www.islamweb.net/ar/

أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • الله نور السماوات والأرض، وكل ما في هذا الوجود من الأنوار فهو منه سبحانه، ويمن على من يشاء بنور الإيمان بفضله، ويحرم من يشاء بعدله، جعل النور في كتبه، وفي أنبيائه، وفي أوليائه، وعلى المسلم أن يحذر من أمور تحجب عنه النور فيقع في الظلمات، ومن هذه الظلمات: ظلمة الشرك والكفر، وظلمة البدع، وظلمة الكبائر، وظلمة الصغائر، وظلمة المكروهات، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.

    الله نور السماوات والأرض

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    فلقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جوامع الكلم، وفضل على النبيين بذلك، وجعل الله عز وجل كلماته المباركات سراجاً ونوراً للأمم، تهتدي بها إلى صراط الله المستقيم، وأدعيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم معجزاته وأظهر دلالات نبوته؛ لما جمعته من معاني الإيمان، وأرشدت إليه من معاني الإحسان، التي تزكو بها النفوس، وترتقي بها القلوب.

    ومن أدعيته صلى الله عليه وسلم ما كان يدعو به في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي، لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) .

    ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بالحمد وهو أفضل الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الدعاء: الحمد لله، وأفضل الذكر: لا إله إلا الله) ، ثم شرع في الثناء على الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فقال: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، وقال عز وجل مبيناً ذلك: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35]، فهذه الآية من أعظم ما يبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) وقد فسره السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم بمعنى أن الله منور السماوات والأرض، وجاعل النور فيهما.

    فهذه الآية الكريمة في ضرب مثل نور الإيمان بالله في قلب العبد المؤمن مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ، فالمشكاة هي: الكوة في الجدار، أو التجويف في الجدار، وذلك يكون أبعد عن الريح حتى لا ينطفئ السراج الذي بداخلها، فقلب المؤمن مثل ذلك لا تطفئ نور الإيمان فيه رياح الفتن، فالمشكاة صدره، والمصباح هو الفتيلة المضيئة، وهي: نور الإيمان والمعرفة بالله عز وجل، المصباح في زجاجة، والزجاجة قلبه بشفافيته وصلابته، فهو شفاف يدخل إليه النور، ويخرج منه النور، فالمؤمن في كل حال يتعظ بمواعظ الحق ويستجيب لها، ويلين قلبه لها ويتأثر بها، وهو في نفس الوقت يشع النور فيمن حوله ممن يخالطه ويعاشره من أهله وجيرانه وقرابته، فهو ينشر فيهم نور الإيمان، ومعرفة الله سبحانه وتعالى وشرعه، والإيمان برسله وكتبه، وهو في نفس الوقت صلب لا ينثني عن الحق، ولا يتأثر بما حوله من الباطل، فالزجاج ينكسر ولا يتغير شكله، فكذا المؤمن ثابت على الحق ولو أصابه ما أصابه في الله.

    وقد بين الله عز وجل أنه نور السماوات والأرض أي: منورهما، ولذا قال ابن عباس وغيره من السلف: هادي أهل السماوات والأرض.

    وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: نور السماوات والأرض من نور وجهه.

    فالله عز وجل جعل النور في السماوات والأرض، النور الحسي والنور المعنوي، وهو سبحانه وتعالى خالق هذه الأنوار التي يراها الناس ويدركونها، وهذا في حقيقة الأمر أثر من آثار اتصافه سبحانه وتعالى بالنور، كما قال عز وجل: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69] .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: خلقه جميعاً، (حجابه النور) هذا هو الحجاب الذي يحجب الخلق في هذه الدنيا عن رؤيته سبحانه وتعالى، ودونه حجب أخرى، وآخرها نور مخلوق لو كشفه الله عز وجل لأحرقت أنوار وجهه عز وجل جميع الخلق؛ لأنهم لم يهيئوا في هذه الدنيا للنظر إلى وجه الله عز وجل، وهذا الحجاب هو الذي حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرؤية ليلة المعراج، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر : (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي الرواية الأخرى: (رأيت نوراً) ، فقد رأى نور الحجاب صلى الله عليه وسلم، فكيف يراه وقد حجبه هذا النور الهائل الذي هو نور الحجاب؟!

    الله سبحانه منور السماوات والأرض

    الله سبحانه وتعالى هو منور السماوات والأرض، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، إن الذي يعرفه الناس من هذا الوجود المحسوس إنما هو بالنور الذي خلقه الله فيه، وقد ذكر الفلكيون أن الظلام في هذا الكون المشهود يبلغ أكثر من 99%، وأما النور الموجود فيه فهو 1% أو أقل من ذلك، فما الظن -عباد الله- بما نجهله ولا ندري عنه؟! فانظروا إلى هذه الأنوار كلها: نور الشمس، ونور القمر، ونور النجوم وسائر الكواكب، وغير ذلك، فهو شيء يسير في هذه السماء الدنيا، وما لا نراه ولا نعلم عنه أضعاف مضاعفة؛ وذلك لنتعظ، ولنعلم محدودية علم البشر، ومحدودية قدرتهم، وأنهم في هذا الكون الواسع لا يدركون ولا يحيطون من علم الله إلا بما علمهم.

    وهكذا أيضاً في النور المعنوي (نور القلوب)، فإن كثيراً من الخلق يعبدون غير الله عز وجل، قد أظلمت قلوبهم، ولم تستنر بنور الوحي الذي أنزله سبحانه وتعالى ليضيء للناس طريقهم، وليفهمهم حقيقة هذا الوجود، فلينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وليعلموا أن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب المبين الذي هو النور كما قال عز وجل: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] .

    وكذلك أرسل الله رسله وهم أنوار، وخصوصاً خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم السراج المنير، وليس معنى ذلك أنه مخلوق من مادة غير الطين فهو بشر صلى الله عليه وسلم، خلق من آدم، وآدم مخلوق من تراب، وكل الأنبياء كذلك، فهم نور القلوب الذي تستضيء بها، وتعرف حقيقة هذا الكون الواسع الهائل المترامي الأطراف الذي لو تأمل الإنسان نفسه فيه لعلم أنه كالذر والهباءة الصغيرة أو أقل من ذلك، فإن الإنسان بالمقارنة إلى هذا الكون الواسع الكبير حجماً كأنه لا شيء على الإطلاق، فما أضعفه! وما أصغره! وما أذله! وما أحقره! وما أقل قدراته وعلمه! وهكذا إذا نظر إلى الزمان الذي قبله والذي بعده، فلو قورن بما مضى من بداية الخلق فقط لكان كالهباءة أو أقل، ولو قورن بما سوف لكان مثل ذلك، فكم يكون الإنسان؟ وما هي حقيقة حجمه زماناً ومكاناً؟ فإذا قورن ذلك بالأزل وبالأبد، علم الإنسان حقيقة أمره، وأدرك ضعفه وعجزه، وفقره وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى.

    فعلى الإنسان أن ينظر إلى حقيقة وجوده، لماذا أوجده الله على تلك الصورة وعلى هذا الحال؟ ولماذا خلق السماوات والأرض؟ هذا السؤال الفطري هو الذي عميت عنه قلوب أكثر البشر، وامتلأت بالظلمات بسبب إعراضها عما جاءت به الأنبياء.

    وتأمل أن الله سبحانه وتعالى جعل النور في قلوب أوليائه التي فاض عليها من قلوب أنبيائه، فأنبياء الله عز وجل هم السرج المنيرة التي تنير بكتب الله سبحانه وتعالى التي هي النور المبين، الذي يبين لمن سمعه وقرأه أنه الحق، ويبين الطريق لمن التزم به، وآمن به وصدقه، وعمل به، فهو سبحانه وتعالى قد من على عباده المؤمنين بأعظم نعمة حين جعل في قلوبهم النور فأدركوا أن الله عز وجل خلقهم لغاية حكيمة، وأنه سبحانه وتعالى جعل لهم مهمة عظيمة، اصطفاهم بها واجتباهم على خلقه وهي: أن يعبدوا الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وأن يعرفوه ويحبوه، ويخافوه ويرجوه، ويتوكلوا عليه، ويلجئوا إليه، ويسندوا ظهورهم إليه سبحانه وتعالى، متوكلين عليه، متحصنين به، مستعيذين به، مستعينين به سبحانه وتعالى، وكذلك في كل أنواع العبادات الأخرى، خلقهم الله عز وجل لذلك، فعرفوا لماذا وجدوا، وما هو الهدف من خلقهم، ثم عرفوا ما هم مقبلون عليه من القيامة والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وهذا كله من آثار نور الإيمان، وهم كذلك يرون بنور الله سبحانه الذي جعله في قلوبهم المثل العليا في صفات الأنبياء، ويرون الأعمال الصالحة من كتب الله عز وجل، ويؤمنون بوجود الملائكة الذين يعبدون الله عز وجل ويسبحونه بالليل والنهار وهم لا يفترون، ويؤمنون بالقدر، وأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بقدر، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

    حال الناس مع هذا النور

    حقائق الإيمان التي جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام لتبينها للناس هي التي تملأ القلب بالنور، فيهتدي الإنسان، ويعرف هدفه وغايته وبدايته ونهايته بدلاً من أن يكون أعمى لا يدرك شيئاً ولا يعقل شيئاً إلا ما تدركه البهائم من الطعام والشراب، فقارن -يا عبد الله- بين من امتلأ قلبه بالنور ففهم حقيقة هذا الوجود، فهم غايته، وحكمة وجوده، وفهم ما ينبغي له أن يعمله، وما بدأ منه، وما ينتهي إليه، وبين آخر لا يعرف من الدنيا إلا طعاماً وشراباً، وشهوة جنسية، لا يعرف من الدنيا إلا ما تعرفه البهائم.

    وتأمل في العالم لتدرك أن الله سبحانه وتعالى قد امتن بأعظم النعمة على عباده المؤمنين، تجد أن أكثر العالم يعيشون فعلاً لأجل شهوات البطون والفروج، والقطيفة والخميصة، والدرهم والدينار، يعبدونها من دون الله عز وجل، وتصور أن هذا هو الذي تقام من أجله الحروب، وتسفك من أجله الدماء، وتحتل من أجله الأراضي، ليفرض على الناس نمط حياة عجيب، وأشقى حياة يمكن أن يتصورها الإنسان أن يعيش كالبهيمة والعياذ بالله، ويقاد كالأنعام، ويفرض عليهم أن يعيشوا من أجل البطون والفروج، لا يعرفون معبودهم، ولا يدركون كماله وجماله، ولا يعرفون شيئاً عن أسمائه وصفاته، يعملون بالنهار كالحمير، وينامون كالجيفة في الليل، وقبل ذلك وأثنائه ينظرون إلى مشاهد الفسق والفجور، الذي هو استسلام للشهوات المهينة الحقيرة، ينظرون إليها ليل نهار من خلال وسائل الإفساد التي تفسد عليهم حياتهم، وتظلم قلوبهم، فوالله إن الظلام ليحل بوجود هذه الأمور ولكن أكثر الناس غافلون، ويزدادون طلباً لها في عناية وجهالة وسفاهة عجيبة إلى أن يأتي الموت بغتة، ويرحلون عن هذه الحياة، وإذا بهم وقد نزلت بهم ملائكة سود الوجوه يقبضون أرواحهم، ويضربون وجوههم وأدبارهم والعياذ بالله، فينزعونهم عن أهليهم وأموالهم وسلطانهم وملكهم.

    وطائفة أخرى من الخلق تعيش حياة الشياطين، ليست فقط كالبهائم بل أسوأ من البهائم، هم أضل من الأنعام؛ وذلك أنهم يعيشون من أجل الشهوات الشيطانية، التي هي أمراض إبليس من الكبر والعجب وإرادة العلو والفساد، لا لمجرد تحصيل الشهوات فقط، بل يريدون بذلك محادة الله عز وجل ومعاندته، تأمل هؤلاء الذين يسعون في الأرض فساداً، الذين يريدون العلو فيها والفساد، وهم معجبون بأنفسهم، غايتهم الملك والرئاسة والعلو على الناس، ومن أجل هذه الشهوات الإبليسية -التي هي أشد خطراً من الشهوات الحيوانية- يعيش الناس، وتنفق الكثير من الساعات بل من الأيام والشهور والسنوات، وتنفق الأموال والأعمار لأجل تأصيل معاني عبادة غير الله عز وجل، حتى تستقر في النفوس تلك الأمراض الإبليسية التي هي أخطر من الشهوات الأرضية، فالشهوات الأرضية جعل الله عز وجل لها منفذاً ومخرجاً، بمعنى أن الإنسان ينال منها شيئاً مباحاً، وجعل الله للعبد فيها دائرة من المباح، بحيث يطعم حلالاً ويشرب حلالاً وينكح حلالاً ويلبس حلالاً، وجعل دائرة أخرى من المحرمات التي تضره إذا أتى بها، وربما استعبدته إذا غرق فيها والعياذ بالله!

    أما الشهوات الإبليسية فهي محرمة بالكلية، لا يجوز للإنسان أن ينال منها شيئاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فبطر الحق أي: رده وعدم قبوله، مثل إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراؤهم.

    تأمل شعوباً بأكملها مريضة بهذه الأمراض، تحاول إذلال غيرها، وتحاول فرض إرادتها الجبارة الكافرة على الأمم في المشارق والمغارب، والجبار هو كل من يجبر الناس على ما يريد دون رجوع إلى شرع الله سبحانه وتعالى، وهو خائب قطعاً، وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15] .

    فتأمل هذه الظلمات التي تمتلئ بها قلوب أكثر الخلق، طوائف من البشر تعيش حياتها من بدايتها إلى نهايتها لا تعرف من الدنيا إلا حياة البهائم أو حياة الشياطين والعياذ بالله من ذلك، وأما أن ترتفع نفوسهم عن الأرض لتدرك صغرها وقصر الدنيا وقصر نصيبنا منها، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا تساوي جدياً أسك ميتاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مر على جدي أسك ميت، أسك أي: صغير الأذنين فقال: (أيكم يود أن له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيباً فيه، إنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال: للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) .

    إن الإنسان بحاجة إلى أن يرى حقائق هذا الوجود، ويرى صغر الدنيا فلا يعمل لها، بل يعد العدة للقاء الله عز وجل، ولا يقتصر على اللذة فيها، وإنما يعلم أن اللذات التي فيها إنما هي بلغة يسير بها لتستقر حياته ليتفرغ إلى ما هو أهم من النعيم الحقيقي بمعرفة الله عز وجل، وأسمائه وصفاته وجلاله وجماله سبحانه وتعالى، إن حاجة العبد إلى هذا النور المذكور في كتاب الله عز وجل هو الذي جمع الله عز وجل فيه الأنوار التي وردت في الكتب الأخرى، والتي جعلها في الكتب السابقة، وحاجتنا إلى هذا أمس من حاجتنا إلى ضوء النهار، وأمس من حاجتنا إلى ضوء المصابيح، وأمس من حاجتنا إلى أي نور حسي تراه الأعين، وتأمل عمل البشر، واشكر نعمة الله عز وجل عليك أن جعل في قلبك النور إن كان لك نصيب منه وإلا فأدرك نفسك.

    وتأمل كذلك في هداية الله عز وجل للمخلوقات كلها؛ لتعلم أنه هادي أهل السماوات والأرض جميعاً.

    وتأمل ما جعل الله في قلوب الملائكة أهل السماوات من الأنوار العظيمة التي هي مادة خلقهم فضلاً عن معرفتهم بربهم وعبادتهم له، قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان كثرة من في السماء: (أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد)، فهو سبحانه منور السماوات والأرض بالنور الحسي والنور المعنوي، ومنور من فيهن، هدى من شاء سبحانه وتعالى، وجعل في قلوب بعض خلقه من النور ما يضيء البلاد الكثيرة، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ويظهر هذا النور نفسه يوم القيامة، يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:12-15].

    فيا عباد الله! التمسوا النور، التمسوا نور الكتاب، والتمسوا نور السنة، فالله عز وجل جعل الكتاب نوراً وجعل النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53] .

    وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45-46] .

    فالله سبحانه وتعالى جعل النور يلتمس في الدنيا لتدرك فائدته يوم القيامة، وفي ساعة المرور على الصراط، واحرص على أن يكون نصيبك من النور كثيراً كبيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسأل الله عز وجل أن يجعل له نوراً، فالسراج المنير يحتاج إلى مزيد من النور، وهذا أمر لا ينتهي إلى حد، ولا يتوقف إلى غاية، بل لا يزال أهل الإيمان في الجنة يزدادون نوراً كلما رأوا ربهم عز وجل إلى ما لا نهاية، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا نهاية لكماله سبحانه وتعالى، هو عز وجل له المثل الأعلى، وله صفات الكمال، وله الأسماء الحسنى، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو ذاهب إلى المسجد: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم اجعل لي نوراً) ، وفي رواية: (اللهم اجعلني نوراً) ، إذا كان هو صلى الله عليه وسلم يسأل ذلك وهو الذي ينير للناس صراط الله المستقيم فحاجتنا إلى سؤال الرب عز وجل أن ينور قلوبنا لحبه ومعرفته أشد، وإن القلب إذا دخل فيه نور الإيمان انشرح وصار فسيحاً واسعاً، وصار لا يؤثر فيه زبالات الخلق إذا ألقيت على الإنسان، فقلب المؤمن واسع منشرح، وهي منة الله على أنبيائه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]، وقال موسى عليه السلام فيما حكاه الله عنه: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، وقال عز وجل: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، ولأهل الإيمان نصيب بقدر اتباعهم لأنبيائهم: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]، وقال عز وجل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122]، وقال عز وجل: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:19-22] فالأعمى: هو الكافر، والبصير: هو المؤمن، والظلمات هي: ظلمات الكفر، والنور هو: نور الإيمان، والأحياء هم: جماعة المؤمنين، والأموات هم: جماعة الكفار، ومن في القبور هم: الكفرة، قلوبهم في قبور أجسادهم، دفنتها الأجساد حينما غرقت في الشهوات، واقتنعت بالشبهات، وعاشت حياة البهائم أو حياة الشياطين، ونسيت حقيقة الإنسانية التي هي أسمى وأكمل وأكثر ما كرمه الله عز وجل به، فهذه الإنسانية مبناها على العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، والتعبد له، والاقتراب منه، والتقرب إليه بكل أنواع القربات، ونيل فضله سبحانه وتعالى بمحبته والشوق إليه، ثم يوم القيامة بالنظر إلى نور وجهه سبحانه وتعالى.

    قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً وفي سمعي نوراً) حتى يدرك الإنسان معنى ما يراه من الآيات، وكذلك في سمعه حتى يسمع آيات الله عز وجل فيدرك ما فيها من التوجيه الرباني، والأوامر الإلهية، فيقبلها ويستجيب لها، ويتأثر بها، ويلين قساوته، فإن القلب إذا لان توجه إلى الله سبحانه وتعالى، فصار قلباً رحيماً رقيقاً مشفقاً، فيكون ذلك سبباً لنجاته يوم القيامة.

    قوله: (وعن يميني نوراً) أي: أكون محباً للطاعات، (وعن شمالي نوراً) أي: كارهاً للمعاصي، مبتعداً عنها، يراها ويحذرها، ليس كأناس كثيرين جعلت في قلوبهم ظلمات، فهو يرى الحق أمامه ولكنه يبغضه ويكرهه كاليهود والمنافقين وأعداء الدين الذين علموا الحق وأعرضوا عنه، يرون المعاصي والفسوق والكفر -والعياذ بالله- ويحبونها، ويقبلون عليها، ويعلون شأنها: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، نعوذ بالله من حالهم، ومن صفاتهم، ومن صحبتهم، ومن مصيرهم ومآلهم.

    قوله: (ومنأمامي نوراً) أي: فيما هو فيه من أمر الدنيا ليعلم حقيقتها وصغرها.

    (ومن خلفي نوراً) أي: ليدرك ما وراءه من أمر الآخرة، وما هو آت عليه، وهو مدركه لا محالة، فيعظم أمر الآخرة ويحقر أمر الدنيا.

    قوله: (ومن فوقي نوراً) أي: ينزل عليه من رحمة الله عز وجل.

    قوله: (ومن تحتي نوراً) أي: فهو يسير في النور. فالنور أحاط به من كل الجهات، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] .

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    أنواع الظلمات

    ظلمة الكفر والشرك

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، يقلب قلوب عباده كيف يشاء، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من النور، ويجعل في قلب من شاء ما شاء من الظلمات.

    وأعظم الظلمات التي تمنع القلب من رؤية النور ظلمات الشرك والكفر بالله، وبأنبيائه، ورسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والكفر بواحد من هذه الأصول ظلمة عظيمة تمنع وصول النور بالكلية.

    ظلمة البدع

    ثم بعد ذلك ظلمات البدع، وخاصة بدع الاعتقاد الفاسد، والشبهات المضلة التي تتعلق بأسماء الله وصفاته، أو بوعده ووعيده، أو بقضائه وقدره، أو بأي أصل من أصول الاعتقاد، فالبدع المضلة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ظلمات متعددة؛ ولذا تجد في كلام أهل البدع الظلمة والفساد، وإذا قرأت كلامهم تعجب كيف خرج هذا الكلام من أناس ينتسبون إلى الإسلام، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! ولكن إذا علمت أنهم أعرضوا عن مقتضى هذه الكلمة، وأعرضوا عن كتاب ربهم وعن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وانشغلوا بقيل وقالوا، وانشغلوا بآراء الرجال، وانشغلوا بما وضعه الناس من المذاهب والأفكار المنحرفة؛ علمت لماذا وقعت في قلوبهم الظلمة.

    ظلمة الكبائر الباطنة

    ومن الأسباب المؤدية للظلمة في القلب الكبائر الباطنة، وهي أمراض إبليس من: العجب، والكبر، والحسد، والنظر إلى كمال النفس، وازدراء الخلق واحتقارهم، نعوذ بالله من ذلك!

    وهذه الكبائر الباطنة قد يتلبس بها كثير ممن يظهر الصلاح، ويظن به التقوى والإيمان، وهذه الكبائر الباطنة أخطر من الكبائر الظاهرة، فذرة من الكبر تمنع المرء من دخول الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرياء قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: هو الرياء).

    وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن خطر هذه الكبائر الباطنة ببيان عقوبتها فقال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صورة الناس يطأهم الناس بأقدامهم، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار) ، نعوذ بالله من ذلك!

    فالناس المتكبرون يحشرون يوم القيامة في حجم النمل في صورة البشر، يطؤهم الناس بأقدامهم ذلاً وصغاراً، فلما تكبروا صغروا، ولما تعالوا عن أمر الله عز وجل اهبطوا، تبعاً لزعيمهم ومقدمهم إبليس عليه لعنة الله سبحانه إلى يوم الدين، قال تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13] .

    ظلمة الكبائر الظاهرة

    ثم بعد ذلك الكبائر الظاهرة، فكل منها حجاب يمنع وصول النور إلى القلب، ويؤدي إلى وجود ظلمة فيه كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وهذه الكبائر الظاهرة هي التي تهلك أكثر الخلق، ويستعبدهم الشيطان بها، نعوذ بالله من ذلك!

    ظلمة المعاصي

    ثم بعد ذلك المعاصي التي هي من الصغائر، فكل منها له ظلمة في القلب، وكلما ارتكب الإنسان شيئاً من المعاصي أظلم قلبه، وذهب شيء من النور الذي كان فيه حين كان تاركاً لهذه المعصية.

    ظلمة الوقوع في المكروهات

    ثم بعد ذلك فعل المكروهات، فإنها تؤدي إلى ظلمة أيضاً ولكن بقدرها، ولا يكون ذلك كظلمة المعاصي، بل إن كثرة انشغال الإنسان بفضول المباحات يؤدي إلى فوات نصيب عظيم من النور، ويفوته به الربح عند الله عز وجل الذي هو هادي أهل السماوات والأرض، ومنور السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

    فالعبد المؤمن يبتعد عن أسباب الظلمة، ويسلك سبل النور، ويسأل الله عز وجل أن يجعل في قلبه نوراً، وأن يجعل له نوراً حتى يعيش في نور بدلاً من الظلمات التي يعيش فيها أكثر الخلق، فإذا قال العبد في دعائه: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) كان ذلك متضمناً بسؤال الحال سؤال الرب سبحانه وتعالى أن يجعل له نوراً، وأن يكثر له منه، فأنت تعترف أنه ليس لك من نفسك هداية ولا نور ولا حياة، فكما وهبك الله حياة البدن فاسأله أن يهب لك حياة القلب، وكما وهبك نور العينين، فاسأله أن يهب لك نور البصيرة في القلب، وهو سبحانه وتعالى يمن على من يشاء من عباده، ويبسط الخير للمؤمنين، ويجعلهم سبحانه وتعالى في النور في الدنيا ويوم القيامة، والجنة مليئة بالنور، ويرفع سبحانه وتعالى فيها حجابه فينظر المؤمنون إلى ربهم، فإذا رأوا ربهم سبحانه وتعالى وجدوا من النعيم واللذة ما لا يجدون مثله في الجنة، (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم) كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.

    اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وانصر الدعاة إليك في كل مكان، ونج المستضعفين من المسلمين في كل مكان.

    اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين.

    ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم.

    على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.

    ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم اجعل في قلوبنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وعن أيماننا نوراً، وعن شمائلنا نوراً، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً، وأمامنا نوراً، وخلفنا نوراً، اللهم اجعل لنا نوراً.

    اللهم عليكم باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، وأصحاب الضلال ودعاة السوء.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين!

    اللهم انصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.

    اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فدمره تدميراً، اللهم اجعل بأس الظالمين عليهم، وكف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.

    ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا.