www.islamweb.net/ar/

الإيمان بالقدر وأثره في السلوك للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان مؤمن إلا به، والإيمان بالقضاء والقدر له ثمار يجدها المؤمن في حياته، فلابد أن يطمئن إلى قضاء الله وقدره ويرضى به؛ فهو يعلم أنَّ ما أصابه من شر أو من خير فكله من عند الله، وليس معنى ذلك أن يجعل القدر حجة له في اقتراف الذنوب؛ لأن الإنسان ميسر لما خلق له، فلابد أن يبادر بالتوبة إلى الله قبل إغلاق بابها.

    الطمأنينة والسعادة في الإيمان بالله عموماً والقدر خصوصاً

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فإن الإيمان هو الركن الركين الذي يستند إليه المؤمن خصوصاً عند الأزمات، فعندما يشتد الضيق يكون الحصن الحصين الذي يلجأ إليه هو الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، فإذا تحقق في الإنسان الإيمان ووهبه الله ذلك هان عليه كل ما يجده من ضيق، وسهل عليه كل ما يجد من عسر، ويسر الله له سبحانه وتعالى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وإن كانت الدنيا قد ضاقت عليه بأسرها، وإن أحاط به أعداؤه وأعداء دينه من كل جانب، فإنه يجد في هذا الضيق أعظم السعة، وهذا إذا تحقق الإيمان، والإيمان بالقضاء والقدر خصوصاً في هذا الباب من أعظم أسباب السعة التي يوسع الله عز وجل بها على المؤمن الضيق، ويهون عليه كل مصيبة، ويبعد عنه مرض الأسى والحزن، وإنما يستحضر قوته بالله عز وجل؛ لأن القوة لله جميعاً، ويستحضر أن الأمر أمره سبحانه وتعالى، وأنه عز وجل خلق كل شيء بقدر، فهذا يغير سلوكه في معاملة الواقع تغييراً جذرياً.

    طريقة الكتاب والسنة في الإيضاح والتبيين

    إن طريقة الكتاب والسنة هي الطريقة الميسرة؛ لأن الله يسر القرآن والسنة بياناً، ولم يجعل هذا التيسير في طرق المعارف البشرية الأخرى، فلم يجعل هذا التيسير مثلاً في علم الكلام أو الفلسفة أو النظريات العقلية، ولا في المباحث التجريبية، وإنما جعل الله عز وجل التيسير في كتابه، وبهذا يجد المؤمن أن طريقة القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام تتضمن أجل المعارف والعلوم، وأحسن الطرق وأيسر السبل إلى الفهم والعمل الصحيح، فتجد في هذا الطريق العقيدة الصافية النقية، كما تجد فيه الحالة القلبية الإيمانية، وتجد فيه السلوك العملي بالجوارح كذلك، فكل ذلك مرتبط في نسيج واحد، بطريقة عجيبة لا نظير لها في الحقيقة.

    مسألة القضاء والقدر

    وقضية القضاء والقدر من أكبر المسائل التي حيرت عقول البشر، حين ابتعدوا عن مصدر الوحي وما أتت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فتاهوا في الحيرة والضلال، وأعياهم فهم هذه المسألة، حتى كفر البعض بوجود الله من أجل هذه المسألة، فهؤلاء الماركسيون إنما كفر إلههم ماركس بسبب هذه المسألة، فهو الذي يصف أنه لو كان هناك رب فاعل فكيف ستجتمع مع فعله أفعال العباد ومسئوليتهم عن أفعالهم؟ فإذا كانت له قدرة فلابد أن تنعدم قدرتهم، وإذا كانت للعباد قدرة -وهذا هو المحسوس عنده فقط- فلا معنى لوجود الإله، فهو الذي تسبب في إنكار وجود الله عز وجل؛ لعدم فهمه لمسألة القدر وهذا ضلال عظيم، فضلاً عن وجوه الانحراف الكبرى التي وقعت فيها الفرق الضالة بين الجبر والاختيار، وهي مسألة العجيب فيها أنها تشغل شأن كل إنسان، فالفطرة الإنسانية تسأل دائماً هذا السؤال: ما هي العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب؟ ومع ذلك تجد أكثر الناس لا يطلبون الإجابة الصحيحة من مصدرها الوحيد، من الوحي المنزل من عند الله عز وجل، وإنما تتخبط عقولهم يميناً وشمالاً وتجد أعاجيب الأقاويل التي خرجت من اللسان بسبب الخذلان؛ وذلك أن الله عز وجل لم يوفقهم لذلك، فلذلك نقول: إن طريقة الكتاب والسنة هي أعظم طريقة في البيان، وفي العمل والسلوك كذلك.

    مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

    ولنذكر شيئاً من هذا في قضية القضاء والقدر بمراتبها الأربعة التي بينها أهل العلم من أهل السنة والجماعة: في أن الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بصفات الله وأفعاله سبحانه وتعالى، فهي إيمان باسمه العليم، وباسمه القدير، وباسمه الفعال لما يريد، وباسمه الخالق البارئ المصور، وبفعله عز وجل أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فجملة الإيمان بالقدر في الحقيقة إيمان بالله عز وجل، ولذا فمن أحسن الأقوال في هذا الباب قول الإمام أحمد رحمه الله: القدر قدرة الله؛ وذلك أن مرجع الإيمان بالقدر هو الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا، مع بيان علاقة أفعال الرب عز وجل بأفعال العباد من خلال الآية الكريمة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:55-56].

    وقد بين أهل العلم أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:

    المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله السابق على وجود المخلوقات

    المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأول السابق على وجود المخلوقات، وهو علم الله الموصوف به أزلاً لأعمال الخلق قبل أن يخلقهم، فهو يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

    المرتبة الثانية: الكتابة

    والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، فقد كتب الله مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وتبعتها كتابات، فمنها: الكتابة والتقدير قبل خلق آدم عليه السلام، بأن يكون آدم وذريته في الأرض، وقد كتب الله التوراة قبل خلق آدم بأربعين سنة، وكتب فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122].

    وكذلك: الكتابة يوم القبضتين والتقدير يوم القبضتين: يوم أخذ الله عز وجل من ظهر آدم ذريته بيمينه وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة بشماله وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً.

    وتبعت هذه الكتابات كتابات أخرى، فمنها: الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه، وذلك عندما يكون الإنسان في بطن أمه أربعين يوماً أو ثنتين وأربعين ليلة، وكذا عندما ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ومنها: الكتابة السنوية في ليلة القدر، ففيها يفرق كل أمر حكيم، وكذلك: الكتابة اليومية، فكل يوم هو في شأن، وكذلك: الكتابة التي سمعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج حين صعد إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهناك كتابات متعددة فالله عز وجل لم يزل فعالاً لما يريد، وكل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويعز ذليلاً، ويجبر كسيراً، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويفعل ما يشاء.

    المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة

    والمرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تكون في هذا الكون حركة ولا سكون، ولا طاعة ولا معصية، ولا إيمان ولا كفر، ولا خير ولا شر إلا بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فأمره نافذ كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وكذلك قدرته عز وجل على كل شيء، على أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، ومع ذلك أمر الله العباد بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وهو يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب المؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن كان قد قدر سبحانه وتعالى الكفر والفسوق والعصيان، لكنه يحب الطاعة ويكره المعصية، فمحبته وكراهيته تابعة لأمره الشرعي ونهيه كذلك، فما أمر الله به وفعله العباد فهو يحبه، ويحب من فعل ذلك منهم، ومن عصى أمره عز وجل وخالف شرعه فهو يكرهه، ويكره من فعل ذلك منهم، وكونه قدر وجود ما يكرهه عز وجل شرعاً فلحكمته البالغة سبحانه.

    المرتبة الرابعة: الإيمان بالخلق والبعث

    وأما المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: فمرتبة الخلق والبعث، فالله خالق كل شيء، وهو خالق أفعال العباد، كما أنه خالق ذواتهم، وقد خلق قدرة للعباد، وخلق مشيئتهم، وخلق بها أفعالهم، فللعباد قدرة ومشيئة بها تقع أفعالهم، والله خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم ومشيئتهم، ولا يعني إثبات خلق أفعال العباد إلغاء قدرتهم وإرادتهم في إيجاد تلك الأفعال، وإنما الله خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، والعباد ميسرون لما خلقوا له.

    الأدلة من الكتاب والسنة على مراتب الإيمان بالقضاء والقدر

    ونحن نريد أن نسمع هذه المراتب كأدلة من الكتاب والسنة؛ لأن سردها فقط لا يكفي ولا يؤثر في القلب ذلك التأثير العظيم الذي تؤثره تلاوة وبيان ما ذكره الله عز وجل وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن والسنة لم يذكرا هذه المراتب كعلم نظري أو فكر عقلي، وإنما كإيمان يحل في القلب ويتأثر به العمل، فإن الإيمان -كما نعلم- قول وعمل، فتلفت الطريقة القرآنية والنبوية أنظار العباد إلى أمور معينة لابد أن تلتفت لها القلوب لتحيا بالإيمان، وتمتلئ بالنور الذي أنزله الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى في بيان علمه عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى [الأنعام:59-60]، هكذا تناولت هذه الآيات عدة مراتب للقدر، حيث ذكر الله علمه وكتابته للمقادير، ولكن انظر وتأمل كيف ذكر هذا الأمر؛ لتتفكر في سعة علم الله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام:59]، والقرآن خير ما يفسر به القرآن، فقد قال عز وجل في الآية الأخرى في بيان مفاتيح الغيب التي ذكرها في هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، فهذه خمس مفاتيح استأثر الله بهن، فلا يعلمهن ملك مقرب ولا نبي مرسل، فقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة في حديث جبريل المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، وتلا: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان:34])، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أعلى البشر قدراً ومنزلة هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأعلى الملائكة قدراً ومنزلة هو جبريل عليه السلام، ولكنهما لا يعلمان شيئاً من هذه الخمس، ولكن أخبر النبي جبريل عن بعض أمارات الساعة: (أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)، لكن ذلك لا يعني أن واحدة من هذه الخمس يعلمها الناس، ولكن أحدثك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ولو أخبرت ببعض المقدمات أو ببعض الأمور عن الساعة فلا تزال الساعة غيباً، أي: لا تزال الساعة من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، والخمس كلها كذلك، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، يقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، ونحن نقطع ونؤمن يقيناً بقيام الساعة، ولكننا لا ندري متى يقع ذلك، ولذلك إذا سمعت من يقول: الساعة تقوم يوم كذا وكذا، أو بقي على ظهور الدجال مثلاً سنتان أو ثلاث، أو بقي على نزول ابن مريم خمسة عشر سنة، أو حتى خمسمائة سنة، أو بقي من قدر الدنيا كذا سنة فاعلم أنه ضال وجاهل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، والأمر نسبي في القرب والبعد، فمنذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر:1]، بل هي أقرب من زمن أبعد من ذلك، ففي الحديث الصحيح في سنن أبي داود : (أن آدم عليه السلام لما عرضت عليه ذريته أعجبه وبيص ما بين عيني رجل منهم من النور، فقال: من هذا؟ قال: هذا رجل أو نبي في آخر الزمان من ذريتك يقال له: داود)، فمن أيام سيدنا داود وهو آخر الزمان، فالأمر نسبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) قال ذلك قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، إذاً: فلا يستطيع أحد أن يعلم متى تقوم الساعة، لا بالتقريب ولا بالتبعيد؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا الله، ولذلك لا تصدقن أحداً يقول لك: قبل أن تنتهي سنة كذا سوف تقع العلامات الكبرى التي هي ظهور الدجال أو نزول عيسى بن مريم، فكل هذا من الغيب؛ لأن ذلك مما يكسبه الناس غداً: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ، فلا يعلم ما في غد إلا الله، وكما تقول عائشة : من حدثكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية. وهذه قضية عظيمة الأهمية؛ لأن البعض يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك تواضعاً أي: أنه لا يعلم وقت الساعة تواضعاً، أو أنه لا يعلم الغيب تواضعاً، لكن الأمر ليس كذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم مفاتيح الغيب، ولكنه أخبر عن غيبيات، فلا تخرج مفاتيح الغيب الخمس عن كونها غيباً، وهذه المفاتيح الخمس استأثرها في علمه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، فوقت نزول الغيث لا يعلمه إلا الله.

    التوقعات الجوية تحتمل الصدق والكذب

    إن حكم التنبؤات الجوية أي: التوقعات الجوية، والأنسب أن تسمى توقعات؛ لأنها مجرد ظنون، وأهل العلم بها يقولون ذلك، فالذين يعرفون حقيقة الأمر لا يجزمون، ولا يجزم بذلك إلا ضال جاهل، بل كما قال القرطبي: إن من جزم أن المطر ينزل غداً فقد كفر والعياذ بالله؛ لأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وإنما أجرى الله سنناً نتوقع حصولها، ولكن كثيراً ما تخيب الظنون في أشياء كثيرة من ذلك، ونحن نعلم أن سنن الله الكونية الغالب فيها أن المطر ينزل في الشتاء، وأنه قد يكون في وقتٍ ما ريح فيها مطر، ولكن لا على سبيل الجزم والتحديد فإنه لا يعلم ذلك إلا الله، وقد يقولون: نحن بالأمطار الصناعية ننزل المطر، وهذا جهل عظيم يخدعون به الناس، كطريقتهم دائماً في التهويل والتضليل، فالأمطار الصناعية لا تغيث الناس، بل مثلها كمثل رجل صعد فوق سطح عمارة عالية والناس أسفل يحتاجون إلى قطرات من الماء فرش عليهم بعض القطرات، أفيقول هذا: قد أنزلت المطر؟ لا يمكن أن يقول ذلك، فما هذا إلا مجرد لاعب يريد أن يخدعهم إذا ظنوا أن هذا مطر، وإلا فما يفعله هؤلاء الكفرة المتمكنون فيما يظنون من توقعات في الأرض، وقد أخذت أرضهم زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فماذا هم صانعون إذا أتاهم إعصار مدمر؟ وماذا يصنعون إذا أصابهم القحط حتى جعل زروعهم وثمارهم تضمحل؟ الجواب: يظلون منتظرين، وأنا رأيت بعيني حالهم في يوم من الأيام في مطاراتهم وشوارعهم عندما أتت عاصفة ثلجية، كل شيء قد توقف، وهم يقولون: إلى أن تتوقف العاصفة الثلجية، يقولون ذلك والبنزين يتجمد في السيارات، والمطارات تمتلئ بأمطار من الثلوج، والطائرات تتوقف، والسيارات تتوقف، وكل شيء يتوقف، فهم لا يستطيعون أن يواجهوا هذه العاصفة الثلجية بشيء، نتصل بالمطار فنقول: متى ستنطلق الطائرة؟ فيقولون: عندما يتوقف الثلج، بعد ساعتين أو عشر ساعات؛ لأنه لم يتضح في الموضوع شيء، فمن يقول: إنه يستطيع الجزم فهو يخدع الناس، وإنما لأهل العلم الحقيقي في هذه المسألة أن يقولوا: نحن جهلة في هذا الباب، فهذا مجرد توقع؛ ولذلك فالتوقعات الجوية إنما تذكر على سبيل الظن الذي يمكن أن يبنى عليه عمل إذا غلب، كأن نقول للصيادين مثلاً: يبدو أن الريح سوف تكون عاتية غداً فاحذروا أن تتوغلوا في البحر، أو أن هذا الإعصار ربما اتجه يميناً واتجه شمالاً فاحذروا ولا تخرجوا من بيوتكم أيها الناس! فمثل هذا يصح أن يبنى عليه عمل مع الجزم واليقين بأن هذا مجرد ظن، وأننا لا نعلم متى ينزل المطر الذي يغيث الناس، قال تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [لقمان:34].

    سعة علم الله تعالى فيما يتعلق بالجنين

    والله سبحانه يعلم كل شيء عما في الرحم قبل أن يوجد ويتكون، أي: فليس المقصود أنه من مفاتيح الغيب بعد أن يتكون، فإنه بعد التكون يكون أمراً نسبياً، لكن الناس يظنون أن العلم الحديث قد جعل مسألة العلم بهذا شيئاً قديماً،فالناس في هذا الوقت يعرفون تصور الجنين، ولكنهم لا يعرفون عنه كل شيء، وهذا من الجهل أيضاً؛ لأن علم ما في الأرحام ليس مقتصراً على كونه ذكراً أو أنثى، وإنما هو علم كل ما يتعلق بهذا الكائن من علم عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، وشكله وصفاته وأفعاله وحاله في البرزخ ومآله يوم القيامة، فالله سبحانه قد علم ما في الأرحام، وليس مجرد أنه ذكر أو أنثى فقط، فهذا من ضمن ما أحاط الله به علماً، ولكن علم الله السابق على وجود هذا المخلوق، وعلى وجود الأعضاء التناسلية لهذا الجنين، أما بعد تكون الأعضاء التناسلية فإنَّ ذلك يصبح من الغيب النسبي؛ لأنه من الممكن أن تشق بطن المرأة ويعرف ما في بطنها، فالملك الذي خلّق هذا الجنين قد علم بشأن هذا الجنين الذي خلّقه بأمر الله سبحانه وتعالى، فالغيب النسبي هذا ليس هو المقصود بأنه من مفاتيح الغيب، فمفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، فمن الحقيقة أنه قبل أن تتكون الأعضاء التناسلية مثلاً للجنين من ذكر أو أنثى لا يمكن لبشر ولا لغيره أن يعلم ما شأن هذا الجنين، مع أنه من يوم تكون الجنين من بويضة ملقحة لابد أن يعرف نوعه في الأغلب أي: لابد أن يكون نوعه محدداً، فهم يقولون: إن التكون ناتج عن حيوان منوي ذكري أو حيوان منوي أنثوي، ومع ذلك فالأمر لا يزال محتملاً، فقد اكتشفوا في الطب مؤخراً منذ عشر سنوات تقريباً: أنه في أول الأسبوع السابع تتكون الأعضاء التناسلية للجنين؛ لأن الأعضاء التناسلية تبدأ في التشكل قبل هذا التاريخ بطريقة واحدة بالضبط، وتكون الذكر مثل تكون الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة قال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة قال الملك الذي يخلقها: أي رب! نطفة علقة؟ مخلقة أم غير مخلقة؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك).

    فالرسول عليه الصلاة والسلام يحدد فيقول: (ثنتان وأربعون ليلة)، أي: ستة أسابيع، فسبحان الله! والذكر مثل الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق؛ ولذلك فمن الممكن أن يقولوا في الجنين: هذا سيكون ذكراً أو هذا سيكون أنثى، ولكن بعد الأسبوع السابع، أما قبل الأسبوع السابع فهذا مستحيل، مع أنه من الممكن أن تتحلل الكروموسومات قبل هذا وينظر أن هذا الحيوان المنوي الذكري الذي لقح البويضة يكون من تلقيحه ذكر، ولكنهم يقولون: إنهم اكتشفوا في الأسبوع السابع أن هناك إنزيماً يطرأ..... في ذلك التوقيت، وهو الذي يتحكم في تشكيل الأعضاء، حتى ولو كان تشكيل الكروموسومات مختلفاً أصلاً، أي: من الممكن أن يكون تركيبه الجيني تركيب الكروموسومات ذكراً، لكن هذا الهرمون إذا نقص صارت الأعضاء التناسلية أنثى، ولو أن تركيبه أنثى كبداية خلايا وزاد هذا الهرمون أو الإنزيم في التوقيت، فإن الأعضاء التناسلية ستتكون ذكراً، فسبحان الله! ينتظرون حتى يتكون فيعرفوه، فمهما قالوا فهو احتمال غالباً، فهو إلى هذه اللحظة بأمر الله سبحانه وتعالى، وهناك على هذا الباب كلام آخر وهو: أن الملك يكتب ما يأمره الله من عمله ورزقه وشقي أم سعيد، وهذا يكون قبل أن يقع هذا الأمر، ونحن نقول: إن مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فنحن نقول ذلك ونلتزمه ونقول: حتى إن علم هذا الملك مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإن الكتابات اللاحقة على اللوح المحفوظ كتابات قابلة للمحو والإثبات، قال الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الكتاب كتابان: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .

    إذاً: فالكتاب الذي رفعت أقلامه، وجفت صحفه: هو اللوح المحفوظ.

    وأما كتب الملائكة فتظل رغم أنه لم يكتب فيها شيء؛ فمن الممكن أن تمحى ويكتب غير ذلك إذا شاء الله، إذاً: فعلم الملك مقيد بأن الله يشاء إمضاء هذا وإنفاذه، أو يشاء محوه، فلو شاء الله أن يمحو ما كتبه الملك لمحاه سبحانه وتعالى، قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ، ولذلك نجد أن هذه الأمور التفصيلية يمكن أن يطلع عليها بعض المخلوقين، لكن لا على جهة الجزم والقطع، وإنما على جهة التعليق على مشيئة الله.

    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ليلة بدر بمصارع بعض المشركين، فقد كان يمر على أماكن ويقول: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فقد علقه النبي عليه الصلاة والسلام على مشيئة الله، فما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما علمه ملك أو أحد من خلق الله عن أمر تفصيلي في مفاتيح الغيب الخمس فسوف يكون معلقاً على المشيئة ليظل في خمس لا يعلمهن إلا الله، وما أخبر به من تفصيل دقيق فإنه يظل مجملاً في أجزاء أخرى كالتوقيت مثلاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بتفاصيل ما يقع في أمر الدجال ونزول عيسى بن مريم، ولكن يبقى هذا الأمر إجمالاً وهو: زمن وقوع ذلك، كما أن تفاصيل ما في الجنة وما في النار وما في الساعة مقطوع بها، فلا نقول: إنه معلق على المشيئة إن شاء الله أمضاه وإن شاء لم يمضه، بل إن الله عز وجل شاء ذلك قطعاً وجزماً، فهو شاء أن يبعث الناس يوم القيامة، وأن يحيي الموتى، وهذا مقطوع به وقد شاء الله فعله، وليس إن شاء؛ لأن لفظ (إن شاء) يعني: أنه من المحتمل أنه يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، لكن هذه الأمور ستحصل قطعاً، فلابد أن نجزم أن هناك جنة وناراً، وأن هناك قيامة وحساباً وسؤالاً وثواباً وعقاباً، وأن هناك ميزاناً وصراطاً، وهذا مقطوع به، لكن يبقى هناك إجمال من جهة التوقيت أو التفاصيل الكاملة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يخبر بأمور مجزوم بها لكن فيها إجمالاً من جهة، أو أن يخبر بتفاصيل دقيقة جداً فيبقى التعليق على مشيئة الله عز وجل، وبذلك تظل مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، قال عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59].

    مظاهر كذب الكهنة والعرافين

    ولابد أن نقطع بأن مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن الأولياء يمكنهم أن يطلعوا على الغيب وينسبون لهم ذلك، ويظنون أنهم يعلمون ما في الغد والعياذ بالله، ومن الناس من يقول عن الكهنة ذلك وهذا أعظم وأقبح، فإذا كان الأنبياء لا يعلمون، والملائكة لا تعلم، والأولياء لا يعلمون، فكيف بالكهنة؟ ولذلك لا تسأل المنجمين أبداً؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، وهذا أمر عظيم الأهمية في سلوك المسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، ولماذا الناس يعيشون في هذا الضلال؟ يقال لهم: إن في سنة ثمانية وتسعين تجتمع ست كواكب مع بعضها البعض، وهذه الست الكواكب عندما تجتمع على خط واحد فإنه ستحصل أحداث رهيبة على وجه الأرض، وجاءت سنة ثمانية وتسعين ولم يحصل شيء، وهناك كتاب مكث خمسة عشر طبعة وهو كتاب: عمر أمة الإسلام، وهذا الكتاب يأتي بكلام المنجمين وأمثالهم، فلما أخذنا الكتاب والحمد لله، وجدنا أن ما فيه باطل، والتكهن فيه كثير جداً، ومن ذلك قولهم: سيحصل كذا وكذا، لأن المذنب الفلاني سيمر يوم كذا، سبحان الله! إذاً: فالمسلمون بهذه الإفتراضات الباطلة سيعرفون أموراً غيبية من القرآن العظيم لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59]، إذاً: أي شخص يقول لك: إنه سيحصل شيء في السنة الفلانية من غير أن يذكر شيئاً من الكتاب أو السنة فلا تصدقه، ولو ذكر تأويلاً للكتاب والسنة فاجزم له بأنه باطل، واجزم له أن هذا الشيء لم يتحدد في سنة معينة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفعل ذلك، بل الأشياء التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم في المستقبل وفي المكان علقها على مشيئة الله، فمن علامات وضع الحديث: أن يحدد مثلاً عمراً معيناً للأمة، فعندما تجد أن هناك تحديداً بالطريقة هذه: سنة كذا سيحصل كذا، فاعرف أن هذا حديث موضوع، ولو قيل لك: إن الدنيا ستفنى بعد كذا سنة، أو أنه قد مضى من الزمن ألفان أو خمسة آلاف وبقي ألفان فاعرف أن هذا الكلام كذب، ولا يمكن أن يكون في الحديث مثل ذلك؛ لأن في ذلك مخالفة للقرآن صراحة، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام حين سئل عن وقت قيام الساعة: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن أخبرك عن أماراتها في خمس لا يعلمهن إلا الله)، إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الغيب عند الله ، فنحن نوقن أنه لا يعلم مفاتح الغيب إلا الله، فلماذا نذهب إلى الكهنة والعرافين الذين يسألون الشياطين والعفاريت والملبوسين ويتكهنون أنه: سيحصل كذا، وإذا لم تعمل له كذا فسيحصل كذا؟! وهذا بلا شك ادعاء باطل، فإن هذا الكلام يقوله الكفرة ولا يقوله المسلمون؛ لأن المسلم يعلم من كتاب الله عز وجل أن الله عز وجل وحده الذي استأثر بمفاتح الغيب الخمس، قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59].

    القرآن يدعو إلى التفكر في مخلوقات الله وأماكن عيشها

    إن القرآن يبين لنا معاني معينة لابد أن تلتفت لها القلوب، ويدعوك إلى أن تتفكر فيما في البر، وأن تتفكر فيما في البحر، ولا يحيط بما في البر علماً إلا الله، فالنمل الذي يخرج من بيوته عندما تشتد حرارة الأرض، لا نعلم أين مكانه في هذا الوقت وكيف نجده، وإذا راقبناه وتبعناه فسنجده قد وصل إلى مكان معين، والحشرات المدفونة لا نعرف أين هي، وسبحان الله فهي موجودة في جحورها، وفي أماكن كثيرة، وتحت الأرض، فهذا عالم عجيب، فهو عالم تعيش فيه كائنات كثيرة جداً والله عز وجل هو المحيط بها علماً.

    وما في البر من بذور النباتات وغاباتها: إذا ما دخلها إنسان أو دخل أجزاء منها يقول: يا للعجب! كل هذه منذ آلاف السنين موجودة، وبذورها تكبر وتنمو وتصبح بعد ذلك أشجاراً هائلة، وفي مناطق كثيرة هائلة من العالم والبشر لا يعلمون عنها شيئاً، بل وهناك أماكن غير مأهولة بالبشر، وكذلك الغابات الاستوائية: ففيها حيوانات لا يعلمها إلا الله، ومن العجيب أن رجلاً رأى قرداً مثل الأصبع، وفيه تفاصيل الخلق وله وجه وعينان وأذنان، وقد كان هذا بعد نموه وهو لا ينظر إلا في الظلام فقط، متعلق بذيله في الشجرة، وقد أتوا به ووضعوه في حديقة الحيوان بهذه الطريقة، وهذا شيء عجيب جداً، وتذكر هذا الرجل ما يكون في بطن الأم حين يخرج الإنسان جنيناً وفيه كل التفاصيل، وهذا شيء عجيب جداً، فسبحان الله! فالمخلوقات عجيبة الشأن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ .

    وأما في البحر فأمر آخر عجيب، فالبحر هو أربع أخماس الكرة الأرضية، والأرض خمسها، وهذه الأرض لا يحيط بها علماً إلا الله، والبحر أعظم من الأرض، حيث أن أعماق البحار ظلمات بعضها فوق بعض، وأمواج تلو أمواج تجعل ما تحتها أشد ظلاماً من انكسار الأشعة، كما قال عز وجل: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40]، وهذه الظلمات الموجودة في البحر لم يدخلها إنسان، وإن دخلها فإنه يجد أعاجيب من المخلوقات، فلو أخذت قطرة من ماء من أي ممر مائي سواء كان ماء عذباً أو ماء مالحاً، ووضعت جزءاً منها على شريحة، ونظرت تحت الميكروسكوب، فإنك ستلاقي فيها كائنات عجيبة: طحالب ونباتات وبكتيريا وأشياء عجيبة جداً، فكل قطرة من الماء تتركب من ضوابط معينة ونسبة معينة من الأملاح، ولابد من هذه النسب المنضبطة وإلا فسيحصل خلل في حياة البشر، فلو أن الماء المالح صار عذباً والعذب صار مالحاً لحصل خلل في حياة البشر، فالتوازن هذا عجيب جداً، ناهيك عن الكائنات الكبيرة الهائلة.

    إن الإنسان عندما يفكر في هذه المخلوقات يطرأ على ذهنه أنه من الذي أحاط علماً بذلك؟ حتى إن أعظم وأعتى الدول التي تملك الكمبيوتر وكل المعلومات لا يحيطون علماً بذلك أبداً، بل يجب على الإنسان حين يعرف هذا أن ينكسر، ولابد أن يعرف أنه جاهل؛ لذلك فإن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار. أي: أن الإنسان لا يقول أبداً: أنا عالم، كيف يقول: أنا عالم، وهو لا يعرف شيئاً، بل لا يعرف ما الذي بداخله، إن الذي بداخله إلى هذا اليوم عالم عجيب، عالم في كل وقت نكتشف منه شيئاً جديداً، وإن الله كلما أعطانا قدرة أكثر على النظر، كالميكروسكوب الذي يكبر صور الأجسام، فإننا نرى أنَّ الذي كنا نراه ثقباً أصبح ليس بثقب، كانوا يظنون وكنا نظن أن جدار الخلية ثقوب وهي ليست بثقوب، بل هي مواد مركبة بطريقة معينة من أجل أن تؤدي وظيفة معينة، فكلما عرفنا أكثر كلما عرفنا أننا قبل مدة كنا لا نفهم شيئاً، ونحن الآن لا نفهم شيئاً بالنسبة للعلم الكامل، ولذلك فإن هذا المعنى عظيم الأهمية في نفس المؤمن، كما قال الخضر عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وقد وقف عصفور على طرف السفينة فأخذ قطرة من ماء البحر، فقال: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، وهذا معنى عظيم، فلابد أن يحصل في قلب المؤمن أنه يصف نفسه بالجهل يوماً، فإن أعلم الخلق بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)، وهو أعلم الخلق بالله، ولكنه يقول ذلك، ويتوسل إلى الله بعلمه عز وجل، ويعلم أصحابه فيقول: (اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).

    قال عز وجل: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا .

    فهنا يرشدنا القرآن إلى التفكر في هذا الأمر العجيب، إلى سقوط ورقة من شجرة في غابة من غابات الأرض على الأرض، ففي أثناء سقوطها تتقلب عدة مرات وتستقر على أي وجه من وجوهها، ثم بعد نزولها في الأرض تغور منه سنين طويلة حتى تتحلل، فإذا تحللت صارت بعد بترولاً، وهذا البترول كان في باطن الأرض، وجد من مركبات هيدروكربونية مصدرها أصلاً من مواد حية، هي في الأصل: أوراق ونباتات وأشجار وكائنات حية استمر الدفن عليها في الأرض وبعد سنين طويلة تحولت إلى هذه المواد، فسبحان الله! لأن تركيبها هو تركيبة المواد الهيدروكربونية التي هي من المواد الحية، فلذلك لا أحد يستطيع أن يصنع وقوداً من عناصر الأنسجة هذه؛ لأن الوقود مصدره المادة الحية، فنحن لا نستطيع تركيب البترول، بل لابد أن يستخرج من باطن الأرض، وكذلك الغازات الطبيعية، فكلها في الأصل مواد، فعندما نزلت هذه الأوراق في باطن الأرض استمرت سنين طويلة حتى صارت بنزيناً والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك.

    إنَّ السلف يقولون: إن الله يعلم كم مرة تتقلب هذه الورقة، وفي أي زمن، وفي أي غابة، وفي أي مكان؟ فعندما يبدأ المرء في معرفة هذه المعاني فلابد أن ينكسر لله عز وجل، ولابد أن يقر على نفسه بالعجز والجهل.

    وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ .

    كذلك الفلاح حين يبذر بذرة في الأرض، وهذا من أجل أن نفكر في الرطب واليابس والحبات التي تزرع في الأرض، فإنه يعلم أنه يرزع أرزاً أو قمحاً أو شعيراً، ولكنه لا يمكن أن يعرف كم حبة في يده؟ ولا يعرف أي حبة ستنبت وأي حبة ستموت؛ لأن هذه الحبات لن تنبت كلها، بل بعضها يجف وبعضها ينبت، وبعضها يكون زرعاً وبعضها يكون سنابل، قال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ، فكل ذلك كتب في الكتاب المبين في اللوح المحفوظ.

    هذا هو الإيمان بعلم الله وبكتابة المقادير، وعندما يوقن الإنسان بهذه المعاني فإنه لا يمكن أن يغتر بعلمه، بل يصف نفسه بالجهل؛ لأن الغرور بالعلم مرض العصر الحديث، وهو مرض الكفرة -والعياذ بالله- الذين وصفهم الله بأنهم: لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:6-7]، وهذا الكلام كله في كوكب الأرض، فما بالك في الكواكب البعيدة الأخرى؟ وما بالك في هذه النجوم والمسافات الهائلة التي بيننا وبينها؟ فالله عز وجل علم ما في السماوات والأرض؛ لأنه سبحانه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73]، لا يغيب عنا، وإنَّ ما فوق هذه السماوات، وهذه الأشياء كلها تجعل الإنسان لا يغتر بعلمه أبداً، لا بالعلم الديني ولا الدنيوي، وهذا العلم الدنيوي هو الذي جعله الكفرة إلهاً لهم في هذا الزمان يعبدونه من دون الله.

    العقائد الفكرية الباطلة

    فيلسوف ألماني كافر اسمه: نكسن، يقول في فلسفته التي صيغت منها بعد ذلك نظريات كثيرة، وهو من أوائل الملحدين: إن هذا الزمان هو عصر مولد السوبرمان وموت الإله، والكلام هذا من مائتي سنة أو أكثر، أي: أنَّ علوم الثورة الصناعية مازالت في بدايتها، أي: أن الإنسان حسب زعمه في هذا الوقت هو القوي المسيطر على العالم فليس محتاجاً إلى إله في هذا الوقت! فموت الإله يعني: موته في نظرية الإنسان، أي: أنه غير موجود أصلاً، لكن الإنسان لما كان جاهلاً وضعيفاً كان يظن أن في الوجود إله، أما الآن فهو غير محتاج إلى ذلك، وليس المعنى أنه مات فعلياً، إنما هي الصياغات القذرة لهذه العقائد الكفرية والعياذ بالله، مثلما صيغت في رواية من الروايات المشهورة! رواية: (أولاد حارتنا)، فإنها تنصر هذه النظرية، وكذلك: الجبلاوي، ففي خطابه يرمز إلى الله، وتعالى الله عن قوله علواً كبيراً، ويقول: إنه جاء بعد الأنبياء شخص اسمه عرفة، هذا الشخص هو الذي قتل الجبلاوي، وعرفة هذا الذي يقول عنه أنه هو المعرفة العلم، هذا العلم الحديث كما يقول هو الذي قتل الجبلاوي، دخل عليه وسحره وهو غير منتبه له، وقتله، وخرج الناس وقالوا: إن جنازة الجبلاوي غداً والعياذ بالله.

    فهذه ثمرة الغرور والكبر والعياذ بالله.

    وكان فيما مضى أستاذ في الكلية قد مات والحمد لله، كان يقول للطلبة خرافات منها قوله: قريباً سيصنعون ذبابة، يعرض بقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]، ولو اجتمعوا على ذلك ألف سنة لما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، فالناس يعلمون علم اليقين أن البشر لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعون أن يصنعوا جزئي بروتين فقط، فليس في قدرة الإنسان أن يصنع ذلك.

    الاستنساخ وأطفال الأنابيب هل يعدان خلقاً

    إن هؤلاء المنحرفين يروجون الكلام على الناس الذين لا يفهمون، فيخدعونهم ويقولون لهم: نحن صنعنا الأولاد في الأنابيب، والناس يظنون أن أطفال الأنابيب يصنعون في المعمل، فمن يريد أن يكون له طفل عينه زرقاء فليذهب إلى هناك أي: هم يظنون ذلك، ولكن الكلام غير هذا نهائياً؛ لأن أطفال الأنابيب يتكونون من الحيوان المنوي الذي لا يستطيع تلقيح البويضة، وغير قادر أن يصل إليها نتيجة انسداد في القناة، فيأخذون الحيوان المنوي من الرجل ويأخذون البويضة من المرأة، ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة له كدرجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لمني الرجل متقنة، ويأخذون البويضة من المرأة ويحاولون أن يهيئوا ظروفاً مناسبة لها من درجة الحموضة والقلوية ودرجة الحرارة لبيوضة المرأة متقنة غاية الإتقان، ولو تغير أي شيء مع هذا فلن يحصل التلقيح، فلابد من إتقان تام للتلقيح في داخل جسم المرأة، فلا هي ولا الرجل ولا هم يحسون أنه قد تم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي، والظروف غير مهيأة، فيحاولون أن يضعوها في المعمل عن طريق الأوزون، ثم يقولون: يمكن أن تنفع أو لا تنفع، فإن نفعت لقحها وتم التلقيح، ثم يأخذونها ويضعونها في رحم المرأة وينتظرونها، ويجعلون المرأة تستريح من أجل أن تنمو النمو الطبيعي، ولا يعملون لها شيئاً، حتى تلد، فيدعون أنهم صنعوا طفل أنابيب!، والذين لا يفهمون ذلك يعتقدون أنهم حقاً قد صنعوا ولداً في الأنابيب في المعمل، وليس الأمر كذلك نهائياً، وهي نفس فكرة الاستنساخ، فإن عملية الاستنساخ مثل التوأمة، وكأنه توأم للإنسان نفسه، فهم يأخذون من الشخص خلية من خلاياه ويجعلونها كبويضة ملقحة يضعونها في الرحم، وللإنسان تدخل في ذلك؛ لأن الغرض في الحيوانات المنوية أن تحملها امرأة، وبدل أن تحمل بويضة ملقحة تحمل خلية من الخلايا، فينمو كذلك ليصبح وكأنه شبيه بالأول تماماً، وإن كان هذا العمل لا يجوز في الإنسان، ولكن المقصود: أن هذا ليس صناعة للإنسان ولا خلقاً له، ولكن هذا هو الغرور بالعلم، فالإنسان عندما يؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى لابد أن يقطع ويجزم بجهله وعجزه وألا يغتر بالعلم.

    فعلم الإنسان بالنسبة إلى علم الله جهل، كما أن عز الإنسان بالنسبة إلى عز الله ذل، كما أن غنى أي إنسان بالنسبة إلى غنى الله عز وجل فقر، كما أن قوة أي إنسان إلى قوة الله عز وجل ضعف، وكما أن قدرة أي إنسان إلى قدرة الله عز وجل عجز، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى جيداً.

    علم الله محيط بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون

    وكذلك علم الله بما كان وما سيكون، وما مضى وما سوف يأتي، وتفاصيل ذلك، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالأشياء التي لم تقع قد علم الله عز وجل أنها لو كانت تقع على أي صورة لوقعت، كما قال عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، وقال سبحانه وتعالى: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81].

    إذاً: فقد علم الله أن هذا الغلام لو كبر لكان كافراً، فعلم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولذلك إذا حصل للإنسان شيء والناس ينزعجون من هذا الشيء فإنهم يقولون: يا أخي! لو كان كذا ما كان كذا وكذا، ولسنا الذين نعرف ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان يفوض علم ذلك إلى الله ويقول: إن علم الله محيط بما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يقول: لو كان كذا لكان كذا وكذا؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، كأن يموت شخص فيقول الناس: لو أنه مات قبل هذا بقليل، لو أنه مات قبلنا أو مات بعدنا، لو أن الله عمل كذا، فلو قلنا له: لماذا تتكلم في هذا؟ أو لماذا تعترض على هذا؟ فإن هذا فتح لعمل الشيطان، فلو كان كذا فالله يعلم ما كان، وهو سبحانه وتعالى الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فثمرة هذا في حد الإنسان ألا يعترض على الله، ولا يقترح على الله، ولا يقول: لم يغير الله هذا الشيء الفلاني؟ فلست أنت الذي تقول هذا الكلام؛ لأن المؤمن يفوض أمره ويفوض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك يرد علم ما لا يعلم إلى عالمه، ولا يدعي علم ما لم يعلم، فقد عاتب الله موسى حين سئل: أي أهل الأرض أعلم؟ فقال: أنا، فعاتبه على ذلك إذ لم يرد العلم إليه، فقدر الله له أن يلقى الخضر حتى يعرفه أن هناك بعضاً من العلوم مما لا يعلمها، وأنَّ هناك من هو أعلم منه.

    استحضار علم الله ومراقبته ثمرة من ثمار الخوف والتقوى

    لقد ساح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام في الأرض من أجل أن يتعلم أشياء كثيرة، ومن أجل أن يتعلم أن العلم مردود إلى الله سبحانه وتعالى، وسيدنا موسى كان يعلم من قبل ذلك، لكن لابد من استحضارها في كل لحظة من اللحظات، فإنه يجب أن يكون في كل دقيقة وفي كل موقف مستحضراً أن الله بكل شيء عليم سبحانه وتعالى.

    ولو استحضر العبد ذلك لصار في أفعاله نور، ولراقب الله عز وجل أعظم مراقبة، فلو تربى الإنسان على ذلك لنشأ يراقب الله عز وجل ويخافه في كل مكان في السر والعلن، كما ربى لقمان ابنه حين قال له: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]؛ لأن (الخبير): من الأسماء الدالة على معنى علم الله عز وجل، وهو العلم المتقن، فالخبير: العليم التام علمه المتقن له، فـلقمان يقول لابنه: إذا عمل عملاً أو معصية وكانت الفعلة مقدار ذرة أو خردلة وكانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أو في صخرة مغلقة، فإن الله يأتي بها؛ لأنه عز وجل لطيف خبير وهو يعلمها، ولذلك فأنت سوف تحاسب عليها، فلو أن الإنسان تربى على هذا المعنى بالتأكيد لتغير سلوكه، ولترك الغش عندما يكون لوحده وأمام الناس، ولكان أميناً صادقاً، وسوف يكون في كل أحواله متقياً لله سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن الله عز وجل أحاط علماً بما يفعله الكفرة والظلمة والمنافقون وأعداء الدين، وأنه عز وجل ليس بغافل عنهم سبحانه وتعالى، واستحضرت مع ذلك كمال قدرته عز وجل وأن الأمر بمشيئته وحكمته، وأنه لا يغيب عنه ذلك فستراقب الله وتخشاه أشد الخشية، كما قال سبحانه: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف:7]، قال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالغفلة نقص في العلم، وإذا كان العلم موجوداً في كل وقت صار كمالاً، قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] سبحانه وتعالى، فإذا استحضر ذلك هان عليه ما يجد مما يمكرون ويفعلون، ويكيدون ويخططون؛ لأن الله عز وجل قد أحاط به علماً، وهو سبحانه وتعالى سوف يتولى أمر خلقه بما شاء عز وجل.

    كتابة المقادير في ضوء الكتاب والسنة

    المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: مرتبة كتابة المقادير، وقد ذكر الله عز وجل هذه المرتبة في الآية التي ذكرنا: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ .

    وقال عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22].

    وقال عز وجل: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12] أي: بين فيه كل ما يقع في هذا الوجود.

    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).

    و في الحديث الآخر: (يا أبا هريرة ! جف القلم بما أنت لاق)، فهذا الأمر عظيم الأهمية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)، وهذا المعنى العظيم من أهم معاني الإيمان بالقضاء والقدر، فقد بينه القرآن، وبين ثمرته العظيمة وارتباطها بالاعتقاد، قال عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:22-24]، وهذه آيات عظيمة البيان، فهناك أمراض خطيرة تعالج بهذه الآيات الكريمة: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلقها، فالكتاب: هو اللوح المحفوظ كما ذكرنا، والضمير في (نبرأها) يعود على الأرض أو على النفوس أو على المصيبة، أو كما رجح ابن كثير رحمه الله: في أنه يعود على الخليقة، أي: من قبل أن يخلق الله هذه الخليقة كلها من الأرض والنفوس والمصيبة، فإنها موجودة في اللوح المحفوظ وهو معنى صحيح، وقوله تعالى: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي: سهل على الله، فقد أمر الله القلم أن يكتب فكتب في تلك الساعة، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن، وجف على ذلك، وطويت الصحف وجفت، ورفعت الأقلام، فلا زيادة في هذا الكتاب.

    وثمرة هذا قوله تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ، فلماذا تحزن على شيء فاتك؟ فلو استحضرت أنه مكتوب عليك من قبل، وأنه كان لابد أن يحصل هذا الأمر قبل خلق السماوات والأرض، وقبل أن توجد أنت على وجه الأرض، وقبل خلق الأرض نفسها، وأن هذا سوف يقع في اللحظة الفلانية، فلن تأسى على نفسك ولن تحزن.

    خمسة أمراض يشقى بهن الفرد والمجتمع

    إنَّ مرض الحزن هذا مرض مدمر للإنسان وهو من الشيطان، إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، فالنجوى شقاء للإنسان، فمن علامات الشقاء للإنسان أنه دائماً يقول: إن المصيبة التي حصلت لي آلمتني، ولماذا حصل كذا؟ وهل كان يحصل غير كذا؟ فيمكث في تخيل هذه الأفكار من أجل أن يتألم ويشقى، والشيطان يوسوس له، لكن لو أن هذا الإنسان استحضر كتابة المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلن يحصل له ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)، إذاً: فقد حصل الأمر وقدَّر الله وما شاء فعل، وهذا يريح الإنسان راحة عظيمة، قال: وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ أي: بما أعطاكم من الدنيا، ولا من الدين حتى لا تغترون، والفرح ليس معناه السرور؛ لأن السرور يكون بنعمة الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، لكن المقصود بالفرح هنا: الفرح المذموم: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [غافر:75]، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76] أي: لا تفرح فرح الغرور، إذ ننسب الفضل إلى النفس، وقد كنا عندما كتبت هذه المقادير عدماً، وكل شيء كان عدماً عدا ما خلق الله عز وجل من القلم والكتاب، إذاً: فينبغي للإنسان أن لا ينسب الفضل إلى نفسه، ولا يقولن: هذا لي، وهذا بجهدي وعملي، وإلا كان مثل قارون في هذه الطريقة، فهو الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]؛ لأن الكبر قد أعماه والعياذ بالله، قال تعالى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]، والعياذ بالله من ذلك، فلا يكونن كمن وصفه الله عز وجل بقوله: هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، فيظن أنه لابد أن يأخذ شيئاً في الآخرة؛ لأنه أخذ في الدنيا، فإذا استحضر الإنسان ذلك لم يغتر، فإن الغرور والكبر من صفات إبليس صاحب هذا الطريق، فهو الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف:12]، وهذا هو نسبة الفضل إلى النفس، فالإنسان المؤمن لا ينسب الفضل إلى نفسه في الدين أو الدنيا، في المال أو الملك؛ لأن الملك ملك الله سبحانه وتعالى، والمال مال الله، قال تعالى: آتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، وقال: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، إذاً: فعندما يستحضر الإنسان ذلك فلا يقول: إن هذا حقي، فإنه سيذهب ويكون مالكه قد أخذه، ولا يقول: أنا الذي عملته، لكن يقول: هذا من فضل الله علي؛ ولذلك لما حصلت لـأم سليم واقعة موت ابنها رضي الله عنها استحضرت هذا المعنى، وقالت لـأبي طلحة : يا أبا طلحة ! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت، فأرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فابنك هذا كان عارية عندنا، أي: أن الله أعطاه لنا ثم أخذه، فالملك ملكه سبحانه وتعالى، إذاً: ينبغي للمرء أن لا يحزن ولا يغتر بما عنده، فإياك أن تقول: هذا لي، أو هذا ملكي، فإن هذا الشيء لم يكن لك، ولابد أن تستحضر أنك أنت والمصيبة والنعمة والخير والشر كنتم لحظة كتابة المقادير عدماً، فإن ذلك يزيل الفرح والغرور، قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]؛ لأن الاختيال والفخر أمراض إبليسية مدمرة للإنسان، فلو أن الإنسان استحضر ذلك القدر السابق لما حصل له اختيال على الخلق، وبماذا تفتخر عليهم وليس لك من نفسك شيء؟ وكذا العلم الديني والعمل الديني والطاعات كلها هبة من الله كتبت لك قبل أن تولد وتوجد، فإياك أن تقول: أنا عالم، وإياك أن تقول: أنا مجاهد، وإياك أن تقول: أنا داعٍ إلى الله، وإياك أن تقول: أنا زاهد، أنا مصلٍ وصائم بمعنى الافتخار، فنحن نعلم أننا بلا شك نعبد الله عز وجل، فإياه نعبد وبه نستعين، لكن لا تنسب الفضل إلى نفسك، فكلنا مفتقر إلى الله عز وجل، ولذا قال الذي كفر عندما دخل جنته: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف:35-38]، فالإنسان لابد له أن يستحضر فقره إذا تذكر هذا الأزل البعيد حين لم يكن شيئاً مذكوراً، كما يقول ابن القيم رحمه الله: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بعلامة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، أي: أعمال المؤمنين ولذلك يقول المؤمنون:

    والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

    وهذا توفيق من الله عز وجل، فالله هو الذي منَّ عليهم بذلك، وما الذي يفتح للقلب هذا الباب؟ إنه رؤية كتابة المقادير في ذلك العهد البعيد، وما كان من مقادير قبل وجودك حتى تستيقن أنَّ الله هو الذي من عليك، ليس بعلمك، ولا بعملك، ولا التخطيط وحسن العلم والعمل، وإنما هو توفيق من الله عز وجل، فهو الذي أراده لك سبحانه وتعالى، ومن به عليك؛ لذلك فإن من الأمراض: الاختيال والفخر، وهذان مما يخاف منهما على الصالحين في أمر العلم والعمل، والدعوة والجهاد، فإن أول من تسعر بهم النار الذين رغبوا في أن يقال عنهم ذلك لينسب لهم، فالذي جاهد ليقال: جريء، والذي تعلم وقرأ القرآن ليقال: قارئ وعالم، والذي أنفق ليقال: جواد فهؤلاء أول من تسعر بهم النار؛ لأنه يريد أن ينسب له ذلك، فالإيمان بأن كل ذلك قد كتب في كتاب قبل أن يبرأ الله الخليقة يزيل عن الإنسان الفخر والاختيال على الخلق، وكذلك يزيل عنه البخل؛ لأنه يظن أن هذا المال له، فيخاف أن ينقص لو أنفق، فإذا استحضر العبد أنها ملك لله عز وجل، وأن الله هو الذي كتبها ولم تكن له، لمْ يبخل حين يأمره الله بالنفقة، ولم يخف على المال من النقص؛ لأنه يعلم أنه راحل عنه قطعاً، وأن الرزق مقدر؛ لذلك يقول تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، إذاً: الإيمان بكتابة المقادير يزيل عن الإنسان هذه الأمراض الخمسة: الحزن، والفرح الذي هو الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والاختيال، والفخر، والبخل، فهذه أمراض تشقي الإنسان وتشقي من حوله، وتخلق مشاكل لا حصر لها بين الناس، فالإنسان عندما يؤمن بالقدر وبكتابة المقادير تزول عنه هذه الأمراض، والنبي عليه الصلاة والسلام بين كتابة المقادير والإنسان جنين في بطن أمه، فقال عليه الصلاة والسلام: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ففي هذا الحديث ثمار مهمة عظيمة الأهمية في مقام كتابة المقادير من هذا الحديث من كتب العمل والأجل والرزق والشقاء أو السعادة، فإذا علمت أن أجلك مكتوب فلا تخف الموت حين يأمرك الله عز وجل بالإقدام، ولا يكن حب الحياة معلقاً بقلبك إلى هذا الحد، ولا تحرص عليها لدرجة أن تبيع دينك من أجل عرض من الدنيا، وإذا كان الرزق مقدراً لك قبل أن تولد فلا تخف على لقمة العيش ولا تقل: أريد أن آكل فاتركوني وشأني؛ خوفاً من المشاكل، فالمشاكل هي مقاومة الشر والفساد، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن المرء موقن أن الرزق الذي سيأكله مكتوب له من قبل أن يولد، وأن أولاده كذلك مكتوب لهم الرزق الذي سيأكلوه، لما داهن في دين الله ولما خاف ورجا الناس، ولما باع دينه من أجل مصلحة دنيوية، أو باع طاعة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).

    الحث على طلب الرزق الحلال والإجمال في الطلب

    والإنسان إذا آمن بالرزق أنه مكتوب لم يبع دينه بعرض من الدنيا، ولم يقل: أنا أعمل بغير إرادتي ولم أجد إلا الحرام -والعياذ بالله- ولم أجد غير الرشوة، ولم أجد غير الربا، فإن ذلك لا ينبغي، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) إذاً: لابد أن تتقي الله؛ ليجعل لك مخرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب، ولا تقلْ: إني لا أجد غير الحرام، ولكن اطلب الطلب الجميل، واطلب الرزق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القعود في البيت والركون إلى الغير والتقاعس عن الطلب فقال: (أجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة الإنسان، وتأمل كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس على مثل هذا المعنى، مرتبطاً بقضية القضاء والقدر، قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، إذاً: فالمعتقد الصحيح أن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فلماذا يداهنهم ويرائيهم ويسمع لهم؟ فسيصغرون في نفسه ويرتفع عن الأرض بآيات الله عز وجل ومعاني الإيمان العظيمة، فلا يهمه الناس ولا يعبأ بهم رضوا أو سخطوا، كما قال ابن مسعود : إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره.

    فمن ضعف اليقين بالقدر أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله، تقول: فلان أمره إلى الله لأنه جعل هذا الشيء لا يصلني، إذاً: لماذا تذمه؟ هل هو يظن أنه هو الذي أغلق عليك باب الرزق؟ بل هذا أمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك قول بعض الناس: أنت سوف توقف رزقي، فهل الرزق يقف؟ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ولا يوجد أحد يوقف رزق أحد، وإذا كان هو اغتصب حقك فلن يأكل رزقك؛ لأن رزقك من عند الله، وإن ظلمك وأكل مالك، وإن كان رزقه حراماً، لكنه رزق كذلك، لكن لا تقلْ: أكل رزقي، فاتق الله سبحانه وتعالى ولا تظنَّنَّ أن الناس يملكون لك ضراً أو نفعاً.

    عدم صحة الاحتجاج بالقدر على المصيبة إلا بعد التوبة النصوح

    وإذا أيقنت أن عملك مكتوب أيضاً فانظر إلى الطاعات واعلم أنها فضل من الله عز وجل، وانظر إلى المعاصي وتب منها إلى الله ليصح لك احتجاجك بالقدر، ولا تقل: أن الله كتب علي المعاصي قبل أن أولد، بل قل الكلام الطيب أولاً من أجل أن تقبل هذه الحجة، فإن سيدنا آدم عندما قال الكلام الطيب بعدما تاب قبلت توبته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتج آدم وموسى عند ربهما فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خيبتنا ونفسك، وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله على الناس برسالته وكلامه، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني؟ قال: بأربعين سنة، قال: فهل وجدت فيها: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]؟ قال: نعم، قال: فكيف تلومني على عمل كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى، فحج آدم موسى) حُجَّ أي: غلبه، وهو حديث متفق على صحته، وهذا الحديث عظيم القدر؛ فهو يدلنا على الزمن الذي يصح الاحتجاج فيه بالقدر على المصيبة، فنزول الإنسان إلى الأرض كان مصيبة، وسيدنا آدم لم يختبره، ولكنه تسبب فيه بالتأكيد بالمعصية التي عملها، وسيدنا موسى كان يلومه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، لكن سيدنا آدم ليس له دخل في المصيبة وليس هو الذي اختار هذه العقوبة، وقد تاب إلى الله من المعصية، فصارت المعصية بعد التوبة بمنزلة المصيبة، فللإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب لا المعائب، أما أن يموت قبل التوبة فلن يقبل منه الاحتجاج بالقدر ولو احتج خمسين مرة؛ لأنه يريد أن يلغي مسئوليته ولن تلتغي المسئولية، فالقدر لا يلغي المسئولية؛ لأن الله قدر أن تكون لك مسئولية، فالذي يعمل معصية يقول: لو أن الله يريد أن يهديني لهداني، ادع لنا أن يهدينا الله يا شيخ! فهذا يحتج بالقدر من أجل أن يقول: أنا خالي المسئولية، أنا لا دخل لي في ذلك، وهذا مكتوب علي، صحيح أنه في الحقيقة مكتوب عليك، لكنك تعمله بإرادتك، مكتوب عليك وأنت تعمله بمسئوليتك وبقدرتك التي خلقها الله لك، فأنت تريد أن تلغي المسئولية، وهذه في الحقيقة كلمة حق يراد باطل، فالمشركون قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148] والله قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام:107]، فقد رد الله عليهم كلمتهم؛ لأنهم أرادوا بها عدم الالتزام بالدين، أرادوا بها عدم الإيمان، ويقولون: إن ربنا راضٍ بهذا، لا، فربنا لا يرضى بذلك، ومن أجل ذلك قلنا في المرتبة الرابعة في أول الكلام: إن مع كونه عز وجل قدر المقادير وأراد وجود الخير والشر فقد أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، وهو يحب الإيمان ويحب المتقين ويحب المؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر، إذاً: فهناك أمر شرعي غير الأمر الكوني، وليس شرطاً أن يجتمعا، بل يجتمعان ويفترقان، فلذلك المحبة والرضا من الله تابعة للأمر الشرعي، فالذي يلتزم بالأمر الشرعي يحبه الله، والذي يخالف الأمر الشرعي يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وكونه قدره فلأن كل شيء بقدر، ولكن لا تحتج بالقدر على ذنب أو معصية لم تتب منها، لكنك إذا تبت إلى الله فقد ألغيت عنك المسئولية فعلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، ثم يأتي بعد التوبة الصادقة الخوف من الله جل وعلا، لأن التوبة لا تكون توبة نصوحاً ومقبولة مع وجود التقصير، فإذا كانت توبة نصوحاً ومقبولة فلك أن تحتج بالقدر إذا لامك أحدهم، لكن الكفار احتجوا بالقدر في الدنيا، فقالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، واحتج إبليس كذلك بالقدر، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] ولم ينفعه الاحتجاج، بل كان مَذْءُومًا مَدْحُورًا [الأعراف:18] فإياك أن تكون مثل إبليس في الطريقة، وانتبه فإنك ستحتج ولن يقبل منك احتجاجك، كذلك الحال في من يجيب في الامتحان إجابة خاطئة ويقول: هذا قضائي، فحاله كحال المحتج بالقدر في عمل المعصية وهو لا يريد أن يتوب منها، فإن مصيرها هو السقوط لا محالة، كما قال عز وجل: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:54-56] فالندم لا ينفع إلا في الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، لكنك ستتحسر يوم القيامة إن لم تكن توبة مقبولة، ولذلك بادر بالتوبة قبل الغرغرة، يقول تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]، ولن تنفع هذه الحجة، فالتوبة في هذا الوقت لا تنفع، ثم يحتج بحجة ثانية، يقول تعالى: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، وهذه الحجة لن تقبل كذلك، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58] وهذه الحجة لن تقبل أيضاً، ولن ترجع إلى الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يقول: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59]، والعياذ بالله، إذاً: فانت حين ترى العذاب وتحتج بالقدر فلن يقبل منك هذا الاحتجاج، وستسألهم الملائكة عند دخولهم النار كذلك ولن يقبل منهم الاحتجاج بالقدر، كما قال عز وجل: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا [الملك:8]، وقال عز وجل: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الزمر:71] فالملائكة تحتج عليهم بالشرع، قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، فالكافرون يحتجون بالقدر وهو قولهم: إنَّ ربنا قدَّر علينا العذاب فوجب ذلك علينا، فيقال لهم: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72] أي: يذكرونهم بأوصافهم وأعمالهم، وتكبرهم، وهم مازالوا يحتجون بالقدر ويقولون: حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ إذاً: فأنت تدخل النار وهو مكتوب عليك ذلك، لكنك ستدخلها وأنت مذموم؛ لأنه ليس من الحجة أن يظل الإنسان على المعصية ويقول: إنه القدر، وهم في النار يحتجون بالقدر مع ذلك، كما قال عز وجل: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106]، أي: أن الشقوة التي كتبتها علينا غلبت علينا، وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:106-110]، فالله سبحانه وتعالى أحضر لهم عملهم، فقد لامهم وذمهم على الأعمال السيئة مع أنهم يحتجون بالقدر ويقولون: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ولا ينفع ذلك، ولن تقبل هذه الحجة، إذاً: فعندما يؤمن الإنسان بأن عمله مكتوب فإنه ينظر نظرتين: نظرة في العمل الصالح فينظر إلى فضل الله عليه بذلك، وأن الله هو الذي من عليه، وأنه كان عدماً، وإرادته كانت عدماً، وعلمه كان عدماً، فلا يغتر بعلمه أو عمله، والنظرة الثانية: في المعاصي، فيبادر إلى التوبة منها حتى يقبل احتجاجه بالقدر السابق المكتوب عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فلو احتج به مائة مرة على الذنب بعد أن يموت فلن يقبل منه هذا العذر؛ لأن الله إنما يقبل الاحتجاج بالقدر ممن أخلى مسئوليته عن الذنب، ولن تخلي مسئوليتك عن الذنب الذي قد مضى إلا بعد أن تندم قبل الغرغرة، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن ينزل العذاب بالناس.

    ثمرة الإيمان بأن السعادة والشقاوة مكتوبتان

    وإذا آمن الإنسان بأن الشقاوة والسعادة مكتوبتان فسيؤمن كذلك بأن الألم والتلذذ مكتوبان، وعندها فلن يخاف من ألم يصيبه أو لذة تفوته ما لم يكتب الله عز وجل له ذلك، وهذا يدفعه إلى أن يستغني بالله عن الخلق، وإذا علمت أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فلن تغتر، ولن تأمن سوء الخاتمة، بل ولن تظن أن عملك سيفيدك، كما يقول بعض الجهلة: إنك ستدخل الجنة حتماً، فلا ينبغي لك أن تقول ذلك عن نفسك؛ لأنك تخاف على نفسك سوء الخاتمة؛ فأنت لا تأمن مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وإذا كان الصديق يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة، فأنت أولى بذلك، ولذلك قال الطحاوي رحمه الله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، أي: الأمن من مكر الله، واليأس من رحمة الله، ففي هذا الجانب تسأل الله حسن الخاتمة، وتسأل الله أن يتوفاك على عمل صالح، وتسأل الله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك).

    وأما في الجانب الآخر: فإذا وجدت من يعمل المعاصي ومن يعمل بعمل أهل النار، وعلمت أن من هؤلاء من يكتب الله له النجاة في آخر لحظة فلن تجعل الناس ييئسون من رحمة الله، ولن تنزلهم جنة أو نار، فلست أنت الذي تقول: والله لا يغفر الله لك، ولست ممن يضع نفسه في موضع أرفع منه، وليس لك رفع نفسك فوق مرتبة العبودية، مع أنه كان يعمل الصالحات بخلاف أخيه الغارق في السيئات، فقد قال له مرة: (اتركني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال ذلك الرجل الذي كان يعمل الصالحات: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك) والعياذ بالله؛ لأن الكبر في الإنسان مذموم، فالإنسان لا يتكبر بالعمل الصالح؟ فقد يغفر له في لحظة أنت لا تعرفها، فقد ذكر أن رجلاً قتل مائة نفس فكتب الله له الهداية قبل أن يموت ومن غير أن يعمل عملاً صالحاً، ولذلك ينبغي لك ألا تلزم الناس بجنة أو نار، وألا تضع نفسك في موضع المحاسب والحاكم على البشر، وألا تقول: إن هذا الذي ظلمني لابد أن الله سينتقم منه، بل ليس لازماً أن ينتقم منه، بل من الممكن أن يرزقه الله التوبة، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة؛ لأن الله قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا أي: أنهم لو تابوا لما عذبهم، سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيقتل ويستشهد، فيدخلان الجنة معاً)، إذاً: فنحن ليس لنا من الأمر شيء، فلا ينبغي أن تقول للناس: أنت تدخل النار أو أنت تدخل الجنة، فأنت توقن بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة عن أهل الجنة وأهل النار، ولكن أين أنت من ذلك؟ فإذا كنت ترجو وتخاف فلا تيئس الناس من رحمة الله، ولا تتكبر عليهم، فإنك لا تعرف ماذا يختم الله لهم به من أجل عمل عملوه ربما يكون صغيراً في نظرك، ويكون عند الله مقبولاً كبيراً، فرب عمل بسيط يغفر الله به ذنوباً كثيرة، فإن الله شكور سبحانه وتعالى.

    المبادرة إلى التوبة قبل الموت

    وقد ذكر أن بغياً من بغايا بني إسرائيل، بُغي أي: مدمنة على الزنا، يعني: فاجرة كما نسمع الآن مثلاً بالنساء الفاجرات، فالشاهد: أنها مرت بكلب يأكل الثرى من شدة العطش، والله يعلم أن في قلبها رحمة بهذا الكلب، فنزلت فملأت موقها من الماء وسقت هذا الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، سبحان الله! فما بالك بإنسان يعمل المعاصي، لكن عنده رحمة ببعض خلق الله سبحانه وتعالى؟! فقد يغفر الله له هذه الذنوب الكثيرة، فلا تقل: فلان هذا لابد أن يدخل النار أو هذا لابد أن يدخل الجنة، فإنَّ الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، وبالعدل يفعل، ولا يظلم الناس شيئاً، فالناس بين الفضل والعدل، ففضله على أهل الإيمان، وعدله عز وجل مع أهل الكفر والفسوق والعصيان.

    نسأل الله أن يعاملنا بفضله، وأن يجعلنا من أهله سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الحكم العدل يفعل ما يشاء، فلا تقنط من رحمة الله، وإذا كنت صاحب ذنب فبادر بالتوبة الآن؛ لأنك لا تدري متى يختم لك، وإذا تبت إلى الله عز وجل قبل الموت فقد تبت من قريب، فالله عز وجل يغفر لمن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، لكنك لا تدري متى ستموت وبأي أرض؛ لأن الله هو الذي يعلم بأي أرض تموت النفس، فبادر بالتوبة واترك التسويف.

    فمن ثمرات الإيمان بعلم الله أيضاً: أن تعلم أن الله عز وجل هو الذي يعلم متى تموت النفوس؛ لأن ذلك من مفاتيح الغيب الخمس فلا تسوف؛ لأنك لست ضامناً لعمرك، فمن الناس من يقول: سأتوب بعد سنة أو بعد سنتين، ومنهم من يقول: سأتوب غداً، أو سأعمل الصالحات غداً، وما يدريه أنه سيعيش إلى غد؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ذلك.

    فهذه من ثمرات الإيمان بكتابة المقادير، فقد كتب للإنسان وهو جنين في بطن أمه الأجل والرزق والعمل والشقاوة والسعادة وكذا الخواتيم التي يختم بها للإنسان؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم بالكتاب قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولذلك فعندما نسأل: هل الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: إنه ميسر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ميسر لما خلق له)، وميسر هذه تثبت له إرادة وقدرة، وتثبت أن إرادة الله فوق إرادته ومشيئة الله فوق مشيئته، وهذا الأمر يكون الحديث عنه في قضية أثر الإيمان بالقدرة والإرادة الإلهية، وأثر الإيمان بخلق الله لأفعال العباد.

    أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.