www.islamweb.net/ar/

الانكسار إلى الله للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن من حكم الله عز وجل الكونية: أن جعل كل بني آدم خطاء، ولا معصوم إلا الأنبياء حتى يكون لهم الكمال في الدعوة إلى الله عز وجل، ولو كان الناس لا يذنبون لذهب الله بهم، وأتى بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم، لأن في ارتكاب الذنب الذي يتبعه رجوع إلى الله تحقيقاً لمعاني الذل والانكسار بين يدي الله سبحانه، واعتراف من العبد لله بمعاني العزة والرحمة والمغفرة، وإعلام للعبد بقدر نفسه، فلا يعتريه الغرور والفخر، ولا يعتلجه العجب والتعظيم لنفسه، فيتكبر على الله بتركه الذل بين يديه، ويتكبر على الخلق بادعاء الكمال لنفسه.

    الذنوب والمعاصي وعلاقتها بالانكسار لله

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد.

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فاعلموا -عباد الله- أن الله سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، أسماؤه كلها حسنى تدل على معاني الكمال والجلال، فهو ذو الجلال والإكرام، وكتب سبحانه وتعالى النقص والتقصير على كل من سواه، فأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فكيف بمن دونه؟!

    وإذا كان سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال وحده لا شريك له فقد جعل كل بني آدم خطاءين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ليس ذلك من وراثة الخطيئة كما يعتقد الكفرة النصارى الذين ينسبون إلى الله عز وجل ظلماً وزوراً وعدواناً وبهتاناً: أن بني آدم ورثوا خطيئة أبيهم آدم؛ ولذا لا يقبل منهم شيئاً إلا بالغداء، فيزعمون أنه لابد أن يكون ذبيحة إلهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خطيئة بني آدم من أفعالهم وكسبهم، فإن الله سبحانه وتعالى قدر ذلك وابتلاهم؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ ولأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ولأنه سبحانه وتعالى يحب أن يغفر، فقدر سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته على العباد أن يذنبوا بالليل والنهار؛ ليستغفروه فيغفر لهم؛ ليشهدوا نقصهم وعجزهم وفقرهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكما كسرهم بالحاجة والفقر إلى الربوبية في خلقهم، ورزقهم فهم فقراء إلى الله عز وجل في بداية أمرهم وفي نهايتهم، وفيما بين ذلك، فهم ما أوجدوا أنفسهم، ولا شهدوا خلقها، ولا خلق السماوات والأرض، وما أعانوا على ذلك، قال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، بل هو سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم ورزقهم فكانوا لذلك أذلة لربهم، يرى هذه الذلة وهذه الحاجة كل من طالع وشاهد بقلبه طبيعة الإنسان في كونه يحتاج إلى نفس يتنفسه، وليس بيده أن يأتي به، ولا أن يصرفه في بدنه، فهو يحتاج إلى ربه عز وجل في طعامه وشرابه ونومه ويقظته، وفي كل لحظات عمره وأنفاسه.

    فكذلك كسرهم سبحانه وتعالى بما يبتليهم بأنواع المحن والبلايا ليعلمهم سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وكسرهم سبحانه وتعالى بالذنوب لكي يعرفوا أيضاً عجزهم ونقصهم وتقصيرهم، ويذلوا له ذلة العبد المنكسر الذي يعلم أنه لا ملجأ له إلا أن يعود إلى ربه ومولاه وسيده الحق سبحانه وتعالى، رب العباد الذي أوجب على العباد جميعاً أن يتوبوا ويقروا، وأن يعترفوا بالذنوب، وإنما يكمل الإنسان بذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة أن الناس بسبب ما أصابهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون يذهبون إلى الأنبياء واحداً بعد واحد، يذهبون إلى آدم.. ثم إلى نوح.. ثم إلى إبراهيم.. ثم إلى موسى.. ثم يأتون عيسى عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبكمال تعبده لله عز وجل وتوبته واعترافه صلى الله عليه وسلم بذنبه -وهو المعصوم- كمل عند الله عز وجل؛ لأن من مراتب العبودية: مرتبة الاعتراف بالذنب وشهود النقص والتقصير.

    وأما شهود كمال النفس، وأنه هو الذي قام بأنواع الخير وصفات الكمال فهي نظرة إبليسية -نعوذ بالله منها- سببها العجب والكبر والغرور والعياذ بالله من ذلك، فإبليس هو الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فلم ينفعه إقراره بأن الله هو الذي خلقه وخلق آدم؛ لأنه لم يعترف ولم يعرف لله عز وجل الفضل، وإنما نسب الفضل إلى نفسه، وشهد كمالاً وهمياً لنفسه وزكاها، والله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، فكان في ذلك العجب المهلك والكبر المطغي الذي يزري بصاحبه ويصغره عند الله سبحانه وتعالى.

    فإذا وجدت نفسك تعترف بالذنب ولم تصر على ما فعلت فأبشر، فإن الله عز وجل غفار لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وأما إذا كنت ترى من نفسك صفات الكمال، وترى أنك أعلى من غيرك وفوقهم؛ فهذا هو الخطر العظيم، وما أصابنا ما أصابنا من أنواع الكسر والذل إلا بظهور هذه الأمراض نعوذ بالله منها، ولابد للعبد المؤمن أن يكون على الدوام تواباً، معترفاً بذنبه، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، والعبد إذا أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي يقول الله عز وجل: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، قد غفرت لعبدي-حتى يفعل ذلك ثلاثاً ويقول الرب عز وجل في الثالثة: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بعباد يذنبون فيستغفرون؛ فيغفر الله لهم)، وهذا إنما يحصل بالانكسار والذل لله عز وجل بشهود المعاصي والذنوب، وربما كان العبد بالانكسار لله عز وجل بسبب الذنوب والإزراء على نفسه وشهود نفسه ظالماً أكمل حالاً منه قبل أن يذنب الذنب، وذلك أن الندم والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل يرتفع العبد بها في مقامات العبودية التي يحبها الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن يقدم على الذنب متجرئاً، فإن هذا في ذاته قادح في عودته وندمه، وقادح في انكساره، والذي يستهين بالذنب ويقدم عليه يحرم هذا الأمر غالباً إلا حين ينكسر لله سبحانه وتعالى.

    قصة يوسف وما فيها من الانكسار والتوبة

    تأمل في قصة يوسف عليه السلام وإخوته حين قال إخوة يوسف في بداية عزمهم على الذنب والجريمة التي ارتكبوها: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، فقد عزموا على التوبة ولكنهم لم يرزقوها، ولم يتب الله سبحانه وتعالى عليهم سنين طوالاً أكثر من أربعين عاماً أو نحواً من أربعين عاماً؛ لأنهم لم ينكسروا لله، وإنما رزقوا التوبة لما ذلوا ذلاً شديداً، حتى أوقعهم الله في ذل المسألة والحاجة، قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ [يوسف:78-80]، فكانت بداية التوبة، فهذا الذي أصابهم حين شعروا بأنهم فرطوا في حق يوسف، وقبل ذلك كان الحقد يملأ قلوبهم، وكانوا ما زالوا يحقدون على يوسف حتى قالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، لكن لما يئسوا من أن ينجو أخاهم وقد أخذ أبوهم عليهم موثقاً من الله وانكسروا كان ذلك بداية التوبة.

    ثم زادت الكسرة بغضب أبيهم وحزنه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم، وخشوا عليه الهلاك، وشعروا بمدى التقصير، وزاد الأمر بالفقر وشدة الحاجة حتى قالوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ [يوسف:88]، كلها أنواع من الانكسار، وشعروا بعزة هذا العزيز فخاطبوه بهذه الكلمة: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ، وشعروا بذل الضر الذي أصابهم، مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ، وذل الأهل ذل إضافي إلى حاجة النفس وضرورتها وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ، ليس عندنا ما يقابل عطاءك، وإنما يسألون عطاءً بلا مقابل، بضاعتهم بائرة لا تنفق في السوق، ولا تباع إلا بالبخس، مثل غروب وحبال ودلاء، وليس عندهم شيء يبيعونه ولا يستبدلونه حتى يأتون بالطعام، وإنما يرجون الكرم؛ ولذا قالوا: وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ، ذل المسألة والحاجة لينكسروا؛ فلما وقع ذلك تاب الله عليهم، فكان هذا بداية الفرج عليهم، وكان ذلك سبب توبة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإضافة إلى الاعتراف، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:89-92]، وكانت هذه التوبة بعد مدة طويلة؛ لذا نقول: إن الذي يتجرأ على الذنب ويقول: سوف أتوب بمجرد أن أفعل الذنب هذه المرة ثم أتوب، غالباً لا يرزق التوبة، وإنما يرزق التوبة من شهد انكساره وذله وضعفه أمام نفسه الأمارة بالسوء، وشهد عزة مولاه وكماله وغناه، وأنه لا يحتاج إلى طاعته، قد مضت ركائب المطيعين وهو المتخلف، وقد عبد الله سبحانه وتعالى العابدون وهو النائم الكسلان، وقد أطاع الله سبحانه وتعالى الطائعون وهو الذي ترك هذه الرفقة الصالحة، فعندما يرى نفسه كذلك يعترف بذنبه، فعند ذلك يقبله الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى: يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

    انكسار النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الله

    نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، وذنوبه إنما هي نسيان أو فتور في الذكر عن القدر المستحب في حقنا، أو إنها خطأ في الاجتهاد أو ترك للأولى، هكذا كانت ذنوبه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)، والعبد يشهد تقصيره مقدماً ومؤخراً، يشهد تقصيره في أول عمره وفي آخره، يشهد العبد المؤمن ذنوبه قد أحاطت به من قبل ومن بعد، فيقول: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، فأنت بين ذنب وبين ذنب، إلا أن يتوب الله عز وجل عليك، وستهلك إلا أن يتوب الله سبحانه وتعالى عليك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشهد أن ذنوبه مقدمة ومؤخرة فيقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو بين سر وعلن، ذنوب بينه وبين الله، وذنوب بينه وبين الناس، بمعنى أنه في السر أذنب وفي العلن أذنب، ثم يقول بعد ذلك: (وما أنت أعلم به مني)، هذا الانكسار العجيب الذي يحصل للمؤمن -إذا صدق في قوله- يرفعه منازل عالية عند الله عز وجل، وليس مجرد ترديد باللسان كمتواضع ليس عنده التواضع، وإنما يقول ذلك وهو يرى أنه ما أذنب في الحقيقة، وأن الأمر كان من غيره، وأن التقصير كان من سواه، وربما لام بعضهم قدر الله وقال: هو الذي قدر علينا ذلك، فعلام اللوم؟! وعلام نعذب أو نعاقب؟!

    وكثير جداً من الناس يقول: لماذا فعلت بنا يا ربنا هذا؟ ماذا أذنبنا حتى تفعل بنا ذلك؟! نعوذ بالله من هذا القول، وهذا كله لأنهم لم يشهدوا حقيقة العبودية بالانكسار، وأن العبد لا يزال مقصراً في حق ربه عز وجل، وقد قدر الله عز وجل على أبينا آدم الخطيئة، وكتبها عليه، ورزقه الاعتراف بالذنب والاستغفار، فقال هو وزوجه: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، فقارن بين الحالين: إبليس احتج بالقدر وعاتب ربه عز وجل فقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]-نعوذ بالله من ذلك! وحاج ربه عز وجل فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16-17]، وهذه خطة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، ينسبون إلى الله عز وجل أنه ظلمهم، وأنه الذي قدر عليهم، ويستمرون في محادة الرب ومخالفة أمره، فتجد أحدهم يترك الطاعات ويفعل المعاصي والمحرمات وربما الشركيات، وينسى الآخرة، ويقبل على الدنيا، ولا يشكر نعمة الله، تجد هذه طريقة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، وإذا عوتب عاتب ربه عز وجل، فمن شابه إبليس فهو معه، (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، ومن شابه أباه فما ظلم.

    فإذا اعترفت بالذنب، ورأيت التقصير والنقص والعيب الذي عندك، كان ذلك من أسباب رفعتك عند الله عز وجل، وإنما تكمل النفس الإنسانية برؤية تقصيرها وعيبها، وإنما تهلك وتمرض وتموت برؤية كمالها وفخرها وغرورها والعياذ بالله من ذلك!

    لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر هذا المعنى في مجالسه كلها، وهو معنى الاستغفار الذي هو جالب لأنواع الخيرات والرزق والبركات من الله سبحانه وتعالى، كما قال ابن عمر رضي الله عنه: (كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، أكثر من سبعين مرة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، فأعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم وقد قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، قال ذلك ليعلمنا منزلته الواجبة، والتي يجب علينا أن نعتقدها له عليه الصلاة والسلام، وهو مع ذلك يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)، وكلما كان الإنسان معترفاً بجهله ناظراً إلى سعة علم الله عز وجل كان عالماً بالله كما في قصة الخضر عليه السلام مع موسى صلى الله عليه وسلم -وهو الذي أمره الله أن يصحبه فيتعلم منه، وعلمه ثلاث مسائل في رحلة طويلة- فعندما وقف عصفور على جانب السفينة فأخذ قطرة من البحر الخضر قال: (يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر) فهذه النظرة تجعل العبد يكون صادقاً، (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري). وعندما تنظر إلى عظمة الله عز وجل وحقه ونعمه، وما يستحقه سبحانه وتعالى من الحب والخوف والرجاء وكمال كل أنواع العبودية، وتعلم ما أنت فيه مقصر عند ذلك تكون صادقاً.

    قوله: (وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، أي: اغفر لي إسرافي في أمري، فأنا أسرفت على نفسي، وأنا قصرت تقصيراً أنا أعترف به، فهذا الذي يرفع قدر العبد عند الله عز وجل.

    (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)، الله عز وجل يقدم من شاء، ويؤخر من شاء، هكذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الفضل بيد الله، وأنه هو الذي يرفع درجات من يشاء، وأنه سبحانه وتعالى يهب لمن يشاء الطاعات فيجعله مقدماً عنده، ويؤخر من شاء حتى يؤخر في النار والعياذ بالله، الله يقدم من شاء في أمر الدين والدنيا، ويؤخر من شاء في أمر الدين والدنيا.

    (أنت إلهي)، وهذا المعنى شمل كل ما سبق في هذا الدعاء العظيم الجامع الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذكر اسم الألوهية مضافاً إلى ضمير المتكلم المفرد (أنت إلهي) لتكميل هذه الخصوصية، فهو يستشعر أنه مع ربه سبحانه وتعالى، ومع إلهه الذي يعبده ويحبه ويخضع له ويذل له، وقد كملت عبوديته بالاعتراف بالذنب بعد كمال الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فهناك خصوصية في قضية العبودية، بمعنى أنها سر بينك وبين الله عز وجل فيما تختص به من عبادته مما لا يعرفه الناس.

    وتأمل في قوله: (أنت ربنا)، وفي قوله: (أنت إلهي)، لتعلم حاجة العباد جميعاً إلى الله عز وجل، وفقرهم إليه، ولكل عبد مؤمن صادق مع الله نصيب من قوله: (أنت إلهي).

    انكسار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم

    وهكذا قد تكرر مثل هذا المعنى على ألسنة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، في شهودهم معاني الأسماء والصفات الدالة على الحب والود والرحمة الخاصة لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، كما قال شعيب عليه السلام: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، فحين أمرهم بالاستغفار ذكرهم باسم الربوبية مضافاً إلى ضمير جمع المخاطبين: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، ثم ذكر الود والرحمة، وهذا أمر خاص إنما يشهده من أخلص لله عز وجل واقترب منه سبحانه وتعالى، فيشهد من آثار وده وحبه سبحانه وتعالى ما يجعله يعرف خصوصية عباد الله المؤمنين بذلك، وللأنبياء أعظم الخصوصية، فيقول: إِنَّ رَبِّي ، فذكر ربه هنا منسوباً، ومضافاً إلى ضمير المتكلم، وكما قال صالح عليه السلام: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]، فهو سبحانه وتعالى قريب من عباده المؤمنين، مجيب لهم دعاءهم، ما لا يقرب من غيرهم ولا يجيب غيرهم، فهو عز وجل أكثر قرباً لعباده المؤمنين؛ لأنهم أخلصوا له الألوهية والعبادة فهو أكثر إجابة لهم، وهو عز وجل قد يجيب الكفرة كما أخبر عنهم أنهم إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، لكن إجابته للمؤمنين أمر آخر، فلابد إذاً أن يكون بينك وبين الله عز وجل عمل كما كان السلف يدخرون أعمالهم الصالحة، ويسرون بها كما يسر الناس الذنوب.

    فالناس يستخفون بالذنوب حتى لا يفضحوا، وأهل الإيمان والصلاح يستخفون بالعمل الصالح؛ لأنه الذي يبقى لهم مضموناً أو يرجون أن يكون باقياً لهم عند الله عز وجل، أو هو أقرب إلى القبول من ذلك الذي في العلن، فإن العبودية التي في العلن تقترن بها كثير من الآفات، وغالباً ما تفسد على كثير من الصالحين أعمالهم-ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأما التي بينك وبين الله عز وجل فهي التي إذا صدقت في قولك: (أنت إلهي) تبقى لك عند الله، ولقد رئي بعض من كان مقدماً في العلم في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ذهبت هذه الشطحات والأفكار ولم يبق إلا ركعات في جوف الليل، فنفعه عند الله عز وجل ما أخفاه عن الناس، وهذا هو السر في أن يذكر الإله سبحانه وتعالى في هذا الموطن -والله أعلى وأعلم- منسوباً مضافاً إلى ضمير المتكلم، (أنت إلهي)، فهو كذلك إلهه ولو لم يعبد الله أحد، فهو يستحضر أنه سوف يعبد الله وحده مهما كان من حوله بعيداً عن هذه العبودية، فهو لا يحتاج إلى أن يكون مع الناس ليعبد ربه، فهو يعبد الله عز وجل ولو كان وحده، ولو لم يوجد من الناس من يعبد الله، ولو كان يسير وحده غريباً في طريقه إلى الله؛ لأن الله إلهه، فالعبادة بينه وبين ربه أمر لا يحتاج إلى معين عليه، ولذا يقول يعقوب عليه السلام: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:86]، وإنما يحصل ذلك بشهود أسمائه وصفاته، واستحضار معاني كماله وعظمته سبحانه وتعالى، ويعرف فيما بينه وبين ربه عز وجل بسبب أنواع العبادة الخاصة ما يرفع قدره عند الله، ويجعله مقرباً منه سبحانه وتعالى.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    قوة الله لا يغلبها شيء

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    فختم هذا الدعاء المبارك العظيم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) فهو تأكيد على ذلك المعنى المتكرر الذي تكرر مرات في هذا الدعاء وفي غيره: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، (لا إله إلا أنت) تحقيق العبودية، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] بمعنى (لا حول ولا قوة إلا بك)، عليك توكلت وإليك أنبت، قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30]، وغير ذلك كثير في آيات القرآن، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، حتى يكون العبد شاهداً بأنه لن يحقق العبودية لله سبحانه وتعالى إلا بإعانته، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أوصى إبراهيم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن غرس الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فلا يتحول أحد من حال إلى حال إلا بالله عز وجل، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وفي هذا إثبات قدر الله سبحانه وتعالى وقدرته، وإثبات أن العباد يجعل الله سبحانه لهم قوة وقدرة، فهو لم يقل: لا قوة إلا لله والقوة لله جميعاً، وإنما قال في هذا الموضع: إلا لله سبحانه وتعالى.

    والمعنى الأول أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165] معنى حق قد ثبت في الكتاب والسنة؛ وذلك لأن الله عز وجل هو القوي، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، يتضمن معنى إضافياً، وهو: أن العباد يجعل الله لهم قوة من عنده سبحانه، وهذا عبد يقويه الله على طاعته، وذاك عبد يقويه على كسب الدنيا، وذاك عبد يقويه على ظلم الآخرين، وذاك عبد يقويه على الشرك والعياذ بالله من ذلك، وهو سبحانه وتعالى لا قوة إلا به عز وجل، فهو الذي قدر ذلك، وإذا أمر أن تنزع القوة -قوة أي مخلوق- نزعها سبحانه وتعالى، ويبقى هو المتفرد سبحانه وتعالى بالقوة والعزة والقهر والجبروت، وهو: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] سبحانه وتعالى.

    وإذا شهد العبد ذلك فإنه يطلب تحول حاله من السيئ إلى الأحسن، وتحول حال قومه وأمته إلى ما يحب مستعيناً بالله عز وجل، وفيما يرى من تقلب أحوال العالم من حوله، وتقلب الملك والسلطان والجاه والغنى والفقر والموت والحياة شاهد على الله سبحانه وتعالى، يشهد أن الأمر كله من عنده، قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، وكما قال سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123]، وإذا شهد المؤمن ذلك كان الناس في عينه وفي قلبه صغاراً، كما هي حقيقتهم في هذا الوجود زماناً ومكاناً، لا يملكون من الأرض ولا من السماء شيئاً، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا [الفرقان:3].

    يشهد المؤمن أنه لا قوة إلا بالله، فلم يشهد الحول والقوة بالناس، فلا يغتر إذاً بما عليه الذين كفروا، فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر:4]، لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196-197]، وكذلك لا يغتر بما رزقه الله كالذي: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:35-43].

    وهذا المثل ضربه الله عز وجل لكل أحد اغتر بقوته أو اغتر بماله أو اغتر بسلطانه، ومآله إلى ذلك قطعاً وحتماً، فمن الناس من يريهم الله ذلك في حياتهم كمن ضاع ملكه بعد ملك طويل وسلطان عريض، وتأله وتجبر، ثم يصير إلى الذل والهوان والانكسار والأسر وأنواع الإهانات المختلفة، وهذه آية من آيات الله العظيمة، وهذه سنة ماضية كما سئل الإمام مالك عمن خرج على الظالم فقال: دعه ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم منهما جميعاً سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يسلط بعض الظالمين على بعض، ويولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، والله سبحانه وتعالى حين يجعل بعض أهل الطغيان عبرة للناس، يريهم سبحانه وتعالى آيات قدرته حتى يعلموا أن من سار على ركبهم فهو إلى مصيرهم ومآلهم، وإن كان الذي يظلمه، وإن كان الذي يهينه أشد جرماً وكفراً منه، فإنه أجدر بنفس المصير، وكثير من الناس لا يرى تلك اللحظات التي يرحل فيها الأغنياء والملوك والكبراء والرؤساء الذين ملئوا الدنيا بأنواع التفخيم لأنفسهم، وأنواع الفخر والاختيال على الخلق، وأنواع الكبر والغرور، لكنها تمر عليهم لحظات الرحيل أحياناً في صمت بعيداً عن الأضواء، بعيداً عن أن تصور صورهم، وهم في ذل الموت وغمراته وسكراته، وما يصيبهم من هوان القبور أعظم، ولو فتحت قبورهم لرأى الناس لحومهم بالية بعد أن كانوا ملوكاً أعزة، ولرأى الناس الدود في أبدانهم وقد كانوا منعمين مترفين قد مروا بتلك اللحظات جميعها.

    أين ملوك الأرض -عباد الله- منذ آلاف السنين وقد ملئوا الدنيا في زمانهم؟ أي من كان يصيح: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]؟ فأين هو الآن؟! أين أغنياء العالم منذ مائتي سنة؟ لا يوجد أحد منهم على ظهر الأرض، بل كما قيل: ماتوا جميعاً ومات الخبر، لا يوجد من يخبر عنهم، ماتت أخبارهم، انشغل الناس بغيرهم، فلا قوة إلا بالله!

    الله عز وجل هو القوي، وهو العزيز، وهو الذي يحول البشر من حال إلى حال، ولا حيلة للبشر إلا بالله عز وجل، فلا تشهد قدرة نفسك، ولكن اشهد قدرة الله عز وجل، وإذا فعلت شيئاً فإنما فعلته بالله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر:56]، فإذا وفقت لطاعة وجعل الله لك القوة في طاعتك، فاشهد أن ذلك بالله لا بنفسك، وإذا وقعت في معصية الله سبحانه فافزع إليه، وفر إليه، واسأله ألا يجعل قوتك في مخالفة أمره، وتدبر في حال من جعل الله كل حياتهم وقوتهم في محادة أمره، كإبليس وفرعون والكفرة والظلمة، وأعداء الإسلام دائماً يحاربون الله بكل قوتهم، ويحاربون رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله قوتهم في ذلك نسأل الله العافية، تأمل في ذلك لتعلم أن الأمر بيد الله، ثم يأخذهم العزيز المقتدر سبحانه وتعالى، إذا كان الأمر كذلك صغرت الدنيا في عينك، ولجأت إلى الله سبحانه وتعالى، وتضرعت وانكسرت إليه، إن هذا الدعاء العظيم المبارك الذي يبدؤه العبد بالحمد، ويختمه بالاعتراف بالحول والقوة، ويدعو فيما بين ذلك بأنواع من معاني الإيمان المختلفة؛ والله إنه لمعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمن تدبره، كيف جمع -في موقف واحد لا يستغرق أكثر من دقيقتين- بين كل هذه المعاني الرائعة, (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).

    صدق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أوتيت جوامع الكلم)، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    اللهم ارزقنا مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في الجنة، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، أصحاب الضلالة ودعاة السوء.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!

    رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147].

    رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86].

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

    اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.

    اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.