أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن الإيمان هو الركن الركين الذي يستند إليه المؤمن خصوصاً عند الأزمات، فعندما يشتد الضيق يكون الحصن الحصين الذي يلجأ إليه هو الإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وربوبيته وألوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، فإذا تحقق في الإنسان الإيمان ووهبه الله ذلك هان عليه كل ما يجده من ضيق، وسهل عليه كل ما يجد من عسر، ويسر الله له سبحانه وتعالى سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة، وإن كانت الدنيا قد ضاقت عليه بأسرها، وإن أحاط به أعداؤه وأعداء دينه من كل جانب، فإنه يجد في هذا الضيق أعظم السعة، وهذا إذا تحقق الإيمان، والإيمان بالقضاء والقدر خصوصاً في هذا الباب من أعظم أسباب السعة التي يوسع الله عز وجل بها على المؤمن الضيق، ويهون عليه كل مصيبة، ويبعد عنه مرض الأسى والحزن، وإنما يستحضر قوته بالله عز وجل؛ لأن القوة لله جميعاً، ويستحضر أن الأمر أمره سبحانه وتعالى، وأنه عز وجل خلق كل شيء بقدر، فهذا يغير سلوكه في معاملة الواقع تغييراً جذرياً.
وقد بين أهل العلم أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر أربع مراتب:
وكذلك: الكتابة يوم القبضتين والتقدير يوم القبضتين: يوم أخذ الله عز وجل من ظهر آدم ذريته بيمينه وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وقبض قبضة بشماله وقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق ألا يشركوا به شيئاً.
وتبعت هذه الكتابات كتابات أخرى، فمنها: الكتابة والإنسان جنين في بطن أمه، وذلك عندما يكون الإنسان في بطن أمه أربعين يوماً أو ثنتين وأربعين ليلة، وكذا عندما ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين يوماً، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أم سعيد، ومنها: الكتابة السنوية في ليلة القدر، ففيها يفرق كل أمر حكيم، وكذلك: الكتابة اليومية، فكل يوم هو في شأن، وكذلك: الكتابة التي سمعها الرسول صلى الله عليه وسلم في المعراج حين صعد إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهناك كتابات متعددة فالله عز وجل لم يزل فعالاً لما يريد، وكل يوم هو في شأن، يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويعز ذليلاً، ويجبر كسيراً، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويفعل ما يشاء.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يحدد فيقول: (ثنتان وأربعون ليلة)، أي: ستة أسابيع، فسبحان الله! والذكر مثل الأنثى تماماً، ثم في الأسبوع السابع يبدأ الافتراق؛ ولذلك فمن الممكن أن يقولوا في الجنين: هذا سيكون ذكراً أو هذا سيكون أنثى، ولكن بعد الأسبوع السابع، أما قبل الأسبوع السابع فهذا مستحيل، مع أنه من الممكن أن تتحلل الكروموسومات قبل هذا وينظر أن هذا الحيوان المنوي الذكري الذي لقح البويضة يكون من تلقيحه ذكر، ولكنهم يقولون: إنهم اكتشفوا في الأسبوع السابع أن هناك إنزيماً يطرأ..... في ذلك التوقيت، وهو الذي يتحكم في تشكيل الأعضاء، حتى ولو كان تشكيل الكروموسومات مختلفاً أصلاً، أي: من الممكن أن يكون تركيبه الجيني تركيب الكروموسومات ذكراً، لكن هذا الهرمون إذا نقص صارت الأعضاء التناسلية أنثى، ولو أن تركيبه أنثى كبداية خلايا وزاد هذا الهرمون أو الإنزيم في التوقيت، فإن الأعضاء التناسلية ستتكون ذكراً، فسبحان الله! ينتظرون حتى يتكون فيعرفوه، فمهما قالوا فهو احتمال غالباً، فهو إلى هذه اللحظة بأمر الله سبحانه وتعالى، وهناك على هذا الباب كلام آخر وهو: أن الملك يكتب ما يأمره الله من عمله ورزقه وشقي أم سعيد، وهذا يكون قبل أن يقع هذا الأمر، ونحن نقول: إن مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فنحن نقول ذلك ونلتزمه ونقول: حتى إن علم هذا الملك مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإن الكتابات اللاحقة على اللوح المحفوظ كتابات قابلة للمحو والإثبات، قال الله عز وجل:
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
[الرعد:39]، وقال ابن عباس رضي الله عنه: الكتاب كتابان:
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
.
إذاً: فالكتاب الذي رفعت أقلامه، وجفت صحفه: هو اللوح المحفوظ.
وأما كتب الملائكة فتظل رغم أنه لم يكتب فيها شيء؛ فمن الممكن أن تمحى ويكتب غير ذلك إذا شاء الله، إذاً: فعلم الملك مقيد بأن الله يشاء إمضاء هذا وإنفاذه، أو يشاء محوه، فلو شاء الله أن يمحو ما كتبه الملك لمحاه سبحانه وتعالى، قال تعالى:
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
، ولذلك نجد أن هذه الأمور التفصيلية يمكن أن يطلع عليها بعض المخلوقين، لكن لا على جهة الجزم والقطع، وإنما على جهة التعليق على مشيئة الله.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ليلة بدر بمصارع بعض المشركين، فقد كان يمر على أماكن ويقول: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله) فقد علقه النبي عليه الصلاة والسلام على مشيئة الله، فما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما علمه ملك أو أحد من خلق الله عن أمر تفصيلي في مفاتيح الغيب الخمس فسوف يكون معلقاً على المشيئة ليظل في خمس لا يعلمهن إلا الله، وما أخبر به من تفصيل دقيق فإنه يظل مجملاً في أجزاء أخرى كالتوقيت مثلاً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بتفاصيل ما يقع في أمر الدجال ونزول عيسى بن مريم، ولكن يبقى هذا الأمر إجمالاً وهو: زمن وقوع ذلك، كما أن تفاصيل ما في الجنة وما في النار وما في الساعة مقطوع بها، فلا نقول: إنه معلق على المشيئة إن شاء الله أمضاه وإن شاء لم يمضه، بل إن الله عز وجل شاء ذلك قطعاً وجزماً، فهو شاء أن يبعث الناس يوم القيامة، وأن يحيي الموتى، وهذا مقطوع به وقد شاء الله فعله، وليس إن شاء؛ لأن لفظ (إن شاء) يعني: أنه من المحتمل أنه يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، لكن هذه الأمور ستحصل قطعاً، فلابد أن نجزم أن هناك جنة وناراً، وأن هناك قيامة وحساباً وسؤالاً وثواباً وعقاباً، وأن هناك ميزاناً وصراطاً، وهذا مقطوع به، لكن يبقى هناك إجمال من جهة التوقيت أو التفاصيل الكاملة، أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يخبر بأمور مجزوم بها لكن فيها إجمالاً من جهة، أو أن يخبر بتفاصيل دقيقة جداً فيبقى التعليق على مشيئة الله عز وجل، وبذلك تظل مفاتيح الغيب الخمس لا يعلمهن إلا الله، قال عز وجل:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
[الأنعام:59].
وما في البر من بذور النباتات وغاباتها: إذا ما دخلها إنسان أو دخل أجزاء منها يقول: يا للعجب! كل هذه منذ آلاف السنين موجودة، وبذورها تكبر وتنمو وتصبح بعد ذلك أشجاراً هائلة، وفي مناطق كثيرة هائلة من العالم والبشر لا يعلمون عنها شيئاً، بل وهناك أماكن غير مأهولة بالبشر، وكذلك الغابات الاستوائية: ففيها حيوانات لا يعلمها إلا الله، ومن العجيب أن رجلاً رأى قرداً مثل الأصبع، وفيه تفاصيل الخلق وله وجه وعينان وأذنان، وقد كان هذا بعد نموه وهو لا ينظر إلا في الظلام فقط، متعلق بذيله في الشجرة، وقد أتوا به ووضعوه في حديقة الحيوان بهذه الطريقة، وهذا شيء عجيب جداً، وتذكر هذا الرجل ما يكون في بطن الأم حين يخرج الإنسان جنيناً وفيه كل التفاصيل، وهذا شيء عجيب جداً، فسبحان الله! فالمخلوقات عجيبة الشأن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ
.
وأما في البحر فأمر آخر عجيب، فالبحر هو أربع أخماس الكرة الأرضية، والأرض خمسها، وهذه الأرض لا يحيط بها علماً إلا الله، والبحر أعظم من الأرض، حيث أن أعماق البحار ظلمات بعضها فوق بعض، وأمواج تلو أمواج تجعل ما تحتها أشد ظلاماً من انكسار الأشعة، كما قال عز وجل:
مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ
[النور:40]، وهذه الظلمات الموجودة في البحر لم يدخلها إنسان، وإن دخلها فإنه يجد أعاجيب من المخلوقات، فلو أخذت قطرة من ماء من أي ممر مائي سواء كان ماء عذباً أو ماء مالحاً، ووضعت جزءاً منها على شريحة، ونظرت تحت الميكروسكوب، فإنك ستلاقي فيها كائنات عجيبة: طحالب ونباتات وبكتيريا وأشياء عجيبة جداً، فكل قطرة من الماء تتركب من ضوابط معينة ونسبة معينة من الأملاح، ولابد من هذه النسب المنضبطة وإلا فسيحصل خلل في حياة البشر، فلو أن الماء المالح صار عذباً والعذب صار مالحاً لحصل خلل في حياة البشر، فالتوازن هذا عجيب جداً، ناهيك عن الكائنات الكبيرة الهائلة.
إن الإنسان عندما يفكر في هذه المخلوقات يطرأ على ذهنه أنه من الذي أحاط علماً بذلك؟ حتى إن أعظم وأعتى الدول التي تملك الكمبيوتر وكل المعلومات لا يحيطون علماً بذلك أبداً، بل يجب على الإنسان حين يعرف هذا أن ينكسر، ولابد أن يعرف أنه جاهل؛ لذلك فإن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار. أي: أن الإنسان لا يقول أبداً: أنا عالم، كيف يقول: أنا عالم، وهو لا يعرف شيئاً، بل لا يعرف ما الذي بداخله، إن الذي بداخله إلى هذا اليوم عالم عجيب، عالم في كل وقت نكتشف منه شيئاً جديداً، وإن الله كلما أعطانا قدرة أكثر على النظر، كالميكروسكوب الذي يكبر صور الأجسام، فإننا نرى أنَّ الذي كنا نراه ثقباً أصبح ليس بثقب، كانوا يظنون وكنا نظن أن جدار الخلية ثقوب وهي ليست بثقوب، بل هي مواد مركبة بطريقة معينة من أجل أن تؤدي وظيفة معينة، فكلما عرفنا أكثر كلما عرفنا أننا قبل مدة كنا لا نفهم شيئاً، ونحن الآن لا نفهم شيئاً بالنسبة للعلم الكامل، ولذلك فإن هذا المعنى عظيم الأهمية في نفس المؤمن، كما قال الخضر عليه السلام لموسى صلى الله عليه وسلم: يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وقد وقف عصفور على طرف السفينة فأخذ قطرة من ماء البحر، فقال: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، وهذا معنى عظيم، فلابد أن يحصل في قلب المؤمن أنه يصف نفسه بالجهل يوماً، فإن أعلم الخلق بالله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول في دعائه: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)، وهو أعلم الخلق بالله، ولكنه يقول ذلك، ويتوسل إلى الله بعلمه عز وجل، ويعلم أصحابه فيقول: (اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).
قال عز وجل:
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
.
فهنا يرشدنا القرآن إلى التفكر في هذا الأمر العجيب، إلى سقوط ورقة من شجرة في غابة من غابات الأرض على الأرض، ففي أثناء سقوطها تتقلب عدة مرات وتستقر على أي وجه من وجوهها، ثم بعد نزولها في الأرض تغور منه سنين طويلة حتى تتحلل، فإذا تحللت صارت بعد بترولاً، وهذا البترول كان في باطن الأرض، وجد من مركبات هيدروكربونية مصدرها أصلاً من مواد حية، هي في الأصل: أوراق ونباتات وأشجار وكائنات حية استمر الدفن عليها في الأرض وبعد سنين طويلة تحولت إلى هذه المواد، فسبحان الله! لأن تركيبها هو تركيبة المواد الهيدروكربونية التي هي من المواد الحية، فلذلك لا أحد يستطيع أن يصنع وقوداً من عناصر الأنسجة هذه؛ لأن الوقود مصدره المادة الحية، فنحن لا نستطيع تركيب البترول، بل لابد أن يستخرج من باطن الأرض، وكذلك الغازات الطبيعية، فكلها في الأصل مواد، فعندما نزلت هذه الأوراق في باطن الأرض استمرت سنين طويلة حتى صارت بنزيناً والله عز وجل هو الذي يعلم ذلك.
إنَّ السلف يقولون: إن الله يعلم كم مرة تتقلب هذه الورقة، وفي أي زمن، وفي أي غابة، وفي أي مكان؟ فعندما يبدأ المرء في معرفة هذه المعاني فلابد أن ينكسر لله عز وجل، ولابد أن يقر على نفسه بالعجز والجهل.
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
.
كذلك الفلاح حين يبذر بذرة في الأرض، وهذا من أجل أن نفكر في الرطب واليابس والحبات التي تزرع في الأرض، فإنه يعلم أنه يرزع أرزاً أو قمحاً أو شعيراً، ولكنه لا يمكن أن يعرف كم حبة في يده؟ ولا يعرف أي حبة ستنبت وأي حبة ستموت؛ لأن هذه الحبات لن تنبت كلها، بل بعضها يجف وبعضها ينبت، وبعضها يكون زرعاً وبعضها يكون سنابل، قال تعالى:
وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
، فكل ذلك كتب في الكتاب المبين في اللوح المحفوظ.
هذا هو الإيمان بعلم الله وبكتابة المقادير، وعندما يوقن الإنسان بهذه المعاني فإنه لا يمكن أن يغتر بعلمه، بل يصف نفسه بالجهل؛ لأن الغرور بالعلم مرض العصر الحديث، وهو مرض الكفرة -والعياذ بالله- الذين وصفهم الله بأنهم:
لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
[الروم:6-7]، وهذا الكلام كله في كوكب الأرض، فما بالك في الكواكب البعيدة الأخرى؟ وما بالك في هذه النجوم والمسافات الهائلة التي بيننا وبينها؟ فالله عز وجل علم ما في السماوات والأرض؛ لأنه سبحانه
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
[الأنعام:73]، لا يغيب عنا، وإنَّ ما فوق هذه السماوات، وهذه الأشياء كلها تجعل الإنسان لا يغتر بعلمه أبداً، لا بالعلم الديني ولا الدنيوي، وهذا العلم الدنيوي هو الذي جعله الكفرة إلهاً لهم في هذا الزمان يعبدونه من دون الله.
فهذه ثمرة الغرور والكبر والعياذ بالله.
وكان فيما مضى أستاذ في الكلية قد مات والحمد لله، كان يقول للطلبة خرافات منها قوله: قريباً سيصنعون ذبابة، يعرض بقول الله عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ
[الحج:73]، ولو اجتمعوا على ذلك ألف سنة لما استطاعوا أن يخلقوا ذبابة، فالناس يعلمون علم اليقين أن البشر لا يقدرون على ذلك، ولا يستطيعون أن يصنعوا جزئي بروتين فقط، فليس في قدرة الإنسان أن يصنع ذلك.
فعلم الإنسان بالنسبة إلى علم الله جهل، كما أن عز الإنسان بالنسبة إلى عز الله ذل، كما أن غنى أي إنسان بالنسبة إلى غنى الله عز وجل فقر، كما أن قوة أي إنسان إلى قوة الله عز وجل ضعف، وكما أن قدرة أي إنسان إلى قدرة الله عز وجل عجز، فلابد للإنسان أن يستحضر هذا المعنى جيداً.
إذاً: فقد علم الله أن هذا الغلام لو كبر لكان كافراً، فعلم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولذلك إذا حصل للإنسان شيء والناس ينزعجون من هذا الشيء فإنهم يقولون: يا أخي! لو كان كذا ما كان كذا وكذا، ولسنا الذين نعرف ما لم يكن لو كان كيف يكون، فالإنسان يفوض علم ذلك إلى الله ويقول: إن علم الله محيط بما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يقول: لو كان كذا لكان كذا وكذا؛ لأن لو تفتح عمل الشيطان، كأن يموت شخص فيقول الناس: لو أنه مات قبل هذا بقليل، لو أنه مات قبلنا أو مات بعدنا، لو أن الله عمل كذا، فلو قلنا له: لماذا تتكلم في هذا؟ أو لماذا تعترض على هذا؟ فإن هذا فتح لعمل الشيطان، فلو كان كذا فالله يعلم ما كان، وهو سبحانه وتعالى الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فثمرة هذا في حد الإنسان ألا يعترض على الله، ولا يقترح على الله، ولا يقول: لم يغير الله هذا الشيء الفلاني؟ فلست أنت الذي تقول هذا الكلام؛ لأن المؤمن يفوض أمره ويفوض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك يرد علم ما لا يعلم إلى عالمه، ولا يدعي علم ما لم يعلم، فقد عاتب الله موسى حين سئل: أي أهل الأرض أعلم؟ فقال: أنا، فعاتبه على ذلك إذ لم يرد العلم إليه، فقدر الله له أن يلقى الخضر حتى يعرفه أن هناك بعضاً من العلوم مما لا يعلمها، وأنَّ هناك من هو أعلم منه.
ولو استحضر العبد ذلك لصار في أفعاله نور، ولراقب الله عز وجل أعظم مراقبة، فلو تربى الإنسان على ذلك لنشأ يراقب الله عز وجل ويخافه في كل مكان في السر والعلن، كما ربى لقمان ابنه حين قال له:
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
[لقمان:16]؛ لأن (الخبير): من الأسماء الدالة على معنى علم الله عز وجل، وهو العلم المتقن، فالخبير: العليم التام علمه المتقن له، فـلقمان يقول لابنه: إذا عمل عملاً أو معصية وكانت الفعلة مقدار ذرة أو خردلة وكانت في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أو في صخرة مغلقة، فإن الله يأتي بها؛ لأنه عز وجل لطيف خبير وهو يعلمها، ولذلك فأنت سوف تحاسب عليها، فلو أن الإنسان تربى على هذا المعنى بالتأكيد لتغير سلوكه، ولترك الغش عندما يكون لوحده وأمام الناس، ولكان أميناً صادقاً، وسوف يكون في كل أحواله متقياً لله سبحانه وتعالى، وإذا علمت أن الله عز وجل أحاط علماً بما يفعله الكفرة والظلمة والمنافقون وأعداء الدين، وأنه عز وجل ليس بغافل عنهم سبحانه وتعالى، واستحضرت مع ذلك كمال قدرته عز وجل وأن الأمر بمشيئته وحكمته، وأنه لا يغيب عنه ذلك فستراقب الله وتخشاه أشد الخشية، كما قال سبحانه:
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ
[الأعراف:7]، قال:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
[إبراهيم:42]، فالغفلة نقص في العلم، وإذا كان العلم موجوداً في كل وقت صار كمالاً، قال تعالى:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
[مريم:64] سبحانه وتعالى، فإذا استحضر ذلك هان عليه ما يجد مما يمكرون ويفعلون، ويكيدون ويخططون؛ لأن الله عز وجل قد أحاط به علماً، وهو سبحانه وتعالى سوف يتولى أمر خلقه بما شاء عز وجل.
وقال عز وجل:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
[البروج:21-22].
وقال عز وجل:
وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ
[يس:12] أي: بين فيه كل ما يقع في هذا الوجود.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).
و في الحديث الآخر: (يا
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
[الحديد:22-24]، وهذه آيات عظيمة البيان، فهناك أمراض خطيرة تعالج بهذه الآيات الكريمة:
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا
أي: من قبل أن نخلقها، فالكتاب: هو اللوح المحفوظ كما ذكرنا، والضمير في (نبرأها) يعود على الأرض أو على النفوس أو على المصيبة، أو كما رجح ابن كثير رحمه الله: في أنه يعود على الخليقة، أي: من قبل أن يخلق الله هذه الخليقة كلها من الأرض والنفوس والمصيبة، فإنها موجودة في اللوح المحفوظ وهو معنى صحيح، وقوله تعالى:
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ
أي: سهل على الله، فقد أمر الله القلم أن يكتب فكتب في تلك الساعة، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن، وجف على ذلك، وطويت الصحف وجفت، ورفعت الأقلام، فلا زيادة في هذا الكتاب.
وثمرة هذا قوله تعالى:
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
، فلماذا تحزن على شيء فاتك؟ فلو استحضرت أنه مكتوب عليك من قبل، وأنه كان لابد أن يحصل هذا الأمر قبل خلق السماوات والأرض، وقبل أن توجد أنت على وجه الأرض، وقبل خلق الأرض نفسها، وأن هذا سوف يقع في اللحظة الفلانية، فلن تأسى على نفسك ولن تحزن.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
وهذا توفيق من الله عز وجل، فالله هو الذي منَّ عليهم بذلك، وما الذي يفتح للقلب هذا الباب؟ إنه رؤية كتابة المقادير في ذلك العهد البعيد، وما كان من مقادير قبل وجودك حتى تستيقن أنَّ الله هو الذي من عليك، ليس بعلمك، ولا بعملك، ولا التخطيط وحسن العلم والعمل، وإنما هو توفيق من الله عز وجل، فهو الذي أراده لك سبحانه وتعالى، ومن به عليك؛ لذلك فإن من الأمراض: الاختيال والفخر، وهذان مما يخاف منهما على الصالحين في أمر العلم والعمل، والدعوة والجهاد، فإن أول من تسعر بهم النار الذين رغبوا في أن يقال عنهم ذلك لينسب لهم، فالذي جاهد ليقال: جريء، والذي تعلم وقرأ القرآن ليقال: قارئ وعالم، والذي أنفق ليقال: جواد فهؤلاء أول من تسعر بهم النار؛ لأنه يريد أن ينسب له ذلك، فالإيمان بأن كل ذلك قد كتب في كتاب قبل أن يبرأ الله الخليقة يزيل عن الإنسان الفخر والاختيال على الخلق، وكذلك يزيل عنه البخل؛ لأنه يظن أن هذا المال له، فيخاف أن ينقص لو أنفق، فإذا استحضر العبد أنها ملك لله عز وجل، وأن الله هو الذي كتبها ولم تكن له، لمْ يبخل حين يأمره الله بالنفقة، ولم يخف على المال من النقص؛ لأنه يعلم أنه راحل عنه قطعاً، وأن الرزق مقدر؛ لذلك يقول تعالى:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ
[النساء:37]، إذاً: الإيمان بكتابة المقادير يزيل عن الإنسان هذه الأمراض الخمسة: الحزن، والفرح الذي هو الغرور والكبر والإعجاب بالنفس، والاختيال، والفخر، والبخل، فهذه أمراض تشقي الإنسان وتشقي من حوله، وتخلق مشاكل لا حصر لها بين الناس، فالإنسان عندما يؤمن بالقدر وبكتابة المقادير تزول عنه هذه الأمراض، والنبي عليه الصلاة والسلام بين كتابة المقادير والإنسان جنين في بطن أمه، فقال عليه الصلاة والسلام: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات، بكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد، فو الذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ففي هذا الحديث ثمار مهمة عظيمة الأهمية في مقام كتابة المقادير من هذا الحديث من كتب العمل والأجل والرزق والشقاء أو السعادة، فإذا علمت أن أجلك مكتوب فلا تخف الموت حين يأمرك الله عز وجل بالإقدام، ولا يكن حب الحياة معلقاً بقلبك إلى هذا الحد، ولا تحرص عليها لدرجة أن تبيع دينك من أجل عرض من الدنيا، وإذا كان الرزق مقدراً لك قبل أن تولد فلا تخف على لقمة العيش ولا تقل: أريد أن آكل فاتركوني وشأني؛ خوفاً من المشاكل، فالمشاكل هي مقاومة الشر والفساد، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أن المرء موقن أن الرزق الذي سيأكله مكتوب له من قبل أن يولد، وأن أولاده كذلك مكتوب لهم الرزق الذي سيأكلوه، لما داهن في دين الله ولما خاف ورجا الناس، ولما باع دينه من أجل مصلحة دنيوية، أو باع طاعة الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فمن ضعف اليقين بالقدر أن تذم الناس على ما لم يؤتك الله، تقول: فلان أمره إلى الله لأنه جعل هذا الشيء لا يصلني، إذاً: لماذا تذمه؟ هل هو يظن أنه هو الذي أغلق عليك باب الرزق؟ بل هذا أمر الله سبحانه وتعالى، وكذلك قول بعض الناس: أنت سوف توقف رزقي، فهل الرزق يقف؟ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا ترده كراهية كاره، ولا يوجد أحد يوقف رزق أحد، وإذا كان هو اغتصب حقك فلن يأكل رزقك؛ لأن رزقك من عند الله، وإن ظلمك وأكل مالك، وإن كان رزقه حراماً، لكنه رزق كذلك، لكن لا تقلْ: أكل رزقي، فاتق الله سبحانه وتعالى ولا تظنَّنَّ أن الناس يملكون لك ضراً أو نفعاً.
وأما في الجانب الآخر: فإذا وجدت من يعمل المعاصي ومن يعمل بعمل أهل النار، وعلمت أن من هؤلاء من يكتب الله له النجاة في آخر لحظة فلن تجعل الناس ييئسون من رحمة الله، ولن تنزلهم جنة أو نار، فلست أنت الذي تقول: والله لا يغفر الله لك، ولست ممن يضع نفسه في موضع أرفع منه، وليس لك رفع نفسك فوق مرتبة العبودية، مع أنه كان يعمل الصالحات بخلاف أخيه الغارق في السيئات، فقد قال له مرة: (اتركني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال ذلك الرجل الذي كان يعمل الصالحات: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك) والعياذ بالله؛ لأن الكبر في الإنسان مذموم، فالإنسان لا يتكبر بالعمل الصالح؟ فقد يغفر له في لحظة أنت لا تعرفها، فقد ذكر أن رجلاً قتل مائة نفس فكتب الله له الهداية قبل أن يموت ومن غير أن يعمل عملاً صالحاً، ولذلك ينبغي لك ألا تلزم الناس بجنة أو نار، وألا تضع نفسك في موضع المحاسب والحاكم على البشر، وألا تقول: إن هذا الذي ظلمني لابد أن الله سينتقم منه، بل ليس لازماً أن ينتقم منه، بل من الممكن أن يرزقه الله التوبة، قال عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
[البروج:10]، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم! قتلوا أولياءه ثم هو يدعوهم إلى التوبة؛ لأن الله قال:
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
أي: أنهم لو تابوا لما عذبهم، سبحان الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل فيستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل في سبيل الله فيقتل ويستشهد، فيدخلان الجنة معاً)، إذاً: فنحن ليس لنا من الأمر شيء، فلا ينبغي أن تقول للناس: أنت تدخل النار أو أنت تدخل الجنة، فأنت توقن بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة عن أهل الجنة وأهل النار، ولكن أين أنت من ذلك؟ فإذا كنت ترجو وتخاف فلا تيئس الناس من رحمة الله، ولا تتكبر عليهم، فإنك لا تعرف ماذا يختم الله لهم به من أجل عمل عملوه ربما يكون صغيراً في نظرك، ويكون عند الله مقبولاً كبيراً، فرب عمل بسيط يغفر الله به ذنوباً كثيرة، فإن الله شكور سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يعاملنا بفضله، وأن يجعلنا من أهله سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الحكم العدل يفعل ما يشاء، فلا تقنط من رحمة الله، وإذا كنت صاحب ذنب فبادر بالتوبة الآن؛ لأنك لا تدري متى يختم لك، وإذا تبت إلى الله عز وجل قبل الموت فقد تبت من قريب، فالله عز وجل يغفر لمن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، لكنك لا تدري متى ستموت وبأي أرض؛ لأن الله هو الذي يعلم بأي أرض تموت النفس، فبادر بالتوبة واترك التسويف.
فمن ثمرات الإيمان بعلم الله أيضاً: أن تعلم أن الله عز وجل هو الذي يعلم متى تموت النفوس؛ لأن ذلك من مفاتيح الغيب الخمس فلا تسوف؛ لأنك لست ضامناً لعمرك، فمن الناس من يقول: سأتوب بعد سنة أو بعد سنتين، ومنهم من يقول: سأتوب غداً، أو سأعمل الصالحات غداً، وما يدريه أنه سيعيش إلى غد؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ذلك.
فهذه من ثمرات الإيمان بكتابة المقادير، فقد كتب للإنسان وهو جنين في بطن أمه الأجل والرزق والعمل والشقاوة والسعادة وكذا الخواتيم التي يختم بها للإنسان؛ ولذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أخبرهم بالكتاب قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، ولذلك فعندما نسأل: هل الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: إنه ميسر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ميسر لما خلق له)، وميسر هذه تثبت له إرادة وقدرة، وتثبت أن إرادة الله فوق إرادته ومشيئة الله فوق مشيئته، وهذا الأمر يكون الحديث عنه في قضية أثر الإيمان بالقدرة والإرادة الإلهية، وأثر الإيمان بخلق الله لأفعال العباد.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر