض المسائل الفرعية ما لم نشدد أحياناً في بعض المسائل الأصول المتباعدة، فنشدد في التورك، ونشدد أحياناً في الإشارة بالأصبع، ونشدد في صفة الرفع باليدين، وطريقة السجود ونحو ذلك، فإذا جاء راوٍ بصفة من السجود لم يروها غيره نقوم بإنكارها، لماذا؟ لأن هذا موضع مشاهدة وما يسمى بأعلام المسائل ومشهورها، وهذا نما ينبغي لطالب العلم أن يضبطه.
القرينة الرابعة: التفريق بين الرجل والمرأة، فجهالة المرأة تحمل، لماذا؟ لأن الأصل فيها الستر، بمعنى أنه لا يوصل إلى معرفة حالها، فتجد الجار لا يعرف حال امرأة جاره وهو يجاوره في ذلك سنين؛ لماذا؟ لأن الأصل في النساء الستر، والابتعاد عن مواضع الرجال، ولكن يجاور جاره ويعرف حاله، وحال أبنائه في بضعة أيام، لماذا؟ لأن الأصل فيهم العلم.
وما كان الأصل فيه الخفاء ويتعذر على الإنسان معرفته فإنه يخفف فيه، وأن هذا ليس بمقدور الإنسان أن يصل إلى معرفة الحال، فيتسامح في ذلك، وأما بالنسبة إلى ما معرفته ممكنة ثم لا يعرف، يعني: أنه لا يحضر مجالس العلم، وليس معروفاً بالرواية، فلماذا لم يعرفه أهل بلده، ولهذا يقومون بالتشديد بجهالة الرجل وعدم التشديد بجهالة المرأة، وليس هذا يتعلق بحقوق المرأة، وإنما هو باب آخر، فيتسامحون في المرأة ولا يتسامحون في الرجل.
القرينة الخامسة: كثرة الحديث وقلته، ونحن قلنا: إن الأئمة عليهم رحمة الله ينظرون إلى رواية الراوي برواية الرواة عن المجهول، هل هم اثنان أو ثلاثة أو واحد، وهذا هو الغالب في كلام العلماء، ولكن قلنا: إنه ينظر للتلاميذ، ينظر لنوع الرواة، ينظر لنوع الشيوخ، ينظر إلى عدد الأحاديث، لماذا ننظر إلى عدد الأحاديث؟ لأن رواية المجهول ربما تكون عن شيخ واحد روى عنه حديثين، وربما ثلاثة، وربما أربعة، وربما له شيخان لم يرو عنهما إلا اثنين.
ولهذا نقول: قلة الشيوخ وقلة الرواة عنه من التلاميذ لا تعني كثرة وقلة، فربما لا يعرف هذا الراوي إلا في هذا الإسناد، ولكن لديه خمسة أو ستة أو عشرة من الأحاديث، وهذا أقرب إلى التعديل، لماذا؟ لأن لدينا آلة قد وضعها أمامنا لسبرها، وتقدم معنا تعريف السبر، وهو النظر في أحوال وأعيان معدودة للخروج بحكم على واحد.
مثلاً حينما يأتيك شخص، وأنت لست بخبير به من أهل البلد أو نحو ذلك، أليست مثلاً ملامح الناس ووجوه الناس تختلف؟ فيأتيك ويقول: احكم على وجه هذا الرجل هل هو مريض أو حزين أو ليس بحزين؟ تقول: لا. لا أستطيع، ملامح الناس تختلف، لكن أعطني عشرين من أهل البلد لأنظر إليهم، أو من إخوانه وأهله فأستطيع أن أنظر إليهم، ثم أخرج بحكم على هذا أن هذا يختلف عنهم، ولهذا إذا أعطاك الراوي مساحة كلما اتسعت قوي سبرك لك، فالمجهول الذي يروي عشرة أحاديث قد أعطاك آلة للخروج بحكم عليه، فتقوم بسبر عشرة أحاديث عليه، وإذا وجدت أن هذه الأحاديث مستقرة من جهة المعنى ومستقيمة لا تخالف الثقات، فتستطيع حينئذٍ أن تقول على هذا الراوي ثقة.
ولهذا بعض الذين يتعللون بالمجهول، ويربطون الجهالة برواية التلاميذ اثنين أو ثلاثة، ثم يقول: وجدنا راوياً ثالثاً إذاً نرفع الجهالة عنه، وربما عارضوا كلام الأئمة من المتقدمين، أو قالوا: هذا مجهول يتناقض فيه ذلك الإمام لماذا؟ لأنه قال في هذا الراوي: مجهول، وقال في هذا: ثقة، مع أن كلا الراويين لم يرو عنهما إلا اثنان، هل هذا على إطلاقه؟ لا. هذا روى عنه اثنان، ولكن روى لنا عشرة أحاديث، وهي موضع اختبار وتحليل فوجدناها كلها مستقيمة، فأطلقنا عليه الثقة.
كذلك: من يروي لنا حديثاً واحداً ويروي عنه اثنان، أو ربما يروي ثلاثة، وليس له إلا حديث واحد، نقول: من يروي عنه اثنان، أو بل من يروي عنه واحد من الرواة وهو معروف باسمه، ثم لدينا عشرة أحاديث يرويها وهي مستقيمة فنقوم بتوثيقه.
القرينة السادسة: عمل المجهول له أثر على عدالته، بمعنى: أن المجهول كيف يكون هذا؟ مجهول مؤذن أو إمام مسجد، هل يستوي مع مجهول لا يعرف له ارتباط بشيء، كأن يقال مثلاً: أبو زيد أو أبو مريم مؤذن الكوفة، ويبقى مجهولاً على هذا الوصف، أي: لا نعرفه إلا بهذا، ولم يرو عنه إلا اثنان، وهذا يختلف عن قولنا: أبو زيد الكوفي فقط، يختلف؛ لأن عمله أعطاه نوع تعديل، والناس لا تصدر أحداً للأذان، ويبقى ثابتاً على ذلك حتى يصبح لقباً عليه إلا وقد استقر فيه أصل العدالة، أو أن يوصف بشيء من أعمال البر والطاعات، كأن يقال: العابد أو الزاهد أو نحو ذلك، نعم قد يكون زاهداً، لكنه في باب الرواية مجهول، كـمالك بن دينار الإمام الزاهد المشهور، تجد الأئمة في أبواب الرواية يقولون: مجهول أو مستور؛ لماذا؟ لأنه لم يشتهر بالرواية عنه للحديث، فبقي من باب الرواية ومن جهة عدد الرواة في الأخذ عنه تكلم عليه العلماء بالجهالة.
كذلك: إذا وصف بالتفرغ بالجهاد أو بالقضاء أو الإقراء، فيوجد راوٍ مقرئ معروف بالقراءة، لكنه في رواية الحديث لا يعرف، فيعتبر حينئذٍ مجهولاً، وهذا يختلف عن غيره، إذاً عمله وحرفته قد تعطينا نوعاً من تزكيته.
القرينة السابعة: بلد المجهول، فالمجهول المدني يختلف عن المجهول الكوفي؛ لماذا؟ لأن المدينة لم يظهر فيها الكذب إلا متأخراً، ولم يوجد الكذب في المدينة في طبقة التابعين أبداً، ووجد في طبقة التابعين في جميع البلدان سوى مكة، ولهذا نقول: إن المدينة لها أثر في دفع ظنة عدم العدالة.
القرينة الثامنة: طبقة المجهول، فمجهول في طبقة متأخرة في السابعة والثامنة يختلف عن مجهول في الطبقة الثالثة أو الطبقة الثانية أو الرابعة، وكلما تقدم طبقة قرب من زمن الفضل وزمن العدالة وانتفاء تهمة الكذب.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الجهالة؛ وسببها أن الراوي قد تكثر نعوته، فيذكر بغير ما اشتهر به لغرض، وصنفوا فيه الموضح].
الرواة في سائر البلدان سواءً كانوا في بلدة واحدة أو تعددت البلدان قد يشترك معه غيرهم بالاسم، فيلتبس على بعض النقلة خاصة إذا اشتركوا في طبقة واحدة، وإذا اختلفت الطبقة فالأمر في ذلك هين، ولكن إن اتحدوا في طبقة واحدة ويكون ثمة أحمد ومحمد البصري، أو أحمد بن عبد الله أو أحمد بن سليمان، ويوجد أنه يشاركه وهم اثنان أو ثلاثة، بعض المترجمين يجعلهما واحد خاصة إن اجتمعت قلة الراوية عند الراوي مع من يشترك معه في ذات الاسم، فقلت الرواية عند الاثنين والثلاثة، واشتركا في الطبقة، واشتركا في ربما أيضاً في الشيوخ، وفي البلد، فهذا يلتبس، ويؤلف في ذلك العلماء كشفاً للأوهام، وأحاديث في ذلك، في موضحات الجمع والتفريق، للتفريق بين هذا الراوي وغيره، فيقولون: إن في هذا الاسم اثنين، فلان بن فلان، وهو كوفي، وفلان بن فلان بصري، أو كوفيان، ويميزون بينهما بشيء من الدلالات في هذا على اعتبارات وقرائن كثيرة، وثمة مصنفات في ذلك، ومن أوائل من صنف في هذا الخطيب البغدادي وغيره.
قال المصنف رحمه الله: [ وقد يكون مقلاً فلا يكثر الأخذ عنه، وصنفوا فيه الوحدان، أو لا يسمى اختصاراً، وفيه المبهمات، ولا يقبل المبهم، ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح].
المبهم ما لم يعين، كأن يقال: رجل في الرجال، أو يقال في بلد: ذهب إلى بلدة كذا، فلا يعين، أو يقال: امرأة فلا يعين، فهذا له مصنفات في ذلك، كالمبهمات لـابن بشكوال .
والمبهمات تكون في الأسانيد وتكون في المتون.
ويعرف الإنسان المبهمات بجمع الطرق، فإذا كان لديه إبهام في المتن يبحث في الطرق، ثم يجد من يسمي ذلك الراوي، إما في الإسناد أو في المتن، أو يسمي تلك البلد إذا كان لها أثر في المعنى، فيجمع الطرق فيتحصل له ذلك.
وقوله: (وصنفوا فيه الوحدان) الوحدان هي المفاريد، والأحاديث التي لا يروي فيها إلا واحد عن واحد هي الأحاديث الغريبة، ولها مظان، وثمة مصنفات في ذلك، منها كتاب الآحاد والمثاني لـابن أبي عاصم ، والمسند للبزار ، ومعجم الطبراني وغيرها.
قوله: (ولا يقبل المبهم، ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح) فالمبهم لا يقبل، ولو علل أو وصف بشيء، إن رأيتم شيخاً مكياً، أو رأيتم شيخاً في مكة، أو رأيتم رجلاً يقرأ القرآن حدثني عن أبيه أنه قال كذا أو نحو ذلك، فمثل هذه الأوصاف لا تغنينا شيئاً؛ لأنه لو عرفه لوصفه، وهو عدل عنده، وعدالته عنده لا يعني أنها عدالة عند الأئمة.
وذلك كقول الشافعي رحمه الله في مواضع من الأم: حدثني الثقة، وهو ثقة عنده، ويحسن الظن به، ولكن عند غيره من الأئمة ليس بعدل، وذلك أن عادة الإمام الشافعي إذا حدث عن شيخ من شيوخه قال: حدثني فلان بن فلان، وفي هذا قرينة على أن غيره يتهمه، ويريد أن يبتعد لجلالة قدره وديانته عن التدليس، فيدلسه، فذكره بوصف يعدله فيه، فقال: حدثني الثقة، ويريد في الغالب إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي ، وتارة يريد غيره.
قال المصنف رحمه الله: [فإن سمي وانفرد واحداً عنه فمجهول العين، أو اثنين فصاعداً ولم يوثق فمجهول الحال، وهو المستور].
هذا على ما تقدم الكلام عليه، أن العلماء غالباً في التفريق بينهما يذكرون الرواة عنه، ويجعلون ذلك علماً على التفريق، وهذا التنظير جعل بعض الناس يستدرك على الأئمة وصفهم لبعض الرواة بالثقة، ولم يرو عنه إلا اثنان، ووصفهم لآخر بالجهالة، ولم يرو عنه إلا اثنان، ويقولون: إنه لم يجرووا على طريقة منضبطة، نقول: لماذا؟ لأن ثمة قرائن أخرى لم تكن حاضرة في ذهن هذا المتكلم، ولا في ذهن غيره، فهي موجودة عند العلماء، فرفعوا هذا لاعتبارات، ووضعوا هذا لاعتبارات مع الاشتراك في عدد الرواة عنه.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم البدعة إما بمكفر أو بمفسق، فالأول لا يقبل صاحبها الجمهور، والثاني يقبل من لم يكن داعية في الأصح، إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المختار، وبه صرح الجوزجاني شيخ النسائي ].
قوله: (ثم البدعة) البدعة هي الإحداث والإيجاد مما لم يسبق إليه، ولهذا يقول الله جل وعلا: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أوجدها ولم تكن قبله سبحانه وتعالى.
وكذلك مما يتعلق بالبدعة: أوجد شيئاً في الدين لم يسبق إليه، وقد يكون سبق إليه من جهة العمل والتقرير، ولكن عمل شيئاً لم يكن سابقاً عند المشرع عن ربه، فكان مبتدعاً، ولو لم يكن هو مبدعاً له، وليس المراد بذلك الخلق بكل حال، فإحداثه لهذه البدعة استحق معها الوصف بالابتداع.
الإنسان إذا جاء ببدعة فقد ابتدع وأحدث، لكن لا يوصف بالبدعة لكل شيء يحدثه، فلا يقال: فلان مبتدع، حتى تظهر منه البدعة ويدعو إليها، أو تكون البدعة التي جاءت عنه مغلظة، أو تكرر منه الابتداع في مسائل متعددة.
وما جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله، ولو لم يرو عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو لم يثبت بذلك النص عن النبي عليه الصلاة والسلام، ما دام قد عمل به بعض الصحابة، فلا يوصف فاعله بالبدعة، لماذا؟ لأننا إذا وصفنا فاعله بالبدعة تعدى ذلك إلى وصف الصحابي بها، ولهذا نقول: إن هذا العمل لا دليل عليه، أو على خلاف السنة كنوع من الإجلال والتعظيم لمقام الصحابة، فيؤتى بعبارة فيها لين، وتؤدي في هذا الغرض.
وقد جاء عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله أنهم كانوا يفعلون أفعالاً وهي قليلة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، كما جاء عن عبد الله بن عباس و عمرو بن حريث في التعريف بعرفة؛ وهو جمع الناس في يوم عرفة في الأمصار والخطبة فيه، فإن هذا لم يكن معروفاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا وصف بعض العلماء هذا الفعل بالبدعة، لكن من فعل ذلك لا نصفه بالمبتدع، وإنما نصف العمل إجلالاً للصحابة عليهم رضوان الله، ولكن نقول: إن هذا ليس عليه دليل وهو خلاف السنة، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والبدعة في تعامل العلماء عليهم رحمة الله مع أصحابها ينظرون إلى أحوال فيها؛ فينظرون إلى غلظ البدعة وتخفيفها، فالبدعة المغلظة تختلف عن المخففة، والبدعة في أصول الدين تختلف عن الفروع، فالذي يسبح مثلاً بحصى أو يلتزم بعدد معين لم يثبت به الدليل من التسبيح في زمن معين، يختلف عمن يبتدع شيئاً في الدين من مسائل الصفات، ممن يعطل الصفات أو يشبه الخالق بالمخلوق، فإن هذه بدع، ولكن هذه البدع متفاوتة من جهة القدر، فينظرون إلى غلظها وخفتها، ويحذرون من الأعلى تحذيراً أشد من الأدنى.
وينظرون أيضاً إلى اعتبار آخر إلى الداعي إلى بدعته والفاعل لها مجرداً، ومعلوم أن المبتدع تارة يكون لديه بدعة مخففة، ولكنه داعية إليها، فهذا ينشر البدعة، وهو شر ممن يبتدع بدعة أشد منه لا تكفره، ولكنه لا يدعو إليها وله تأويل فيها، فيحذر من الأول أشد من التحذير من الثاني؛ لأنه يعتقد هذا الشيء وبقي عليه، ولا يحدث بذلك أحداً، ولهذا الثاني ربما يغشى ويسمع منه بخلاف الأول، لماذا؟ لأنه يسعى إلى نشر البدعة، والبدعة تجر غيرها، حتى تتعاضد تلك البدعة، بخلاف هذا الرجل لديه بدعة وربما ماتت معه بدعته ولم تنتشر، ولهذا لا بد من النظر إلى هذين الاعتبارين: إلى غلظ البدعة وخفتها، وكذلك إلى الداعي وغير الداعي.
البدعة المكفرة إذا ظهرت من الإنسان، نقول: عمل العلماء إلى عدم قبول رواية الراوي الواقع في بدعة مكفرة، وهذا كبدعة الرفض، وبدعة الجهم، وغير ذلك، وإن كان متأولاً، وربما جاء عن بعضهم القول بالقبول منهم، قالوا: لأنه متأول، وغاية الخوف على الحديث هو الكذب في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ثم هذا الراوي يلين ويتعود هذا كما نتعود الحق.
فنقول: إن مثل هذا الحديث إذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينفرد به أمثال هؤلاء الذين يقعون في بدع مكفرة؛ لأن دين الله محفوظ، وما لا يوجد إلا عند مبتدع، فإنه لا قد يثبت في الدين شيء من ذلك إلا وقد ثبت عند أئمة الإسلام، فهل الصحابة لا يروي عنهم سنة إلا من عرف ببدعة الرفض أو بدعة الجهم؟! فأين الأصحاب من التابعين المقربين منهم لا ينقلون عنهم ذلك، وكذلك أين أتباع التابعين لا يروون عن الأجلاء من أهل الحق، أتباع السلف الصالح من التابعين وأتباع التابعين لا يروون عنهم ذلك، فلا يروي عنهم إلا من وقع في بدعة مغلظة.
ولهذا نقول: إن من وقع في بدعة مغلظة مكفرة فلا تقبل روايته بحال، دعا إليها أو لم يدع إليها.
وأما البدعة غير المكفرة وهي البدعة المخففة مما يقع في بعض الطوائف من الإرجاء في مسائل العمل، وكذلك بعض مسائل الخوارج وغير ذلك، فنقول: إن العلماء يحذرون من الرواية عن المبتدع عموماً بكل حال، حتى لا يكثر سواده في ذلك، فينساق إليه الناس والعامة، ويتسبب الطالب أو العالم بإشهاره حتى ينساق إليه الناس، فيتأثرون ببدعته من حيث لا يشعر، ولهذا العلماء ينهون عن رواية عن المبتدع وربما أخذوا عنه؛ لأن أخذهم في ذلك لم يكن إشهاراً، إما لقيه في طريق، أو لقيه في حج، أو لقيه في موضع فسمع منه وهو عدل في ذاته، ويتأول في بعض المسائل.
ولهذا نقول: إن الرواية عن المبتدع جائزة، وروايته صحيحة إذا لم تكن مغلظة، ولم يكن داعية إلى بدعته ويجوز الأخذ عنه.
وأما إذا كان داعياً إلى بدعته، وبدعته مخففة فهذا لا يؤثر على عدالته، وإنما نحن هنا نأخذ بمسألة جواز الأخذ عنه والسماع منه، وأما بالنسبة لعدالته فليست محل كلامنا هنا، فنقول: إن العدل عدل في ذلك ما دام أنه من أهل الإسلام، ولم يقع في مفسق ظاهر على سبيل العبد، ولم ترد عليه البدعة عناداً واستكباراً، وإنما جاءت تأولاً، وكانت بدعته مخففة، ولم يكن معانداً أيضاً في الاستماتة في الدعوة إليها، فهذا عدالته مما يأخذ بها العلماء.
ولهذا الإمام أحمد رحمه الله وهو يحذر من الرواية عن المبتدعة قد روى عن أكثر من عشرة في كتابه المسند من المرجئة، والسبب في هذا أن الإمام أحمد وأضرابه يحدثون عن هؤلاء الرواة تحديثاً بما لا يشهره، إما أن يكون قد توفوا وانقضى أمرهم، وحينئذٍ يحدث عنهم بعد ذلك، أو سمع منهم من غير إظهار أمرهم، خاصة في زمن تشتهر فيه البدع، كحال الزمن في العراق وفي البصرة، وفي الكوفة، وغير ذلك.
وفي هذا نقول: إن الكوفة يشتهر فيها ما يتعلق بمسائل الإرجاء، ويشتهر فيها ما يتعلق بالتشيع، والبصرة يشتهر فيها الخوض في مسائل القدر. ولهذا نص ابن المديني رحمه الله على الأخذ عن الكوفيين، والأخذ عن البصريين، ولم يسلم أهل الكوفة من البدعة حتى في بعض الطبقات، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: إن أهل الكوفة كلهم شيعة إلا اثنين.
وهل يعني ذلك أن الإنسان يدع الرواية عنهم بالكلية؟ نقول: إن مثل هذا يؤخذ فيما ظاهره العدالة ولم تكن بدعته مكفرة، والمراد بالتشيع عندهم ليس الرفض الموجود عندنا، وإنما ما يتعلق بتقديم بعض الصحابة على بعض مع احترام وتفضيل وإجلال عمومهم عليهم رضوان الله؛ ولهذا البخاري و مسلم رويا عن رواة في الصحيح وهم من المبتدعة، ولكن نجد أن بدعته مخففة لا بدعة مغلظة.
قال المصنف رحمه الله: [ثم سوء الحفظ إن كان لازماً، فالشاذ على رأي أو طارئاً فالمختلط، ومتى توبع سيئ الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس: صار حديثهم حسناً لا لذاته بل بالمجموع].
هنا بدأ يتكلم على ما تقدم الإشارة إليه في مسألة الضبط، حينما ذكر الصحيح وقال: (بنقل عدل تام الضبط)، وتقدم معنا الضبط بنوعيه، وذكرنا مسألة ضبط الصدر، ثم هنا يتكلم على ضد ذلك، وهو وصف الراوي بسوء الحفظ؛ لأن الضبط هو الحفظ، وضده سوء الحفظ أو لينه، أو ضعفه، أو غير ذلك.
وسوء الحفظ إذا طرأ على الراوي في رواية حديث من الأحاديث فإن هذا ترد به الرواية، وإذا غلب عليه سوء الحفظ ترد به الرواية إلا لقرينة يحمل معها ذلك المروي.
وثمة قرائن تقبل فيها رواية سيئ الحفظ كرواية ومفاريد شريك بن عبد الله النخعي ، وروايات عبد الله بن لهيعة في بعض المواضع والأحوال فإنها تقبل للاحتجاج والاعتضاد بها، وذلك لجملة من القرائن. ومن هذه القرائن:
أولاً: أن تكون مثلاً المتون من اختصاصه، فـابن لهيعة قاضٍ، و الحارث الأعور فقيه فرضي، ولو كان ضعيفاً في حفظه، وكذلك شريك بن عبد الله النخعي قاضٍ، فإذا جاءت المتون مختصرة وهي في بابه أو نحو ذلك، فهذا مما ربما يتساهل به وهو قليل، ولا يخرج هذا الراوي عن وصف سوء الحفظ والضعف، ولكن بعد النظر الناقد في هذا ربما يحمل بعض المرويات عنه.
ثانياً: إذا كان المتن قصيراً ومختصراً، فإن سيئ الحفظ يضبطه، وإذا كان طويلاً يرد به؛ لأنه يطرأ عليه التقديم والتأخير والخلط والتغيير في المعنى.
ثالثاً: ربما يقترن بالحديث فعل، إما عاينه أو شاهده، فالفعل في ذلك هذا مما يضبط، وكذلك أن يكون في الحديث قصة، فالقصة يضبطها الناس بخلاف الألفاظ والمعاني، كأن يتكلم الإنسان عن الصلاة، فيكون يستقبل القبلة ويكبر ويضع يديه على صدره، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وهذه معاني وليست قصة، لكن لو كانت تتضمن قصة: جاء رجل ودخل ثم فعل كذا، فدعاه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال كذا وغير ذلك، فهذا مدعاة إلى ضبط الحدث، فنقول: إن القصة والفعل إذا عاينه الإنسان فإن هذا من قرائن قبول رواية سيئ الحفظ.
وقوله: (إن كان لازماً) يعني: لازماً ولم يكن طارئاً عليه، ومعنى لازم يعني: من ابتدائه إلى انتهائه، وهو سيئ الحفظ، بخلاف الطارئ الذي يطرأ عليه لسبب إما لاختلاط، أو لكبر، أو عدم ضبطه لمرويات بعض شيوخه، وهو من جهة الأصل ضابط، ولكنه لا يضبط أحاديث فلان، إما لتضييع الكتاب أو لامتزاج هذه الأحاديث بأحاديث غيرها، فهذا يحتاج إلى تمييز ونظر ومعرفة، فبعض الرواة سيئ الحفظ في الأحكام، كمحمد بن إسحاق ، ولكنه يضبط أحاديث السير والمغازي، فإذا وصفناه بسوء الحفظ فهذا بغير إطلاق، ولكنه يتعلق بالأحكام، ومنهم من يضبط أحاديث الأحكام، إما لكونها نسخ ومكتوبات، أو بعنايته بها، ولكنه في الأحكام ليس بضابط لها، وذلك كـالسدي وغيره.
وقوله: (فالشاذ على رأي) هذا في حال ورود المخالفة، ولا يسمى الشاذ شاذاً إلا لمخالفة المعنى أو اللفظ لغيره، فيوصف بالشذوذ؛ لأنه خرج عما هو أصح منه وأولى بالأخذ، فإذا لم يكن مخالفاً لغيره، فلماذا يسمى شاذاً لا من جهة المعنى، ولا من جهة اللفظ، لكن يرد إذا رواه الراوي وهو ضعيف في ذاته، أي: يرد ذلك الحديث، ولا نقول حينئذٍ بقبوله، ولا يوصف بالشذوذ، وقد يصف البعض بالشذوذ؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يحمله الرواة فلم يحملوه، فجاء فلان منفرداً به، فيصفونه ربما الشذوذ من هذا الاعتبار، والأولى أن يوصف بالضعف حتى يخالف من جهة اللفظ والمعنى أو الرواية.
قوله: (ومتى توبع سيئ الحفظ بمعتبر، وكذا المستور، والمرسل، والمدلس، صار حديثهم حسناً لا لذاته، بل بالمجموع) المتابعات على قسمين كما تقدم معنا: متابعات قاصرة ومتابعات تامة، فالمتابعة لا نقبلها إلا بمن هو ضعيف أو سيئ الحفظ، وأما شدة الضعف والترك والوضع فلا يقبل معها المتابعة على الإطلاق، كذلك جهالة العين، ووجودها كعدمها.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم الإسناد: إما أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً، أو حكماً، من قوله، أو فعله، أو تقريره، أو إلى الصحابي كذلك، وهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة في الأصح، أو إلى التابعي، وهو من لقي الصحابي كذلك، فالأول المرفوع، والثاني الموقوف، والثالث المقطوع، ومن دون التابعي فيه مثله، ويقال للأخيرين: الأثر].
قوله: (فالأول المرفوع) الأحاديث المرفوعة عن النبي عليه الصلاة والسلام هي المنسوبة إليه، وهي إما أن تكون من قوله أو من فعله أو من تقريره، كأن يقال: قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا، أو كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقام فلان أو فعل فلان والنبي صلى الله عليه وسلم يرى، فهذا إقرار، وكل هذه من الأمور المرفوعة، أو أن يقول: كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام غزاة ففعلنا وفعلنا، فهذا مرفوع.
ويدخل في حكمه أيضاً قول الصحابي: من السنة، ولأنهم أدرى الناس بمواضع السنة، والتشريع لا يأتي إلا من الله عز وجل بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمرفوعات لها مدونات ومصنفات، منها المسانيد كمسند أحمد و مسند البزار ، ومنها ما هي مصنفات على الأبواب كالصحيحين والسنن الأربع، ومسند الدارمي ، وصحيح ابن خزيمة و ابن حبان ، وموطأ الإمام مالك . وأما غيرها فيما يسمى بالموقوفات أو المقطوعات فلها مصنفات أخرى.
وسمي مرفوعاً؛ لأن الإسناد ينتهي إلى السماء، فهو موضع علو، وعلى ما تقدم نقول كما في مسألة الحديث المعلق، كحال السلسلة المعلقة بالسقف، فإذا وضعت سلسلة في الأرض ثم قمت برفعها ولم تعلقها بالسقف فإنها لا تسمى معلقة؛ لأن أصل ثباتها هو الأرض، وإنما أنت رفعتها من الأرض، ولهذا نقول: إن الوحي جاء من السماء ليتصل بالأرض، وأهل الأرض هم عمارها، والمقصود بذلك هم الإنس والجن، والرفع في ذلك أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الراوي عن ربه، ولهذا يقول البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح: باب رواية النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه، فالنبي عليه الصلاة والسلام مبلغ، فيروي عن الله سبحانه وتعالى.
ولكن كان الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأمور منها: أن يفرق بين القرآن والسنة، وبين ما يضبط لفظه ومعناه، وبين ما يضبط معناه ولا يجب أن يلتزم بلفظه.
ومنها: وفي نسبة كل شيء لله مع العلم أنه عن الله سبحانه وتعالى فيه إثقال، فأن تأتي بأفعال النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: هذا فعله النبي وهو عن ربه، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام بأصبعه السبابة، وهذا تشريع عن ربه، وسجد النبي كذا، وهو تشريع عن ربه، وكل هذه العبارات وذكر أسانيد معلومة أنها عن الله، فإن في هذا إثقالاً، وما كان معلوماً مستقراً يترك لعلم الأذهان به، ولهذا الله عز وجل يقول عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
إذاً: هذا الأمر انتهى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ، ولا يأتي بشيء من عنده، فما جاء من كلام الله فهو ينسب إليه ولا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: كلام الله، وقول الله سبحانه وتعالى.
وهذه المرفوعات عن النبي عليه الصلاة والسلام سميت مرفوعة نسبة إلى أعلى الخلق له عليه الصلاة والسلام، يعني: رفعت إليه.
قوله: (والثاني الموقوف) دون ذلك الموقوفات، يعني: توقف الإنسان مع إمكانه أن يتعدى إلى غيره، أي: أن ترفع إلى غيره فتوقف في ذلك، وهي المروية عن الصحابة عليهم رضوان الله.
وهي على مراتب: أعلاها وأقواها ما يروى عن الصحابة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل، ويليه بعد ذلك ما يروى عن أفاضل الصحابة كالخلفاء الراشدين الأربعة، والعشرة المبشرين، والفقهاء الكبار من الصحابة عليهم رضوان الله، كـمعاذ بن جبل ، و عمرو بن العاص وأضرابهم، ويليهم بعد ذلك من الفقهاء من الصحابة كـعبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو ، و أنس بن مالك ، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراتبهم في ذلك تتباين بحسب قربهم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن جلالتهم ما ظهرت إلا بالقرب من النبي عليه الصلاة والسلام.
ولهذا كان الصحابة على طبقات، وإن اشتركوا في لفظ الصحبة والترضي والمحبة لهم، ولكنهم يتباينون من جهة الفضل والجلالة، وكذلك يتباينون من جهة الفقه والعلم، ففقه أبي بكر يختلف عن فقه غيره، وفقه الخلفاء الراشدين يختلف عن فقه غيرهم، وفقه عبد الله بن عباس يختلف عن فقه من دونه، وذلك لقربه من النبي عليه الصلاة والسلام. وفقه أمهات المؤمنين يختلف عن فقه غيرهن من النساء مع الاشتراك بالصحبة، ولكنهن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين، وهن أبصر الناس بأفعال النبي في بيته، بصلاة الليل، بما يتعلق بأمر الزوجات، والتعامل معهن، واللباس والعورات، والاغتسال وغير ذلك، فهذا يشاهدنه أكثر من غيرهن، وهن يضبطن شيئاً من المعاني لا يضبطه غيرهن حتى من علية الصحابة من هو أفضل منهن، فيضبطن ما يتعلق بمسائل العدد، مسائل الحيض، مسائل الاغتسال، مسائل طعام النبي عليه الصلاة والسلام وهيئة اضطجاعه ونحو ذلك، باعتبار أن هذا يكون في بيته عليه الصلاة والسلام أكثر من غيره.
ولهذا ثمة قرائن تتعلق بالفقه أحياناً لا تتعلق بالفضل، فربما يكون المفضول أفضل فقهاً من غيره، وغيره أفضل منه جلالة، وعدم ورود الفقه والمروي عن بعض الصحابة لا يعني عدم فقهه، فالمروي عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله في الفقه أقل من المروي عن عبد الله بن عباس ، وهل ابن عباس أفقه من أبي بكر ؟ نقول: فقهاء أجلة ولكن أبو بكر أفقه بكثير، ولماذا لم ترد عن أبي بكر مرويات كثيرة بالفقه؟ لأن أبا بكر لم يعمر بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا نحو سنتين، والنبي عليه الصلاة والسلام حديث عهد بوفاة، ولم تستجد مسائل كثيرة ظاهرة يحتاج الناس إلى حكايتها، وأما ابن عباس فامتد به الأجل، ووجد التابعون، فاحتاجوا إلى الأخذ عنه.
أما أبو بكر فوجد في سنتين بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وعامة من حوله قد أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وليسوا بحاجة إلى الأخذ عنه، وقد عاينوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولو عمر لاحتاج الناس إليه ولظهر من فقهه ورأيه ما هو أكثر وأظهر وأجل من غيره، وهكذا.
ولهذا نقول: قلة المنقول عن الصحابي لا يعني فضل المكثر عليه، وهذا لظروف الزمان وظروف المكان، وظروف الناس من الحوادث والمستجدات وغيرها.
وثمة مصنفات اعتنت بجمع الموقوفات، من أقدمها وأشهرها موطأ الإمام مالك ، فقد اعتنى برواية الموقوفات خاصة عن المدنيين ممن أقام في ذلك إما عن الصحابة، أو عن التابعين أو عن أتباعهم، وهذا أصح الكتب المروية في هذا الباب، وكذلك مصنف عبد الرزاق ، ومصنف ابن أبي شيبة ، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي والسنن الكبرى له، والأوسط لـابن المنذر ، والاستذكار والتمهيد لـابن عبد البر ، وكذلك المصنفات المعتنية بالتفسير كتفسير ابن جرير ، وتفسير ابن أبي حاتم ، وتفسير عبد بن حميد ، وتفسير ابن المنذر ، وغيرها من المصنفات التي تعتني بالرواية عن الصحابة والرواية عن التابعين، وجلها أو أكثرها هي من الموقوفات، وهي على مراتب أيضاً في مسائل التفسير، فثمة مفسرون مدنيون، وثمة مفسرون من أهل مكة من التابعين، وثمة مفسرون صحابة، وثمة مفسرون تابعون، وغير ذلك.
قوله: (والثالث: المقطوع ومن دون التابعي فيه مثله) المقطوع ما كان عن التابعين ومن دونهم، فيكون ما كان عن تابعي مقطوعاً، وعن تابع التابعي كذلك مقطوعاً؛ لأن الأصل بالمروي أن يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أو على الأقل عن الصحابة، فإذا جاء عن غيرهم كأنه قطع، وهذا فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن ينتبه، ولا يخبط بين رواية الراوي من قول أحد التابعين، أو رفع ذلك إلى شيخه من الصحابة، فعبد الله بن عباس له أصحاب كثر، كـعكرمة و سعيد بن جبير و مجاهد بن جبر ، وغيرهم من التابعين، وهؤلاء لهم مرويات عنه، وله مرويات عن الصحابة، فلا يخلط الإنسان بينها، وربما تشترك من جهة اللفظ أو المعنى.
قوله: (ويقال للأخيرين: الأثر) وصف ما دون كلام النبي عليه الصلاة والسلام بالأثر نقول: هذا بحسب الاصطلاح، منهم من يعمم كل ما جاء في المرفوعات أو الموقوفات بأنها آثار، ولكن غلب ذلك اصطلاحاً على ما كان دون النبي عليه الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله: [والمسند: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال، فإن قل عدده، فإما أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى إمام ذي صفة علية كـشعبة ، فالأول: العلو المطلق، والثاني: النسبي].
الأحاديث إما أن تكون عالية، وإما أن تكون نازلة، والعلماء يهتمون بذلك من جهة السماع والأخذ، وكذلك من جهة التصحيح والتضعيف والترجيح فيما بينها، فالحديث العالي أقوى من غيره، لماذا؟ لقلة رواته، فإذا كثرت الرواة زادت نسبة الوهم والغلط، والزيادة والنقصان والتغيير، وإذا قلت الرواة قل احتمال ذلك.
والعلو إما أن يكون علواً مطلقاً، يعني: في جميع الطبقات قليلة، وإما أن يكون نسبياً، يعني: عادة أن يكون بين مالك والنبي صلى الله عليه وسلم اثنان، فيكون تابعي وصحابي، كـنافع عن عبد الله بن عمر ، والأصل في هذا أنه لا يمكن للإمام مالك عليه رحمة الله أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم واحد، لماذا؟ لأن هذا هو القدر الذي جعله الله عز وجل زمناً له، فلا يمكن أن يكون إلا عن تابعي، فالعالي أن يكون بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام اثنان.
وإذا كان بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة، فهذا نزول، وهو نزول نسبي بالنسبة لـمالك ، وهذا يتباين، وبالنسبة للعلو والنزول تارة يكون عالياً بالنسبة لفلان، ولكن لما بعده يكون نازلاً، فيروي عن مالك من تلامذته ثلاثة، واحد يروي عن الآخر، فهو نازل فيما بعد مالك ، وعالي فيما قبل مالك وهكذا، لاعتبارات، وتارة يكون الإسناد النازل أقوى من العالي؛ لأن الإسناد النازل هم أئمة ثقات، والعالي هم متوسطون أو قليلو الضبط.
قال المصنف رحمه الله: [وفيه الموافقة، وهو الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه، وفيه البدل وهو الوصول إلى شيخ شيخه كذلك، وفيه المساواة: وهي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخر مع إسناد أحد المصنفين، وفيه المصافحة: وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف. ويقابل العلو بأقسامه النزول].
هذا ما يتعلق بتعدد الطرق، أو التقاء بشيخ المصنف أو شيخ شيخه، هذه وإن كانت تسمى متابعات، فهي أيضاً مستخرجات، وثمة مصنفات في هذا، منهم من يعمد إلى كتاب من الكتب كصحيح مسلم و البخاري ويستخرج عليه، أو له أسانيد، فيوافقه في المتن، وتارة يوافقه في شيخه، أو في شيخ شيخه، فيسمى ذلك الكتاب مستخرجاً، كمستخرج الإسماعيلي ، ومستخرج أبي عوانة وغيرها من المصنفات.
قال المصنف رحمه الله: [فإن تشارك الراوي ومن روى عنه في السن أو في اللقي فهو الأقران، وإن روى كل منهما عن الآخر فالمدبج، وإن روى عمن دونه فالأكابر عن الأصاغر، ومنه الآباء عن الأبناء، وفي عكسه كثرة، ومنه من روى عن أبيه عن جده].
قوله: (فإن تشارك الراوي ومن روى عنه في السن أو في اللقي فهو الأقران) وهذا يعرف بالتاريخ والملازمة أيضاً، وربما يؤثر التاريخ، وربما لا يؤثر، فالأقران ربما يختلفان من جهة العمر، فهذا شاب وهذا شيخ، ولكن قد جاءا إلى السماع عن هذا الشيخ في زمن واحد، فيقال: هذا من أقران فلان، وإن فاق أحدهما الآخر سناً، فيسمون أقراناً على اصطلاح المحدثين.
وتارة يكون الرواة قد اتفقوا في السن، واتفقوا كذلك في السماع، فيكونون أقراناً من هذين الوجهين، فلا بد من النظر إلى هذين الاعتبارين: إلى السن وإلى ما يتعلق بالسماع من جهة الشيخ وزمنه، فربما التقيا بالأخذ عن شيخ واحد في مكة في عام واحد في الحج، فأخذا عن ذلك الشيخ، وسمعا منه في موضع واحد، مع أن هذا الراوي عمره خمسون، وهذا عمره ثلاثون أو عشرون، أو ذاك أكبر وأقل، ومع التباين في ذلك، فهما أقران بالرواية عن هذا.
قوله: (وإن روى كل منهما عن الآخر فالمدبج) رواية الأقران عن بعضهما يحرص العلماء عليها حتى لا يغلب على ظن الباحث والناظر أن ثمة اضطراباً في الإسناد أو خلطاً، أو تصحيفاً، أو خطأ ربما يطرأ بالكتابة، أو زلة طباعية أو نحو ذلك، فالأقران ربما يروي بعضهم عن بعض.
وإذا روى الراوي عن قرينه، وروى قرينه عنه فهذا المدبج، وهذا له أحوال، ومن لطائف الأسانيد أن يعتني به العلماء، حتى إذا نظر الراوي وعرف في ذهنه أن الأقران يروون عن بعض أزال عنه احتمال الاضطراب، أو احتمال الوهم في ذلك، أو الخطأ أو الزلل الذي يكون من الكتاب أو ربما من بعض الرواة.
قوله: (وإن روى عمن دونه فالأكابر عن الأصاغر) وهذا كذلك يعتني به العلماء في مسألة رواية الأكابر عن الأصاغر حتى لا يظن الوهم، فإما أن يكون بين الكبير والصغير صلة فلا يستغرب الإنسان أن يروي الأب عن ابنه، ولا يستغرب أيضاً إذا وجد الراوي الكبير يروي عن تلميذه، ولهذا ذكر الإمام الترمذي رحمه الله أن البخاري سمع منه حديثاً، يعني: أخذه عنه، والترمذي هو من تلاميذ البخاري ، وإذا وجدنا حديثاً يرويه الشيخ عن تلميذه، وعرفنا رواية الأكابر عن الأصاغر نعلم أنه لا يوجد خلل في ذلك، وهذا من الأحوال النادرة.
وكذلك نجد هذا عند أبي داود مع الإمام أحمد رحمه الله، و أبو داود من تلامذة أحمد ، ولكن أحمد سمع من أبي داود شيئاً، وهي من رواية الأكابر عن الأصاغر.
قوله: (ومنه الآباء عن الأبناء، وفي عكسه كثرة، ومنه من روى عن أبيه عن جده) رواية الآباء عن الأبناء موجودة، ولكنها ليست بكثرة رواية الأبناء عن الآباء وهي مشتهرة، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، رواية أبناء سعد بن أبي وقاص كـمصعب و عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وكذلك رواية محمد بن الحسن عن أبيه، وغير ذلك من روايات الأبناء عن الآباء، وهي أشهر.
وثمة مصنفات في هذا جمعها بعضهم، منها ما هي أجزاء لبعض المرويات كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومنها ما هي رواية لحصر ما يرويه الأبناء عن الآباء من جهة لا سرد الروايات، وإنما بحصر أمثلة لها.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن اشترك اثنان عن شيخ، وتقدم موت أحدهما، فهو السابق واللاحق، وإن روى عن اثنين متفقي الاسم ولم يتميزا، فباختصاصه بأحدهما يتبين المهمل ].
الرواة قد يقع اللبس بينهم لبعض الأمور المشكلة على الإنسان مما لا يجري عادة في الأسانيد، وهذا يميزه الإنسان بمعرفة أمثال هذه الضوابط ووجودها في الأسانيد، وأنها ليست غريبة.
وكذلك إذا عرف الإنسان الظروف التي تحيط بذلك الراوي والقرائن، وقد تقدم معنا الإشارة إلى أن الراوي ربما يشترك مع غيره بالشيخ، فيميز بالتلميذ، وقد يشترك مع الراوي بالشيخ والتلميذ أيضاً فيميز بالمتون، ما هو المتن؟ المحمول في ذلك، ويميز أيضاً بأمر رابع بالأسانيد أيضاً؛ بشيخ الشيخ، فتارة بعضهم يعتني برواية طرق معينة، وبعضهم يروي الجميع، وهذه قرائن قد توجد في بعض الأحوال، وقد لا توجد في أحوال أخرى، وهي من القرائن التي يميز بها الراوي غيره.
كذلك المصنفات المدونة في هذا من كتب الرجال بمعرفة المكثر والمقل والملازم وغير ذلك، فالمكثر ملازمة يقدم على غيره؛ لأنه إذا أبهم أو اشترك معه غيره قدم على المقل في ذلك، وهذا هو الأغلب، أن النقلة والرواة يبهمون المشهور للعلم به، ولكن عند المتأخرين لا يميزون أن هذا مكثر أو ليس بمكثر؛ لأنهم ينظرون إلى الحديث المجرد، بخلاف الراوي أو الضابط الذي يكثر من الحفظ، ويعلم عدد المرويات، فهذا يختلف عمن يقف على حديث مجتزئ بعينه لا يربطه بغيره من المرويات.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن جحد مرويه جزماً رد، أو احتمالاً قبل في الأصح، وفيه: من حدث ونسي].
وهذا صنف فيه بعض العلماء كتذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي، وهذا أن بعض الرواة ربما يحدث بحديث ثم ينساه، وهذا يوجد له نظائر في السنن، كما في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .
فإذا روى الراوي حديثاً، ثم قال: لم أحدثك به، وكان عالماً به، فظاهر كلام المصنف أنه يقسمه إلى قسمين: قسم يجزم بالنفي أنه ما حدث بذلك، وهذا في الغالب أنه يرد، وقسم ينفي لكنه لا يجزم، يقول: لا أذكر ولا أظن، ولم أحدث بهذا الحديث، ولكن قطعه بذلك لم يكن معه في سياق التأكيد والمنع، فنقول حينئذٍ: إن الثاني يقبل، والأول يحتاط في عدم روايته، وقد يكون الإنسان مستوثقاً من هذا النقل، وثابتاً عنده كالأخذ باليد، وهذا أيضاً له أحوال.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن اتفق الرواة في صيغ الأداء، أو غيرها من الحالات، فهو المسلسل ].
ثمة صيغ للأداء ينقلها الرواة، وهي متعددة، كحدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت وسمعنا، أو عن أو قال، أو أن أو غير ذلك من صيغ الأداء، يعني: هو تحمل وكيف أداها؟ يؤديها بعبارة.
وأيها أقوى؟ من العلماء من يجعل الاشتراك في ما يثبت سماعه واحداً، فما دام اللفظة تفيد السماع فسواءً قال: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا أو سمعنا، فهي بمعنى واحد؛ لأنها أفادت السماع وانتهى، وهذا ظاهر صنيع البخاري و سفيان عليهم رحمة الله، وقد ترجم البخاري رحمه الله على ذلك في كتابه الصحيح، فقال: باب قول الراوي: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا. قال: وقال الحميدي : كان عند سفيان حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحداً، يعني: على معنى واحد.
ولكن الذي يظهر لي والله أعلم أن صيغ السماع تختلف من حيث الجمع والإفراد، فالإفراد يعني: أن الإنسان خوطب بذاته في الغالب، وهي قرينة وليست قطعية، فإذا قال الإنسان: حدثني فلان، أو قال لي فلان، فهذا يعني أنه هو المعني.
ونحن مثلاً في هذا المجلس نحدث الإخوة بهذا وهم جمع، فهؤلاء يقولون: حدثنا، ولكن يختلف إذا كان العدد قليلاً عن العدد الكثير، فالعدد الكثير يلحقهم التغافل وارتخاء الذهن، وعدم الاستحضار والانتباه يغلب على القلة، فإذا كان الإنسان واحداً، وحدثته أنت أو أحدثه أنا فإن ذهنه يكون حاضراً أكثر من غيره، لماذا؟ لأنه موضع انتباه وشد، وهو المعني، وكلما عني الإنسان وخصص بشيء فإنه أشد انتباهاً.
فإذا كان ثمة قرينة تدل على أن الراوي سمع لوحده، فهذا أقوى من غيره، وهو أشد انتباهاً، فإذا قال: قال لي فلان، أو حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو أنبأني فلان، أو اقترن بشيء بمن الألفاظ مما يفيد أنه هو وإياه، كأن يقول: كنت أنا وفلان في طريق، أو في مجلس، أو في المسجد، أو أتيته وهو متكأ على سارية فقال: حدثني فلان، فهذه قرينة على أنه سمع منه وحده، وأن ذهنه في ذلك أشد حضوراً من غيره.
إذاً: الإفراد أقوى من الجمع.
وألفاظ الجمع كحدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت، هذا موضع خلاف عند العلماء من جهة تفاضلها على بعضها، منهم من يجعل أخبرنا إجازة، ويجعل حدثنا وأنبأنا والسماع واحداً.
وكذلك ما يتعلق بمسألة الوجادة فإنها لا تذكر صيغ الإخبار، وبعضهم يتجوز فيها بالإخبار إذا أدرك من وجد كلامه.
وإذا اجتمعت صيغ السماع سمي المسلسل، مسلسل بالتحديث، أو مسلسل بالعنعنة، أو اشتركا في وصف كالمصافحة أو القيام أو الابتسامة وغير ذلك، فيقال: هذا مسلسل بالقيام أو بالقعود أو بالمصافحة أو بالابتسامة، أو مسلسل بالمحمدين أو الأحمدين، أو غير ذلك من المسلسلات.
نكتفي بهذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر