www.islamweb.net/ar/

الرحمة للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • الرحمة في قلوب الخلائق عطية من الله الرحيم، ولولاها لفسدت حياة الناس؛ لأن كل إنسان يريد أن يكون وحده ذا ملك ومال وما إلى ذلك، ولولا الرحمة لما استعدت الدجاجة الضعيفة للموت دون صغارها! ولذلك من لا يرحم الناس، فلا يحرص على هدايتهم، وجلب المنافع لهم، يكون بغيضاً عندهم، ولو كان من أقواهم بدناً، وأكثرهم مالاً، وأفصحهم لساناً.

    تحقيق العبودية

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    أما بعد:

    قال ابن القيم رحمه الله: غنى القلب: ما يناسبه من تحققه بالعبودية المحضة، التي هي أعظم خلعة تخلع عليه..، وأعظم هبة توهب له..، وأعظم عطية تعطى للعبد: وهي أن يتحقق قلبه بالعبودية المحضة لله عز وجل، فيستغني حينئذٍ بما توجبه له هذه العبودية من المعرفة الخاصة -أي: بالله عز وجل- عن علمه بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته، والمحبة الناصحة الخالصة: أن يكون محباً صادق المحبة، ناصحاً في محبته، مخلصاً لها من كل شوائبها، يحب الله عز وجل من كل قلبه.

    وفي حديث ضعيف: أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتى المدينة قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وهذا المعنى ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، فأول وصية في التوراة، وأول وصية قالها المسيح عليه السلام: الرب إلهنا، رب واحد، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وفكرك.

    يقول ابن القيم : تستغني حينئذٍ بما توجبه هذه العبودية من المعرفة الخاصة، والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل من آثار الصفات المقدسة الإلهية، فإذا استحضر -مثلاً- اسمه سبحانه وتعالى السميع، وصفة السمع، واستحضر استماع الأصوات كلها له عز وجل كصوت واحد وأنه يسمعها جميعها من أدناها إلى أقصاها على اختلاف اللغات، وتباين الألسنة، وتفاوت الحاجات، وهو سبحانه وتعالى يسمع ما خفي منها وما ظهر، وما أسر وما أعلن فإن ذلك يجعله معظماً لربه سبحانه وتعالى، ويجعله مراقباً له في كلامه، ويلتفت إلى كل كلمة يقولها؛ لأنه يستحضر أن الله عز وجل يسمعها، ويستحضر كذلك أنه سبحانه وتعالى سميع الدعاء، كما قال إبراهيم عليه السلام منكراً على قومه عبادة من لا يسمع الدعاء: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء:72].

    فيستحضر في نفسه كم مرة دعا الله عز وجل فسمع الله دعاءه، واستجاب له، وفرج كربه، وقضى حاجته؟ ويوقن بأنه إن لم ير له إجابة فهو سبحانه وتعالى إما قد صرف عنه من السوء مثلها، وإما قد ادخر له عنده عز وجل من الفضل ما يتمنى يوم القيامة أنه لم يكن استجيب له شيء من الدعاء في الدنيا؛ لما يرى من الفضل، وهكذا في كل الصفات يحصل له من آثار شهود ملكوت السماوات والأرض، فإن الله عز وجل هو المليك المقتدر، فيشهد القدرة والعزة، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي أقدر العباد على ما بأيديهم، وأنهم لا يقدرون على شيء، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فهو قدير على ذوات العباد وقلوبهم وأحوالهم وأفعالهم الاضطرارية والاختيارية، وهو سبحانه وتعالى قادر على الإحياء والإماتة، والإسعاد والإشقاء، وتفريج الكربات، فهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء.

    تأملات في آثار صفة الرحمة

    ومن يتدبر آثار الصفات في الكون، ويتأمل صفة الرحمة، وأن رحمته سبحانه وتعالى قد وسعت كل شيء، ويتدبر الرحمة المخلوقة التي يرى آثارها في هذا الوجود، فمثلاً: يرى رحمة الدابة التي ترفع حافرها عن ولدها، ويتدبر رحمة الأم لأولادها، فمثلاً: تجد البقرة في حنان عجيب على ولدها بعد ولادتها، وتأمل كل أم آخذة ابنها تحضنه وتحميه، بل ومستعدة أن تعمل كل ما تستطيع عمله لأجل وليدها، وتأمل كيف أن كل أب أيضاً عنده رحمة عجيبة بأبنائه، ثم تخيل أن كل الرحمات هذه التي بين الوحش والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، وبين البشر منذ خلق آدم إلى يوم القيامة، وما سوف يأتي من رحمة في هذه الأرض كلها، كل ذلك أجزاء من الرحمة الواحدة التي أنزلها الله!! فالله عز وجل جعل هذه الرحمة المخلوقة بين الخلق في هذه الحياة ليتراحموا بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل الرحمة مائة جزء، فأنزل منها جزءاً، فبها تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين ليوم القيامة)، فكم من الرحمة مدخرةً! بل كيف بالرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، أما هذه الرحمة المخلوقة فهي من آثار اسمه الرحمن، وتصور الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وكيف أنه رحمهم حتى أخذ بقلوبهم إليه، وجعلهم يحبونه، وجعل في قلوبهم من المعرفة والأنس به والشوق إليه ما لا يدركون معه فضلاً أعلى من ذلك؟ وانظر إلى رحمة الله عز وجل بإرسال الرسل، وما أنعم به عليهم من الصفات الطيبة، وجعلهم رحمة للعالمين.

    وتأمل في قول جبريل عليه السلام لمريم وهو يتكلم عن عيسى عليه السلام كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، فالمسيح عليه السلام رحمة عظيمة جداً رحم الله عز وجل بها أهل زمانه من القساوة التي كانوا فيها، ومن الغلظة والغضب الذي حل على بني إسرائيل، وعدم استجابتهم ليحيى عليه السلام وقتلهم إياه، فهم الذين تسببوا في قتل يحيى -كما يذكرون في قصصهم- من أجل امرأة زانية.

    وتأمل كيف أن سيدنا يحيى عليه السلام صاحب الحنان والتقوى والنقاء يلقى في السجن مدة طويلة -وهو العبد الحصور التقي البر- من أجل امرأة بغي، ويقتل من أجلها بعد ذلك! فكان سيدنا عيسى عليه السلام رحمة للعالمين، ورحمة للأرض مدة طويلة جداً، وقروناً متعددة، ولم يزل عليه السلام رحمة؛ وذلك بسبب بركة دعوته إلى الإسلام عندما ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويخلص الأرض من شر المسيح الدجال ، ويخلص الأرض من شر أتباعه اليهود، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فمن لم يسلم في زمنه قتل، ولا يقبل الجزية، وترد البركة إلى الأرض، ويهلك الله بدعوته يأجوج ومأجوج، ويقال للأرض: ردي بركتك، وأنبتي ثمرتك، وهذا الخير العميم يكون بتطبيقه لشرع الله سبحانه وتعالى في زمنه.

    رحمة الله للمسلم والكافر بإرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم

    وتأمل رحمة الله عز وجل بأهل الأرض بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال الله عز وجل فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمن وللكافر، فهو رحمة للمؤمن لأنه يجد ما لا يمكن أن يوصف بالقرب من الله عز وجل، والعبودية له سبحانه وتعالى، وهذه الشريعة العظيمة هي أعظم نعمة ينعم بها على مخلوق، ورحمة للكافر لأن الكفرة يتعذبون بمخالفتهم الشرع، ولذلك فهم يشقون أعظم شقاء في دنياهم لعدم اختيارهم الإسلام، لكنهم عاشوا في ظله في عدالة وإنصاف، وانظر إلى البشر يوم أن تسلط عليهم أهل الإسلام، وكيف حصل لهم الخير العميم؛ ولهذا أسلم أكثر هؤلاء الكفرة، ودخلوا في دين الله أفواجاً، ولم تقهر هذه الأمم التي غلبت على الإسلام، وإنما كان هذا الدين زوالاً للحجب عنها، ولذلك فقد أسلمت عامة هذه الشعوب، وظلت مئات السنين مسلمة، فلما كان يومنا هذا بدأ الكفار يزعزعونهم عن الإسلام بكل وسيلة، حتى إنه يقتل الملايين منهم والناس لا تتزعزع عن الإسلام ولله الحمد إلا ما ندر، فالذي حصل مثلاً في الدول الشيوعية من مذابح بالملايين قتل فيها المسلمون وبعد كل هذا نجد المسلمين اليوم في هذه الدول ما زالوا على دينهم.. آية من آيات الله، ولذا نقول: إن الرسول رحمة للعالم كله.

    أمثلة لجرائم الغرب في حق البشرية

    ولما تسلط الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين على البشر قتلوا الكثير منهم، ودمروا الأرض وأبادوا خيراتها، ففي الحرب العالمية الثانية قتل خمسة وخمسون مليون إنسان، وهذه قضية فوق الطاقة، وفوق التخيل، ألا ترى أن المسلمين في كل حروبهم التي خاضوها عبر التاريخ لم يبلغ عدد الذين قتلوا من الكفرة في كل الفتوحات العظيمة التي سببت الخير للأرض إلا بضعة مئات من الألوف عبر كل العصور، فأكثر المعارك قتل فيها قرابة ثلاثين ألف كافر فيما فر الباقي واكتب بعد ذلك المواقع التي هي أقل من ذلك، بضعة مئات من الألوف لا أكثر، فلما سيطر الغرب قتل في خمس سنين فقط خمسة وخمسون مليون إنسان، ففي يوم واحد قتلوا مئات من الألوف في هيروشيما ونجازاكي، وكل هذا حتى يكون الملك للأمريكان، والعياذ بالله.

    وقد

    كان يراد قبل هذا الملك لـهتلر ، ثم للأمريكان، والروس لما أرادوا أن يعملوا الثورة البلشفية قتلوا ملايين البشر في كل البلدان التي أخذوها الإسلامية منها والآسيوية والأوربية، سبحانك ربي! فهذا شقاء عجيب! وانظروا إلى اليهود اليوم فبسيطرتهم على العالم سببوا شقاءً لشعوب الأرض إلى حدٍ لا يتصور، هذا حتى تعلم أن ربنا عز وجل جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فيجب أن تتأمل آثار هذه الرحمة، وتستشعر اسم الله عز وجل الرحيم.

    وتأمل أيضاً صفة الرحمة الخاصة بالخلق، فلا تكاد تذكر بجوار صفة الرحمن سبحانه، وما يعطي خلقه من رزق ومطر ونبات وغيرها من آثار اسمه الرحمن سبحانه وتعالى.

    وكذا تأمل اسم الرحمن في ضوء قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] وفكر معي، فلو أننا لا نستطيع الكلام والتعبير عما بداخلنا فكيف سيكون حالنا؟ هل كنا سنعرف كيف نقضي مصالحنا؟ أبداً، وانظروا إلى مركز عيوب الكلام في المستشفى الجامعي حتى تعرفوا حجم الصدمة التي نزلت بالأمهات والآباء الذين أولادهم لا يستطيعون الكلام وكم يقاسون في سبيل ذلك بلاءً عظيماً، فلنوقن بأن آباءنا هم من علمونا الكلام، نعم فقد كانوا يتكلمون أمامنا لكن كل الناس البكم أيضاً أمهاتهم وآباؤهم يتكلمون أمامهم، لكننا الذين منّ علينا ربنا بالقدرة على الكلام، فهل نستطيع أن نغير عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4]، من الرحمة العامة لكل الخلق إلى رحمة الله عز وجل الخاصة ببعض عباده بتعليم القرآن أو ما تيسر منه؟ لا؛ لأن انتشار القرآن رحمة للخلق جميعاً مؤمنهم وكافرهم، لذا قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن:1-2]، فاسم الرحمن دال على الرحمة العامة، واسم الرحيم دال على الرحمة الخاصة الدينية المتعلقة بالرحمة الأخروية، فكل ما يحصل للقلب جراء تدبره آثار الصفات، وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات لكل صفة على الانفراد، ومجموعها قائمة بالذات الإلهية، يساعد على استغناء هذا القلب.

    القلب الحي والقلب الميت

    قال الله سبحانه: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17]، فقد شبه الله سبحانه وتعالى الوحي النازل من عنده بالماء النازل على الأودية فيتسع كل وادٍ على قدر حجمه من المطر النازل، فالقلب كهذه الأودية، والماء النازل من السماء كالوحي الداخل إلى القلوب، فالقلوب الكبيرة بكبرها والصغيرة بصغرها، ومعنى بقدرها؟ يعني: أن كل واحد له نصيب بحسب حجمه، فهناك قلوب كبيرة امتلأت إيماناً وعلماً وحكمة، وهناك قلوب صغيرة لا تتسع لشيء من ذلك، وهناك أراضٍ هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فلا تنتفع بالقرآن العظيم، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره إلى مولاه استغنت النفس غنىً يناسبها، وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها، فتصبح باردة ضعيفة الانفعال، أو عديمة الانفعال، كشيء جاف ناشف متثلج، وهذا مثال جيد يعني: أن الناس الذين لا يتحركون ولا ينفعلون من أجل الإسلام، ولا من أجل نصرته، ولا العمل له، فهؤلاء يعيشون في ثلاجة غرق الدنيا، فهم في برودة لعدم الحركة، تائهون في ظلمات الكسل، وعدم الحركة توجب العجز المذموم، وتوجب الثقل، وتوجب الإخلاد إلى الأرض، وتذهب الطمأنينة عن النفس، فلا توفر لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر والنواهي، أي: في اجتناب الزواجر، وفي فعل الأوامر، فالنفس التي هي عديمة الحركة دائماً تطلب صحبة عباد الشهوات، وصاحبها يفكر دوماً في كسب المال، أو مضاجعة الشهوات الأخرى، كالرياسة والملك والنساء، فلا يفكر أن يصحب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يستحضر صحبة الملأ الأعلى والملائكة وصفاتهم الجميلة، وكمالهم الذي جعله ربنا فيهم ليكونوا قدوة للبشر.

    ولو سمعت سيرة من تقدم لارتحت وتنعمت في الدنيا إن عملت بعملهم، فكيف وقد صحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأفضل منهم جميعاً، ولذا كان يقول: (اللهم في الرفيق الأعلى)، فقد صارت لهذه النفس المؤمنة حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، أما النفس التي هي عديمة الحركة فقد صارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها، بعد أن كانت برودتها في الأوامر الشرعية، فهي لا تتحرك، فليس الشرع هو الدافع والمحرك الحقيقي لها، وإنما الدافع لحركتها هو الشهوات؛ لأنها بحاجةٍ إليها كحاجة السيارة إلى البنزين، فهذه النفس مقصودها من حركتها قضاء حاجتها من المطعم والمشرب ونحوه لكي تستمر في الحياة؛ لأنها أصلاً لا تعيش إلا لأجلها في نظرها، فلذا صارت البرودة في الشهوات، وفي الحظوظ النفسية التي هي الكلام وسط الناس بالرعونة التي تأتي بالقرارات الغبية، فمرة مشرقة، ومرة مغربة لا يعرف الصواب منها من الخطأ، ولو أنه يفكر ويتدبر في الذي دعاه لاختيار كذا، وهل أريدها لنفسي أم لربي؟ فأكثر الناس يتخذون قراراتهم بدون تركيز، وحياتهم كلها على هذا المنوال، وفي الحقيقة فكثير منا في حياته على هذا النحو، فلا نفكر في نفوسنا ولا نفتش الدوافع التي جعلتنا نفعل هذا؟ فتتخذ قرارات رعناء، فتكون سبباً مؤثراً في رعونة النفس وبرودتها، وبهذه القرارات أيضاً تكون النفس حاملة لليبوسة والجفاف والقسوة والغلظة المضادة للينها وسرعة انفعالها لأجل دينها، وقبولها له، فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، لا تتأثر، وليس عندها قابلية للتأثر والانفعال لأوامر الله وللمواعظ التي توعظ بها، والقرآن يعظنا فهل نتأثر به أم لا؟ وعذرنا القسوة والغفلة.

    قسوة القلوب

    قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13]، فمن ضمن آثار القسوة واليبوسة الطارئةِ على القلوب: تحريف الكلم عن مواضعه، وهل أنه يحرف الدين كما يريد؟ لا، إذاً: فهل المعنى أن يأخذ مصحفاً ويحذف آيةً ويضع غيرها؟ لا، وإنما يقول: هذا من الدين ولا يكون جاهلاً، كالطواف حول القبور، والموالد، بل إن عندهم من الدين أن تسمع كلاماً ولو كان باطلاً مخالفاً لشرع الله، فالدين عندهم أننا نحب اليهود والنصارى، وهم يذبحون إخواننا في كل مكان، فهل هذا هو الدين والعياذ بالله؟! أليس يوم القيامة يعادي الخليل خليله، والصديق صديقه بسبب إجرامهم؟ يقول الله تعالى مصوراً حالهم يومئذ: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فهذا حالهم والعياذ بالله.

    فنقول: ليس الدين أن يستدل مستدل بالآية على أن فلاناً أو علاناً يكون حبيبه يوم القيامة، وآخر يقول: فلان صديقي يوم القيامة وهو من طواغيت الكفار، فهذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه.

    إن القسوة تحصل للإنسان حين يسمع آيات الله عز وجل ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها.

    فنقول: إن سرعة الانفعال والقبول للحق بأن يقبل ويتأثر، تجد إنساناً تنصحه مرةً فيتعظ ويتأثر، وآخر تنصحه عدة مرات فلا يتأثر لقسوة قلبه، فتصبح عنده برودة، وعدم حركة في الأوامر والنواهي، ولا يقبل النصيحة لقسوة وغلظة في قلبه، ومثل هذا من تجده قاسٍ على المؤمنين لا يرحمهم، وهذا نتيجة لقسوة القلب، والعياذ بالله.

    ولو أن إنساناً يعذب حيواناً لأصبحت عنده قسوة قلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، فالله عز وجل يكره القلب القاسي، ويعذب أصحاب القلوب القاسية، فكيف بمن لا يعبأ بآلام ملايين المسلمين؟!

    أمثلة للرحمة وآثار القسوة

    وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الرحمة في امرأة كافرة! جعلت تبكي وتبحث عن صبيٍ لها حتى وجدته فألصقته ببطنها وألقمته ثديها، فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الطائر التي فصلت عن ولدها، فقال: (من فجع هذه بولدها؟! ردوا عليها ولدها)، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم التفرقة في بيع الإماء وأولادهن حتى لو كانوا كفرة؛ لأن هناك رحمة عامة، فكل هذه المشاهد هي ثمرات الرقة والرفق واللين لزوال القسوة، ولذلك لو أن بعض الناس ينتسبون للدين وكل همهم الطعن في الآخرين، ويصبح هذا هو الالتزام عندهم، لكانوا بعيدين عن الدين، فليست هذه هي الطاعة لربنا، تحت اسم محاربة أهل البدع من غير مراعاة لخطأ، ولا لتأويل، ولا لجهل، ولا لأي عذرٍ، كالخوارج، فإنك تجد عندهم قسوة عجيبة، فالغلاة في التكفير تجد عندهم قسوة ليست بقليلة، وكل نقطة تكفير فأصلها القسوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، يعني بذلك: الخوارج.

    فمناهج الانحراف كلها التي ليس فيها رقة على المؤمنين، ولا رفق بهم، ولا التماس الأعذار لهم ما أمكن، تشكل حالة من علامات القسوة.

    التكفير والتبديع وضوابط كلٍ منهما

    والتحذير من المنكر والبدع واجب، أولاً: لابد من وجود الموازنة بضوابط شرعية منها: التماس الأعذار في التعييب، فهناك فرق بين أن أقول فلان الفلاني مبتدع، وبين قولي: كلامه بدعة، أما صاحبها فنقول: هل استوفت الشروط فيه أم لا؟ وهل أقيمت عليه الحجة؟ هل وصله العلم؟ هل عنده خطأ؟ هل عنده تأويل؟ هل عنده إقرار؟ فننظر فيه من حيث شروط وموانع التبديع والتكفير.

    والقضية هذه مذكورة في كلام السلف رضوان الله عليهم، من حيث الطعن في الآخرين بما فيهم أهل البدع، وسنجد الكلام كثير جداً في تعليم الناس الكتاب والسنة، وانظر المنقول عن الأئمة الأربعة، فالإمام أحمد من أئمة الجرح والتعديل، فهل الجرح والتعديل لم ينقل عنه أم أن مذهبه كامل وكذلك العقيدة الصحيحة؟

    كل هذا نقل عنه، حتى لا نأخذ طرفاً من هديهم ونترك بقيته.

    فالموازنة مهمة جداً، فمن كان عنده خير وشر، فإننا نكره الشر الذي عنده، ونحب الخير الذي فيه، فلا ننظر له من وجه واحد، فهذه المناهج التي فيها رعونة في التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل، وشغل الناس بهذه الأمور دون غيرها، وعدم تحقيق التوازن في العطاء، علامة من علامات القسوة الشديدة، فإن القلوب إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال، بعيدة القبول، لا تكاد تنقاد.

    حياة القلوب بسقايتها من معين الوحي

    فإذا سقيت القلوب بماء الحياة الذي أنزله الله عز وجل على قلوب أنبيائه، وجعلها قراراً ومعيناً له؛ لأن قلوب الأنبياء مستقر فيها النور، ومستقر فيها ماء الحياة: وهو الوحي، قال الله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، فجعلها معيناً ينبع منها الخير، فقلوب الأنبياء مدرسة لمن أراد أن يأخذ منها خيراً وحكمةً وهدياً، فاقترب منهم قليلاً حتى تنال منها معاني الإيمان التي فيها، ففاض منها -أي: من هذه العيون التي هي قلوب الأنبياء- على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم، فانقادت حينئذ قلوب الأولياء أتباع الأنبياء بزمام المحبة إلى مولاها الحق، أو انقادت النفس بزمام المحبة إلى مولاها الحق، مؤدية لحقوقه، قائمة بأوامره، راضية عنه مرضية له؛ لكمال طمأنينتها، أو مرضية له بكمال طمأنينتها قال سبحانه: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].

    غنى القلوب باعتمادها على ربها

    قال ابن القيم : فقوله أي الإمام الهروي في الدرجة الأولى وهي غنى القلب: إن سلامته من السبب أي: من الفقر إلى السبب وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به. فمثلاً لو أن أحدهم كان عنده رصيد في البنك، فصار مطمئناً لذلك ومعتمداً على ماله الذي في البنك فهل سيكون في نفس الدرجة من الطمأنينة إن لم تتوفر له هذه الأسباب؟

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)، فلماذا اختار الطيور؟ فهذا المثال مهم جداً؛ لأن الطيور لا تدخر أبداً بعكس النمل وغيره، لكن الطيور تنام قريرة العين كل ليلة، وليس عندها ثلاجة أو مخزن تخزن فيه شيئاً من الطعام، ومع ذلك تنام مطمئنة تمام الطمأنينة.

    تخيل أنت لو أن عندك في البيت ثلاجة فارغة، ولا يوجد لديك مخزون رز أو سكر، فهل تستطيع النوم وأنت مرتاح هكذا، ولا تعلم ماذا في الغد؟

    فالطيور ليست مخبئة شيئاً لغدٍ، ومع ذلك فستصحو الصبح، وستسبح الله، وستنطلق إلى الذي يرزقها كل يوم، فالسلامة ليست موضوعاً سهلاً والله على صغرها، فلماذا يبقى المرء أحياناً مطمئناً؟ لأنه ترك لأولاده شيئاً مثل كل واحد يريد أن يطمئن على مستقبل أولاده، ونحن نقول: ليس الادخار حراماً، لكن المشكلة كلها في أننا لا نسلم من الاعتماد على الأسباب حين نأخذ بها؟ فمن كان معتمداً على سبب غناه، واثقاً به، لم يطلق عليه اسم الغني؛ لأنه فقير إلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إلا إذا سلم من علة الاعتماد على السبب واعتمد على المسبب استغناء بعد الوقوف على رحمته وحكمته، وبعد مشاهدة أنه الرحمن الرحيم، وتصرفه وحسن تدبيره سبحانه وتعالى، فبذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله سبحانه، فمن كملت له السلامة من علة الأسباب والمنازعة للحكم بالاستسلام له، والمسالمة أي: بالانقياد لحكمه؛ حصل الغنى لقلبه، فإذا وقف العبد على حسن تدبيره ورحمته وحكمته واستغنى القلب به، لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف، وإن لم تنضم إليه المسالمة للحكم: وهي الانقياد له، فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، يعني: أنك الآن ما فوضت وتركت الأمور لربنا، بل تقول: أنا سأدبر لنفسي! وأختار هذا، ولا اختار هذا، أنا أريد هذه ولا أريد هذه، أريدها كذا ولا أريدها كذا، هذا لا بأس به في الأمور الدنيوية، لكن المفروض في الأمر الشرعي أن تريد ما شرعه ربنا سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:44-45]، فرعونة الاختيار أن الإنسان يختار لنفسه أشياء عميقة جداً، فيتخير من أوامر الله عز وجل ما يوافق هواه، ويقول: هذا الذي يريده ربنا، ويتشكك في دين الله قائلاً: لماذا الله يريد هذه ولا يريد هذه؟ فطالما أنه يتضايق من أمر ربنا وقدره فسيكون الله قد أوجب عليه أن يضيق صدره بالمحرمات والمعاصي، أليس كذلك؟

    أوجه المحرمات والمعاصي

    إن المحرمات والمعاصي لها وجهان ننظر إليها منهما: الكفر والمكر، فوجه يضيق بالمنهي عنه؛ لأن الله حرمه، ووجه آخر ينظر إليه بأنه حكمه وقدره، وأنه كله في خوض الأمر الرباني، أما أصحاب الوجه الأول فقد أمر الله رسوله ألا يحزن عليهم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، وهذه الآية عجيبة الشأن، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك يضيق صدره بالإيذاء، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:97-99]، لكن ربنا نهاه عن هذا الضيق، وفطرة الإنسان بأنه يضيق وتأتيه الخواطر، والأنبياء بشر من البشر، فليسوا منزهين عن هذه الخواطر، مثلما حدث لسيدنا موسى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67]، ثم بعدها جاء التثبيت من الله سبحانه وتعالى، وزال ذلك الخوف، وتكلم بعد ذلك بالكلام العظيم الرائع، وهنا أخبر ربنا عز وجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضيق صدره بما يقولون حرصاً على إيمانهم، لكن ربنا عز وجل يقول: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، فمن الذي يستطيع أن يسمع إذاً تخطيطات الأعداء، وإعداداتهم، ومكرهم، ويصبح فعلاً يمتثل: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، ويعلم أن الكفار إنما هم في لعب، كما قال سبحانه: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف:83]؟ فتأمل هذه اللطيفة وتخيل هذا العالم الذي لا يزال يمكر بالإسلام وأهله، ويخططون في الشرق وفي الغرب للفتك بأهل الإسلام، فقال الله: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا [الزخرف:83]، وكل هذا بسبب الاستسلام للحكم وهو: أن تشهد أن الله عز وجل أمرك أن تحب ما شرع، وتكره ما يخالف الشرع، ولكن في نفس الوقت تشهد قضاءه وقدره فترضى بتدبيره سبحانه وتعالى، وتعلم أن ما يقدره على بعض العباد من المخالفة للشرع فإنه يجعل من ورائه خيراً كثيراً، فترضى عن الله عز وجل في كل ما فعل، حتى خلقه للشر وليس بشر، فالخير كله في يديه، والشر ليس إليه، فليس الشر من صفته، ولا من فعله، نعم خلق الله الشر ولكنه قدر من وراء وجود الشر من أنواع الخير ما لم يكن محتملاً وجوده إلا بوجود هذا الشر، فلأجل ذلك قدر الله هذا الأمر المكروه له عز وجل، والمكروه لعباد الله المؤمنين، ولكنه يعطيهم من أنواع العبودية ومن أنواع الخيرات ما لا يمكن أن تحصل لهم إلا بواسطة هذا الأمر المؤلم من الشر، كالمنازعة بالحكم إلى حكم آخر، فأحياناً تجد الواحد قد لا يعمل حساباً لمثل هذا، وأنت إن ابتليت قد لا تطمئن لهذا، لكن لا تعترض على هذا القدر من المرض الذي حصل لك ونحوه من البلاء، فالذي حصل فيه خير كثير لك، ولا تطلب البلاء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سلوا الله العافية)، وقال: (اللهم إني أسألك اليقين والعافية).

    فهل تتصور أنه لن يأتيك بلاء؟ لا، فسوف يأتيك بلاء لا تطلبه أنت، لكنه سوف يأتيك لوحده بإرادة الله عز وجل وبتقديره، فاصبر، وقبل هذا لا تطلبه، لكن لا تقل إن نزل بك بلاء: أنا متضايق من هذا، وكأنك تريد أن يجعل لك الاختيار وتقول: أنا أريد هذه ولا أريد هذه، فيصبح عند الإنسان سخط وجزع بدرجة ما، وهذا هو المذموم، وهذا سبب شقاء الإنسان، فلو أن الإنسان ما غضب أن الله قدر هذا لرأى من وراء الألم هذا أنواع خير كثيرة جداً، كما قال ابن مسعود : حبذا المكروهان: الموت والفقر والغنى.

    وما أظنه يعني إلا هذين الأمرين المطلوبين عنده: الموت والفقر والله أعلم؛ لأن الموت يستريح به من هم الدنيا، وهو لا يريد أصلاً؛ لأنه فوض أمره لربنا سبحانه وتعالى، (اللهم أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خير لي)، ويعوذ بالله من الفقر إلى العباد، ولو لم يكن معه إلا قليل من المال يستفيد منه لكان أحب إليه من أن يحتاج إلى أحد فلا يلبى.

    تسليم الأمر لله من كمال الإيمان

    يقول: ومن كان فقيراً إلى شيء لم يرده الله ولم يشرعه لم يطلق عليه اسم الغني. فلا يتم الغنى إلا بتدبير الله سبحانه لعبده، وبالمسالمة لحكمه، والوقوف على حسن تدبيره، فاشهد فضل الله عليك، وأن الله يمكر لك، فهو يدبر لعبده المؤمن ما لا يحسن العبد، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر: وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه وتعالى، فمسالمة الحكم تأتي بترك المنازعة لله والخلاص من الخصومة مع الخلق، فإن منازعة الخلق على الحظوظ الدنيوية والتقاتل معهم عليها دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة، وهي: الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إلى حظ من الحظوظ العاجلة يسخط ويخاصم الخلق عليه فإنه لا يطلق عليه اسم الغريب في الدنيا حتى يسلم الخلق من خصومته؛ لكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظه، استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه، فتكون مخاصمته لله وبالله، كما في الحديث: (بك خاصمت وإليك حاكمت)، فتكون محاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه، فيرد خصمه في المحاكمة إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه؛ فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه، وانتصر لنفسه، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: [ ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ]، وهذا لكمال عبوديته، ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أمر شرعاً أن يكفر بالطاغوت، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده، يعني: في الواقع الموجود إذا حكم الله بأمر فاجعل لهذا الأمر في قلبك مكاناً، فأنت إذا ابتليت بأنك تريد أن تختار فهل تتحاكم للشرع أو لغيره؟ فالأمر نافذ وأمر الله واحد ولا تحتاج معه إلى تكرار، فإذا أمر فنفذ أمره سبحانه وتعالى وحسب، قال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ [القمر:50]، أي: مرة واحدة ليست تتكرر، ويمكنك أن تقول: افعلوا القضية الفلانية أو لا تفعلوها، فإن لم تعمل أتيت أنت وعملتها بيدك فلا تصلح معك، فتحتاج إلى أن تعملها وتجرب مرة ثانية، وتعيد المحاولة، لكن أمر الله مرة واحدة، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]، ولذلك إذا أخر حاجة معينة فإنما هو لحكمته وإمهاله للكفرة والظلمة، ولحلمه سبحانه وتعالى ولعدله، ولأن يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج:47]، وقد تأتي لحظة تنظر وفي طرفة عين ينتهي كل شيء كلمح بالبصر، لكننا ننسى تلك اللحظات، وننسى الطريق الطويل لهلاك الأمم، فعندما جاءت لحظة قوم فرعون غرقوا فيها، وما نفعه ما قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ [يونس:90]، لكن هذه الأحداث دائماً تنسى! فكل ملوك الأرض قبل هؤلاء الموجودين أين ذهبوا؟ كل واحد له لحظه يموت فيها، فإذا أمر الله بأمر إذا بأمم بأكملها تزول، وحضارات كاملة تختفي، والله عز وجل يفعل ما يشاء.

    الفرق بين حسن الظن بالله والغرور المذموم

    ويجب أن نفرق بين حسن الظن بالله والغرور به، فالغرور: أن تسير في طريق الباطل والمنكر ثم ترى نفسك من أهل الجنة، وأن هذا من العدل، فهذا لا يستحق دخول الجنة، تراه في الطريق مطروحاً يقول: سأصل إن شاء الله، فهذا ليس حسن ظن، لكن حسن الظن أن السائر يمشي ويركب المواصلات ويقول: يا رب! وصلني، فهذا يحسن الظن بربه، فالذي يريد أن يدخل الجنة فلابد له أن يسير في طريق الجنة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ [البقرة:218]، أي: يسير في طريق الطاعة، ويعمل الصالحات، ويرجو الله عز وجل أن يغفر له ذنبه وتقصيره، وأن يقبل عمله الناقص بفضله، فهذا يحق له إحسان الظن بربه، ولكن أن يسير في طريق المعاصي والفساد، ويحدث نفسه بالمغفرة والقرب التام، وهو لم يعمل شيئاً أبداً، ولا ضحى أي تضحية في سبيل الله، لا بشهوات، ولا بلذات، ولا براحة، ولا بذل جهداً لا في العلم، ولا في العمل، ولا في الدعوة، ولا في الجهاد، ولا في أي شيء، ويقول: أنا أريد أن أُصبح من المقربين لا أن يصبح مسلماً محافظاً بعض الشيء، نسأل الله العافية، ولذلك لما سمع ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا أريد أن أكون من المقربين، ولا أريد أن أكون من أصحاب اليمين، فقال: ههنا رجل يود أنه لو مات لم يبعث، يقصد نفسه رضي الله عنه.

    مثلاً: إذا لم تمتحن طالبة امتحانات شهرية في ثلاث مواد، وقالت لها المدرسة: إذا أحضرت شهادة مرضية فسوف تضاعف الدرجة الخاصة بك، فهل يجوز أن تصدر شهادة مرضية كذباً وزوراً؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فكم ستأخذين بغشك هذا؟ وماذا سيكون لك في الآخر؟ فلا يجوز أن تكذب، بل إذا كانت مريضة فستأتي بالشهادة المرضية إذا كان سبب تغيبها هو هذا.

    الأسئلة

    حكم صوم التطوع عن الميت

    السؤال: هل يصح صوم التطوع للميت؟

    الجواب: نعم يصح ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام، صام عنه وليه)، فإذا جاز في الفرض جاز في النفل بالأولى.

    حكم صلاة المتنفل بالمفترض

    السؤال: هل يجوز أن يأتم مفترض بمتنفل؟

    الجواب: كان معاذ يصلي نافلة بقومه وهم يصلون العشاء، وكانت الصلاة يؤذن لها ويقام في مسجدهم.

    حكم قراءة كل كلمة من القرآن بقراءة غير الأولى

    السؤال: أحد الدارسين لعلم القراءات يقول بعدم جواز قراءة كلمة برواية داخل الرواية التي يقرأ بها، فما دليل عدم الجواز؟

    الجواب: عندما يعلم الناس رواية، فيقول لهم: هذه رواية حفص عن عاصم فلا يقول لهم في الصلاة: إني سوف أقرأ لكم بقراءة حفص عن عاصم لا، فالقرآن عندما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ يقرأ بهذه القراءات كلها، وأصلاً عاصم عمن أخذ؟ إذاً: فالصحابة رضي الله عنهم هم المرجع في اختيارات هؤلاء القراء فهو الذي اختار من كل هذه القراءات.

    وقد حصل خلط عند الذين يدرسون علم القراءات من غير أن يرجعوا لفقه الأحاديث ما هو الفقه في ذلك، وما هو الذي لا يجوز؟ فالذي لا يجوز: هو أن يدخل قراءة في قراءة في تعليم هذه القراءة وفي الرواية بها، بل يقول لهم هذه رواية فلان. أما التعبد سواء في التلاوة في الصلاة أو في غيرها فلا مانع بأن يقرأ بكل ما نزل من عند الله عز وجل، وكلها كاف وشاف.

    ولو قال قائل: وما المانع من ذلك؟ فنقول: لأنها ليست من السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرأ هذا على هذا الحرف، وأقرأ هذا على هذا الحرف، فما كان يجمع للواحد في نفس الموطن بحرفين، ففعل هذا بدعة إلا للتعليم، يعني: أنا عندما أعلم رجلاً فأقول له: ورش يقرأ هكذا؟ وحفص يقرأ هكذا مثلاً، لكن في العبادة الواحدة لا يقرأ لهما الاثنين.

    حكم خروج المسلم للحج من غير أن يترك قوتاً لأهله

    السؤال: في كتب الفقه أنه لا يجب الخروج إلى الحج إلا لمن قدر أن يترك لأهله قوتهم حتى يرجع، فمن لم يفعل هل يجب عليه الحج؟

    الجواب: لا، فيجب أن يترك لهم نفقتهم الواجبة، وإنما يجب عليه الحج إذا كان تاركاً لقوت أهله وعياله حتى يرجع، والله أعلم.

    الأخذ بالأسباب المشروعة لا ينافي التوكل

    السؤال: هل هناك تعارض بين هذا وبين التوكل؟

    الجواب: هذه من أعمال القلوب، ونحن نقول: إن الرسول كان يدخر، لكن حال القلب مهم، فهل قلبه مطمئن إلى السبب؟ أم مطمئن إلى خالق السبب؟ وهل حالك عند عدم ادخارك كحالك حالة الادخار سواء أكان من حرام أم من حلال؟

    أحياناً تكون الأمور غير متيسرة، فهل يصبح قلبه متعلق بها بنفس الدرجة أم لا ؟

    أما الادخار فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنته صلى الله عليه وسلم، لكن تأتي له نفقات فينفق، ولذلك ما كانت تمر عليه السنة والقوت موجود، بل مات ودرعه مرهونة عند يهودي في صاعين من شعير، وقوم نبي الله يونس عندما لم يستجيبوا لدعوة نبيهم دعا عليهم سيدنا يونس، حتى إذا اقترب عذابهم عادوا إلى الله عز وجل، وتابوا، وأنابوا، فرفع عنهم العذاب، وكان ذلك رداً لعذاب الله، وقد كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أنهم سيؤمنون فيرفع الله عنهم العذاب، لكن لو لم يتوبوا لنزل بهم العذاب، (والدعاء يرد القضاء)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أي: القضاء الذي قدر الله ألا ينزل؛ لأن القضاء نوعان:

    النوع الأول: قضاء قضى الله أن يقع.

    النوع الثاني: قضاء قضى الله أن يرد.

    قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23].