www.islamweb.net/ar/

إبراهيم عليه السلام والدعوة إلى الله للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن إبراهيم عليه السلام أمة وحده، اجتهد وجاهد في الدعوة إلى الله، دعا أباه وقومه إلى طريق النجاة بتوحيد رب الأرض والسماوات، خالطهم وصبر على أذاهم، ثم اعتزلهم وجفاهم بعد أن قذفوه في النار، فنجاه العزيز القهار، ولما تبين له أن باه عدو لله تبرأ منه، فإبراهيم أسوة حسنة لكل من جاء بعده لاسيما الدعاة إلى الله.

    جهود إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى الله

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أما بعد:

    فيقول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم:41-50].

    فإذا اتخذت إلى الله سبحانه وتعالى سبيل الأنبياء والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد وأن تكون سائراً بطريقتهم وعلى منهاجهم، ومستعداً لعدم قبول دعوتك؛ فإن القلوب لا يملكها إلا الله، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام استعمل أرفع الأساليب، واستعمل الحجج العقلية، والمؤثرات الوجدانية التي تربط بين الابن وأبيه، وأحسن الأدب مع أبيه، وترفق به أعظم ترفق، وترقق له وأحسن إليه، وأبوه آزر يصد عن ذلك كله، وقلبه مغلق لم ينفتح لأي حجة عقلية، كما في قوله: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].

    ولا لوجدانية عاطفية لما قال له: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45]، يذكره برحمة الله، ويخوفه من عقاب الله، يرجيه ويخوفه ومع ذلك لا يتذكر، يخوفه من عاقبة طاعته للشيطان وعبادته له، وألا يقترب منه فيكون له ولياً، وبذلك يشقى الشقاء الذي لا سعادة معه ولا بعده أبداً.

    إن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه).

    فليس بالضرورة أن تظهر ثمرة الدعوة في استجابة المدعو مباشرة، ولا حتى بعد حين، ولو كان حتى من الأقربين، فالنور الذي عند إبراهيم عليه السلام يكفي لهداية البشرية، وقد امتد نوره عبر الزمان والمكان، وانتشرت دعوة التوحيد التي جعلها الله عز وجل منسوبة إليه، ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] ومع ذلك لم يصل هذا النور إلى قلب أبيه، ولله سبحانه وتعالى الحكمة البالغة في ذلك، وكم من حكمة بالغة في عدم إيمان أبي إبراهيم؛ وذلك ليعلم العباد أن الله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

    قطع إبراهيم لعلاقات الولاء مع أبيه

    القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصرفها كيف يشاء، وأنه لا ينفع نسب ما لم يكن عمل، (فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال: (ألا إن آل فلان ليسوا بأوليائي إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين).

    وكذلك لتتحقق عقيدة الولاء والبراء اعتقاداً وعملاً وسلوكاً في موقف إبراهيم عليه السلام من البراءة من أبيه في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].

    وفي الآخرة يتبرأ منه أيضاً كما ثبت في صحيح مسلم (أن إبراهيم يلقى أباه آزر فيقول: يا أبت ألم أكن أنهك؟ فقال: يا بني إني لا أعصيك اليوم، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أب أبعد، فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين -أي: حرم الجنة على الكافرين- فينظر إليه فإذا هو ذيخ متلطخ -أي: فإذا هو قد مسخ ضبعاً متلطخاً بعذرته- فيؤخذ بقوائمه الأربع فيلقى في جهنم)، فيتبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه في الآخرة كما تبرأ منه في الدنيا، ولقد جعل الله عز وجل صورة أبيه المعذب في صورة ضبع متلطخ بنجاسته حتى لا يتأذى إبراهيم بصورة أبيه الذي يعرفه وهو يعذب في النار، نسأل الله العافية.

    فالله عز وجل أعلم بالمهتدين، ولقد قدر الله عز وجل أن يوجد في أسر كثير من الأنبياء من لا يؤمن، حتى تتحقق هذه القضية وغيرها من الحكم، فقضى سبحانه وتعالى بحكمته ألا يؤمن ابن نوح رغم أنواع الدعوة التي استعملها معه نوح عليه السلام من الترفق له والدعوة باللين، والتذكير بالبنوة التي تربطه به، وتذكيره بالآخرة، ورؤيته للآيات الباهرة المعجزة الحسية الظاهرة، بالإضافة إلى الأدلة العقلية القاهرة لعقل أي مشرك معاند، ومع ذلك ما آمن ابن نوح وهو أحد أعمام هذه البشرية التي توجد الآن على ظهر الأرض؛ ومع ذلك فالكل يتبرأ منه، بل نوح عليه السلام استغفر ربه من سؤاله عنه.

    وقدر الله عز وجل أيضاً وجود امرأة نوح وامرأة لوط في أسرتين من أسر أنبياء الله عز وجل، وقدر سبحانه وتعالى ألا يؤمن أبو لهب وأبو طالب عما النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقدر الله عز وجل أن يكون كثير من أقارب أهل الإيمان من الكافرين؛ لتنفصل الروابط الدنيوية وتبقى رابطة الدين، فإن الله سبحانه ما أذن لهم حتى في الاستغفار لذويهم، قال عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114]، وانفصلت وانقطعت وزالت روابط الأسرة الواحدة وبقي الإحسان.

    هذه الروابط التي تنفصل هي روابط المودة والموالاة، وهذه إنما تكون على الدين وطاعة الله واتباع أمره، وأما إذا لم يكن هناك هذا الدين الواحد الذي افترض الله على الخلق جميعاً أن يتبعوه؛ فلا بد من العداوة والبغضاء.

    قال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].

    تهديدات الكافرين للدعاة إلى الله

    قال سبحانه وتعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ [مريم:46]، بعد أن أعرض عن كل الحجج، بل صار منكراً على إبراهيم عليه السلام، اندفع يستنكر عليه: كيف يرغب عن آلهته التي يصنعها، وكان فيما يذكرون ينحت هذه الأصنام لقومه والعياذ بالله.

    فإبراهيم كان راغباً عن الآلهة التي تعبد من دون الله، والرغبة في الله لا تحصل إلا بالرغبة عن آلهة المشركين، وتوحيد الله عز وجل لا يحصل إلا بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، كما قال عز وجل: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، فلا يبنى الإسلام إلا على أنقاض الجاهلية والشرك، فلا بد أن تهدم هذه الجاهلية وهذه العقائد الفاسدة في النفوس كما تهدم في الواقع؛ ذلك أنه لا تتحقق دعوة التوحيد في قلب إنسان وهو يقر بعبادة غير الله.

    وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27]، وليس ولوده على ملة أخرى بمقتضٍ لصحة منهجه طالما كان يعتقد صحته كما يقول الزنادقة والمنافقون الذين يصححون مللاً غير ملة الإسلام، ويرونها حقاً كما أن الإسلام حق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، يقول الله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ويقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].

    فهم أبو إبراهيم وأيقن أن إبراهيم راغب عن آلهته، فصار يتوعده ويتهدده: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم:46].

    قيل: لأشتمنك، وقيل: لأرجمنك بالحجارة، وهو أقرب إلى ظاهر اللفظ؛ ذلك أنه كان يؤذيه بالكلام، فالظاهر أنه كان يريد أن يزيد على تلك الأذية بالفعل، قال: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم:46]، كما قالها قوم نوح عليه السلام لنوح عليه السلام حتى يترك الدعوة إلى الله عز وجل، وكما يقولها كثير من الآباء والأقارب وأهل القوم والوطن والجيران والمعاملين لمن يدعو إلى الله عز وجل: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم:46] .. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116]، وقالها قوم لوط: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [الشعراء:167]، وقالها قوم شعيب لشعيب عليه السلام: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم:13]، وقالتها الأقوام لرسلهم، فدائماً كانوا يهددونهم بالإخراج من الأرض، وغير ذلك من أنواع التهديد، وقالها فرعون لموسى حين قال له: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، فلابد أن يتوقع الداعي إلى الله سبحانه وتعالى أنواع التهديد إذا استمر في طريق الدعوة، ولكن هذا لا يثنيه ولو فعلوا ما فعلوا؛ فإنه صاحب رسالة يؤديها، وهو متبع للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما استطاع، وبكل ما أمكنه، ولا يؤثر فيه هذا التخويف؛ لأنه يركز فكره في يوم القيامة، ويخاف وعيد الله عز وجل أكثر مما يخاف وعيد الناس.

    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14].

    فهذا التهديد والوعيد لا يوقف الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، وإن كان استعماله لوسائل الدعوة ولانتقائه للشخص والمكان قد يختلف، فقد يعرض عن قوم وينشغل بغيرهم، ويرحل عن بلد فيتجه إلى بلد أخرى، كما هاجر إبراهيم عليه السلام وذهب إلى ربه، فأبدله الله سبحانه وتعالى خيراً من قومه، قال تعالى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات:99].

    واعتزلهم بعد حين بعد أن بلغ دعوة الحق، وهكذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتولى عنهم فما هو بملوم، كما أمره الله فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54].

    فمن أعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وأصر على الإعراض، وذكر مرة بعد أخرى، فلينشغل الداعي إلى الله عز وجل بغيره، وليبحث عن مكان آخر ينشر فيه دعوته إلى الله، إن عجز أن يقيمها وأن ينشرها في مكان ما.

    قال: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] أي: اهجرني طويلاً طالما بقيت على ذلك.

    التلطف في الدعوة مع المدعوين

    أوذي إبراهيم باللسان مع التهديد بالأذى بالفعل، ولم يكن من إبراهيم عليه السلام رد عليه، وهكذا يوطن الداعية نفسه أن لا ينتصر لنفسه قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم:47]، ليس هذا من باب التحية ولكن من باب مقابلة الإساءة بالإحسان.

    أي: ستسلم مني وأنت مني في سلام، وليس معنى ذلك: التحية ولا أنه قصد التحية التي لا يشرع أن يبدأ بها الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام).

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راسل ملوك الكفار لم يبدأهم بتحية، وإنما يقول: سلام على من اتبع الهدى، وليست هذه بتحية لهم لأنهم ليسوا ممن اتبع الهدى، لأن التحية إكرام والكافر ينبغي أن يهان، بمعنى: ألا يعظم ولا يبجل ولا يوصف بالأوصاف التي فيها الثناء والتعظيم والمدح، وإنما يبين حقارة مذهبه، وبطلان طريقته، ولا يكون له التبجيل والتوقير، وإنما ذلك لأهل الإيمان؛ فلا يبدأ الكافر بالتحية، وإن بدأ هو بالتحية ردت عليه كما شرع الله عز وجل: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم). أما أن يبدأهم بالتحية فلا، ولذا لم يكن هذا من باب التحية من إبراهيم، وإنما معنى الكلام جملة يخبر فيها إبراهيم أن أباه سيسلم منه، فلن يرد الأذى بأذى، ولن يرد الكلمة السيئة بكلمة مثلها، ولن يرد التهديد بالتهديد.

    وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله عز وجل طريقك في الدعوة إلى الله، قال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].

    فهذه منزلة لا يلقاها ولا يوفق لها إلا ذو حظ عظيم، وهي أن يقابل الإساءة بالإحسان، وكما قال ربنا سبحانه وتعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، حتى يشرع الله عز وجل الانتصار لدينه، ويمكن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله عز وجل به بالقوة التي شرعها الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، وأما قبل ذلك فإنه يشرع الصبر والاحتساب، يشرع أن يصبر وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، كما قال عز وجل عن مؤمني أهل الكتاب: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وقال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].

    فينبغي لك أيها المسلم أن تعامل الناس بذلك، وهذا من أعظم ما يكسبك قبول دعوتك الحق؛ بالسلوك الطيب في الناس، فإنك إذا واجهت كل إساءة لك بإساءة مثلها، وعاقبت دائماً بمثل ما عوقبت به لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول من صبر واحتسب، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].

    وقال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

    فالله عزم على عباده المؤمنين في ذلك، وأكد عليهم، وأمرهم سبحانه وتعالى بالصبر والعفو والصفح، وجعل لهم في الأنبياء الأسوة الحسنة حتى يقتدوا بهم؛ في ألا يقابلوا الإساءة بالإساءة، ولكن يعفو ويصفح.

    ووصف النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: (ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح).

    ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا حتى مع الكفرة قبل أن يسلموا، يعفو ويصفح صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف بالمسلم، وكان ذلك من أسباب إسلام كثير منهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لمشركي مكة وقد تمكن منهم، وهم الذي قاتلوه وجرحوه، وقتلوا أصحابه، وقتلوا أولياء الله عز وجل وخيرة أهل الأرض، ومع ذلك فلما تمكن منهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).

    وكان من أسباب إسلام ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن إليه، ومن عليه حين أسرته خيل المسلمين، وربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ثلاثة أيام متتابعة، (فقال: ما عندك يا ثمامة؟!) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فيتركه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متتالية، ثم بعد ذلك يقول: (أطلقوا ثمامة) ، فيطلق ثمامة وقد تحول وتغير وصار إنساناً آخر، فينطلق وهو سيد قومه، ومن حقه أن ينصرف إلى ما كان يريد، وإلى وجهته، فينطلق إلى أقرب بئر في حديقة، فيغتسل ويرجع، فيشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: والله يا رسول الله ما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح أحب الوجوه إلي، وما كان من دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح أحب الدين إلي، وما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، وقد أصبح أحب البلاد إلي.

    فانظر كيف يثمر الإحسان، وكيف يثمر العفو والصفح عن الناس، وكيف تثمر هذه المعاملة الحسنة الطيبة في أن تقد القلوب إلى الإيمان بفضل الله عز وجل، ويتأكد ذلك تأكيداً شديداً مع الوالدين، وذلك أنه لا يشرع في الإنكار على الوالدين التغليظ والتعنيف؛ فإن الله عز وجل قال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23]، وهذا عام، ولذلك خصص العلماء به أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالوا: لا يتجاوز مع الوالدين إلى درجة التعنيف والتغليظ، بل لا يزال في الدرجة الأولى من التعريف والنصح، والتخويف بالله سبحانه وتعالى.

    وقال سبحانه وتعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فلم يجعل سبحانه وتعالى الكفر سبباً لنسخ الأمر بالإحسان بل الأمر بالإحسان للوالدين باق ومستمر حتى مع كفر الوالدين فضلاً عن فسقهما؛ فليعلم كل ابن وبنت وجوب بر الوالدين على الدوام، ووجوب الإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين أو فاسقين، أو أمرا بمنكر؛ فإنك لا تستجيب لهما طاعة لله عز وجل وتعظيماً لأمره، ولكن في نفس الوقت لا تسيء المعاملة بل تحسن إليهما فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24].

    حكم الاستغفار للمشركين

    قال الله تعالى: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، فلم يجابه السيئة بالسيئة بل بالحسنة، وزاد أنه استغفر له، ويجوز الاستغفار للكافر طالما كان حياً، وذلك أن الله إنما يغفر له بأن يهديه، ولذا قال إبراهيم: سأستغفر لك، وظل يستغفر له إلى أن مات على الكفر، كما قال ربنا سبحانه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [التوبة:114] أي: بأن مات كافراً؛ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].

    فهذا ليس فيه الأسوة في الاستغفار للمشركين؛ لأن قول إبراهيم لأبيه كان عن موعدة وعدها إياه، وكان في فترة حياته، فكان وفاءً للوعد، وكان في فترة الحياة، ويجوز الاستغفار لغير الأب من المشركين والكافرين كما حكى النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبياً من الأنبياء ضربه قومه حتى أدموه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).

    فيجوز الدعاء للكفار وإن آذوا الأنبياء، وإن جرحوهم، وذلك من سعة الرحمة التي جعلها الله عز وجل في قلوب الأنبياء، وهذا الاستغفار لا يحصل نفعه للكافر إلا إذا تاب وهداه الله عز وجل؛ فإنما يغفر للكافر بأن يتوب من الشرك، وأن يرزقه الله عز وجل الدخول في الإسلام، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    فأما إذا مات مشركاً لم يجز الاستغفار، ولم يجز الاسترحام له، ولا يشرع طلب الرحمة له وهو على كفره، وإنما ورد الاستغفار كما ثبت في الحديث الصحيح: (أن اليهود كانوا يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يشمتهم بقوله: يرحمكم الله، فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم).

    والاستغفار بمعنى طلب الهداية؛ ولذلك لا يشرع طلب الرحمة للكافر حال كفره ولو كان حياً، وإنما تطلب له المغفرة، لأن ذلك فيه إقرار بأنه على ذنب عظيم، وفيه تبيين أنه على خلاف الهدى، ولذا يدعى له بالهداية وبالمغفرة بأن يتوب الله عز وجل عليه.

    ومن هذا قول إبراهيم عليه السلام: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36].

    قال الله تعالى: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، نجد في هذه الآية الكريمة استشعار إبراهيم عليه السلام لمعاني صفة الله عز وجل، واستحضاره لنعمه عليه خاصة.

    وقال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:47]، ولم يقل: ربك، أو ربنا، أو رب العالمين، وإنما قال: ربي، لشعوره بهذه الخصوصية بينه وبين الله سبحانه وتعالى. هذه الخصوصية بهذه العبودية الخاصة، وأنه كان به حفياً، أي: عوده الإجابة، والمؤمن إذا تذكر إجابة الله عز وجل لدعواته التي دعا بها كان ذلك من أسباب مزيد الرجاء، وطلب مزيد الفضل من الله سبحانه وتعالى، فإنه عز وجل حفي بعباده المؤمنين، وهو سبحانه حفي بأنبيائه أعظم من غيرهم، فقد عودهم أن يجيبهم، وأن يصلح شأنهم وأمرهم، وأن يتولى أمرهم بنفسه سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي امتن على عباده المؤمنين بذلك قال: إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47].

    وهذا الاستحضار لمعاني الأسماء والصفات من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وختم الدعاء بأسماء الله وصفاته في أدعية الكتاب والسنة من أعظم ما يبين لك أهمية هذه المسألة، وهو أن يكون العبد متعلقاً بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، متذكراً نعمته، مثنياً عليه سبحانه، مستحضراً خصوصية عبوديته لله عز وجل، وأن بينه وبين الله ما لا يعلمه الناس، كما قالها يعقوب عليه السلام: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:62].

    وهكذا يتكرر هذا المعنى كثيراً في أدعية الأنبياء؛ لأنهم يعلمون من الله عز وجل ما لا يعلمه الناس، ويستحضرون من معاني أسمائه وصفاته ما يحضر قلوبهم بين يديه سبحانه وتعالى، مستشعرين عظمته وقوته، وتدبيره لهذا الكون، ولكل ما فيه علويه وسفليه، ظاهره وباطنه، غيبه وشهادته، ويستحضرون أن الأمر من عنده لا من عند الناس، قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47].

    سبحانك اللهم وبحمدك.

    اللهم اغفر لنا ولإخواننا، وللمؤمنين والمؤمنات.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

    العزلة وضوابطها

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، عندما تصل الدعوة إلى الله عز وجل إلى مداها بأن تبلغ البعيد والقريب والقاصي والداني، وتقام الحجج ويستمر الكفرة على إعراضهم -وإبراهيم عليه السلام دعا إلى الله عز وجل حتى وصل إلى هذه الغاية- فعند ذلك يشرع الاعتزال.

    قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: يفارقهم، وكان ذلك بعد أن ألقوه في النار ونجاه الله عز وجل منها، فإبراهيم دعا أباه وقومه، وبين لهم، وأقام عليهم الحجج، وما وجد منهم إلا التكذيب والأذى، والاضطهاد الفظيع، وألقوه في النار فعلاً، فكانت نجاته بأمر الله سبحانه وتعالى.

    فلما اكتمل هذا الأمر هاجر إبراهيم عليه السلام، واعتزال أهل الباطل واعتزال باطلهم سنة ماضية طالما وصلت الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إلى غايتها، وظلوا على إعراضهم، وهذه العزلة يجب منها قدر معين في كل وقت على كل مسلم، وهو ما يلزمه من اعتزال فعل الباطل وعقائده وسلوكه.

    فهذا قدر واجب على مر الزمن، فلا تبيح له قرابته، ولا مواطنته، ولا قوميته لقومه أن يشاركهم في باطلهم، وإنما أباح الله عز وجل موافقة ظاهرة لأهل الباطل عند الإكراه فقط، وما أباح ذلك لمصلحة ولا لمداهنة ولا لأمور متوهمة، ولا لمجرد علاقات عائلية، أو روابط وطنية أو قومية أو غير ذلك، فما أجاز الله أن يوافق الإنسان على الكفر والباطل والمعاصي إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.

    قال سبحانه وتعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

    فلا يجوز لمسلم أن يوافق أهل الباطل بزعم أنه يعيش وسطهم، وأن من عاش وسط قوم فلا بد أن يحترم قوانينهم، أو أوضاعهم، أو عاداتهم أو تقاليدهم، لا يجوز ذلك إلا عند الإكراه المعتبر شرعاً، وليس مجرد وجود الإنسان في مكان يجعله مضطراً لذلك إذا قرروا ذلك، بل لا بد أن يكون هناك إكراه مادي معتبر؛ بأن يوجد تهديد بقتل، أو قطع عضو من الأعضاء، أو تعذيب أو حبس وقيد أو إتلاف مال، أو نحو ذلك، مع تفاوت ما يكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في نطق كلمة الكفر، كالإكراه المعتبر في قبول هدية أو نحوها.

    وإنما يعتبر ذلك بالنظر في أدلة الكتاب والسنة، فلا يعتبر السجن مثلاً إكراهاً على الزنا في حق الرجل ولا في حق المرأة، فلو حبس سنين على أن يزني مثلاً ما كان ذلك معتبراً شرعاً، وأما القتل والتهديد به، وغلبة الظن بحصوله، أو التعذيب الشديد، كما وقع لـعمار فمبيح لذلك، فهذا قدر واجب من العزلة.

    فإذا لم يستطع أن يقيم دينه إلا بأن يفارق أهل الباطل ودارهم، وجب عليه ذلك، وكذا مفارقتهم حتى لا يتأثر بهم في سلوكه وعمله، فصحبة أهل الشر والسوء تجلب على الإنسان موافقتهم ومشابهتهم فيما هم فيه، وهذا واقع مشهود في كثير من الناس، فإن مصاحبته للكفرة والظلمة والعصاة والفسقة والمجرمين تهيئه وتقوده إلى فعل أفعالهم، وإلى موافقتهم من باطنه قبل أن يكون من ظاهره، والعياذ بالله من ذلك.

    فكثير من الناس يحب أهل الباطل لكثرة معاشرتهم، فمن وجد نفسه تقوده في خلطته لقرناء السوء إلى موافقتهم؛ وجب عليه فوراً مفارقتهم، بل لا يجوز له أن يقيم وسطهم إلا مع الإنكار عليهم، ودعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا أقام الأنبياء في بلاد الكفر يدعون إلى الله عز وجل، وينكرون الشرك والكفر والفسوق والعصيان، ولا يجوز لمسلم أن يقيم في أرض يفعل فيها الكفر والفسوق والعصيان إلا لغرض شرعي صحيح، كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، أو لمصلحة شرعية أخرى، وأما أن يكون مقيماً لأجل دنيا يصيبها، أو أهل أو مال أو ولد، فهذا ممن يقال له: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97].

    طالما كان عاجزاً عن إقامة دينه متأثراً بحالهم، وهو لا شك يتأثر، فإن الإنسان إنما يتأثر بأصحابه وأصدقائه أعظم التأثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، والصداقة من معاني الموالاة فلا تصح لكافر، بل لا يجوز أن يصادق الفسقة والفجرة والظلمة، ولا يسكت عليهم حين يجلس معهم في مجالسهم، قال سبحانه وتعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، وقال سبحانه وتعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116]، فأنجى الله الذين ينهون عن السوء، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، ومن لم يتمعر وجهه في الله وهو يرى المنكرات أمامه، ولا يقيم لغرض شرعي صحيح، فهذا الذي يبدأ به، فإنه لم يتمعر ولم يتغير وجهه في الله سبحانه وتعالى، ولا يكون صالحاً، وإن كان يظهر الصلاح، أو يفعل في نفسه الصلاح؛ فليوطن كل مسلم نفسه على أن يعتزل الباطل وأهله، يعتزل الباطل، فلا يفعله ولا يعتقده ولا يرضى به ولا يقره، وكذلك لا يصاحب أهله، ويعتزل أهله فيفارقهم إلا لغرض شرعي صحيح.

    جلب الدعاء لأسباب السعادة

    وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] أي: ما يدعون من دون الله من آلهة باطلة، وَأَدْعُو رَبِّي [مريم:48]، أفرده بالدعاء الذي هو العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة).

    قال تعالى: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، والدعاء من أعظم أسباب السعادة، فمن دعا الله عز وجل، بأن دعاه إلهاً واحداً لا شريك له، ودعاه لقضاء حوائجه، وأثنى عليه بما هو أهله، فهذا يسعد في الدنيا والآخرة، وعسى: محققةٌ من الله تعالى، وهي على ألسنة أنبيائه منه سبحانه وتعالى.

    فلذا قال: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم:48]، وكما قالها زكريا عليه السلام: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم:4]، فلا يشقى إنسان مع الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب الراحة والنجاة والسعادة والفوز والفلاح، فلا يتركه إلا جاهل، وهو السلاح الأعظم الذي ننتصر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟!). أي: بدعائهم، وتضرعهم، وانكسارهم، ومن حكم تقدير الله عز وجل بالبلاء على المؤمنين: أن تنكسر قلوبهم له، ويستشعرون فقرهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فيكثرون من الدعاء، وهم مستشعرون أن ليس لهم إلا الله، ولا سبيل لهم إلا بالتوجه إليه سبحانه وتعالى، وأن ليس لهم من دونه من ولي ولا نصير، وأنه سبحانه وتعالى مولاهم، ولا يوجد لهم مولى سواه، وأهل الأرض جميعاً قد تركوهم، بل قد اجتمعوا عليهم، ورموهم عن قوس واحدة، فقدر الله ذلك لتلتجئ القلوب إلى الله، وتصعد الأدعية إلى الله، ولا يشقى مع الدعاء أحد إلا من حرمه الله، ونسأل الله ألا يحرمنا دعاءه وإجابته بفضله سبحانه وتعالى.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.

    ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين والدعاة إليك في كل مكان، اللهم مكن لكتابك ودينك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعبادك المؤمنين.

    ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

    اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.