www.islamweb.net/ar/

النصر والغلول للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن الله تعالى بين للمؤمنين في القرآن أنَّ النصر لا بد له من أسباب عليهم أن يعوها وأن يعملوا بها، فإن نصرهم الله فلن يغلبهم أحد، وحينئذٍ تتبدل موازين القوى العالمية. ولن ينصر الله العباد إلا بالتأدب بآداب الشريعة في مواحهة عدوهم، ومن هذه الآداب: اجتناب الغلول والخيانة، وذلك لأنهما من أسباب فساد الأمة وتأخر نصرها، ومعنى الغلول عام واسع وهو يعني: أخذ شيءٍ من الغنيمة قبل قسمتها، ويتناول أيضاً: التفريق بين الرعية بعدم العدل الواجب بينهم، ويتناول أيضاً: أخذ العامل الرشوة في عمله للمسلمين، وكذا يتناول ترك إبلاغ بعض الدين من قبل العلماء ونحوهم.

    أسباب نصر الله للمؤمنين وبيان نتائجه

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    فيقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:159-168].

    يقول سبحانه وتعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].

    ذكر الله تعالى هذه الآية بعد أن ذكر سبحانه وتعالى منته على المؤمنين بما وضع في قلبه عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللين والشفقة على المؤمنين وعدم الفظاظة والغلظة، وهذه -في الحقيقة- أوامر لكل إمام وقائد وكبير ومعلم وصفات لازمة له، وأمره عز وجل بالعفو والاستغفار للمؤمنين، وبالمشاورة في الأمر، فبين سبحانه وتعالى بهذا ما يلزم أن تكون عليه الجماعة المؤمنة، وما يلزم أن يكون عليها قادتها، وهذا من أعظم أسباب نصرها، فالله عز وجل ينصرها إذا وفت مقامات العبودية حقها، وهو -عز وجل- وعد وبين أن نصره لهم الذي إذا حدث لم يغلبهم أحد إنما يقع إذا نصر الله، فقال في الآية الأخرى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ، وهنا قال: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ فمهما اجتمع على هذه الأمة من أحزاب الأرض كلها فإنه إذا نصرها الله عز وجل فلن يقدروا على هزيمتها، فهذه الأمة لها في معاركها مع أعدائها صفات وموازين خاصة، وأمة الإسلام عموماً والطائفة المؤمنة في صراعها مع طوائف الكفر والباطل لها قواعد وموازين خاصة، فليست تعتمد على كثرة العدد والعُدَد، فإن الله عز وجل إذا نصر قوماً فلا غالب لهم، وهو عز وجل ينصر أهل الإيمان بنصرهم لله عز وجل وإقامتهم لأمره، وبنصرهم لدينه سبحانه وتعالى، وذلك أن نصرتهم له عز وجل -وهو الغني الحميد، وهو الغني عن العباد- إنما المقصود بها أن يُنصر دينه، وأن يُنصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا نصروا دين الله نصرهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة) .

    وكما جاء في الحديث (وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً).

    فقد أعطاه الله لأمته ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار وجوانب الأرض ونواحيها كلها، لكن إذا سبى بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك يسلط الله عز وجل عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ويأخذ بعض ما في أيديهم.

    والمقصود: أن الله عز وجل إذا نصر أهل الإيمان فإنه لا يغلبهم أحد؛ لأنه هو عز وجل نعم المولى ونعم النصير، والأمور بيده سبحانه وتعالى.

    عوامل النصر والهزيمة

    وقضية النصر والهزيمة وموازين القوة والضعف لها عوامل مختلفة كثيرة لابد أن ننتبه إليها، لا إلى الموازين الأرضية، ولكن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في تحقيق هذه الهزيمة أو النصر أو في تغيير موازين القوة، وأن الله هو الذي يقدر النصر والهزيمة على العباد، وهذا الأمر متكرر في القرآن في ذكر السنن الماضية والآتية فيما مضى من سنن الأنبياء وفيما ذكر الله من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيما بين من أمور عامة دائمة تتكرر وتقع، فلا بد من أن ننتبه إلى أثر أفعال العباد في القوة والضعف طاعة ومعصية، وخيراً وشراً، وقرباً من الله وبعداً، وأن نعلم أن الله هو الذي يقدر الهزيمة والنصر، وأنه سبحانه وتعالى إذا نصر قوماً فإنه لا يغلبهم أحد، وإذا خذلهم فمن ذا الذي ينصرهم من بعده، والله سبحانه وتعالى خذل الكافرين وإن بقوا مدة من الزمن يعلو سلطانهم الزائف، ويظهر للناس قوتهم التي يخوف الشيطان بها أولياءه، فالشيطان يخوف الناس بأوليائه امتحاناً من الله عز وجل للعباد، ولكي يرد أهل الإيمان إلى التوبة والإنابة وتكميل مراتب العبودية التي من أجلها قدر الله عز وجل عليهم تسلط العدو، وإنما قدر ذلك لمصلحة أهل الإيمان، ولتكمل عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وإنما أوجد الكفرة وكفرهم -وهو يبغض ذلك سبحانه وتعالى- لكي تستكمل الطائفة المؤمنة أنواع النصرة لدينه، وأنواع العبودية له عز وجل على الأحوال المحبوبة والمكروهة، وعلى العسر واليسر، والمنشط والمكره، فمن أجل أن يعبدوه بأنواع العبودية المختلفة أوجد من هانوا عليه، وسلطهم عليهم، وأقدرهم على أنواع الظلم والفساد في الأرض الذي يبغضه لكي يعبد المؤمنون ربهم.

    تغير أحوال الأمم

    وفي هذه المحن والفترات التي يتسلط فيها الأعداء لابد لكل منا أن يستحضر هذه المعاني؛ لأن الله عز وجل هو الذي بيده النصر، وهو الذي يخذل من يشاء، قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ، والناس إذا التفتت قلوبهم إلى الموازين المادية فقط ظنوا أن الأمور لا تتغير، وظنوا أن موازين القوة في الأرض سوف تستمر؛ ذلك لأنهم لا يتأملون العواقب، ولو تأملنا عبر التاريخ كيف سقطت الأمم والحضارات، وكيف أن الله أبدل الناس بعضهم مكان بعض، وجعل بعضهم خلائف لبعض، وكيف أن أمماً في حياتنا رأيناها تنهار ويقوى غيرها ليتسلط بعد ذلك، فلو نظرنا إلى الأسباب التي يقدرها الله عز وجل لعلمنا أن الأمور ليست بيد البشر قطعاً، وهذا أمر محسوس مشهود، فالأمم في عنفوان قوتها، وكثير من الناس يظن أنها لن تبيد حضارتها ولا سلطانها، وأقسم الكفرة في كل زمان بذلك، كما قال عز وجل: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44] وهذا أمر عجيب، وهو أن كل الظلمة يقسمون ليقينهم التام بأنه لا يزول سلطانهم ولا يزول ملكهم، والناس في هذه الفترات يظنون هذا الأمر، ولذا فإن كثيراً منهم يبيع دينه بعرض من الدنيا، لكن إذا استحضرنا قول الله عز وجل: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].

    وإذا نظرنا في التاريخ فسنعرف كيف انهارت أمم، وكيف تسلط عليها عدوها بعد أن كانت حضارتهم في عنفوانها، وكان سلطانهم قوياً شديداً، فما زالت آثار قوم عاد وثمود باقية تحكي كيف كان تسلطهم، وكيف كان بطشهم بالناس، وكيف كان عنفوان قوتهم، ومع ذلك فقد زال كل ذلك وأصبحوا خبراً، وجعلهم الله عز وجل أحاديث، وفي زماننا رأينا دولاً تنهار في سنوات معدودة، بل هذا -والله- من أعجب آيات الله، لأنه في آخر الزمان تتابع الآيات، فالدولة الفرعونية بأسرها المختلفة استغرقت مدة طويلة وبعدها انهارت، ومكث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وضل عنفوانهم مدة طويلة، والرومان كذلك.

    فلو نظرت إلى قوة الاتحاد السوفييتي السابق في زماننا، وكيف كان في عنفوان القوة ثم انهار ليصبح الناس فيه يتكففون أرزاقهم بأنواع الذل والهوان لعلمت أن هذا الذي وقع في سنوات معدودة كان يقع في الأزمنة الماضية بالنسبة للقوة التي وصلوا إليها في أضعاف هذه المدة من السنين، ولذلك لا تستبعد ولا تستغرب أن تتغير موازين القوى في آخر الزمن في لحظات الآيات فهي أسرع وقوعاً، ففي الماضي كان الزلزال يذكر عبر التاريخ، والآن ترى الزلازل تتكرر في كل يوم, والأعاصير كذلك، وصغر العالم بكثرة وسائل الاتصال يجعل آيات الله سبحانه وتعالى أمام الناظر مرئية، وفي كل يوم يقع شيء يذكر الناس بأن الأرض والسماء ليست بأيدي البشر، وأن قلوب العباد تتقلب في محبتهم وكراهتهم، وفي اجتماعهم وافتراقهم، وقد تجد طوائف من المجتمع انهار بعضها على بعض بالصراع، وتمزق المجتمع بأسره بعد أن كانوا ساكنين ساكتين مقرين بالأوضاع المختلفة، ثم تنفجر الاختلافات بينهم حتى تتمزق هذه الأمة التي كانت قوية.

    ومن ينظر إلى أسباب ضعف وتدهور أحوال الأمم يعلم أنها موجودة في ظلمة الكفرة المتسلطين على العالم في زماننا، والذين يظنون أنهم القوة الوحيدة أو نحو ذلك، فأسباب ضعفهم وهلاكهم قائمة وموجودة، ويمكن أن تشتعل في لحظة إذا أذن الله تعالى بنصر المؤمنين، فإنه إذا نصرهم سبحانه وتعالى فلن يغلبهم أحد، ولن يقف في وجوههم أحد بإذن الله تبارك وتعالى، ونعوذ بالله من الخذلان.

    التوكل على الله وبيان أعلى مقاماته

    قال تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160] ، وهذا التوكل المأمور به بعد الترغيب فيه بأن الله يحب المتوكلين: هو التوكل على الله في إصلاح النفوس ونصرة الدين وابتغاء الآخرة، وهو أعلى أنواع التوكل، فإن كثيراً من الناس يظن التوكل على الله مقتصر على أمر الأرزاق، فأكثر من يتوكلون يتوكلون على الله في حياتهم الدنيا، وإلا فإن أكثر الناس لا يتوكلون، ولكن توكل الرسل والأنبياء والأولياء إنما هو في نصرة الدين، وفي إعلاء كلمة الله، وفي إصلاح نفوسهم ليتمكنوا من نصرة الله عز وجل ونصرة دينه، وتحقيق العبودية له، فهم يستعينون بالله على عبادته، كما قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ويتوكلون على الله في أمر الآخرة، وفي دخول الجنة، ويتوكلون على الله في صلاح الدين، وفي صلاح الدنيا والآخرة، وفيما يحتاجون إليه من توفيق الله سبحانه وتعالى لإقامة شرعه ودينه، وهذا أعلى أنواع التوكل كما ذكرنا، وهو توكل الرسل وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    الغلول والخيانة وأثرهما في دمار الأمم

    قال سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161] .

    وهذا المعنى له ارتباط بما قبله، فيما يتعلق بصفات الإمام والقائد، فبعد أن بين سبحانه وتعالى صفات النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة واللين، وعدم الفظاظة والغلظة، وأمره بالعفو والاستغفار والمشاورة في الأمر والتوكل على الله عز وجل عند العزم، والاجتهاد في نصرة الدين، والتوكل على الله في هذه النصرة بين أنه يستحيل على أي نبي من الأنبياء أن تقع منه الخيانة والغلول، وهذا دليل على أن هذه الصفة -صفة الخيانة والغلول- صفة مدمرة ومهلكة للطائفة التي يكون قائدها كذلك، فإذا كان قائد طائفة من الطوائف أو أمة من الأمم بهذه الصفة فهذا أمر لا يمكن أن يكون معه بقاؤها، ولذا استحال وجود هذه الصفة في أي نبي من الأنبياء؛ لأن الله أهلهم للمقامات العالية، وأهلهم لقيادة الأمم، فيستحيل أن توجد فيهم الصفات المنكرة المذمومة التي تسبب دمار الأمم وهلاكها وضياعها، فإن ذلك من أعظم أسباب خراب الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. فقيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) فخراب الدنيا وانتهاؤها بالكلية ودمار الكرة الأرضية بما فيها، وزوال ما عليها من وجود بشري مرتبط بتضييع الأمانة، ولذا يستحيل أن توجد هذه الصفة الخبيثة في نبي من الأنبياء، أو أن تتصور في نبي من الأنبياء.

    ولقد كان هذا الخبر علاجاً لما تكلم به البعض ممن كان يجهل هذا الأمر كما ذكر ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161] قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون.

    وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأنزل الله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي: يخون.

    وروى ابن جرير عن مقسم قال: حدثني ابن عباس أن هذه الآية - وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ - نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فأكثروا في ذلك فأنزل الله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

    وكذا رواه أبو داود والترمذي ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم مرسلاً، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس قال: (اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقد فأنزل الله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) .

    وقد روي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم، وهذه تبرئة له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.

    وهذه قضية عظيمة الأهمية، حيث تصور بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها لنفسه، وهذا التصور -كما دلت عليه الروايات الأخرى- إنما صدر ممن يسيء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وهذا مناف لما عليه أهل الإيمان ولعقيدتهم في النبوة، وهو أنه لا يجوز على النبي ذلك، وهذا الأمر ربما يكون قد وقع فيه البعض بناء على عادتهم في الجاهلية التي كانوا فيها قبل ذلك، وهو أن الرئيس والكبير دائماً قد يأخذ لنفسه شيئاً خفية من الغنائم أو من الأموال العامة التي تحت يده، وهذا أمر تجده في أهل الدنيا كأنه قاعدة مستقرة وكأنه حق مكتسب إلا من رحم الله، وإن كانوا دائماً لا يظهرون ذلك، ولكن هذا الأمر لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداً، وكذلك لا يظن بأي نبي من الأنبياء؛ لأن الأنبياء معصومون من الخيانة، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن هذا الأمر ينافي مقام التبليغ بالكلية، وينافي مقام قيادة الأمة كما ذكرنا، بل كان لا يجوز لكل من اتصف بالخيانة أن يولى أمور المسلمين، سواء الإمامة الكبرى -الخلافة- أو ما دون ذلك من الولايات، فإن تولية الخائنين الذين لا يصلح الله كيدهم من أسباب فساد العالم -نسأل الله العافية- ومن أسباب فساد الأرض، وانتشار المنكرات، وأسباب ضعف الأمم وهزيمتها وخذلانها، فكل أمة تنتشر فيها الخيانة -خاصة من يتولى الولايات ويؤتمن على الأمانات- فإنها أمة مخذولة بلا شك، ولابد من أن يقع فيها الفساد وأن يسلط عليها عدوها، ولابد من ألا يتحقق لها أمر ولا نصر ولا تمكين في الأرض، نسأل الله العافية.

    وإذا كان هذا الأمر لو حدث من قائد في قطيفة سبباً لخذلان الأمة فما الظن بما هو أكثر من ذلك؟!

    فساد ترك العدل في الرعية

    قال ابن كثير رحمه الله: وقال العوفي عن ابن عباس : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً. وهذا وجه آخر في تفسير الآية، وهو عدم العدل في قسمة الغنائم، بأن يعطي البعض ويترك البعض، وهذا -أيضاً- من الخيانة وإن لم يأخذها لنفسه، لكن يخص بعض الناس بما ليس من حقهم ويحرم طائفة أخرى، وهذا من شيم المفسدين في الأرض، أن يخص طائفة من المقربين، كما فعل فرعون عندما قال للسحرة: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:114]، فطائفة المقربين طائفة يباح لها أضعاف أضعاف الأجرة المطلوبة، ولذلك كان ترغيبه للسحرة إذا انتصروا أكبر مما طلبوه من الأجر، قال تعالى: قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42]، فطائفة المقربين تأخذ أضعاف أضعاف الأجور، وهي لا تحتاج إلى أن تعطى أجراً؛ لأنه يباح لها -والعياذ بالله- من أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم ما لا يسألون عنه والعياذ بالله، فهم يعرفون جيداً ما عليه المقربون، وما للمقربين من فرعون، ولذلك كان هذا أعظم الترغيب لهم، كما أنه جعل طائفة أخرى مستضعفة مستباحة، كما قال تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، وجعل المجتمع شيعاً، فطائفة يباح لها ما لا يباح لغيرها، وتنتهك حرمات طائفة دون أن يسأل أحد عنها، ودون أن يجازى على انتهاك حقوقها، وهذا من الفساد في الأرض.

    ولذلك كان هذا من وجوه الخيانة؛ لأن الإمام إنما أعطي السلطات والقوة لأجل أن يقيم العدل في الناس وما شرعه الله سبحانه وتعالى، وألا يميز بين الناس إلا بما ميز الله عز وجل به وخص وفرق من الحق والباطل، فالله عز وجل جعل الذي يفرق بين الناس هو إقامة الحق أو الوقوع في الباطل، فمن أقام الحق أعلى الله شأنه ورفعه، ومن وقع في الباطل وعمل به وضعه الله عز وجل وأذلة وأهانه، وجعل الذلة والصغار على من خالف رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما أن يجعل الأمير الناس شيعاً فيقسم المجتمع إلى طبقات وطوائف بحيث تعطى طبقة من الطبقات حقوقاً ويمنع الآخرون فهذا من خيانة الأمانة؛ لأن ما أعطاه الله من القوة والمكانة والأمر النافذ هو أمانة من الأمانات، فإذا وضعها في غير موضعها فأعطى بعض الناس ومنع الآخرين فذلك خيانة وإن لم يأخذ لنفسه، نعوذ بالله من ذلك.

    قال العوفي عن ابن عباس : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي: بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضاً، وكذا قال الضحاك .

    الغلول في البلاغ وأثره على الدين

    وقال محمد بن إسحاق : وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته. وهذا وجه ثالث في تفسير الآية، وهو الخيانة في البلاغ، وقد يدل عليه قول ابن مسعود : غلوا مصاحفكم! فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة.

    والمقصود: أن الغلول ليس فقط في الأمور المادية، ولكن هناك -أيضاً- خيانة في الأمور المعنوية، وذلك في حق الأنبياء مستحيل كما ذكرنا؛ فإن الأنبياء معصومون، وأصح الأقوال لأهل العلم: أنهم معصومون من الصغائر والكبائر، ولا نزاع في العصمة من الكبائر والصغائر المزرية وكتمان البلاغ فضلاً عما زاد على ذلك من الشرك والكفر، فهذا مما لا نزاع فيه بين العلماء، وإنما النزاع في الصغائر غير المزرية، والصحيح: أن الأنبياء معصومون مطلقاً من كل الذنوب التي هي ذنوب في حق البشر الآخرين، بمعنى أنهم لا يتعمدون المعصية، وإن وقع منهم خطأ أو نسيان أو فتور أو خطأ في الاجتهاد أو نحو ذلك من الأمور أو فعل خلاف الأولى فهذا الذي يسمى ذنباً في حقهم، والله أعلى وأعلم.

    أما أمر الخيانة بصفة عامة فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يقع من الأنبياء؛ لأن ذلك من أعظم المنفرات عنهم وعن تصديقهم واتباع أمرهم.

    فهذا الأمر -وهو الخيانة في الأمور المعنوية بترك بعض ما أنزل الله- إذا وقع من القائد والإمام والمسئول عن غيره وكذلك أهل العلم كان -أيضاً- من أعظم أسباب الفساد، فمن أعظم أسباب الفساد أن يكتم العلماء بعض الدين فلا يبلغوه للناس ولا يقوموا به، فذلك من أعظم أسباب الفساد، وأعظم أسباب انحراف الناس عن الدين الحق، وأعظم أسباب تحريف الملل عما كان عليه دين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فالرسل كلهم جاءوا بدعوة واحدة ودين واحد وهو دين الإسلام، فكيف حدث الانحراف؟ لقد وقع التحريف حين ترك بعض من كان عليه أمانة التبليغ وإقامة الدين من أهل العلم ومن أهل القوة والسلطان بعض ما أمرهم الله عز وجل به، وهذا من أعظم الأمور خطراً في تحريف الدعوة إلى الله وإبلاغ دينه، فلابد من أن يكون البلاغ شاملاً كاملاً، لا أن يبلغ ما يوافق آراء الناس وأهواءهم، ولا ما يوافق أهل القوة والسلطان، بل لابد من أن يبلغ الدين كاملاً، كما أمر الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ورثته أمته، فلابد من أن تبلغ الأمة ممثلة في أهل العلم منها ما أنزل الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكتفوا بالبعض دون البعض، فإن ذلك أول أسباب الانحراف، فضلاً عن أن يقولوا على الله عز وجل ما لا يعلمون، وفضلاً عن أن يقولوا الباطل وينسبوه إلى الدين.

    فترك بعض الحق لا يبلغ هو سبب من أسباب الانحراف، وأشد منه أن يقال على الله عز وجل ما لا يعلم أنه من الدين، وأشد منه أن يقول المرء على الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يعلم أنه خلاف الدين، ولذلك كان عالم السوء وإمام السوء من أعظم الناس خطراً على الأمة، وكان الدعاة على أبواب جهنم هم سبب الفساد الأشد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة : (فهل بعد هذا الخير -أي: الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فعندهم كلام بالإسلام، وعندهم إظهار للإسلام، لكن قلوبهم قلوب شياطين في جثمان الإنس، فهم يتكلمون بالحق ليروجوا به الباطل لا لينصروا به الدين، وإنما يتكلمون به ليتمكنوا من الصد عن الدين، والعياذ بالله، وهذا أمر معلوم، فإن الباطل لا تقبله الفطر والنفوس؛ لأنه مر خبيث لا يمر إلا بشيء من الحق، كخدعة إبليس الأولى وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، فقد علم أن هذا الباطل لن يروج إلا بشيء من الحق فعظم الله بالقسم، وظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، والله أعلى وأعلم، فقاسمهما ليظهر أنه يعظم اسم الله، ويعظم الحلف به، وأنه ناصح، وهكذا الباطل دائماً فهو لا يروج على الناس إلا بشيء من الحق، فلذلك كان المنافقون أشد خطراً على الأمة، ولذلك كان كتمان بعض الدين الذي لا يوافق الأهواء الباطلة من أعظم أسباب انحراف الأمم، ومن أعظم أسباب فساد الأرض، والعياذ بالله، فلابد من أن يبلغ الحق كاملاً دون أن يكتم منه شيء، والله المستعان، ولو كان هذا الأمر سائغاً -وهو أن يبلغ بعض الحق دون البعض الآخر- لساغ أن يقال عن إبليس: إن عنده من التوحيد والإيمان: المعرفة بالله، والمعرفة باليوم الآخر، وإنه يدعو الله مباشرة بلا وسائط، فإنه قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، وقال: رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79] وهذه طريقة بعض المفترين على الله الكذب -والعياذ بالله- الذين يستعملون هذا الأسلوب، فيلزمهم أن يكون إبليس من الكمل؛ لأن هذه الأمور عنده من الحق، فهل هذا إيمان وهل هذا حق؟! لا، بل لابد من أن يبلغ الأمر والدين كاملاً.

    ويستحيل على النبي أن يكتم بعض ما أنزل الله إليه، ولهذا قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه، فهذا أحد وجوه الخيانة.

    وكل هذه الوجوه التي ذكرت يستفيد منها أهل الإيمان كما ذكرنا، كما أنهم استفادوا من الصفات الطيبة التي ذكرها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يتصف بها صغيرهم وكبيرهم، وأن يتصف بها القادة والمقودون، وكذلك أن يتجنبوا ما نزه الله أنبياءه ورسله عنه من الغلول والخيانة ونحو ذلك؛ لأنها صفات قبيحة، فلابد من أن يتنزه عنها القادة والعلماء والأئمة وكل من له ولاية على غيره، فليس للأب ولا للزوج أن يخون بأن يأخذ لنفسه ما لا يحل له أن يأخذه، أو أن يترك إبلاغ أهله وأولاده وأمرهم وتربيتهم ببعض أمور الدين، والواجب عليه أن يبلغهم، وأن يقيمه فيهم، وإذا خص بعض رعيته دون بعض وقع الفساد في الأسرة بلا شك، فإن أعظم أسباب الفساد في الأسر أن من أهل الولاية فيها كالأب والكبير -مثلاً- من يخص بعض الأولاد بالعطية دون البعض، فيقسم للبعض دون البعض، ويعطي البعض دون البعض، أو يترك إصلاح الخلل الموجود، أو يتمسك ببعض الأمور ويترك أموراً أخرى لا يسعى في إصلاحها.

    فكل هذه الوجوه لابد من الاستفادة من الطيب منها والحذر من الخبيث، والصحيح أن كل هذه الوجوه المذكورة داخلة في عموم قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ؛ لأنه فعل في سياق النفي فهو مثل النكرة في سياق النفي، فكل أنواع الغلول الحسية والمعنوية منفية عن الأنبياء، ويجب أن يتركها أهل الإيمان، خاصة قادتهم وأهل العلم منهم كما ذكرنا، وكل من له ولاية على غيره.

    جريمة اتهام الأنبياء بالخيانة

    قال ابن كثير : وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك : (( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ )) بضم الياء، أي: يخان، يعني: ما كان لكم أن تخونوا النبي. وهذه القراءة سبعية كالأولى.

    قال: وقال قتادة والربيع بن أنس : نزلت هذه الآية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه. رواه ابن جرير عنهما. أي: لما غل بعض أصحابه نزل قوله تعالى: (( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ )) أي: يخان؛ لأنه سوف يطلعه الله، والغلول من ورائه والخيانة للنبي نوع من عدم تحقيق الإيمان به.

    قال: ثم حكى -أي ابن جرير - عن بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى: يتهم بالخيانة.

    فقوله تعالى: (يغل) أي: ينسب إلى الغلول، وهذا وجه آخر في تفسير قراءة (( يُغَلَّ )).

    عقوبة جريمة الغلول

    ثم قال تعالى: (( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ )) ، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة.

    فروى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة) ، نسأل الله العافية.

    وقد ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث، إلا أنه ثابت في الصحيحين بمعناه، ففي الصحيحين عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) وقوله: (طوقه) يعني: جعل طوقاً في عنقه، فالتراب الذي يكون في هذا الشبر إلى الأرضين السبع كل ذلك يجعل طوقاً في عنقه، نسأل الله العافية.

    وقد احتج بهذا الحديث الصحيح من يقول: إن الأرضين السبع هي في هذه الأرض، وقيل: بل هذه الأرض كلها هي أرض واحدة، فيقول: إن ما يساوي هذا الشبر من الأرضين الأخرى المنفصلة عن هذه الأرض المستقلة عنها يؤتى به ويجعل طوقاً في عنق الغال أو الظالم لشبر من الأرض، نسأل الله العافية.

    الأموال العامة وعظم خطرها

    وروى الإمام أحمد عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني ، وهذا إذن من النبي صلى الله عليه وسلم لعماله، وهو حد الكفاية بالنسبة لهم، فمن كان ليس له منزل فله أن يتخذ منزلاً، وهذا لا يعني أنه يأخذ من تلقاء نفسه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطيهم، أو يجعل من يعطيهم، وذلك بأن يخبره من يعمل الأعمال من جمع الأموال أو ولاية الولايات بأنه ليس له منزل أو ليس له زوجة أو ليس له دابة أو ليس له خادم فيأذن له بأخذ ما يحتاج إليه، فإن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال وخائن للأمانة، وهذا دليل على أن قضية الغلول واسعة، وليست فقط في الغنيمة عندما يغل الإنسان ويسرق من الغنيمة قبل قسمتها، بل يدخل في ذلك كل من ولي ولاية وكان على مال من أموال المسلمين العامة، ووالله إن هذا لبلاء شديد، فكل من ولي على المسلمين من أموالهم شيئاً يمكن أن يتصور فيه الغلول والخيانة بأن يضع الأشياء في غير مواضعها، نسأل الله العافية، ونعوذ بالله من الغلول والخيانة.

    وأموال المسلمين العامة هي أكثر الأموال استهانة بها عند الناس، فالناس يستهينون بالأموال العامة، ويقولون: إن مال الحكومة حلال، والواقع أن الحكومة ليس لها مال، بل هذه أموال المسلمين العامة، وهي ملك للمسلمين عموماً، وهي أشد خطراً من الأموال الخاصة، ولذلك تجد التشديد في الأموال العامة، وقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من رجل شراك نعل جاء به بعد أن انصرف الجيش وقال: (تأتي به يوم القيامة) إذ بعد أن انصرف الجيش لا يقدر أن يوصل لكل واحد منهم نصيبه من هذا الشيء اليسير.

    فأموال المسلمين العامة أغلظ من الأموال الخاصة، فالشخص الواحد قد ترجع له حقه إذا تبت إلى الله، أما الأموال العامة فهي -في الحقيقة- مملوكة لكل المسلمين، ولكل مسلم حق ونصيب فيها، فكونه يهمل في شيء منها فيدمره ويفسده على المسلمين، أو يستعمله استعمالاً يؤدي به إلى فساده، أو يأخذه بغير حق، أو يحتال بأي وسيلة من الوسائل ليأخذ ما ليس له؛ كل ذلك أمره شديد، ونسأل الله العفو والعافية، ومن ذلك الرشوة، وسيأتي ما يدل على أنها من الغلول، فكل مال يدفع لموظف عام من أجل أن يخون الأمانة أو يؤديها فهو خيانة، إذ واجب عليه أن يؤديها دون أن يأخذ مالاً من المنتفعين بها من المسلمين؛ لأنه يأخذ أجرته من بيت المال، فكيف يأخذ من الناس شيئاً؟! فإذا كانوا يعطونه لكي يؤدي الحق فهو ظالم، وإذا كانوا يعطونه لكي يخون الحق ولكي يخون الأمانة فهذا أشد والعياذ بالله.

    وروى أبو داود بسند آخر عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً. قال أبو بكر -أحد الرواة-: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق) .

    قال ابن كثير قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه جعفر بن محمد الفريابي عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير ، وهو أشبه بالصواب، وهو حديث صحيح بما قبله.

    وهناك حديث آخر رواه ابن جرير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قشعاً من أدم ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك) لم يروه -أي: عن ابن عباس - أحد من أهل الكتب الستة. وهو صحيح، ورووا مثله من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

    وهذا دليل على أن من غل شيئاً، أو سرق من أموال المسلمين العامة، أو أخذ ما ليس له منها، أو خان في الأمانة، فإنه يأتي يوم القيامة وعلى رقبته هذا الشيء لا يفارقه، وهو حمل ثقيل لا يستطيع التخلص منه، ويستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع له ويقول: (لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك)، فيظل ملازماً له إلى أن يهوي به في النار، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية.

    هدايا العمال في الأعمال العامة وعقوبة الغال في عمله للمسلمين

    روى الإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!) يعني: ما أهدي له لعلاقة كانت قائمة قبل ذلك، وإنما أهدي إليه لأجل الولاية، ولأجل أن يقوم بالحق أو أن يقوم بالباطل، أهدي إليه لكي لا يظلم الناس كما يقع من كثير من العمال، وهذا من الغلول ومن الرشوة المحرمة، أو يهدى إليه لكي يقوم بالباطل فلا يأخذ الحق من أهله، أو لكي يجعله على غيرهم، أو لكي يظلم بعض الناس ويقدم بعض الناس الذين لا يستحقون التقديم على غيرهم، وكل ذلك -سواء سمي هدية أو سمي رشوة أو سمي غير ذلك- من الغلول.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه -أي: بياض إبطيه- -ثم قال: اللهم هل بلغت ثلاثاً) أي قال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، والحديث رواه البخاري ومسلم .

    قال أبو حميد : بصرته بعيني وسمعته بأذني واسأل زيد بن ثابت .

    وروى الإمام أحمد عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غلول) وهذا الحديث من أفراد أحمد ، وهو ضعيف الإسناد، وكأنه مختصر من الذي قبله، وهذا يدل على أن هذا داخل في الغلول، فمن كان في وظيفة عامة فلا يجوز أن يعطيه أحد شيئاً من الهدايا، ونسأل الله العافية.

    وهناك حديث آخر رواه أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري فرددت، فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير أذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك).

    قال الترمذي : حسن غريب. وضعفه الشيخ الألباني ، لكن له شواهده في المعنى.

    وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -والصامت هو الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك) والحديث متفق على صحته.

    وروى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! من عمل لنا منكم عملاً فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة) وسمي الغلول غلولاً لأنه يكون في رقبته يوم القيامة، والغل يكون في الرقبة والعياذ بالله، وقوله: (كتمنا منه مخيطاً) المخيط هو الإبرة.

    قال: (فقام رجل من الأنصار أسود -قال مجاهد : هو سعيد بن عبادة - كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله! اقبل عني عملك -يعني: أقلني فلا تعيني في وظيفة عامة ولا تعيني في عمل أجمع فيه أموالاً أو أكون أميناً فيه على أموال-؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقول ذاك الآن، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذه وما نهي عنه انتهى) كذا رواه مسلم .

    وروى الإمام أحمد عن أبي رافع قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب، قال أبو رافع : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال: أف لك! أف لك! مرتين فكبر في ذرعي وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: مالك؟ امش. قال: قلت: أحدثت حدثاً يا رسول الله. قال: وما ذاك؟ قال: أففت بي؟ قال: لا، ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعياً على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار) ونسأل الله العافية، ونعوذ بالله، والحديث ضعفه الشيخ الألباني ، لكن له شواهد أخرى.

    وقوله: (فدرع) يعني: ألبس درعاً، وهذا دليل على أن من أسباب عذاب القبر، خيانة الأمانة في الأموال العامة.

    وروى عبد الله بن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم ثم يقول: مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم، إياكم والغلول؛ فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، إنه لينجي الله به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم) وهو صحيح بمجموع طرقه، وقد روى ابن ماجه بعضه.

    قوله: (مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم) أي: نصيبي مثل نصيب الواحد منكم. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي في قسم الغنائم مع عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان يأخذ الخمس الذي جعله الله عز وجل له ليجعله في مصالح المسلمين، ويأخذ منه نفقته وكفايته وكان لا يكفيه عليه الصلاة والسلام، مع أنه كان يدخر قوت سنته، لكن سرعان ما ينفقها ويبقى أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد لهم في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وليس لهم طعام إلا الأسودان: التمر والماء.

    قوله: (أدوا الخيط والمخيط) أي: أدوا الخيط والإبرة (وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد) -أي: إذا كانوا ممن شرع الله جهادهم. فيجاهد الأقارب والأباعد بكل أنواع الجهاد.

    وهناك حديث آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا الخيط والمخيط؛ فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة).

    وهناك حديث آخر عن أبي مسعود الأنصاري قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً -والساعي جامع الصدقة- ثم قال: انطلق أبا مسعود ، لا ألفينك يوم القيامة تجيء وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته. قال: إذاً لا أنطلق. قال: إذاً لا أكرهك) تفرد به أبو داود ، وهو حديث صحيح.

    أي: أنه خشي على نفسه من أن يأخذ ما ليس له فترك أن يعمل جامعاً للصدقة وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيله فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك وقال: (لا أكرهك) .

    وهناك حديث آخر رواه أبو بكر بن مردويه عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحجر ليرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفاً ما يبلغ قعرها، ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل: ائت به) ، وذلك قوله: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، والحديث ضعيف.

    وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد، حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا؛ إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب ! اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) رواه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح.

    وهذا دليل على إثبات عذاب القبر، وعلى عدم قول: فلان شهيد؛ لأنه ربما يكون على غير ذلك، وأما إذا قصد أنه شهيد في أحكام الدنيا فذاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعهم من أن يتكلموا في حق من لم يعرف عنه فساد، وإنما سكت، ولما قالوا: فلان شهيد قال: (كلا) وهذا دليل على أنه قد يقتل الإنسان في سبيل الله ويعامل في الدنيا معاملة الشهداء ولكنه لا يكون عند الله شهيداً لوجود مانع من ذلك، وهو أن يكون قد غل من الغنيمة.

    وهناك حديث آخر عن عمر ، فقد روى ابن جرير عن عبد الله بن أنيس (أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوماً الصدقة فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: من غل منها بعيراً أو شاة فإنه يحملها يوم القيامة؟! قال عبد الله بن أنيس : بلى).

    ما يجازى به الغال في الدنيا

    ورواه ابن ماجه عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه) .

    وعن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد مملوك -أي: دون خمسين جلدة- ويحرم نصيبه) ، وهذا الحديث ضعيف في عقوبة الغال أنه يحرق رحله، فالتحريق للغال لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الحسن ، وقول علي أيضاً ضعيف، فلا يثبت هذا الأمر، وإن نصره بعض العلماء كـابن القيم رحمه الله، فالحديث ضعيف لا يعمل به، وإنما أفتى بعض التابعين بأنه يتصدق بثمنه كما سيأتي.

    وأما جلد الغال فهذا للإمام، فإن رأى أن يجلده ويعاقبه بجلد أو حبس أو غير ذلك فإنه يفعل على قدر ما يرى، لكن دون الحد.

    وروى ابن جرير عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقاً فقال: إياك -يا سعد- أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء. فقال: لا آخذه ولا أجيء به -يعني: لا آخذ العمل ولن آتي بشيء- قال: فأعفاه) أي: قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

    فمن وجد في نفسه ضعفاً عن القيام بالحق فلا يتعين في هذه الوظائف العامة.

    وروى الإمام أحمد عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم، فوجد مسلمة في متاع رجل غلولاً فسأل سالم بن عبد الله فقال: حدثني أبي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتم في متاعه غلولاً فحرقوه. قال: وأحسبه قال: واضربوه، قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفاً فسأل سالماً فقال: بعه وتصدق بثمنه) وهذا الحديث ضعيف، أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما : هذا حديث منكر. وقال الداراقطني : الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ومن تابعه من أصحابه، وهو عقوبة الغال بتحريق متاعه.

    وروى الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: (عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه).

    يقول: وخالفه أي: خالف أحمد بن حنبل - أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله. أي: يعزر بما يراه الإمام كما يعزر من أخذ مالاً بغير حق.

    وقال البخاري : (وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه) , والله أعلم.

    وهذا الصحيح في هذه المسألة؛ لأن الإحراق فيه إفساد من غير مصلحة.

    وروى الإمام أحمد عن جبير بن مالك قال: أمر بالمصاحف أن تغير -والذي أمر بذلك هو عثمان بن عفان ؛ لئلا يكتب مصحف إلا على الرسم الذي اتفق عليه ويمحى ما سوى ذلك، وكان المخالف في ذلك عبد الله بن مسعود -قال: فقال ابن مسعود : من استطاع منكم أن يغل مصحفاً فليغله، فإنه من غل شيئاً جاء به يوم القيامة، ثم قال: قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة؛ أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد كان هذا رأي ابن مسعود ، وانقطع هذا القول، وأصبح إجماع الأمة أنه لا يكتب المصحف إلا بهذه الطريقة، حتى ولو كانت هناك قراءات ووجوه أخرى في ترتيب السور، فقد أجمعت الأمة على أن المصاحف لا تكتب إلا هكذا والحمد لله؛ وذلك لحفظ القرآن بفضل الله.

    وروى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالاً فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم يخمسه ويقسمه، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله! هذا كان مما أصبنا من الغنيمة. فقال: أسمعت بلالاً ينادي -ثلاثاً؟- قال: نعم، قال: فما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر إليه، فقال: كلا، أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله منك) ، وكان هذا من أعظم العقوبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله العافية.

    وقد ذكر العلماء أن من أخذ أموالاً عامة من غير حق ثم تاب إلى الله عز وجل فإنه يتصدق بها عن المسلمين الذين يستحقونها، وهذا هو قول أكثر أهل العلم.

    الأسئلة

    حكم أخذ العامل ما يعطاه في عمله مما يسمى بالإكرامية وحق الشاي

    السؤال: هل يجوز للعامل أن يأخذ ما يعطاه في عمله مما يسمى بحق الشاي والإكرامية ونحو ذلك؟

    الجواب: هذا في القطاع الخاص جائز بعلم صاحب العمل، فإذا كان المرء يعمل في قطاع خاص فأعطاه بعض الناس إكرامية فإنه يبلغ صاحب العمل ويقول له: إن فلاناً أعطاني كذا، وذلك ليكون بريئاً من هذا الأمر، أما القطاع العام فلا يجوز للعامل فيه أن يأخذ شيئاً.

    وهناك تنبيه على أمرهم، وهو أنه في لجان التصحيح أيام الامتحانات تبقى بعض كراسات الإجابة للطلبة المتغيبين عن الامتحان، فيأذن رئيس لجنة التصحيح في أن يأخذ منها العاملون في هذه اللجنة، وهي من الأموال العامة والرسول صلى الله عليه وسلم قد شدد في ذلك حتى قال: (أدوا الخيط والمخيط)، فالكراسات هذه إن أخذت فإنه يجب أن تستعمل في مصالح المسلمين العامة كأن تستغل في التدريس بعد ذلك، أما أخذها لأعمال خاصة فلا.

    فحق الشاي كما يسمى والإكرامية في القطاع الخاص أمر جائز بإذن صاحب العمل، أما القطاع العام فلا، ومن عمل في شركة وعندهم في الشركة كمبيوتر يسمع منه قرآناً أحياناً ويستفيد منه بعض الأمور التي تنبه -مثلاً- على فضيلة يوم عاشوراء ويوم عرفة ونحو ذلك من الأمور التي فيها مصلحة عامة فلا بأس بعمله هذا، فهذا من المصالح العامة التي فيها دعوة إلى الله عز وجل وفيها تذكير بالخير، ومثل هذا لا يمنع.

    حكم مد لفظ الجلالة في الأذان

    السؤال: هل يجوز مد لفظ الجلالة في الأذان؟

    الجواب: الصحيح أنه يمد مداً طبيعياً بحركتين فقط، ولكن بعض المشايخ يقولون: إن هذا مد تعظيم، والصحيح أنه يمده مداً طبيعياً، ولكن لا يبطل الأذان بذلك.

    حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة تابعة لقبور أزيلت منه

    السؤال: ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبة ليس فيها قبور، حيث إنه تم إزالة القبور، لكن القبة تابعة للقبور؟

    الجواب: تجوز الصلاة فيه إذا أزيلت القبور؛ لأنها هي العلة.

    حكم الصلاة في مسجد فيه مقام كرسي من خشب

    السؤال: مسجد فيه مقام كرسي خشب ليس فيه قبر، فما حكم الصلاة فيه؟

    الجواب: إن كان هذا الكرسي الخشب يعبد وثناً من دون الله بحيث يعظم وينذر له فالعلة قائمة في النهي عن الصلاة في هذا المكان، وإن لم يكن يعظم ولا يفعل فيه شيء من العبادات فلا حرج؛ لعدم وجود العلة، نعم ليس هناك نص في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها مقامات، لكن -كما ذكرنا- إن كان هذا الأمر مما يعبد من دون الله فهذا هو سبب النهي عن الصلاة في هذا المكان.

    فالمشكلة أن بعض الناس قد يعظم المخلوق تعظيماً يخرج به عن حده، وقد سمعنا أن أحد هؤلاء يقول: إنه يجوز أن يقال: عيسى ابن الله على سبيل التشريف، وهذا كلام باطل، فلا يجوز أن يقال: عيسى ابن الله، ولا أحد من الخلق يقال له: ابن الله أبداً، ولا على سبيل التشريف، فقد رد الله على من قال ذلك فقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] وقال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18]، ولا يجوز قول ذلك على سبيل المجاز، قال عز وجل: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ [الزمر:4] فنزه الله نفسه عن أن يكون له ولد مخلوق.

    لكن عيسى عليه السلام هو روح الله على سبيل التشريف، فهذه الروح هي المشرفة المنسوبة إلى الله وليست هي صفة من صفاته.

    ما يقرأ من القرآن على النصراني، وبيان انحراف أهل الكتاب وضلالهم

    السؤال: إذا طلب مني بعض النصارى أن أقرأ عليه بعضاً من القرآن فمن أي القرآن أقرأ؟

    الجواب: اقرأ عليه سورة مريم، كما فعل جعفر رضي الله عنه مع النجاشي ، واقرأ سورة آل عمران.

    وإنَّ أبرز الحجج في عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] .

    وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) .

    فعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مأخوذ من تصديقه صلى الله عليه وسلم، وتصديقه مبني على معرفة المعجزات التي أعظمها القرآن العظيم، ووجوه الإعجاز المختلفة في القرآن الكريم مذكورة في كتب التفسير، وفي مقدمة تفسير القرطبي شيء صالح من ذلك، وكثير من كتب علوم القرآن موجود فيها وجوه الإعجاز أيضاً.

    وأما المعجزات الحسية فأحيلك على كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام ابن تيمية ففيه معجزات بالأسانيد الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تبلغ مئات المعجزات الحسية، والتي ينقلون عن الأنبياء السابقين أقل من عشرها بلا أسانيد ومع ذلك يقبلونها، فمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم فقد كذب كل الأنبياء، لزاماً، فمن الواجب علينا أن نبين لهم فساد الاعتقاد بتعدد الآلهة والتثليث، وأن المسيح إله يعبد من دون الله أو مع الله أو هو الله، وبيان كفر من قال ذلك مما لا يحتمل تأويلاً، فهؤلاء يخدعون الناس مستدلين بآيات من القرآن لبيان عقائدهم الباطلة، فإذا كان القرآن حقاً فلابد من أن يقبلوه كله؛ والكثير من الشبهات الآن تلقى في قنوات تبشيرية، ولا أدري لماذا يستمع الناس لها؟! ويحاولون فيها أن يأتوا بآيات من القرآن لإثبات ما هم عليه، فإذا كان القرآن حقاً فقد قال الله فيه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وهذه لا يستطيعون لها تحريفاً ولا تأويلاً على الإطلاق، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وهذه كلها نصوص قطعية، فإن كانوا يصدقون بالقرآن فالقرآن حجة عليهم، والواقع أنهم لا يصدقون بالقرآن ولا بالنبي عليه الصلاة والسلام.

    وأما قوله عز وجل: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة:47] فهم يحتجون به على بقاء الإنجيل، ونحن نقول: قد أنزل الله عز وجل في الإنجيل ذكر بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المسيح بشر مثلهم، فليحكموا بهذا، وليس في هذا إلغاء بالكلية، وإنما هناك عقائد واحدة قالها المسيح عليه السلام كما قالها من قبله الرسل، وجاء بها كل الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم أن يحكموا بذلك.

    وهناك شرائع متفق عليها كذلك، مثل: تحريم الزنا، وإقامة الحدود، أعني القطع -مثلاً- في السرقة، والرجم في الزنا، فهذا مما اتفقت عليه كلمة الكتب الثلاثة، واتفقت عليه الشرائع الثلاث: شريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم لا يطبقون شيئاً من ذلك، فقد نزل القرآن في هذا خصوصاً فيما لم يتغير ولم ينسخ، وليس المعنى أن هذا ينفي النسخ، فإننا نعمل بالقرآن ونعرف أن فيه ناسخاً ومنسوخاً، فما وجه الاعتراض؟ فقد أنزل الله المنسوخ لمدة من الزمن وهو عز وجل يعلم أنه سيغيره لمصلحة الناس، وأما ما لم ينسخ فيجب العمل به، فمن ترك العمل بالمنسوخ من القرآن فهل يقال عنه: ترك العمل بالقرآن؟ لا، فكذلك إذا ترك المنسوخ من الإنجيل لو ثبت، وهذا الكلام هو في حق الإنجيل الذي جاء به المسيح، لا الأناجيل التي كتبها الحواريون وأتباعهم على صيغة المسيح، فنحن نعتقد أن الإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى صلى الله عليه وسلم، والنصارى يعتقدون أن الإنجيل الذي بين أيديهم هو صيغة المسيح التي كتبها الحواريون وتلامذتهم وليس هناك كتاب أنزله الله على المسيح.

    فنقول: الإنجيل الذي أنزله الله على المسيح صلى الله عليه وسلم يحكم به -كما ذكرنا- في العقائد الواجب اتباعها، وفي الأحكام المتفق عليها بين الشرائع والأخلاق الواجب اتباعها كذلك، وترك الأخلاق المحرمة، كل هذا مما اتفقت عليه كل الشرائع، فليحكموا بذلك، وأعظم ذلك وأهمه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتوحيد الله عز وجل قبل ذلك، فليس لأحد من النصارى ولا اليهود أن يحتج بشيء من القرآن؛ لأنهم لا يصدقون القرآن، ولا يصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فليس لهم أن يحتجوا بالقرآن، ولا أن يقولوا: إن الله قد أخبر بذلك؛ لأن الله هو -سبحانه وتعالى- الذي أمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان اعتقادكم في القرآن أنه حق فاقبلوا كل القرآن، وأما إذا لم يكن ذلك فلا تضربوا بعض القرآن ببعض، ولا يجوز لكم أن تأخذوا بعضاً وتتركوا بعضاً، إنما هذا حال الكفار -والعياذ بالله- وهم كذلك، فيجب أن لا يقبل منهم احتجاج بالآيات؛ لأنهم غير مصدقين بها، وهذه الآيات يفسرونها على غير وجهها فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وأهل العلم يردون المتشابه إلى المحكم، فيتفق الكتاب كله، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة النساء: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [النساء:162] فيقول صاحب الشبهة: كيف جاءت وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ؟ وهذه من شبهات المنصرين، وهذه الجملة من الآية منصوبة على الاختصاص، أي: وأخص المقيمين الصلاة، ولها وجوه أخرى في الإعراب من أراد أن يرجع إليها فليرجع إلى تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود ، لكن أظهرها ما ذكرنا، وهو تخصيص المقيمين الصلاة، وذلك لأهمية الصلاة.

    عدة من يتأخر نزول حيضها

    السؤال: امرأة كانت تستعمل علاجاً خاصاً بالدورة أدى إلى عدم انتظامها، حتى إنها كانت تأتيها كل ثلاثة أشهر فقط، فطلقت وهي غير حامل، فكيف تكون عدتها؟

    الجواب: طالما كانت تحيض ولو كل ثلاثة أشهر أو تسعة أشهر فعدتها ثلاث حيض، وإذا انقضت الفصول الثلاثة ولم تحض وغلب على الظن انقطاع الدورة بالكلية فحينئذٍ تعتد بالأشهر، لكن إن جاءت الدورة ولو بعد عدة أشهر فعدتها بالحيض.