يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فلقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة، وهذا الأمر من أعظم ما يلزم المؤمن اعتقاده خصوصاً عندما تختل موازين القوى في ظاهر الأمور، ويشتد الصراع مع أهل الكفر والنفاق على ظهر هذه الأرض، ويبتلي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأنواع الابتلاء وبشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ويتسلط الكفرة على بلاد المسلمين وحرماتهم ومقدساتهم، ويظن كثير من الناس أن موازين القوى في هذه الأرض في صالح الكفرة، وأن القوة لهم جميعاً، وأن مفاتيح القضايا بأيديهم، وبالتالي يسيرون في مناهج حياتهم على وفق هذا المعتقد، فهم يوافقون أهل الكفر والنفاق والظلم والباطل؛ لأجل ما يتصورونه من أن القوة والسلطة والتمكين لهم، وأن الأمور بأيديهم.
وأما أهل الإيمان فإذا استحضروا أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله سبحانه وتعالى لمتانة كيده يملي لهم، كما قال عز وجل:
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
[القلم:44-45]، إذا استحضر أهل الإيمان ذلك علموا أنهم جند الله سبحانه وتعالى الذين ألقاهم في وسط الصراع مع أهل الباطل من غير كثرة عدد ولا قوة عتاد، بل مع ضعف إمكانيات، مع أن جنوده سبحانه وتعالى لا يحصيهم سواه، فالأرض والسماوات وما بينهما مسخرات بأمره، ولو شاء سبحانه وتعالى لأمر الأرض فانخسفت بالكفرة، والسماء لحصدتهم، والبحار لأغرقتهم، وكل عاقل يقر بأن ذلك ليس في يد أحد من الناس، فالأرض والسماء والبحار وسائر ما يحيط بالناس في حياتهم لا يملكونه.
إذا استحضر المؤمن أن أهل الإيمان قد ألقاهم سبحانه وتعالى في الابتلاء ليظهر منهم صدق الإيمان، وقوة اليقين، وصدق الاعتقاد بأنه لا قوة إلا به عز وجل، وأنه لا حول إلا به سبحانه وتعالى، وأن الأمور بيده، وأنه مالك الملك، فإذا ظهر منهم ذلك على ما يحب سبحانه عندها يغير الله موازين القوى لصالحهم في لحظة كلمح بالبصر،
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
[القمر:50]، وتضل أعمال الكفرة وتبطل، ويزهق الباطل كما أخبر سبحانه وتعالى:
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوااتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
[محمد:1-7]، فالله عز وجل يبتلي عباده المؤمنين ليرى إيمانهم، وليرى نصرتهم للدين، وليرى سبحانه وتعالى ما يحب من أنواع عبوديته التي لا تظهر إلا في المحن والشدائد، ولا تحصل إلا بوجود أضدادها من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.
وإذا طال الأمر على أهل الإيمان فبسبب ما يحبه الله عز وجل منهم لم يصل إلى ما يريد من الكمال، فلا بد أن يستكملوا معاني الإيمان، وحقائق العبودية؛ لكي يحصل ما أخبر الله عز وجل به.
ولعلهم في هذه المرحلة -عندما يشتد بهم الحال- يكونون في أحسن أحوالهم، وهذا أفضل مما لو مكنوا على حال فيها نقص وتقصير وشهوات ورغبات دنيوية، فيحصل من ذلك ما لا يعلمه إلا الله من الفساد، فلا بد أن ينتبه المسلم لحقيقة الصراع الذي يجري بين أهل الإسلام وبين أعدائهم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين في مشارق الأرض ومغاربها، وبلا شك أن قلب كل مؤمن يتألم لما يجري مما يكرهه الله من أذية للمسلمين ومخالفة لشرع الله، وصدٍ عن سبيله، وانتشار لأنواع الفساد من الكفر والفسوق والعصيان في مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن ذلك يؤلم كل قلب حي بالإيمان، عالم بحقيقة الحياة قرباً من الله عز وجل وعبودية له، فيتألم إذا وجد حال المسلمين في تباعد عما أوجبه الله عز وجل عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتثال لشرعه، كما يؤلمه تفرقهم واختلافهم وتنازعهم، وما هم فيه من ضعف وهوان، ولكنه في نفس الوقت إذا لاحظ عاقبة الأمور، وعلم لماذا قدر الله عز وجل كل ذلك مما يكرهه سبحانه، وعلم الحكمة من وراء تقدير الشر والمكروه؛ عند ذلك يستفيد أعظم الاستفادة من الواقع الذي يعيشه، ويكون ذلك الألم نافعاً لتحقيق ما أراد الله عز وجل منه شرعاً، وسبيلاً لتحقيق مزيد من الإيمان والعبودية والأعمال الصالحة؛ التي إذا وجدت تغيرت موازين القوى، وأصل ذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته، ومشاهدة آثار هذه الأسماء والصفات في الواقع المشهود الذي يراه الناس.
إذاً: فإبطال أعمال الكفرة الصادين عن سبيل الله يكون في الدنيا وفي الآخرة كما أطلقه الله عز وجل.
فأما في الدنيا فإنهم أرادوا صرف الناس عن دين الله، ومكروا بالليل والنهار ليبعدوا الناس عن الالتزام بالدين، وليرغبوهم بأنواع الشهوات، وليجعلوا أنواع التخويف والإرهاب حواجز تحجب الناس عن الالتزام، فهم يغرقون الناس في أنواع الشهوات، وفي نفس الوقت يستعملون أقسى أنواع التهديد بل والعقوبات لمن التزم بالدين وسار في طريق الحق؛ لكي يصرف هو -إن استجاب- أو غيره ممن يرى ما يفعل به عن دين الله عز وجل، ومع ذلك فلا بد أن يضل الله ذلك العمل، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه، وهذا المكر السيئ لا بد أن يحدث ولا بد أن يبطل، ولا بد أن يهتدي الناس بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيأخذ الله عز وجل بنواصي من شاء منهم إلى سبيل الهدى والرشاد:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
[الأنفال:36-37]، وقال عز وجل:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا
[الفرقان:31].
فهم يريدون هزيمة الإسلام ولا بد أن ينتصر، ويريدون إضلال الناس ولا بد أن يهدي الله عز وجل طائفة من عباده إلى الحق، ولا بد أن تتغير الموازين في يوم من الأيام.
وأما في الآخرة فأعمالهم كما وصف الله عز وجل:
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ
[إبراهيم:18]، وقال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ
[النور:39]، فأعمال الكفار يضلها الله سبحانه وتعالى ويبطلها ويزهقها، ويجعل مكرهم السيئ يحيق بهم، كما أخبر عز وجل:
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
[فاطر:43]، وكما قال سبحانه:
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
[فاطر:10].
وبقي الشق الآخر من القضية وهو: أن الله يتولى إحباط وإبطال أعمال الكفار في الدنيا فلا تظهر نتائجها، والعبرة بنهاية الأمر وخاتمة المطاف، وما يبدو للناس عندما يشتد المكر والكيد فإنما هو تمرد صغير جداً في المملكة الواسعة لا بد وأن ينتهي، وقد تركه الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه، فالملك ملكه عز وجل في السموات والأرض، ترك بقعة من هذه المملكة -وهي الأرض- يقع فيها ذلك التمرد، وما هي إلا كذرة في هذا الوجود من ملك الله سبحانه وتعالى، وهي في قبضته عز وجل:
وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
[الزمر:67]، فأنى يعجزه سبحانه أن يمحق ذلك التمرد الذي وقع في هذه الأرض؟ ولكنه تركه؛ لأنه أراد من طائفة من خواص جنده، وخلاصة من عباده أن يظهر منهم مدى إيمانهم والتزامهم بطاعته، ولذلك ترك هذا التمرد يقع، وأمر طائفة من جنده أن يكونوا محاربين بلا عدد ولا عدة، أو بأقل العدد والعدة دفاعاً عن دينه، وملايين الملايين من جنده تنتظر الأمر لتأييدهم في اللحظة التي يريد ويأذن:
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
[المدثر:31].
يقول الله سبحانه:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا
[النور:55]، وهناك سؤال يكرره كثير من الناس وهو: إلى متى ونحن ندعوا ونتضرع، ومع دعائنا فالأمر يزداد كرباً؟ والجواب: إلى أن يتحقق ما أراد الله منا شرعاً، وتتم العبودية لله عز وجل من طائفة صادقة لا تشرك بالله شيئاً، ولن يقع ذلك من أهل الأرض كلهم، فلا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، فالكثرة على الاختلاف
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه
[الأنعام:116]، لكن لا بد أن توجد طائفة صادقة مؤمنة تؤمن وتعمل الصالحات، وتحقق الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل الله عليه،
وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
، وذلك بصدق المتابعة للسنة في العقيدة والعمل، والسلوك والمنهج، والأخلاق والمعاملة، وليس في جانب دون آخر، فالحقيقة في نفس الأمر مطابقة لاعتقادهم ولسلوكهم، فعند ذلك يكفر الله السيئات، ويغفر الزلات، ويرفع الدرجات:
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ
أي: أصلح أمرهم، فإذا أردنا أن تصلح أمورنا فلنكثر مما أمرنا الله عز وجل به، وأهم ذلك أعمال القلوب وأحوالها، كحب الله عز وجل، والخوف منه ورجائه، وصدق التوكل عليه، وتحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالمحبة له، والتصديق لخبره، والاتباع لأمره، والاجتناب لنهيه، ونصرة سنته، قال سبحانه:
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ
[محمد:3]، فهذه النتيجة قضى الله عز وجل بها لأن:
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ
[محمد:3]، فبتباع الحق يحبط الله أعمال الكفار، ويصلح أحوال المؤمنين، ولا شك أن التفريط في اتباع الحق هو الذي أدى إلى أن تقف القضية على ما هي عليه الآن.
إن القضية موازينها -فيما يبدو للناس- في صالح اليهود وأعوانهم من الأمريكان، وسائر فرق الملحدين من النصارى وغيرهم من المشركين والمنافقين ومن والاهم على ما يريدون من هدم الإسلام، ولكن قطعاً ويقيناً أن مزيد الاتباع للحق، أو حتى تحقيق القدر الواجب من هذا الاتباع سوف يغير موازين القضية.
وأما إذا ظل الأمر على ما هو عليه فستظل القضية على ما هي عليه الآن، ولكن لن يضمحل الحق بإذن الله من أمة الإسلام أبداً؛ لأنه: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) .
ويجوز للإمام أن يضرب عليهم الجزية ويجعلهم أهل ذمة، أو يسترقهم، وهذا مذكور بأدلته في مواضعه، هذا في الرجال، وأما النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم، وكذا إذا أسلم أحد من الرجال سقط خيار القتل، وبقيت بقية الخيارات، والله سبحانه وتعالى جعل ذلك للإمام ينظر فيه بالتشاور مع أهل الحل والعقد؛ ليفعل فيه بالمصلحة.
والأحاديث قاطبة تدل على أن الملاحم الكبرى هي حول بيت المقدس بالشام، فملحمة قبل الدجال مع نصارى الغرب، وذلك بالأعماق أو بدابق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وملحمة عقب الدجال زعيم اليهود وملكهم، وإلههم المنتظر، فالأمم الثلاث تنتظر المسيح: اليهود، والنصارى، والمسلمون، فأما اليهود فقد كذبوا المسيح وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فمسيحهم الذي ينتظرونه هو مسيح الضلالة، وكذا النصارى فإنهم ينتظرون مقْدَماً ثانياً للمسيح لكنهم يعتقدون ألوهيته، فإذا ادعى الدجال الألوهية اعتقدوه كذلك، فتابعوه أو تابعه بعضهم؛ لأن المقتلة العظيمة ستكون قبل ذلك.
وأما أهل الإسلام فهم الذين شهدوا أن المسيح عبد الله ورسوله، فكذبوا الدجال ، وصدقوا المسيح ابن مريم.
وعندما يقتل الدجال يقتل معه اليهود، وهذا دليل على أن نهاية هذا الصراع لن تتم أبداً بالمفاوضات والمساومات ورحلات السلام وغيرها قطعاً، فلا بد أن نصدق بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ومما نزل عليه عليه الصلاة والسلام:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
[المائدة:82]، ويدخل مع الذين أشركوا الذين
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ
[المائدة:73]، والذين قالوا: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
[المائدة:17].
وأما الموحدون من النصارى الذين بلغهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآيات القرآن فصدقوا وآمنوا به، وبكوا مما عرفوا من الحق، فهم الأقرب مودة للذين آمنوا كما وصف الله سبحانه وتعالى.
ومما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وقال صلى الله عليه وسلم: (يتبع
ونحن لا نجزم بتوقيت معين لوجود هذه المعارك، ولا ندعي علم الغيب، ولكن أشراط الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قد كثرت، فلا بد إذاً أن نعد لزمان الفتن عدته، وأن نبادر بالأعمال، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فالواجب المبادرة إلى الأعمال الصالحة حتى يقع ما أراد الله شرعاً، وحتى يرى الله سبحانه وتعالى الإيمان من أهل الإيمان:
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
[آل عمران:140] قال ابن عباس : ليرى،
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
[آل عمران:140-141].
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
يقول الله سبحانه:
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
، هذه الآية فسرها غير واحد من السلف بنزول المسيح صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه إذا نزل زالت الملل الأخرى وانمحت، وعند ذلك تنتهي مشروعية الجهاد.
وأما يأجوج ومأجوج فمع كفرهم إلا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله لنبي الله عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة لأحد بقتالهم، (فحرز عبادي إلى الطور، وعندها يخرج يأجوج ومأجوج).
فالواجب عند عدم القدرة على القتال تحريز عباد الله المؤمنين، وهذا التعليل واضح وبين؛ لأنه لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج فتحريز عباد الله المؤمنين، والتضرع إلى الله بالدعاء، والدعاء سلاح عظيم يهلك الله به الأمتين الكافرتين المتكبرتين: يأجوج ومأجوج.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه بجبل الطور، حتى يكون رأس الثور لأحدهم أفضل من مائة دينار لأحدكم -لقلة الطعام-، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل -أي: بعد شدة الحصار- فيرسل الله النغف -الدود- في رقابهم -في رقاب يأجوج ومأجوج- فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويصبحون قتلى كموت نفس واحدة) أي: في لحظة واحدة يموت يأجوج ومأجوج، (فينزل نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون شبراً من الأرض إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم) أي: أنفسهم المتناثرة في كل مكان، (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت -أي: الإبل- فتطرحهم حيث شاء الله عز وجل، ثم يرسل الله عز وجل مطراً فيغسل الأرض فتصير كالزلقة)، فهذه هي نهاية المطاف، وعندها يتوقف تشريع الجهاد، وتخرج الأرض بركاتها؛ بسبب تطبيق شريعة الله سبحانه وتعالى.
(عند ذلك يقال للأرض: ردي بركتك، وأخرجي ثمرتكِ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها -بقشرتها-، ويبارك في الرسل -أي: في اللبن- حتى تكفي اللقحة من الإبل الفئام من الناس، وتكفي اللقحة من البقر القبيلة من الناس، وتكفي اللقحة من الغنم الفخذ من الناس)، وهذه بركة تطبيق شرع الله:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
[الأعراف:96].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن هذا هو زمن انتهاء الفتنة، فقال:
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
[الأنفال:39] أي: حتى لا يبقى شرك،
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
[الأنفال:39]، وعند ذلك تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها.
وقال عز وجل:
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
، أي: أن الله ابتلانا بهم وابتلاهم بنا،
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
[الفرقان:20] وهو عز وجل كان ولم يزل بصيراً بما في قلوب العباد، ولكن يحب أن يرى الصبر والجهاد واليقين والإيمان والعمل الصالح من عباده المؤمنين واقعاًً مشهودا، ومن أجل ذلك أوجد الكفرة، وأوجد إبليس، وأوجد الظالمين؛ ليرى سبحانه وتعالى ما يحب، وهو يعلم ما لا يعلم الناس، فقد أوجد الفساد وسفك الدماء في الأرض؛ لأنه يعلم أن من بني البشر أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين:
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
، قالها عز وجل للملائكة لما قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ
[البقرة:30].
فمن أجل ذلك أوجد الله هذا الشر، وهذه الأمور المؤلمة التي يألم لها قلب المؤمن يوجد من ورائها خير لعباده المؤمنين، وهذا من لطفه عز وجل بعباده المؤمنين، حيث ظن الناس أنه شر وإذا به في حقيقة الأمر خير، كما قال سبحانه:
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[البقرة:216].
وقال سبحانه:
فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
[النساء:19]، ولا شك أن وجود البلاء والمحنة على المسلمين تدفع قلوب الكثيرين من المنهمكين في المعاصي إلى التوبة، كما كانت الهزائم قبل ذلك تحيي الأمة بقدرة الله سبحانه وتعالى.
فلا بد إذاً من مضاعفة الجهد والعمل في هذه الفترات من الدعوة إلى الله عز وجل، والعبادة والسلوك الطيب، وحسن معاملة الخلق بالإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه وقت يحدث فيه بإذن الله مزيد من الإقبال على الله عز وجل إذا وجد الناس طريقاً مفتوحة ممهدة من خلال سلوك الملتزمين، ومن خلال دعوتهم ومشاركتهم الصادقة في العمل لأجل إعلاء دين الله ونصرته.
قال الله تعالى:
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
، وقرئت:
وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
[محمد:4]، فالذين قتلوا لن يضيع جهدهم؛ لأنهم سينالوا أعظم الجزاء، وسوف تتحقق النتائج التي أرادوها حين تعلو كلمة الإسلامن وأما المقاتلون فهم أحياءٌ يهديهم الله إلى طريق الجنان، ويعرفهم بمنازلهم فيها، كما يهدي من قاتل لطاعته في هذه الدنيا، قال سبحانه:
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
[محمد:5-6]، فهم أهدى إلى منازلهم من أحدكم بمنزله إذا انصرف من الجمعة، وعرفها الله لهم مع أنهم لم يدخلوا تلك المنازل قبل ذلك، وفي التفسير الآخر: (عرفها لهم) جعلها لهم ذات عرف ورائحة طيبة، وإن عرف الجنة ليوجد من مسيرة خمسمائة عام، فلو كانت الجنة في أبعد مكان في الأرض، بل لو كانت الجنة عند القمر لوجد الناس رائحتها في الأرض، ولا يدخلها الظالمون الذين يضربون بسياطهم الناس، ولا المتبرجات؛ فإنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
ثم أمر الله المؤمنين بنصرة دينه فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
[محمد:7].
فنسأل الله أن يثبت أقدامنا على الحق والهدى، وأن ينصرنا وأن ينصر بنا الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اليهود والنصارى والمنافقين وسائر الكفرة والملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء.
اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!
اللهم نج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وفي الشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى ورده إلى المسلمين، اللهم طهر البيت المقدس من دنس اليهود، اللهم دمرهم تدميراً، والعنهم لعناً كبيراً، واحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر