أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو حجر الزاوية في قلب المؤمن، وهو الذي تدور عليه رحى حياته، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في غير موضع من كتابه، أخبر بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الناجون والفائزون والمفلحون، وأنهم الذين كتب الله لهم الجنان، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فا غفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وهذا الإيمان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصله الإيمان بالله، وأما باقي أركان الإيمان فهي لوازمه أو من أجزائه، فالإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم لازم من لوازم الإيمان به سبحانه، فلا يقبل الله عز وجل إيماناً به دون إيمان بالرسل، فإنه لا يكون مؤمناً من كذب الرسل؛ لأن الله عز وجل قد صدقهم وأرسلهم بالصدق والحق، فمن كذبهم فقد كذب الله عز وجل، ولا يكون مؤمناً أبداً من كذب الله.
فليس الإيمان مجرد المعرفة بوجود الله سبحانه وتعالى، وإن كان ذلك -بلا شك- من أصوله، لكنه لا يكون إيماناً نافعاً، فلقد كان المشركون يقرون بوجود الله عز وجل، وبخلقه للسماوات والأرض وبخلقهم، كما قال سبحانه وتعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ
[الزخرف:9] .
وقال سبحانه وتعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
[الزخرف:87].
وقال سبحانه وتعالى:
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ
[المؤمنون:88-89].
فهم كانوا يقرون بأن الله عز وجل هو الخالق المالك، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يدبر الأمر، كما قال عز وجل:
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ
[يونس:31].
فليس الإيمان بالله عز وجل مجرد المعرفة بوجوده، فلقد كان المشركون يقرون بذلك، ولقد كان اليهود والنصارى أشد معرفة بوجود الله عز وجل، وبكثير من أسمائه وصفاته من غيرهم، بل ويقرون بالبعث بعد الموت، ومع ذلك قال الله عز وجل عنهم:
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
[التوبة:29].
فتبين بذلك أن الإيمان ليس مجرد المعرفة، بل يلزم الإيمان بسائر أركانه، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بالكتب ضمن الإيمان بالله؛ لأنه إيمان بكلامه، والإيمان بالقدر جزء من الإيمان بالله، ولعل هذا -والله أعلى وأعلم- هو السبب في أنه لم يذكر الإيمان بالقدر في قوله سبحانه وتعالى:
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
[البقرة:285]. وفي قوله عز وجل:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا
[النساء:136]، فلم يذكر الإيمان بالقدر في هذين الموضعين؛ لأنه داخل ضمن الإيمان بصفات الله عز وجل؛ ولأن الإيمان بالقدر إيمان بعلم الله، وبكتابة المقادير، وإيمان بإرادته وقدرته وخلقه لأفعال العباد، فكلها صفات له عز وجل، فهو ضمن الإيمان بالله، وأما الإيمان باليوم الآخر فهو من لوازم الإيمان بالله.
إذاً: فلا يكون الإنسان مؤمناً إن أنكر بعثه سبحانه للناس ومحاسبتهم على أعمالهم؛ فإن ذلك -في الحقيقة- إنكار لحكمته، وإنكار لعدله، وإنكار لرحمته، وإنكار لفضله، كما قال عز وجل:
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ
[الأنعام:12].
ومن ادعى أن أحداً من الخلق له أن يخالف ملة الإسلام التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام، ويكون مع ذلك مقبولاً عند الله مؤمناً يدخل الجنان، فقد كذب القرآن وكفر بالله العظيم، وبرسله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وذلك لأن الله عز وجل قال:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ
[آل عمران:19] . وقال سبحانه وتعالى:
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا
[الفتح:13].
فمن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمناً، وأما إقراره بوجود الله فهو إيمان قد حبط، وإيمان غير نافع؛ لأنه اقترن بالشرك وعبادة الشيطان الذي أمر بتكذيب الرسل، كما هو حال المشركين الذين قال الله عز وجل عنهم:
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
[يوسف:106]، فهذا الشرك قد أحبط القدر الموجود في قلوبهم من الإيمان، والجاري على ألسنتهم، والكائن في بعض أفعالهم، فإن الشرك محبط للعمل، كما قال عز وجل:
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
[الزمر:65-66].
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية ديناً
فلم ينطق بكلمة التوحيد مع أنه كان جازماً موقناً بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، فإنه لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرضة قد أكلت الصحيفة التي علقت في جوف الكعبة ظلماً وعدواناً لحصار بني هاشم لمناصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج دون أن يتثبت بنفسه أو يرسل من يتثبت، وأخبرهم بأن الله قد أبطل هذه الصحيفة وهو على يقين غير متردد من أنها قد نقضت بالفعل دون أن يراها، وإنما ذلك لأنه يعلم صدق ابن أخيه جزماً ويقيناً، ومع ذلك حمله الجزع على عدم النطق بـ: (لا إله إلا الله) عند الموت، فقال: لولا أن يقول الناس لأقررت بها عينك، وأبى أن يقول: (لا إله إلا الله)، وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب. فتألم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ألماً شديداً، وقال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) ، فأنزل الله:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
[التوبة:113-114]، وأنزل الله في أبي طالب :
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[القصص:56].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)، وقال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فدلت هذه النصوص على لزوم النطق في حق القادر عليها.
وكثير من الناس يقول ذلك ويفعله وهو لا يدري مدى خطر هذه الكلمة، فيقول لمن يجادله ويناقشه إنه قد كفر -والعياذ بالله- ليقطع باب المناقشة، أو يقول ذلك لمن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر؛ ليتخلص من حرج مخالفته لهذا الأمر، فيقال له: ألست بمسلم؟ فيقول إنه ليس بمسلم -والعياذ بالله- أو يقول إنه يهودي أو نصراني؛ ليتخلص -مثلاً- من حرج مخالفته بالفطر في رمضان، أو مصاحبة النساء أو غير ذلك.
فهذا يخرج بذلك من الملة؛ لنقضه النطق بكلمة التوحيد الذي هو جزء لا يتجزأ من الإيمان، ولا يوجد الإيمان بدونه إلا مع العجز، كالحال في الأخرس، أو من وافته المنية فعجز عن النطق ساعة إرادته ذلك، فهذا يكون مقبولاً عند الله عز وجل عذره، والأخرس إذا كان يستطيع الإشارة أو يعمل أعمال الإسلام ويشير بما تفهم به إشارته حكم بإسلامه في الدنيا.
فأحكام الإسلام في الدنيا والآخرة لابد فيها من النطق؛ لأن النطق بكلمة التوحيد جزء من الإيمان، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين أنه لا يقبل الاعتقاد مجرداً عن عمل القلب وعن نطق اللسان بكلمة التوحيد، حيث قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وقال الله عز وجل:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ
[البينة:5].
وقد نزلت هذه الآيات في قوم من المنافقين كفرهم الله بهذه الكلمة، والظاهر أنه كان عندهم نفاق أصغر قادهم إلى الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يعد به عن الله، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير. والعياذ بالله! وقالوا: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم والقراء من أصحابه- أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء. نعوذ بالله، فهم يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يحب الأكل ويتهمونه أيضاً بالجبن، نعوذ بالله من ذلك، مع أنهم ذكروا ذلك في شأن الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآيات، قال عز وجل:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
[التوبة:65]، وذلك أنهم لما ووجهوا بتلك الكلمات قالوا: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به الطريق، أي: يتسلون بهذا الاستهزاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وكان يتلو عليهم هذه الآية-:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
[التوبة:65-66]، وتسمية ما كانوا عليه إيماناً هو باعتبار أصل الإيمان الذي كان عندهم، ولكن قادهم النفاق الأصغر إلى أن وقعوا في النفاق الأكبر والكفر، والعياذ بالله.
وهذا الاستهزاء منهم يسمى نفاقاً، رغم تصريح القرآن بكفرهم؛ لأنهم ما زالوا يزعمون الانتساب إلى الإسلام مع نطقهم بكلمة الكفر، ففاعل هذا منافق أظهر نفاقه فخرج من الملة بذلك، وإنما يبقى على أحكام الإسلام ظاهراً طالما كتم النفاق في باطنه، وأما إذا أظهره على لسانه، وأظهر الكفر الأكبر في أعماله فهو منافق قد أظهر نفاقه، والعياذ بالله، ولا ينفعه الانتساب إلى الإسلام بقاؤه على هذا الانتساب، وإنما لابد من أن يجدد إسلامه بالتوبة الصادقة مما وقع فيه، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل هؤلاء الذين قالوا مثل هذه الكلمات؛ لأنهم كانوا يظهرون الرجوع والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولذا قال عز وجل:
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً
[التوبة:66] فدل ذلك على أنهم أظهروا الرجوع، ولكن ليس كل واحد منهم صادقاً في الرجوع والتوبة، وإنما بعضهم قد صدق وبعضهم لم يصدق، ولأن الأحكام في الدنيا تبنى على الظاهر، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم الظاهرة وامتنع عن قتلهم، وإلا فلو أصروا على ما كانوا عليه من الاستهزاء والسخرية من القرآن ومن وعد الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن الالتزام بالدين فذلك الإصرار لا يبقى معه شيء من أحكام الإسلام، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والسب أعظم من ذلك أفظع، والعياذ بالله، وهو أشد من السخرية والاستهزاء، لأن الاستهزاء والسخرية تعريض بالسب، وأما السب فصريح، فهو أغلظ، وهو كالضرب للوالدين بالنسبة إلى كلمة (أفٍ)، فإذا منع من قولها للأبوين فلا يتصور أن يباح الضرب، أو يكون في منزلتها، فهو أشد وأغلظ، فمن سب الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كتابه، أو نبياً من الأنبياء، أو دينه سبحانه وتعالى فقد نقض إيمانه بالكلية، فإن الإيمان -كما ذكرنا- ليس مجرد المعرفة، لكنه تصديق مقرون بحب وتعظيم، وانقياد وخضوع، وخوف من الله عز وجل ورجاء له، وشكر، وتوكل عليه.
فكل من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأبغض من فعله لأجل أنه فعله، فإنه لا يكون مؤمناً؛ لزوال عمل القلب الذي هو ركن من أركان الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فأما من قالها رياء وسمعةً فهو من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فما تنفعهم شهادة التوحيد، قال عز وجل:
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
[المنافقون:1].
وإن كان جمهور أهل العلم على أن التكاسل عنها مع الإقرار على النفس بالذنب لا يخرج من الملة، وهذا في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وأما ما سوى ذلك من الأعمال فإنه لا نزاع بين أهل العلم في أن ترك الواجب منها أو فعل المحرم مع وجود أصل الانقياد والحب والخوف والرجاء والإخلاص في كلمة التوحيد والشهادة لا يخرج من الملة، وهذا موضع النزاع بينهم وبين الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة وتارك الواجب، وحكموا بخلوده في النار، والمعتزلة وافقوهم في ذلك، فكانوا من الفرق الضالة المضلة، والعياذ بالله.
أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن الفاسق من أهل القبلة الذي يشهد الشهادتين، ويحرص على أركان الإسلام، ويحافظ عليها، هو في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وجمهور أهل العلم يرون أن ذلك أيضاً حكم من تكاسل عن بعض الأركان أو عن كلها، وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، وذلك أنها حق (لا إله إلا الله)، ويلزم من قال: (لا إله إلا الله) أن يؤديها، ولكن لا يزول الإيمان بالكلية من القلب بزوالها، إلا أن تاركها على حافة الكفر، فيوشك أن يكفر بأيسر شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، ولكن هذا عند جمهور أهل العلم محمول على الكفر الأصغر الذي لا يخرج عن الملة، لكنه الذريعة والسبب الذي يوصل إلى الكفر الأكبر، ويقود إليه بأسرع طريق، كما ذكرنا أن النفاق الأصغر يقود ويؤدي إلى النفاق الأكبر، وربما يقود صاحبه إلى الاستهزاء والسخرية فيزول إيمانه، وكذلك ترك هذه الواجبات العظيمة -خاصة هذه الأركان- هو ذريعة إلى الشرك الأكبر والكفر الأكبر، فلا يستهينن إنسان بترك ذلك.
فإن ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج عند أهل العلم أغلظ وأشد من الزنا وشرب الخمر، فصلاة واحدة يتركها الإنسان حتى يضيع وقتها بالكلية أعظم ذنباً من أن يزني ولو مرات، وأعظم من أن يقتل النفس، وأعظم من أن يشرب الخمر ويسرق باتفاق العلماء؛ لأنهم -والعياذ بالله- يشكون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال.
وكذا من أفطر عامداً في رمضان من غير عذر ولا مرض فإنه -والعياذ بالله- يشك في إسلامه أيضاً، ويظن به الزندقة والانحلال من الدين، وجريمته أغلظ من الزنا والقتل والسرقة وغيرها، وكثير من الناس يستهين بذلك، وما دروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، وليس ذلك خاصاً بالعصر وحدها، ولكنها الصلاة الوسطى المؤكد على أهميتها، والذي يظهر أن من فاتته صلاة مكتوبة حتى يأتي وقت التي تليها فقد حبط عمله كذلك، كما ثبت ذلك في حق من ترك صلاة حتى يخرج وقتها في بعض الروايات، وقد صححها غير واحد من أهل العلم، وهي (من ترك صلاة حتى يخرج وقتها فقد حبط عمله)، نسأل الله العافية.
ولا شك أن الإيمان بالله يقتضي طاعته، وطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم جزء من الإيمان به سبحانه، فالإيمان قول وعمل، فحين يقول المؤمن: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فلا بد من أن يعلم أنه قد دخل في ذلك ما ذكرنا، وهو يجدد إيمانه، ويزيل ما علق به من صدأ ونقص، والمؤمن يصدأ إيمانه وقلبه، ويحتاج إلى جلاء، ومن أعظم ما يجليه ذكر الله بالقلب واللسان، قال عز وجل:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
[الأنفال:2-4].
فدل ذلك على أن من الإيمان ما هو إيمان حقاً، ومنه ما هو دعوى غير صحيحة لا يكون صاحبها مؤمناً إيماناً حقاً، وإنما هو مقصر أصلاً، فدل على أنه لا يكون مؤمناً إلا من جمع هذه الخصال.
ومنها أنه إذا ذكر الله وجل قلبه، واضطرب خوفاً من الله وشوقاً إليه وحباً وتعظيماً له سبحانه وتعالى، قال تعالى:
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
[الأنفال:2] فهم يزدادون تصديقاً، وتدبراً وتفكراً، ومعرفة بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته، وحباً لله الذي أنزل هذه الآيات، وخوفاً منه عز وجل الذي يحذرهم عقوبته، ويرغبهم في جنته وثوابه والقرب منه، فيخافون فوق ذلك، ويخشون سوء الحساب، فالقرآن يذكرهم وآيات الله توقظهم، فهم يزدادون به إيماناً كلما تليت عليهم آيات القرآن، وتنفعهم الذكرى كلما ذكروا، قال تعالى:
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
[الذاريات:55]، وهكذا.
فدل ذلك على أن الإيمان والإسلام لابد فيهما من التوكل، فلا يكون الإنسان مسلماً مؤمناً إلا بالتوكل على الله، فالإسلام والإيمان يتضمنان التوكل، ومع ذلك خص بجملة مستقلة تنبيهاً على شرفه وتعظيماً لقدره، وذلك أنه لا ينال العبد حقيقة العبودية وحقيقة الإيمان والإسلام إلا بأن يستعين بالله ويتوكل عليه، ويعلم أنه لن ينال الخير إلا به، ولا قوة له إلا به سبحانه، وأن ما به من نعمة -وأعظم نعمة هي نعمة الإيمان والإسلام- فمن الله، ولذا يتوكل عليه في تحصيلها، وفي زيادتها وتثبيتها، وفي لقاءه الله عز وجل بها، فبهذا يصح له سؤال:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
[الفاتحة:6]، وبتحقيق التوكل يصح له قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
[الفاتحة:5].
وإذا زال التوكل على الله زالت العبادة والإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالتوكل وإن كان من أعمال القلوب إلا أن له أثراً في سلوك الإنسان وفي كل شئون حياته.
فالتوكل يثمر للإنسان الخوف من الله وحده، ورجاؤه دون من سواه، والرغبة فيما عنده، فلا يرغب فيما عند الناس ولا يعبأ بهم، بل يصغرون في عينيه، وبه يعرف حقيقة قدرهم، ويوقن بأنه لا قوة إلا بالله، فتعمل الأعمال خالصة لوجه الله لا للناس، فلا يرجوهم المتوكل على الله ولا يخافهم ولا يتوكل عليهم، ولا يعتمد على أحد منهم، ويأخذ بالأسباب غير معتمد عليها، إنما مستعيناً بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)، فهو يحرص على ما ينفعه غير مستعين بأحد سوى الله، فلا يتوكل إلا عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وكل هذا من التوكل على الله عز وجل، ويعلم المتوكل عليه سبحانه أن الأسباب لا تضر ولا تنفع، وإنما ينفع ويضر ربها وخالقها ومدبر الأمر سبحانه وتعالى، فعند ذلك لا يثق قلبه إلا بربه عز وجل.
ويتوكل على الله في جلب مصالح دنياه ثانياً، فهو يتوكل على الله في صلاح نفسه، وصلاح أهله وأولاده، وفي أمر رزقه، وفي دفع أعدائه، وفي شفاء أمراضه، وفي تحقيق مصالحه، وأعظم من ذلك التوكل على الله عز وجل في صلاح دين الخلق ونصرة الإسلام، وهو توكل الرسل وأتباعهم، فهم يتوكلون على الله عز وجل في نصرة الدين، وصلاح العباد حتى يحققوا له العبودية في الأرض، فينجوا عنده عز وجل.
فالمؤمن الصادق يتوكل على الله في صلاح نفسه وصلاح غيره من الخلق، ويتوكل على الله في نصرة الإسلام حتى يظهره الله عز وجل، كما قال الرسل لأقوامهم الذين آذوهم:
وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
[إبراهيم:12]، وحكى الله عز وجل عنهم قولهم:
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
[إبراهيم:12] .
فالله سبحانه وتعالى جعل توكل الرسل في ثباتهم على الحق، وصبرهم على أذى قومهم حتى ينصرهم الله عز وجل، ويستخلفهم في الأرض، ويمكنهم من الذين ظلموا، كما قال تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
[إبراهيم:13-15] أي: دعت الرسل ربها بالفتح، أي: بالحكم بينهم وبين قومهم، وهذا من كمال التوكل على الله، فهم يعلمون أن الله يقص الحق وهو خير الفاصلين، وأنه سبحانه وتعالى الذي يؤيد رسله وأتباعهم بما شاء من أنواع القوة، فهم لا يعتمدون على قوتهم ولا عددهم ولا عدتهم، وإن كانوا يأخذون بما أمروا به من ذلك شرعاً، كما قال الله تعالى:
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
[الأنفال:60].
لكن يعلمون أن الأمر ليس بأيديهم ولا بأيدي من خلفهم، وإنما الأمر لله، والغيب له سبحانه وتعالى وإليه يرجع الأمر كله، كما قال سبحانه:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
[هود:123] .
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.
أما بعد:
فإن من علامات صدق التوكل على الله: أن لا يفرح الإنسان بإقبال الأسباب، وأن لا يضطرب عند فقدها، بل يكون ساكناً، أي: قد نزلت عليه السكينة من الله عز وجل لإيمانه وتوكله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه المشركون وهو في الغار، حيث قال سبحانه وتعالى:
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[التوبة:40] .
وحين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله عز وجل:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
[آل عمران:173-174].
ومع أن مواقف الشدة واجتماع الأحزاب وتكالب الأعداء تجعل أكثر القلوب في خوف وهلع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة المؤمنين الكمل معه الذين أنزل الله سكينته عليهم كانوا في حالة أخرى، كما قال الله عز وجل عنهم:
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا
[الأحزاب:22] .
وهذا الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان قمة شامخة، وفاض من قلبه من السكينة التي أنزلها الله عليه وعلى قلوب أصحابه ما سكنهم وثبتهم الله عز وجل به، كما قال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ
[الفتح:4]، وذلك في مرات عديدة في مواطن الشدة، وهذا أمر عجيب، حيث يكون اجتماع الأعداء، إحداق الخطر، وتجد الأسباب كلها تقتضي هلاك العبد، ومع ذلك ينزل عليه من السكينة ما يجعله لا يعبأ بالخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وفي ليلة الأحزاب، وفي فرار الناس عنه يوم حنين، وفي يوم الحديبية يوم البيعة حين بلغه أنه قد قتل عثمان، في ذلك كله نزلت عليه سكينة، وأفاضها الله تعالى على قلوب أصحابه، بل تفيض على قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، فإن من سمع هذه المواقف وتدبرها نزلت عليه سكينة من الله عز وجل، فينزل الله عز وجل السكينة في قلوب المؤمنين بمعرفة مواقف الرسل الكرام، وانظر وتأمل في مواقف موسى في مواجهة فرعون، فإن فعلت تنزلت عليك السكينة؛ لأن موسى صلى الله عليه وسلم أيده الله بقوله:
لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى
[طه:46]، وهو سبحانه وتعالى مع المؤمنين أيضاً عند كمال التوكل عليه، واستحضار معيته عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومعل كلمته، فهذا كله يجعل الإيمان يستقر في القلب، ويجعل السكينة تتنزل، فلا يحصل اضطراب عند إدبار الأسباب المحبوبة، ولا يحصل فرح عند إقبالها، ولا يحصل خوف ولا قلق عند وجود الأسباب المكروهة، بل يوقن العبد أن الله آخذ بنواصي العباد، وبذا يغري أعداءه بأن يفعلوا ما يريدون، كما قال هود عليه السلام
إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
[هود:54-56].
وإذا أردت أن تعرف صدق التوكل فانظر إلى مسألة السكينة، وانظر إلى الطمأنينة في ذكر الله، واستشعار ضعف العباد وعجزهم عند قدوم الأقدار، فإذا وجدت هذا الأمر حاصلاً فستسعد سعادة الدنيا والآخرة، وستجد نفسك مطمئناً ساكناً، والدنيا حولك تموج وتضطرب ولا قلق عليك، فإذا كنت لا تقلق من هذا فأنى يصيبك ضرر مما دونه؟! وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبئون بما يصيبهم وهم يجدون روائح الجنة، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بما يقع حولهم من أهوال تشيب لها الولدان، ويفر من يفر بسببها وهم في فلكهم.
كحال أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه الذي قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وجعفر بين أبي طالب الذي قتل وما به جرح في ظهره، بل كل جروحه في مقدمته رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه ولم يعبأ بذلك، تقطع يده فيمسك الراية بيده الأخرى، فتقطع فيمسكها بعضديه حتى يقتل شهيداً رضي الله تعالى عنه.
وهكذا مصعب بن عمير يقتل دون اللواء، ولا يسقط اللواء إلا بعد موته فيرفعه غيره.
كانوا لا يعبئون بما يقع حولهم، متوكلين على الله عز وجل لنزول السكينة والطمأنينة، كما قال تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
[الرعد:28] ، وإذا وجدت اضطراباً وفزعاً فعند ذلك اعلم أن التوكل يحتاج إلى تجديد، وأن الإيمان يحتاج إلى جلاء، ويحتاج إلى إزالة الأمراض من القلب بشهود ملك الله وتدبيره وعزته وقهره، وأنه عز وجل هو الآخذ بناصية كل شيء، وأنه
يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ
[السجدة:5] .
وأن العباد لا يملكون دقات قلوبهم، ولا نبض عروقهم، ولا يملكون جريان الدم في هذه العروق، ولا يملكون حركة ولا سكوناً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يهبون ذلك لغيرهم؟! كما قال تعالى:
وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا
[الفرقان:3]، فإذا وقع الاضطراب والفزع فإن التوكل يحتاج إلى تجديد الشهود لتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، أي: تحقيق الإيمان والإسلام، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) فهنا يصح التوكل على الله عز وجل، وتحقيق الإيمان يكون بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن جلاء القلوب بترك الذنوب؛ فالذنوب هي التي تغشي القلب وتعميه وتصمه حتى لا يرى ولا يسمع الحقائق الإيمانية ولا يشعر بها، ولا يجد طعمها ولذتها، فلكثرة الذنوب لا نجد لهذه الحقائق الإيمانية تطبيقاً في الواقع، بل نجد رعباً وهلعاً وخوفاً وفزعاً، نسأل الله العافية، فإذا كان الأمر كذلك احتاج الأمر إلى الإنابة، فنسأل الله أن يجعلنا منيبين إليه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر