يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
[ق:1-45].
إن الله عز وجل أرسل رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ليهدموا الباطل ويقيموا الحق، فإن الحق لا يكون قائماً.. إلا إذا هدم الباطل، أرسل الله رسله صلوات الله وسلامه عليهم.
أجمعين ليقاوموا الشر وينشروا الخير؛ فإن الخير لا يكون خيراً إلا إذا انتفى من الشر وقاومه وأبطله، فإن الاختلاط بين الخير والشر من أعظم الأمور خطراً على المخلوقين وعلى الإنسانية كلها، بل إن إبليس لعنه الله عنده هذا الاختلاط، فهو يقر بأن الله عز وجل خلقه وخلق آدم، ويقر بيوم البعث، وبأن الله هو الذي يُنظر، وهو الذي يحيي ويميت، فقال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
[الأعراف:12]، وقال:
رَبِّ فأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
[الأعراف:14]، وكل هذا لم يجعله في عداد المؤمنين، وإنما هو أكبر الكافرين بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من لبس إيمانه بظلم -وهو الشرك الأكبر- فإن إيمانه قد بطل، كما قال عز وجل عن هؤلاء:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
[يوسف:106]، وقال عز وجل عن إبراهيم:
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
[الأنعام:81-82]، فتبين بذلك أن من لبس إيمانه بالشرك الأكبر فإن إيمانه يضمحل ويزول، ولا ينفعه إقراره بوجود الله، ولا بأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً.
ومن ظلم نفسه بظلم العباد، أو من ظلم نفسه بالذنوب التي هي دون الشرك، فإنه ينقص من إيمانه وأمنه بقدر ما ظلم نفسه، وإنما يتحصل الأمن، والالتجاء التام بالإيمان الكامل الذي ليس فيه ظلم، أو الذي تاب الإنسان فيه من ظلمه لنفسه، فلقي الله سبحانه وتعالى وقد بدل الله سيئاته حسنات، سواء كان ذلك من الظلم الأكبر أو الأصغر، فإن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب إليه ورجع واستغفر وأناب، ولما كان الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده، كان الإيمان بالله مستلزماً للكفر بالطاغوت، وكانت معرفة الشر ضرورية كمعرفة الخير حتى يتجنب الإنسان الشر.
فتنوعت أسئلة الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ليصل الحق إلى الجميع، فيُعرفُ الخير عن طريق البعض، ويعرف الشر عن طريق البعض الآخر ليجتنبه الناس، وليعرفوا الحلال والواجب فيأتوه، ويعرفوا الحرام والباطل والمنكر فيجتنبوه، وحذيفة ممن انتبه إلى خطر الشر، فكان يسأل عن الشر مخافة أن يدركه؛ لأنه وجد كثيراً من الناس منصرفين عن السؤال عن الشر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا -وفي رواية لـ
وهذا الحديث الجليل رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو يبين ما جرى ويجري للناس من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، فإن الناس كانوا في جاهلية وشر.
قال حذيفة : (فأتانا الله بهذا الخير)، يعني: بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان فيها من هداية وتوحيد لله عز وجل ومعرفته ومحبته، وعبادته وحده لا شريك له، وترك ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، ودماء الجاهلية، وعصبية الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية، وربا الجاهلية، فقد تركوا ذلك كله إلى دين الحق، والحمد لله رب العالمين.
ورغم ما وقع من الفتن والمنكرات ما كان أعداء الإسلام ليصلوا إلى المسلمين، ولا كان يخطر ببالهم أن يفكروا في أذيتهم؛ لأنهم يعلمون شدة بأسهم، وفي هذا العام فتحت بلاد كثيرة، ووصل الإسلام إلى أقاصي الأرض شرقها وغربها، واستمرت الفتوحات إلى أن وصلت بحمد لله تبارك وتعالى إلى حدود فرنسا، وفتحت الأندلس، وأقيمت دولة الخلافة واحدة في الأرض كلها من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً، والحمد لله رب العالمين.
وكان الحق ظاهراً -بحمد لله تبارك وتعالى- في أكثر الأحوال، وهو بالنسبة إلى ما يأتي بعده من الشر خيرٌ لكنه خير فيه دخن لعدم الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاهتداء بهديه، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف منهم وتنكر)، ففيهم المعروف وفيهم المنكر، والمعروف موجود وظاهر، يوجد من أهل العلم من ينكره بلسانه أو بيده على حسب الشروط الشرعية والضوابط التي بينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهؤلاء من المنافقين الذين قال الله عنهم:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
[النساء:145]، فهذا من كان يعلم فعلاً أنه حرب على الإسلام وأهله، وكان غير ملبس عليه، وأما من لبس عليهم في ذلك فهم في جهنم أيضاً ولا ينجو منهم بعد دخولهم النار إلا القليل؛ لأن من استجاب لداعي الباطل غالباً ما يموت على الكفر والعياذ بالله، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصف حوضه، وأخبر بأن طوله شهر، وعرضه شهر، وماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، وعدد آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يحال بيني وبينهم بعد أن أعرفهم، فأقول: أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار، فأقول: لم؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، والعياذ بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم (فلا ينجو منهم إلا مثل همل النعم)، أي: إلا المهمل من الأنعام، وهذا هو النزر القليل ممن كان فعلاً ملبساً عليه، وما درى أنه يحارب دين الله عز وجل، فهذا مستحق أن يكون معهم، ولكنه ينجو بعد أن يؤخذ إلى باب الشمال، وهذا يدلنا على خطر متابعة الشر والباطل، وإن كان الإنسان قد يكون ملبساً عليه، لكن الواجب عليه أن يتعلم ويستبصر، ولا يجوز له أن يتابع على الباطل، فإن الله عز وجل حذر من المتابعة على الباطل؛ لأن غالب ذلك يؤدي إلى الكفر، قال عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا
[الأحزاب:64-68]، وقال عز وجل:
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ
[ص:61]، وقال سبحانه وتعالى:
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ
[الأعراف:38]، فبين سبحانه أن الأتباع يسألون مضاعفة العذاب للكبراء والرؤساء، فيضاعف الله عز وجل العذاب للفريقين، ولا ينجو منهم إلا القليل ممن مات على التوحيد، وما أبعدهم عن التوحيد؛ لأنهم أطاعوهم في معصية الله بل في الكفر والزندقة والنفاق، ومن عمل ذلك فهو على شاكلة من تبعه.
قال الله تعالى:
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
[القصص:8]، وهذا عدل من الله سبحانه؛ فإن فرعون لا يكون فرعون إلا بقارون وهامان وجنودهما، ولا يكون فرعون إلا إذا كان معه من يعضده على كفره وضلاله وزندقته وانحلاله، فناسب أن يكون من أجاب الدعاة على أبواب جهنم قذفوه فيها، ولذلك كان واجباً على الإنسان أن يحذر على نفسه من الشر والبدع قديمةً كانت أو حديثة، ومن البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى، وموالاة الكافرين والتسوية بين الإيمان والكفر، والزعم بأن الله سبحانه وتعالى يقبل ملة سوى ملة الإسلام، وتحكيم غير شرع الله عز وجل في أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم.
ولاشك أن هذا من الدعاة على أبواب جهنم، وهو -والعياذ بالله- من الكفر والنفاق الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى أبداً ولا شرعه، وهو من الشر الثاني.
والإمام: هو الخليفة إن وجد، وإلا فإن وجدت الجماعة دون وجود الخليفة فليلزم أهل العلم منهم، وليكن معهم؛ فإن هذه الأمة لا ينقطع منها الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، أو حتى تقوم الساعة)، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله حتى يقاتل آخرهم الدجال).
وقد أتت أحاديث متواترة أن الخير لا ينقطع من الأمة، وأنه لا تزال طائفة منها على الحق، فإن فقد فقدت الخلافة -كما هو واقع- فإن أهل السنة بحمد الله لا ينقطعون من الأرض كلها.
وإذا فقد أهل السنة أئمتهم من الخلفاء وجب عليهم أن يرجعوا إلى أئمتهم من العلماء، إلا أن يجد الإنسان نفسه في أرض جذعاً، ولا يجد أعواناً على الخير، فهنا سأل حذيفة فقال: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟)، واشترط شرطين: ألا يكون لهم جماعة، وألا يكون لهم إمام، فهذا الذي قد يحصل لبعض الأفراد لا أنه يقع للمسلمين ككل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (لا تزال طائفة تقاتل عن الإسلام)، (ولا تزال طائفة قائمة بأمر الله من أمته)، وإنما يقع للبعض حين لا يجد في بلد أو في مكان ما أعواناً على الخير، ولا يجد إلا دعاة على أبواب جهنم من الفرق الضالة؛ فإن لم يجد إلا أحزاب الضلالة فلا يجوز له أن ينتسب إليهم، أو يكون معهم مدعياً أنه على الخير الذي عندهم مما يظهرون من أنهم يتكلمون بألسنتنا، وأنهم من جلدتنا، وأنهم في جثمان إنس، فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه، بل لابد أن يعتزل الشر وأهله، وهذه مرتبة واجبة لا بد منها للمؤمن؛ حتى يكون بعيداً عن متابعة أهل الباطل، ولو كان ذلك بأن يعتزل في الصحاري، وأن يعض على أصل شجرة فيموت وهو عاض عليه خير له من أن يتبع واحداً منهم.
إننا نحتاج إلى معرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الخير والشر حتى لا نقع فريسة للدعاة على أبواب جهنم، وحتى نعرف أن من سبل نجاتنا التقارب مع أهل الحق، ومن قوة الرابطة بين المؤمنين ومن وحدتهم ومن بيان ما يلزمهم: أن يكونوا على منهج الحق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أئمة العلم أجمعوا على لزوم اتباع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان لما شهد القرآن لهم بذلك، كما قال عز وجل:
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا
[البقرة:137]، وقال عز وجل:
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
[التوبة:117]، وقال عز وجل:
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه ُ
التوبة:100].
وهذا المجمع عليه بين أهل العلم من لزوم اجتماع الناس على ما كانت عليه الجماعة الأولى هو سبب النجاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هم؟ قال: هم الجماعة)، وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وهي صحيحة المعنى بلا شك.
نسأل الله أن يعيذنا من الشر، وأن يوفقنا للخير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد:
فإن اعتزال الشر درجات:
الدرجة الأولى: اعتزال الشر نفسه، بألا يأتيه المسلم، وأعظم الشر: هو الشرك بالله عز وجل بأنواعه المختلفة التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، والمعاصي من الكبائر الظاهرة والباطنة، والبدع الكبيرة والصغيرة، كل ذلك يعتزله المؤمن ويبتعد عنه، فيتوب إلى الله عز وجل من ذلك، وهذا الذي أمر الله سبحانه وتعالى به لما قال:
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[النور:31]، فالتوبة إلى الله هي: ترك الشر واعتزاله؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة: (الهجرة أن تهجر ما نهاك الله عنه)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: فالهجرة أن تهجر السوء وتتركه فلا تفعله، وألا تعاون عليه، وألا تشارك فيه، وألا تكون جندياً من جنود الشر.
الدرجة الثانية: اعتزال أهل الشر، بألا يجلس معهم وهم يخوضون فيه حتى ولو لم يشاركهم، فإن الله عز وجل يقول في كتابه:
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
[النساء:140]، وقال عز وجل:
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
[الأنعام:68]، فلا يجوز للإنسان أن يشهد الشر إلا بغرض شرعي صحيح كأن ينكر عليهم، فإما أن يزول عنه، وإما أن يزيله، أو يسعى في إزالته، فأما من كان باقياً في مكان الشر ساكتاً عنه فهو من أهل الشر وإن زعم أنه لم يرتكبه؛ فإن الإنسان المسلم لا يجوز له أن يبقى في بلاد يُجهر فيها بمعاصي الله، ويسب فيها السلف. كما قال الإمام مالك : لا يحل لأحد أن يبقى في أرض يسب فيها السلف، فكيف إذا كان يسب فيها دين الله، أو يسب فيها الله سبحانه، ويستهزأ بآياته، ويسخر من العقائد التي أنزلها في كتابه، وجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عقائد الغيب، فلا يجوز أن يقيم الإنسان مع أهل الشر إلا أن يكون له غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، أو إنقاذ مسلم من هلكة، فإن وجد أنه لا فائدة لدين الله في بقائه معهم فليرحل عنهم وليعتزلهم، وإن لم يجد إلا أن يعتزل في الصحاري والجبال، فهذا خير له من أن يكون مقيماً للأكل والشرب وسط أهل الباطل والضلال ساكتاً على شرهم، راضياً بدنياهم.
فلا بد أن يترك الإنسان أصدقاء وقرناء السوء، فلا يصاحبهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وقال عز وجل:
الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
[الزخرف:67]، فالواجب على المؤمن أن يبحث عن قرناء الخير، ويعتزل قرناء الشر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك - أي: يعطيك مجاناً- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، فإن لم يجد الإنسان بداً من أن يكون مع أهل السوء، فإما أن يأمرهم وينهاهم، وإما أن يهاجر في سبيل الله، وكما تهاجر نفسه يهاجر بدنه، ولا يجوز له أن يبقى معيناً على الباطل أو ساكتاً عنه، قال الله عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
[النساء:97].
ولا بد للإنسان أن يكون واضحاً في انتمائه لأهل الخير، فيبتعد عن أهل الشر، ويتبرأ من أفعالهم، ويتبرأ منهم إذا بلغوا درجة الكفر والنفاق.
والشرك والباطل يدخل إلى الأمم من اختلاط الخير بالشر، فقوم نوح ظهر فيهم الشرك بسبب أمرين: الأول أمر من الخير وهو حب الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، والثاني: البدعة الضلالة من اتخاذ التماثيل تذكاراً لهم، ثم كان بعد ذلك عبادتها من دون الله حباً لهم، وعلى أنهم وسطاء بينهم وبين الله عز وجل، وهكذا كانت عبادة اللات والعزى على أنها ملائكة الله التي تشفع لهم عند ربهم، وهم يتقربون بعبادتها إلى الله سبحانه وتعالى، فقالوا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
[الزمر:3].
فظهر بذلك أنهم يريدون التقرب إلى الله ولكن ما نفعهم ذلك، فتبين أن ما يدعو إليه الشيطان من الشرك يكون عن طريق النفاق الذي يظهر أصحابه الشهادتين، ولكنهم يدعون إلى أنواع الكفر والضلال، وكذا أنواع الشرك كعبادة القبور فإنه يسول لهم أن في هذا حباً للصالحين، وحباً لأهل البيت، وهذا حق لاشك فيه، كما أن عبادة غير الله سبحانه وتعالى شر لاشك فيه، وكذلك يزين الشيطان للكثيرين الوقوع في البدع بزعم حب التقرب إلى الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا جابه إنسان واحداً من أهل البدع وقال له: كيف تقع في هذه البدعة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم؟ زعم أنك لا تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا تحب أهل البيت، أو أنك تكره الصالحين وتعاديهم، فهكذا يكون اختلاط الخير بالشر سبباً لضلال الإنسان؛ فإن الشيطان لا بد أن يضع في السم شيئاً من العسل وإلا ما استساغ مرارة السم أحد.
نسأل الله أن يعافي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظ عليهم الإسلام نقياً صافياً حتى يلقوا ربهم سبحانه وتعالى وهو راض عنهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في الهند وبورما وكشمير والفلبين وأرتيريا ومصر والجزائر، اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا هداة مهتدين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أنزل بأعداء المسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا تجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، اللهم فك شرهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر