www.islamweb.net/ar/

إصلاح القلوب للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها هي: سلامة القلب من أمراض الشرك والكبر والعجب والغرور وغيرها من الأمراض التي تفسد القلب، وخير علاج للقلوب المريضة هو مداواتها بمراقبة الله، وإخلاص العبادة له، وتوحيده وتذكر الموقف بين يديه سبحانه وتعالى.

    إصلاح القلوب سبب للتمكين وللنجاة يوم القيامة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] . أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    يقول الله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:1-45] .

    عباد الله! لقد خوفنا الله سبحانه تعالى بوعيده، وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب الساعة، فقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وإن كادت لتسبقني).

    فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، فهل أعددنا لهذه الساعة العمل الذي يناسبها؟ وهل أعددنا العمل الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به؟ وهل هربنا من وعيد الله عز وجل وخفنا من عقابه؟

    اعلموا أنه لا ينجو بين يدي الله يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، قال الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في دعائه: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، فسلامة القلب هي أول صفة يجب على المكلف أن يحرص عليها، والحقيقة أن الإيمان الكامل الواجب لا يكون إلا مع سلامة القلب مما لا يحبه الله ولا يرضاه من أمراض الشبهات والشهوات، تلك الأمراض التي أمر الله العباد أن يعالجوا ويداووا أنفسهم منها، حتى لا تستفحل فتقضي على ما في القلب من إيمان.

    فالشرك -والعياذ بالله- من أعظم الأمراض خطراً، وكذا الكبر والعجب والغرور، وسائر أمراض النفس التي ينشأ عنها الصراعات بين الناس، وينشأ عنها الشرك والعناد، وينشأ عنها الكفر والنفاق، وسبب ذلك أن الإنسان لم يداوِ نفسه، ولم يسعَ إلى علاج ذنبها وظلمها، فالإنسان ظلوم جهول إلا من علمه الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلبه العدل بدل الظلم، والعلم بدل الجهل.

    وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بأن يداووا أنفسهم، وأخبرهم سبحانه وتعالى بأنه هو الذي يشفي هذه القلوب، وأنه هو الذي يحييها بعد موتها، وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك بأسباب يبذلها العبد، كما هو الحال في كل قضاء قدره، فأمر العباد أن يزكوا أنفسهم، وأن يداووا أمراضهم وهم موقنون مع ذلك أن الله وحده هو الشافي، وأنه لا شفاء إلا شفاءه، فيجب علينا أن نسعى في الأرض وأن نأخذ بالأسباب في علاج أمراض النفوس، وفي تسليم القلوب لله سبحانه وتعالى مع اليقين وبأن فضل الله أكبر، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يزكي نفوسنا، وهو خير من زكاها، وقد كان عليه الصلاة والسلام -وهو العبد الشكور- يقول في دعائه: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).

    إن الله عز وجل هو الذي يزكي النفوس، وقد أفلح من زكى الله نفسه، وخاب من دس الله نفسه، وهذه التزكية والدرس هما محض عدل من الله عز وجل أو فضل، ففضل الله سبحانه يناله الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لذلك، وعدل الله عز وجل يقع على من يستحقه، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية.

    إذاً: يجب علينا أن نسعى إلى سلامة القلوب وإصلاحها، وذلك لا يكون إلا بفضل وعون من الله سبحانه وتعالى، وسلامة القلوب وصحتها من الأمراض سبب لنجاة العبد يوم القيامة، وسبب في تمكين الله للطائفة المؤمنة في الأرض، فإن الله عز وجل إنما يغير موازين الكون وسننه التي يسير عليها من أجل الطائفة المؤمنة القليلة المستضعفة، هذه الطائفة التي ليس عندها من أسباب القوة أو العُدَد والعدة، وذلك لا يتحقق إلا إذا سلمت قلوبها، فالله عز وجل سوف يعطيهم رقاب العباد والبلاد، وأما إذا كانت النفوس لم تتزك بعد، ولم تصبر بعد، فإنها إذا تمكنت أوشكت أن تجعل العباد عبيداً لها من دون الله، وترى في ذلك كمال عزها مجدها، وهذا الذي صنعته لنفسها يضمحل معه سعيها في سبيل الله؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من السعي إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأما ما كان من عجب وغرور وكبر -والعياذ بالله- وما كان من عمل لغير وجهه فإنه مضمحل باطل لا يقبله الله سبحانه وتعالى، فإذا تمكنت هذه النفوس وهي لم تزل بعد متعلقة بالدنيا، ومتعلقة بنصيبها منها، ومتعلقة برؤية الناس لها، فهذا أمر لا يحصل معه الخير، ولا تحصل معه الغاية من تمكين المؤمنين، وهي كما قال ربعي رضي الله عنه: إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

    الإخلاص دليل سلامة القلب

    فالغاية المقصودة: أن يعبد الناس ربهم سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وهذا هو الإخلاص لله عز وجل -وهو علامة سلامة القلب- وهو الذي أُمرت به الأمم من قبلنا، قال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:14-15].

    والإخلاص عزيز ونادر لا بد للإنسان أن يحرص عليه، وفي نفس الوقت لا بد أن يعلم أنه لا ينال إلا بالمجاهدة المستمرة، ولا ينال إلا بمراقبة نفسه ونيته، فلا يتركها هكذا بغير مراقبة؛ لأن أيسر شيء على الشيطان هو الدخول على النية، وأيسر شيء عليه أن يغير الأمر بعد استقراره، وهذا أمر عظيم الخطر، فلا بد للإنسان إذاً أن يراقب نفسه على الدوام، ومن هنا فاز السابقون، وانتصر المجاهدون على أنفسهم، وكان لهم عند الله سبحانه وتعالى المنازل العالية بالمراقبة الدائمة، ومحاسبة النفس على ما أرادت، ولماذا عملت؟ وكيف أدت هذا العمل؟ قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].

    نسيان الله تعالى دافع إلى الأمراض والآفات

    إن نسيان الله عز وجل إنما يحصل إذا انشغل الإنسان بحظ نفسه ونصيبها، وهذا الذي يدفعه إلى مراقبة الناس، فينسى ربه وينسى نفسه والعياذ بالله، فلا بد أن يكون وراء كل عمل يعمله، وأن يكون في فكره دائماً موقفه بين يدي الله عز وجل، وبما سوف يجيبه على ما سيسأله ربه سبحانه وتعالى.

    نسأل الله عز وجل ألا نناقش الحساب؛ فإنه من نوقش الحساب عذب كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك نقول: إن العبد الذي يكون مع الله سبحانه وتعالى هو العبد المخلص الذي يراقب نفسه ولا يتركها تطمح وتطمع فيما عند الناس وفيما يقوله الناس، فهذا هو الذي ينجو بإذن الله تبارك وتعالى، وهو الذي لا ينظر إلى مدح الناس وذمهم، ومدح الناس هو الذي يسعى إليه أكثر الخلق إلا من رحم الله، ومن هنا كان هلاكهم نعوذ بالله من ذلك.

    وهذا الذي دفع أناساً إلى الحسد، وإلى الكفر، وإلى العناد، رغم علمهم بأنه هو الحق، فما الذي دفع كفار قريش إلى أن يكفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ذلك ما يقوله المشركون: أن بني هاشم سبقوا بأن كان فيهم نبي، فمن أين يكون لنا نبي؟ ولذلك قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهذا هو الذي يخافون منه ويرجونه، ألم يكن سبب كفر فرعون هو الكبر والعياذ بالله، ورؤية كمال النفس التي هي في الحقيقة من أفقر وأضعف المخلوقات، ولكن الشيطان هو الذي يغذي هذا الأمر في نفس كل إنسان، فمن قاوم هذا الداء أفلح ونجح، ومن ترك نفسه على ما يغذيها به الشيطان كأن يقول له: إنك أنت الأفضل، وأنت الأحسن، وأنت الأعلى، فهذا الذي يغلبه شيطانه، وهو الذي دفع كبر فرعون إلى أن يقول لقومه: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:51-52]، فهذه هي المشكلة الواضحة عند فرعون، وهي: هل هو أفضل أم موسى؟ والعقدة في نفسه أن موسى أفضل منه أم هو أفضل؟ فكان كفره بسبب هذا الكبر والعياذ بالله، ولذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

    والكبر هو الذي أدى بإبليس إلى الكفر والعياذ بالله قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، والنظر إلى النفس بعين الكمال ينافي حال الأنبياء والصالحين، فكيف ينظر إنسان عاقل إلى نفسه على أنه الأكمل وعلى أنه الأحسن، وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق على الإطلاق، وأعلاهم عند الله منزلة، ومن كمال خلقه أنه يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو يستشعر التقصير في السر والعلن، ويستشعر ذلك فيما قدم وفيما أخر من النقص والذنب والخطيئة، وبعد هذا كله يقول: (وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير).

    فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل للناس: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي لا يتعمد مخالفة أمر الله عز وجل ومعصيته عمداً بإصرار أو بمعرفة قبل ذلك، وإنما ذنبه عليه الصلاة والسلام خطأ أو نسيان، أو ترك لبعض الأولى، أو فتور عن بعض المستحب، وهو مع ذلك يقول هذا الكلام، فكيف بمن هو دونه؟ وهذه نظرة المؤمن دائماً إلى نفسه، أن يرى أنه هالك إلا أن يرحمه الله عز وجل، وليس عنده عمل يستحق أن يُقبل إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه، ولسان حاله يقول في خطابه لربه: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88].

    فما الذي أطمع إخوة يوسف في أن يطلبوا من يوسف هذا الطلب وهي البضاعة المزجاة، أي: البضاعة البائرة التي لا تروج ولا تقبل، ومع ذلك كانوا طامعين في كرمه، وقالوا له: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88] ، فهم يرجون مع بضاعتهم المزجاة كرمه، وأن يوفي لهم الكيل، ولسان حال المؤمن في معاملته لربه عز وجل أن يكون على هذا الحال، وأن يرى نفسه أنه هو المقصر الذي لا يستحق أن يقبل له عمل، ولكنه يطمع في فضل الله وفي رحمته، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)؟ فانظروا فيما كان الرجاء؟ وعلى ما كان التوكل؟ وبم تكون الاستعانة؟ ليس بالعمل -مع كونه في غاية الكمال بالنسبة إلى البشر- ولكنه فيما بينه وبين الله عز وجل، وهذا لكمال النقص في الحقيقة؛ ولأنها حققت ما ينبغي أن يكون عليه العبد من العبودية والذل، والاستكانة والإنكسار بين يدي الله، فهو لكمال هذه العبودية رأى النقص والتقصير، ورأى أنه لم يحقق ما عليه.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.

    كيفية مداواة القلوب

    لا شك أن هذه القلوب تحتاج دائماً إلى مداواة لأمراضها، وهذا ينبني على تذكر الموقف بين يدي الله، وعلى معرفة الآخرة، وعلى معرفة صفات الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الكمال فيها، ومعرفة عجز البشر ونقصهم وضعفهم وخطيئتهم وذنوبهم، وأنه مهما كان حال العبد فإنه لا يمكن أن يصل إلى ما ينبغي عليه أن يكون، فإن الله عز وجل لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من عملهم، وهذا عدل منه عز وجل.

    نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    بالإخلاص تقبل الأعمال

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد:

    فالله عز وجل أغنى الأغنياء، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).

    ولذا كان العمل الذي يكون فيه نية إرادة الناس مع إرادة وجه الله عز وجل غير مقبول عند الله، كما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت الرجل يقاتل يلتمس الأجر والذكر؟ قال: لا شيء له) فالله عز وجل هو الغني الكريم، وهو الغني الحميد، ومن غناه سبحانه وتعالى أنه لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه، ولا يقبل شريكاً معه في عمل من الأعمال، ولذا كان على الإنسان أن يراقب نيته، وأن يكون مع الله سبحانه وتعالى دون النظر إلى الناس، وعندما ينظر إلى نفسه بعين التقصير والنقص سوف يكون في معاملته مع الناس، وكذلك لا يرى لنفسه حقاً على الناس، ولا شك أن هذا من علامات كمال النفس، وأنها استغنت بالله عز وجل أن يكون الإنسان في معاملته للناس لا يرى نفسه صاحب حق، ولا صاحب منزلة، ولا يرى نفسه أكمل منهم، وأنهم لا بد أن يعطوه حقه، وأن هذا فضل الله سبحانه وتعالى عليه، فليس له من الخير نصيب، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يجري على ألسنتهم أو أيديهم ما يكون فيه مصلحته وخيراً له، فكيف يطلبه منهم؟ فيكون العبد بهذا عنده من الجود والكرم والسماحة ما يستغني به عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله فينتقم لله عز وجل).

    فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته مع الناس لا يراعي حق نفسه، والله عز وجل لم يضعه أبداً، ولم يجعل أحداً من الناس يناله بالسوء والأذى، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، بل جعل قلوب أصحابه أسبق شيء إلى معرفة قدره، وإلى تعظيم حقه، ومراعاة منزلته عليه الصلاة والسلام، مع أنه هو عليه الصلاة والسلام لم ينتقم لنفسه قط، وما طلب لنفسه حقاً، وإنما جعل الله قلوب الناس هي التي تفيء إليه بالحق، وهي التي تعطيه هذا الحق امتثالاً لأمر الله من غير طلب منه، وهذا هو الجود والكرم.

    فالإنسان الذي لا يرى لنفسه حقاً، ولا يرى أنه قد قصر في حقه هذا هو الذي قد استغنى بالله عز وجل، فكان مع الخْلق بلا نفس يراعي حظها ويراعي نصيبها، وأصبح لا يطالبهم بما له عندهم، ولذلك كان هذا من المرحومين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كان فيمن كان قبلكم رجل كان من خلقه الجواز، وكان يعامل الناس، وكان يدينهم، فكان يقول لصبيانه أو لغلمانه: يسروا على الموسر، وأنظروا المعسر -أو ضعوا عن المعسر- فقال الله عز وجل: نحن أولى بذلك منه، تجاوزوا عنه)، ولم يكن له من عمل صالح كما قال عليه الصلاة والسلام إلا الجواز، إلا أنه من خلقه التجاوز والتسامح والعفو والصفح، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    الغني من استغنى بالله

    ألم تعلموا وتسمعوا قصة ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام وهو الحارث بن عبد المطلب ، والذي كان من أشد الناس عداوة للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن أشد الناس تحريضاً عليه، وكان ينبغي له أن يكون من أشد الناس حرصاً على النبي عليه الصلاة والسلام، فلما فتح الله لنبيه مكة وأسلم الحارث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه؛ لما كان يتذكر من أذاه له، ومن شدته عليه حال الجاهلية، فاشتكى إلى علي رضي الله تعالى عنه ما يجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ائته من قبل وجهه، وقل له: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن مردوداً منه، فجاءه من قبل وجهه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ((( لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ))).

    وبهذا كان أحسن مردوداً كما كان يوسف عليه السلام؛ وهذا لأنه استغنى بالله عز وجل، واستغنى بعبوديته لله سبحانه، فاضمحل ما في يد الناس في نظره، ولم يلتفت إليهم قط، فإن عملوا شيئاً فهم يعاملون الله به، وإن قصروا في شيء لم يشعر بهذا التقصير ولم يلتفت إليه، فكان الجود والخلق الحسن من أخلاق النبيين، وكان عليه الصلاة والسلام يحسن استقباله بعد ذلك ويرى فيه بديلاً عن حمزة رضي الله تعالى عنه، فمن استغنى بالله عز وجل بافتقاره إليه دون سواه أغناه الله عز وجل عن كل ما سواه، وجعل نفسه كريمة فيها الجود والسماحة وسهولة التعامل، وهكذا تضمحل الأمراض الأخرى مثل: الحسد، والتباغض، والتنافس على الدنيا، وحب الشهرة والرئاسة على الخلق، والملك والسلطان، وهل ترون العالم كله يسعى إلى الدمار وإلى الهلاك وإلى الحرب وإلى القتل وسفك الدماء وانتهاك الحرمات إلا من أجل ذلك؟

    فمن استغنى بالله عز وجل أغناه وجعله في غنى عن الناس، وفي غنى عن أن يطلب منهم شيئاً، ومن افتقر إلى الخلق أفقره الله عز وجل؛ لأن النفس خلقت فقيرة إلى الله وحده، فهي تميل إلى أن تذل وتخضع لله وحده، فمن كان فقره إلى الله عز وجل كان أسعد السعداء، ومن ظن أنه يستغني بشيء من المخلوقات مالاً كان أو جاهاً أو سلطاناً أو وجاهة عند الخلق فإنه لا يزال في فقر ولا يزال في ضنك وضيق؛ لأنه لم يخلص لله عز وجل، فالقلوب إذا سلمت لله سبحانه وتعالى وأخلصت له عز وجل استغنت به عما سواه، وتذللت وانكسرت.

    العبودية الكاملة لله تعالى لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع له تبارك وتعالى

    إن الانكسار بين يدي الله، والشعور بالعجز والضعف، وضيق ذات الحال، وأن الإنسان لا يملك شيئاً هو من أعظم أسباب حب الله سبحانه وتعالى، فالعبد الذي ينكسر لله، ويرى نعمه عليه، ويرى عجزه وضعفه هو أقرب إلى أن يحب الله سبحانه وتعالى ثم ينال درجة المحبوبية، وهل العبودية إلا حب وانكسار، وبذلك يرتفع الإنسان، ويعلو شأنه، ويكون قد حقق التوحيد وأخلص لله، ولم يشرك بالله شيئاً، فيستحقون إن كانت طائفة أن يمكن الله عز وجل لها: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    فهذه العبودية الكاملة لله عز وجل لا تحصل إلا بالانكسار والذل والخضوع لله عز وجل، ولا يحصل ذلك مع العجب والكبر والرياء وطلب مدح الناس أو الخوف من ذمهم.

    اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم ارزقنا الإخلاص في أعمالنا كلها، واجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئاً.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلال ودعاة السوء.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.

    اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.

    اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.