www.islamweb.net/ar/

حقيقة الصراع بين الحق والباطل للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله الخلق ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، فكان الصراع بين الرسل وكفرة أقوامهم، وكانت الشبه الباطلة تتوارد تجاه الرسل، فأمر الله رسله بالصبر والاستعانة والتوكل عليه لمواجهة الظالمين من أقوامهم، وأعلمهم أن مآل هؤلاء الظالمين إلى جهنم وبئس المهاد.

    آثار تحقيق معاني العبودية في القلوب

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    قال تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:141-142].

    فإن الله سبحانه وتعالى جعل الأيام دولاً بين الناس، بين الذلة والتمكين، بين القوة والضعف، بين الفقر والغنى، كما جعل ذلك في الكائنات، بين الليل والنهار، بين الحياة والموت، وهو عز وجل بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، قال تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ .

    وقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:123].

    فعندما تشتد الظلمات بأهل الإيمان فإنهم دائماً يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى، وينادونه في وسطها: أن لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين؛ لأن كل مؤمن يعلم أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم ويعفو الله عز وجل عن كثير، ويعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الإله وحده المعبود بالحق لا شريك له، ولا يتوجه المؤمن إلى أحد سواه، وهو الإله الذي تفزع إليه الخلائق في حوائجها.

    وإذا اشتدت الظلمات علم الإنسان حقيقة التوحيد، وأقر بها حتى يكون ذلك سبباً للفرج بإذن الله، فينادي: (لا إله إلا أنت) فينزه الله عز وجل عن كل نقص، وينزه الله عز وجل عن الظلم والعبث، وعدم الحكمة، وينزهه عن الضعف؛ لأن مواطن الشدة كثيراً ما يضل فيها الناس، ويظنون أن الله سبحانه وتعالى ما قدر ذلك بحكمته جل وعلا.. يظنون ظن الجاهلية، ويظنون بالله ظن السوء، ومنهم من يظن أن ذلك خارج عن قضائه وقدره، ومنهم من يظن بالله عز وجل الظلم، وأنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، والله سبحانه منزه عن ذلك كله.

    فينادي المؤمن من قلبه وبلسانه: (سبحانك) فهو ينزه الله عز وجل عن الظلم، وعن أن يكون في هذا الوجود ما يخرج عن قضائه وقدره وقدرته وعلمه وحكمته؛ فلا يظن أنه لا يستحق أن يفعل الله به ذلك، وأنه ينبغي أن يكون غير ذلك، فالله سبحانه منزه عن ذلك كله؛ لأنه قدر سبحانه وتعالى المقادير بالحكمة.

    فينادي المؤمن: (لا إله إلا أنت سبحانك)، فالمؤمن يعلم أن ما أصابه كان بسبب ظلمه لنفسه، وأنه لابد أن يعترف بالظلم لنفسه؛ وأن يبوء بذنبه ليغفره الله له، وأن يعترف كما اعترف الأبوان -من قبله- بظلمهما لأنفسهما، قال تعالى: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، فعندما يعترف الإنسان بالظلم، وبنعمة الله عليه؛ يكون ذلك من أسباب الفرج، فيقول: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ .

    إذا حقق العبد هذه العقائد في قلبه كما ينطق بها لسانه، وتضرع إلى الله عز وجل بصوت ضعيف منكسر لا يجبره إلا الله وحده لا شريك له، ويعلم أن الله سبحانه هو الجبار، ولا يجبر الكسير سواه، ويجبر القلوب على فطرتها وشقيها وسعيدها، فينكسر حينها للجبار سبحانه ولا يتجبر، ويعلم أن عاقبة كل جبار هي الخيبة قال تعالى: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، والله سبحانه وتعالى إذا وجد من عبده المؤمن ذلك فإنه سبحانه وتعالى يسخر ملائكته تشفع له وتدعو له، وتقول: صوت ضعيف في بلاد غريبة، هذا وهو فيها غريب لا يزال يصعد إلى الله عز وجل منه عمل صالح، ودعوة متقبلة، فتشفع له الملائكة عند الله سبحانه، وهو الذي يسخرها، فيستجيب الله عز وجل دعوة عبده، ويفرج كربه، كما قال سبحانه وتعالى عن يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:78-88].

    فليست هذه خاصة بيونس عليه وعلى نبينا الكريم أفضل الصلاة والتسليم، وليست خاصة بالأنبياء، بل هي لكل مؤمن تيقن بهذه الحقائق، وعلم هذا العلم، وأيقن هذا اليقين، فاستجاب الله عز وجل له، ويستجيب لكل مؤمن مكروب في أي موضع دعاه، فدعوة ذي النون لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل كربه.

    فنقولها جميعاً: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، والله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله النور والهدى، واليقين والصبر، والموعظة والعبرة، والتثبيت لقلوب المؤمنين قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120].

    السنن الإلهية في قصص المرسلين

    الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية

    هناك سنة عامة.. سنة ماضية في كل زمان ومكان.. لا تجد لها تحويلاً، سنة الله التي تمضي في خلقه، من يقرأ التاريخ والقصص ويعتبر، يجدها سنة ماضية لا تتخلف أبداً قال تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:137-141].

    جعل الله عز وجل في كتابه النور والهدى، وجعل في قصص أنبيائه ما يرشد المؤمنين إلى طريق الحق، وما يجب عليهم فعله في كل وقت وفي كل مرحلة من مراحل حياتهم ودعوتهم، فطالما ساروا على طريق الأنبياء فلا بد وأن تسير دعوتهم بنفس المراحل، ولابد أن تواجه نفس المواجهات؛ فإن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسان على ظهر الأرض، بل منذ كفر إبليس حقداً وحسداً لآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وحين أبى واستكبر وكان من الكافرين، وبدأ يكيد للأبوين ولجنس الإنسان كراهية وبغضاً وحقداً وضغينة، وورثها لمن تبعه من ذرية آدم، فضلاً عن ذريته التي تكون على طريقته وشاكلته -والعياذ بالله- نستلهم ذلك من القرآن العظيم، ومن نوره الذي جعله الله عز وجل يهدي به من يشاء، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].

    لكي نبصر أين نضع أقدامنا، وماذا نصنع فيما يواجهنا، فإنا إذا حكمنا غير كتاب الله في هذا الموضع، سواء حكمنا العقول بغير نور، أو حكمنا العواطف بغير ضوابط، أو حكمنا آراء الرجال ومقاييسهم؛ فإننا سوف نضيع حتماً، إذ ليس لنا في الأرض من ولي ولا نصير إلا الله سبحانه وتعالى.

    فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا

    إن الله سبحانه وتعالى جعل في قصص أنبيائه ورسله ما يرشد عباده المؤمنين إلى ما يلزمهم العمل به عندما تشتد عليهم الأمور، وقد ذكر الله عز وجل في ذلك قصصاً مجملة ذكرها في سورة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لا تتغير فيها طبيعة المواجهة بين الحق والباطل، سنة واحدة وطريقة ماضية، فنتلمس من آيات الله سبحانه وتعالى، ما يلزمنا أن نعمله عندما تشتد الأمور.

    قال الله عز وجل: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:8-18].

    استمرار سنة الصراع بين الرسل وأقوامهم

    يخبر الله سبحانه وتعالى عن غناه وحمده الذي ذكر موسى به قومه والناس جميعاً، فقال: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [إبراهيم:8-9].

    وهذا إما خطاب من موسى عليه الصلاة والسلام لقومه، أو كلام مستأنف وهو خطاب من الله عز وجل لمن كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، كم من الأجيال والقرون مضت؟! وكم من العقوبات نزلت؟! وكم من الناس تصارعوا؟! وكل ذلك أين هو الآن؟! كما رحلوا هم سنرحل نحن أيضاً وسيرحل أعداؤنا، وسنقف جميعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى، نحن وإياكم سنموت؛ فما أفلح عند القيامة من ندم.

    قال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ، أي: النسابون يعلمون من بعد هؤلاء على وجه اليقين؛ ولذلك نفوض علمهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الفائدة ليست في الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ولا عدد القرون، ولكن الفائدة هي في طبيعة هذا الصراع الذي دار وحصل ويحدث مثله في كل عصر وفي كل حين.

    وضوح بينات الرسل وعمى المبصرين لها

    قال تعالى: جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ .

    فالرسل جاءوا بالحجج الواضحات البينة التي هي أوضح من الشمس، وكل من دعا بدعوتهم فهو كذلك يأتي بالبينات، ولكن ليست المشكلة في مدى وضوح البينة، ولكن في الأعين التي تبصر، وفي القلوب التي تعي، فكم من أناس لهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179]، وكم من أناس لا يرون البينات؟ مع أن الطريق واضح، والحجة بينة قائمة، ومع ذلك لا تقبل، ويكون الفرق بين العدل والظلم كما بين الليل والنهار، ومع ذلك يفضل أكثر الناس الظلم والظلام، والعياذ بالله من ذلك!

    قال تعالى: جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ، إما أشاروا لهم بالسكوت ووضعوا أيديهم على أيدي الرسل أنفسهم حتى يسكت الرسل؛ لتتوقف الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك يكون -غالباً- على سبيل التهديد والوعيد.

    أو وضعوا أيديهم على أيدي الرسل في محاولة مباشرة لإسكات صوتهم، وإسكات دعوتهم، فهم يظنون أن دعوة الرسل يمكن إسكاتها بذلك، ولا بد أن تواجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى محاولة الإسكات إما بالتهديد والوعيد، وإما بالإسكات المباشر بتكميم الأفواه بالفعل حتى لا يخرج للداعي إلى الله عز وجل صوتاً، ومع ذلك فسوف تبقى الدعوة، وسوف تستمر كما قص الله عز وجل علينا، ولم تتوقف دعوة الرسل أبداً بمثل هذه المحاولات، وبقدر ما يكون الإنسان متمسكاً بدعوة الرسل على وضوح منهجها على معالمها الأساسية وتفاصيلها.. يلتمسها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقدر ما يتمسك بذلك كله بقدر ما لا يمكن أن تموت دعوته.

    رد الرسل على المشككين في دعوتهم

    إن هذه الدعوة ستبقى عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل، وهي التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها؛ فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم:9]، فالذي هو في شك، ما الذي يقتضيه عقله السليم أن يفعله؟ يقتضي أن يبحث لا، أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة، فقبل أن يقدم الكفر لابد أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك، وهو مرتاب؛ فليبحث ولينظر: إما أن يسعى في إسكات صوت الحق، وإما أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فالعجب من هؤلاء! فالكفر أنواع متعددة، والشك واحد، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم.

    وكان يقتضي العقول السليمة أن تقول: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه فإننا نبحث عن الحق، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل؟ هذا إذا كانوا في شك حقاً، لكن سوف يظهر لنا حالاً لماذا كفروا ولماذا شكوا؟ الحقيقة: أنها أمراض في النفوس وسوف تظهر جلياً بعد حين.

    فهم حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، فقالوا: إن الدعوة مشكوك فيها، ثم قالوا: إن الدعوة ليست بينة ولا واضحة، مع أن الرسل جاءت بالبينات؛ ولكنهم لا يرون هذه البينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها.

    وواجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك برصيد هائل في الفطرة، من وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وهو رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل واحد مؤمن أو كافر قد أخذ عليه العهد وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172].

    إذاً: كل واحدٍ قد أشهده الله عز وجل على نفسه، وشهد أنه لا يستحق الألوهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر أبيه آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: لقد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا أن تشرك بي).

    فهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان: إما ميله إلى تحقيق التوحيد، أو الشقاء في البعد عنه، فالإنسان يشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه لغيره، ولكن أكثر الناس يسكتون هذه الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجودها بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة)، وهذا أثر من آثار الميثاق الأول، وهي الفطرة الإنسانية في توحيد الله عز وجل، لذا واجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك في الدعوة ذاتها بهذه الحقيقة اليقينية.

    دعوة الرسل للتوحيد

    قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ، أي: أفي وحدانية الله شك؟ وفي تفسيرها قولان:

    القول الأول: أفي وجود الله شك، وهذا وجه ليس بظاهر، إذ عامة الأمم كانت تقر بوجود الله، وإنما تنازع في ألوهية الله وحده لا شريك له، وتنازع في أنه وحده الإله المعبود، فيجعلون آلهة معه، ومنكرو الألوهية قليل.

    القول الثاني: أفي وحدانيته في الربوبية والألوهية شك؟! وهذا أظهر من القول الأول وهو متضمن له؛ لأننا إذا أقررنا بوحدانية الله عز وجل، ورضينا به رباً وإلهاً هذا إثبات وجوده بالأولى والقطع واليقين.

    وهذه الحقيقة هي أكبر اليقينيات؛ إذ لا يمكن أن يرتاب فيها عاقل؛ لأن كل عاقل يوقن أن كل فعل لابد له من فاعل، وإذا رأى آثار الإحكام والإتقان على الصنعة، فلابد أن يكون الصانع عليماً حكيماً قادراً، له كل صفات الكمال، وبالتالي فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.

    فهذه كبرى اليقينيات التي استقرت في نفوس البشر، والتي يحتاجونها أكثر من الماء والهواء، ويردونها كالماء والهواء، كما قال موسى صلى الله عليه وسلم لـفرعون : رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24].

    فهذه أعظم اليقينيات، فمن كان موقناً بشيء فليوقن بوحدانية الله، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد، وهذه هي قضية التوحيد.

    الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية

    قال تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، هذا هو دليل توحيد الألوهية، والاستدلال عليه بتوحيد الربوبية، فهو وحده الذي فطر السموات والأرض، وخلقهما على غير مثال سابق، فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ .

    فلا يمكن أن يقبل عقل إنسان أن هذه السماوات والأرض خلقت من غير شيء، ولا يقبل عقله بعد ذلك أن تصرف العبادة لغير خالقهما، ولغير خالق العباد.

    إذا قررت وقبلت بأنها لابد لهما من خالق، وقررت أن له صفات الكمال، فلا بد وأن تعتقد أنه لا يعبد سواه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الألوهية، وهو توحيد الرب بأفعاله، وهذه الأفعال آثارها ظاهرة جلية في الكون من المخلوقات والصنعة المتقنة المحكمة، وكل ما في السماوات والأرض من آيات هو أعظم دليل على أنه وحده الذي يستحق أن يركع له ويسجد ويرجى ويخاف ويحب، ويتوكل عليه، ويخضع له ويذل، ويرجى فضله، وترهب عقوبته، ويتحاكم إلى شرعه.

    فهذا توحيد الربوبية وهو الدليل الأول على توحيد الألوهية.

    قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ .

    هذا هو الدليل الثاني على توحيد الألوهية وهو: الرحمة والمغفرة والمحبة. وهذا الدليل قد جربه الرسل، جربوه إذ ساروا إلى الله، وقبلوا دعوته؛ فغفر لهم ذنوبهم، وهي تلك الذنوب التي كانت كالظلمات على القلوب، فلا تجعلها ترى حقائق هذا الوجود، ولا تجعلها تدرك صغر الدنيا، وحقارة الأرض وما فيها، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.

    كأن هذه الذنوب تحول بين القلوب وبين خالقها وبارئها، وبين من قصرت في محبته والشوق إليه، فلما زال أثرها بالمغفرة من الله عز وجل، ذاقوا أعظم ما في الدنيا من لذة، ووجدت القلوب أعظم ما يمكن أن يوجد في هذه الدنيا وهو الشوق إلى الله ومحبته، والرضا به رباً وإلهاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).

    وطريق المحبة طريق جربه الرسل؛ لأن الذنوب حواجز القلوب، فهي ران يرين عليها فلا ترى الحقائق، ولا تشعر بها، فلما غفرت الذنوب، واستجابت القلوب لدعوة الله، وجدت القلوب شيئاً جديداً لم تكن ذاقته من قبل، وعرفت الطريق إلى الله، كما قال شعيب عليه السلام: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، عندما قال: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ، وجاء باسمه عز وجل (الرب) مضافاً إلى ضمير المخاطبين: (ربكم) وعندما ذكر وده ورحمته نسبه إلى ضمير المتكلم (إن ربي رحيم ودود).

    وهكذا قال صالح عليه السلام: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]، فقد جرب الطريق، وعرف حب الله سبحانه وتعالى، ولذلك دعت الرسل أقوامها إلى أن يستجيبوا لدعوة الله.

    قال تعالى: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ ، وهذا يرقق القلب.. فالله يريد بكم الخير، وأن تغفر لكم الذنوب؛ فاستجيبوا لدعوته، إن الله عز وجل لا يريد لكم الشقاء، الناس تظن أنها سوف تحرم من لذة الدنيا إذا التزمت، وفي الحقيقة سوف تتضاعف هذه اللذات، فهم ما جربوا الطريق؛ لذلك يرفضونه ويبتعدون عنه، ولو جربوه لذاقوا حلاوته، وعندما تخالط بشاشة الإيمان القلوب لا ترضى عنه بديلاً.

    قال تعالى: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، لو آمنتم به فسوف يمتعكم متاعاً حسناً، والله عز وجل علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

    ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله عز وجل: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]؛ لأن الذي لا يستأخر ولا يتقدم هو الأجل الذي في علم الله، أي: في اللوح المحفوظ، وأما ما لم يكن لو كان كيف يكون، فهذا أجل مسمى آخر عند الله عز وجل، فعلم الله سبحانه وتعالى أنهم لو آمنوا لمتعهم، كما قال سبحانه وتعالى عن قوم يونس: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فلو أنهم آمنوا لكان لهم مصير آخر ومتاع إلى حين، وإلى أجل مسمى عنده عز وجل.

    أسباب رفض الكافرين الدعوة إلى الله وأساليب طعنهم في الرسالات

    لماذا يرفضون الدعوة إلى الله؟

    يرفضون الدعوة إلى الله عز وجل للحسد الذي في قلوبهم، قال تعالى: (( قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا )).

    حسد الطغاة للرسل على ما آتاهم الله من الوحي

    هذا هو الحسد ذلك الداء العضال: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ، فهم لم يصرحوا بقولهم: لماذا أنتم الذين اصطفيتم واخترتم بالوحي من دوننا؟ فكأن لسان حالهم يقول: كان ينبغي أن يكون الوحي لنا وليس لكم؛ إذ ليس لكم علينا فضل، وكل هذه الكلمات تدور حول ذلك الحقد والحسد؛ لأنهم في حقيقة الأمر يرون أنفسهم أولى بالوحي، وأولى بأن يكونوا هم الرسل، ألم تسمع لقول المشركين: قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]؟!

    ألا ترى قول فرعون وهو يقارن بينه وبين موسى، ليدلك على حسده لموسى، قال عز وجل عنه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:51-54].

    ففرعون في الحقيقة يحسد موسى، وأما هذه المقارنة التي يعقدها فرعون ويدعي فيها بأن موسى ليس معه مال كثير، وفي لسانه لثغة لا يستطيع أن يقول فيبين، بل قال: لا يكاد يبين، إذن قد بين ما في موسى فما المشكلة؟ فهو ليس عنده ملك مصر، والأنهار لا تجري من تحته، وكل ذلك لأنه يشعر بأن الناس لم يعطوه حقه، ويشعر أن الناس لا تبصر جيداً، مع أنه ليلاً ونهاراً يرسل في البلاد من ينادي ويقول: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ، ثم يقول: أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أي: أنتم لا تبصرون أم ماذا؟

    فهو يراهم لا يرون ما ينبغي له من التعظيم؛ لأنه يرى القلوب المؤمنة قد التفت حول موسى وهو لا يقبل ذلك، فوجد طائفة من قومه تقبل بهذا الاستخفاف، وتطيعه على ذلك؛ فأهلكهم الله عز وجل.

    قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ، في هذا ما يدلنا على حقيقة المرض، وأنهم يحسدون الرسل على ما آتاهم الله من فضله، ويريدون أن يكونوا هم أهل الوحي والرسالة، كما يقولها الكفرة لكل الرسل وللمؤمنين من أتباعهم دائماً: أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]؟ وهذه شبهة يحاولون بها الطعن في الرسل بعد أن فشلوا في الطعن في دعوتهم، عندما قالوا: إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، وبينت الرسل أن توحيد الله أعظم اليقينيات، عندها حاولوا الطعن في الدعاة إلى الله عز وجل فقالوا: إن أنتم إلا بشر مثلنا؛ فكيف تتفضلون علينا؟!

    اتهام الطغاة للرسل بتغيير دين الآباء والأجداد

    من الشبه التي طرحوها أنهم خالفوا العادات والتقاليد، وأنهم يريدون أن يغيروا دين الآباء، قال تعالى: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا .

    وتغيير العادات والتقاليد هو أعظم جريمة عند الناس، وكونهم يخرجون على ما كان عليه الآباء والأجداد، وعلى تقاليد المجتمع الذي نشأوا فيه، فكانت هذه الشبهة الباطلة هي أعظم ما يكفر به أكثر الناس، كما أنها هي الشبهة التي بسببها كفر أبو طالب وظل على كفره مراعاة لها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه ويقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)، وأبو جهل وعبد الله بن أمية على رأسه، يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب ، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، مع أنه يعلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن دينه خير دين، ويقول له: لولا أن يقول الناس: حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عيناك.

    فالنظم الموروثة، والتقاليد التي نشأوا عليها، وعدم مخالفة دين الآباء، كل ذلك قاله فرعون للصد عن دعوة موسى، قال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].

    وهكذا دائماً كل طاغية لا يقبل أن يكون هناك تغيير ولا تعديل للباطل الذي نشأ عليه، مع أنه ليس عنده دليل عليه، ولا حجة لديه، وإنما هو التقليد الأعمى، والعياذ بالله.

    طلب المعجزات

    قال تعالى: (( فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ))، والشبهة الثالثة التي يتمسكون بها هي: أنكم أيه الرسل لم تأتونا بمعجزة، فهم يريدون المعجزات المقترحة، يقترحون مثلاً: أن يجعل الصفا ذهباً، أو ناقة تخرج من بطن الجبل.. يقترحون أنواعاً من المعجزات مفصلة على قدر عقولهم السخيفة، مع أن البينات قد أتت، والرسل قد وضحت، ولكنهم لم يقبلوا البينات، ولو أتى الرسل بآلاف المعجزات فإنهم لن يؤمنوا بذلك، فقد أتت الناقة لقوم صالح فهل آمنوا؟ وقد رأى الناس معجزات موسى وعيسى فهل آمنوا؟ فرعون رأى بعينه السحرة يسجدون؛ لأن عصا موسى التي تحولت ثعبان قد أكلت كل ثعابينهم، فهل آمن؟ ورأى الآيات تلو الآيات، فرأى الجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، رأى البحر ينفلق أمام عينيه بضربة من عصا موسى، فهل آمن؟

    الحقيقة أنهم لا يؤمنون مع وجود السلطان المبين الذي يزعمون أنه إن حصل قبلوا به وآمنوا؛ ولأنهم نوعية خبيثة من مرضى القلوب فلا يؤمنون.

    علاج الرسل لمرض الطغاة الحاسدين

    قال تعالى: قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، نعم هذه حقيقة نقررها وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .

    فهذا محاولة علاج لداء الحسد، وهو: أن ينظر الإنسان إلى مَنَّ الله وفضله، فهو الذي قسم سبحانه وتعالى، وهو الذي أعطى عز وجل، فإذا من الله عز وجل على عبد؛ فلماذا تعترض أنت على من الله؟

    قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، كما قال سبحانه وتعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:31-32].

    فالجواب: أنها رحمة من الله، فهو الذي اختص برحمته من شاء سبحانه وتعالى، فلماذا يكون الحسد لمن شاءه من عباده؟

    قال عز وجل عن الرسل: وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ، أي: ما كان لنا أن نأتي بآية ومعجزة إلا بأن يأذن الله بذلك.

    أهمية سلاح التوكل على الله في الدعوة إلى الله

    قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .

    أعظم سلاح يستعمله أهل الإيمان: أنهم يتوكلون على الله عز وجل، وهذا هو الواجب الذي لا ينفك عنه المؤمن، ويتأكد ذلك عندما تشتد الأمور وتزداد المحن، فيعظم حينها التوكل عليه والاستعانة به سبحانه، كما قال سبحانه وتعالى عن قول فرعون مهدداً: قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:127-128].

    وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فالاستعانة بالله سبحانه وتعالى من أعظم ما يواجه به أهل الإيمان هذه المحن وهذه الكربات.

    قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ .

    وقدم الجار والمجرور في: وَعَلَى اللَّهِ ، للاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده، كما قدم المفعول في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، للاختصاص والاهتمام، أي: نعبد الله وحده، ونستعين به وحده؛ لأننا نهتم بهذا الأمر أعظم اهتمام، وكما قال مؤمن آل فرعون عندما دعا قومه صراحة إلى الله، قال: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:44-46].

    والتوكل على الله عز وجل درجات: منه التوكل على الله بأمر الرزق، وهذا توكل الطيور، والبهائم، وسائر الكائنات، ولو توكل بنو آدم على الله عز وجل حق توكله؛ لرزقهم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً.

    وهذا التوكل ربما تشارك وتساوى فيه الكفرة، والعصاة، والفسقة إلا أن توكل المؤمنين أعظم؛ فهم يتوكلون على الله عز وجل في طاعته وتوفيقه لهم، أي: أنه يعينهم على مرضاته، ويبعدهم عن معصيته، موقنين بأنهم لا يهتدون إلا أن يهديهم الله، ويتوكلون عليه في أن يصلوا بسلام إلى دار السلام، ويتوكلون على الله عز وجل في أن يوفر لهم دخول الجنة.

    أما توكل الرسل عليهم الصلاة والسلام على الله عز وجل فهو في نصرة الدين، وهداية الأمم، واستخراج الناس من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان، وهذا هو أعلى درجات التوكل، بأن تتوكل على الله لأجل نشر عبادته في الأرض كلها، وليس فقط أن تتوكل على الله في خاصة نفسك لكي تعبده أنت في نفسك، بل تتوكل على الله عز وجل لكي يُعبد سبحانه وتعالى في الأرض؛ لأن الله عز وجل ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فلنتوكل عليه في ذلك سبحانه وتعالى؛ لتبقى دعوة الحق قائمة.

    قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا .

    وكيف لا نتوكل عليه وقد جربنا طريق الهداية، وهدانا الله عز جل إلى توحيده ومعرفته ومحبته؟ فكيف بعد ذلك لا نتوكل عليه وقد علمنا فائدة التوكل وثمرته؟

    وفي الحقيقة أن التوكل أكمل ما يكون، وأتم ما يكون عندما تنعدم الأسباب، وتأمل توكل موسى صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله سبله، ووفقه الله عز وجل إلى ما أراد، عندما تراءا الجمعان وقال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فهذا توكل عظيم، إذ لا أسباب بالمرة، فالعدو قد حضر، وأكد أصحاب موسى أنهم مدركون، قال: كَلَّا ، يقيناً بالله، وتوكلاً عليه سبحانه، وثقة به عز وجل قال: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:62-63].

    وأعلى منه توكل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يلقى في النار، ويقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

    وفي الأثر الإسرائيلي عند البخاري عن ابن عباس : (أن جبريل لقي إبراهيم في الهواء وهو في الطريق إلى النار فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم) فهو هنا توكل على الله بلا أسباب، وهو في لحظات سقوطه في النار، ولذا كان الجزاء من عنده عز وجل وليس بسبب مخلوق من المخلوقات، أو بريح هبت فأطفأت النار، أو ملك أخذ إبراهيم فأنقذه، أو ماء نزل من السماء جعل النار الساخنة مطفأة باردة، لا، بل بأمر منه عز وجل: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:68-96]. فالله عز وجل بكلامه أنقذ إبراهيم.

    وأعظم منه توكل النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال له صاحبه وهو في الغار: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا).

    فهذا توكل عظيم، وهو التوكل على الله عز وجل عند انعدام الأسباب من الناس ومن النفوس، فنفوسنا عاجزة ضعيفة لا أسباب فيها، ولعلك تيأس من نفسك أنت؛ كما قال الله عز وجل: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31]، وهذا اليأس من النفس هو عجز.

    فهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمع في أن يؤمن عمه أبو طالب ، وبذل الجهد في ذلك، وما آمن أبو طالب فقال تعالى له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، يأس من النفس، وإذا كنت لا تملك أن تهدي أحداً فبالأولى لا تملك ذلك لنفسك، ولا تملك لأحد نفعاً ولا ضراً، ولا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً؛ فكيف تملكه لغيرك؟! وقال عز وجل: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110]. فالمؤمن قد ييأس من النفس، ومن الناس، ومن الأسباب، ولكنه لا ييأس من رحمة الله أبداً، فيبقى التعلق برحمة الله سبحانه وتعالى، فإذا حصل هذا التوكل العظيم جاء الفرج بإذن الله تبارك وتعالى.

    بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

    قالوا: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ، إن التوكل والصبر واجب في كل وقت وحين، وهذه عبادات لا ينفك عنها المؤمن.

    وبهذا تنال الإمامة في الدين لا بمجرد العواطف غير المنضبطة، ولا بحسابات عقول قاصرة ضعيفة تدرك الأسباب المادية دون المن الإلهي الذي يمن به على من يشاء، ويفتح به أبواب الخير لمن يشاء سبحانه وتعالى.

    قال عز وجل: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا . بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فلا بد من اليقين الذي هو ثمرة التوكل على الله عز وجل، وثمرة الإيمان الصادق بأن وعد الله عز وجل لا يخلف، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ، فالأذى وارد، ولابد أن يجده من يسير في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولابد من الصبر، ولا يجوز أن ينفك المؤمن عن الصبر والثبات في حال من الأحوال.

    قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ، تأكيد جديد على أهمية الجمع بين الصبر والتوكل على الله، وسوف يجعل الله من ذلك أوسع الفرج بفضله عز وجل.

    مرحلة التهديد للرسل من أقوامهم

    انتقلت المواجهة إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة التهديد، فقالوا لرسلهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [إبراهيم:13]، أي: لا بد أن تقولوا مثلما نقول، ولا تخرجوا عنه قيد أنملة، لابد أن ترددوا ما نردد، ولا تقولوا غير ذلك، ولو كان ما لديكم هو من عند الله، ولو أتيتم عليه بآلاف الأدلة، ولا تتكلموا بغير ما نتكلم، ولا تدينوا بغير ما ندين؛ فالأرض أرضنا وسوف نخرجكم منها، وما علموا أن الأرض لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]. فهؤلاء لا يدركون هذه الحقيقة، مع أنهم لو فكروا فيما كان عليه أجدادهم، وفيما سيكون عليه أبناؤهم من بعدهم؛ لعلموا أن الأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء من عباده، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والعباد عباده، والله سبحانه هو القاهر فوق عباده، وليس العباد بعضهم بقاهر فوق بعض، قال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا ، فهنا تلمس في كلامهم الغرور والإعجاب بالنفس، والكبر والتسلط والبغي أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا .

    عاقبة الظالمين المكذبين للرسل

    قال عز وجل: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، قسم من الله عز وجل مؤكد بلام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة، وهي تدل على وجوب تحقق ما أقسم الله عز وجل عليه، وأنه سوف يهلك الظالمين ولا بد.

    قال تعالى: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ، هذا وعد من الله بأنه سيورث الأرض لعباده المؤمنين كما قال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:105-107]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

    ولكن لمن يكون ذلك؟ وماذا يراد منا؟ قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ، لابد أن نخاف الله عز وجل وحده، وخوف مقام الله سبحانه وتعالى فسر بمعنيين: الأول: خوف مقام الرب على عبده بالاطلاع عليه، ثم بالحساب له يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويحاسبهم على ذلك، فإذا خاف العبد مقام الله عز وجل عليه بالاطلاع والمراقبة والمحاسبة اتقاه وعمل بطاعته.

    الثاني أن يخاف العبد مقامه بين يدي ربه يوم القيامة. والتفسيران متلازمان، فإن الاطلاع والمراقبة يقتضي المحاسبة، فالعبد موقوف بين يدي الله عز وجل، وهذا هو الذي ينبغي أن نخاف منه، ولا يجوز أن نخاف غيره قال تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ، وكلا الخوفين واجب: خوف مقام الله ورهبته، وخوف وعيده وعقابه وعذابه، ولسنا كما يقول الزنادقة: اللهم إن كنت أعبدك خوفاً من النار فأدخلني فيها. بل نخاف وعيد الله، ونعمل للقاء الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يرزقنا الخوف منه وحده لا شريك له.

    دور الدعاء في النصر على الأعداء

    قال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا ، أي: استفتحت الرسل وطلبت الفتح والفصل والحكم، ودعت الله عز وجل أن يفصل بينهم وبين قومهم، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89].

    والدعاء من أمضى الأسلحة إن لم يكن هو أمضاها وأقواها، وأعظم سبيل للنصر بإذن الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).

    أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم. وهكذا يكون النصر بالدعاء، ويكون فتح الأبواب المغلقة بالاستفتاح، نستفتح الله عز وجل، أي: ندعوه أن يفتح لنا، وأن يحكم بيننا، وأن يفصل في هذه الخصومة التي وقعت، وفي الخلاف بين منهج الحق ومناهج الباطل.

    قال الله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [إبراهيم:15].

    وإن كان الأمر قد يتأخر قليلاً لكن لابد وأن يقع، قال عز وجل: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:88-89].

    إذاً: فالاستقامة سبب في إجابة الدعوة، ولو بعد مدة، ولكن الواجب أن تستقيم اسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، أي: لا تبتعد عن الطريق الحق إلى سبل الضلال، فضلاً عن أن تكون ممن لا يعلم، فلا بد من العلم ومن الاستقامة معاً، والعمل بهذا العلم، ولابد من عدم الركون إلى من ظلم، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، ومع الاستعانة، والصبر، والاستقامة، والإيمان، والعمل الصالح، وعبادة الله وحده لا شريك له يكون الفرج.

    وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ ، والجبار: هو الذي يسفك الدماء، وينتهك الحرمات؛ ليجبر الناس على إرادته الباطلة المحرمة والمخالفة لشرع الله، دون أن ينظر في أمره الذي يأمر الناس به، فهو يجبرهم عليه سواء كان موافقاً لدين الله أم لا، فهذا يسمى جباراً، وإذا امتنع منه أحد قتله، وهذا النوع يخيب دائماً، قال تعالى: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ؛ لأنه عاند شرع الله بعد أن وضح له الحق، وعلم أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ومع ذلك فهو يحاربه ويعانده.

    قال تعالى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم:16]، ونعوذ بالله من ذلك.

    مِنْ وَرَائِهِ أي: جهنم أمامه تنتظره، (ويسقى من ماء صديد)، والصديد هو: عصارة أهل النار، وجروح أهل النار يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وإذا قرب ذلك الإناء الذي فيه الصديد من وجهه فإنه يشوي وجهه، ويسقط لحم وجهه فيه، ومع ذلك يسقاه رغماً عنه، فهو يتجرعه ولا يكاد يمر من حلقه، ويتألم في كل جزئية من جزئياته، ويعذب بكل أنواع العذاب، فالناس تسقى لكي تبرد ما في أجوافها من حرارة، وهذا يسقى ليزداد عذاباً.

    يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ . أشد اللحظات على الإنسان هي لحظات الانتقال من الحياة إلى الموت.

    وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ، وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ، نعوذ بالله من ذلك.

    ثم بين سبحانه وتعالى هبوط أعمال الكفار والعياذ بالله، وأنها في الدنيا والآخرة لا تساوي شيئاً، قال تعالى: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ والآية دليل على هبوط العمل وذهابه وضياعه وانتهائه بالكلية والعياذ بالله، ففي الدنيا لم يحققوا أغراضهم، وفي الآخرة كان العذاب الأبدي مآلهم ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ .

    نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين، وأن يدمر اليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة الملحدين أصحاب الضلالة ودعاة السوء. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم.

    اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصر لنا ولا تنصر علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، لك مطواعين لك رهابين، إليك منيبين قانتين، تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، وأزل الشحناء من صدورنا.

    اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان. نعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء.