www.islamweb.net/ar/

صفات جيل النصر المنشود للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • نرى جلياً صفات جيل النصر المنشود مذكورة في سورة الحشر، صفات الصحابة من المهاجرين والأنصار، السابقين إلى الله ورسوله، الذين قام الإسلام على أكتافهم، ونقلوا السنة والقرآن إلينا غظان طريان كما أنزلا، وأتوا بالإسلام إلينا على طبق من ذهب، فهم مصابيح الدجى وأعلام الهدى، بهم استنارت قلعة الدين، وابتهجت طائفة المؤمنين، وزلزل الكفار، ودحر الأشرار. فصبرهم على الجوع والعطش وإيثارهم وحب بعضهم بعضاً، وتضحيتهم بالمال والنفس والولد لإعلاء كلمة الله غير خاف على أحد، فلابد أن نعرف واجبنا نحوهم، أما من طعن فيهم من الشيعة والرافضة وغيرهم، فما لهم عند الله من خلاق.

    أهمية الحديث عن صفات جيل النصر

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:

    فكلما اشتد الصراع بين الحق والباطل تضرع المؤمنون إلى الله سبحانه وتعالى يدعونه عز وجل أن ينصرهم، وأن يعلي الحق، ويظهر دينه بهم، فلزمهم أن يبحثوا في أنفسهم عن الصفات التي يجب أن يتصفوا بها؛ لكي يحقق الله سبحانه وتعالى وعده لهم، فإنما جعل سبحانه وتعالى وعده مشروطاً باتصافهم بصفات معينة، وليس وعداً مطلقاً لكل متسم باسم الإسلام أو الإيمان، أو لكل منتسب إلى الدعوة والدين والجهاد، ولكن ذلك لمن شابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار منهم وإن لم يلحق بهم، قال الله عز وجل: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]؛ فهم منهم؛ لأنهم على طريقتهم، ولهم بعضاً من صفات الصحابة رضي الله عنهم، ذلك الجيل الفريد، جيل النصر الذي مكن الله عز وجل به لدينه، والذي جعله سبباً لانتصار الإسلام وانتشاره في مشارق الأرض ومغاربها، ولاشك أن الله سبحانه وتعالى إذا اختار قوماً لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة أول مجتمع مسلم في الأرض؛ فإنهم لابد أن يكونوا خير الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وقال الله عز وجل مادحاً إياهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى قبل وجودهم بقرون وأجيال، وربما بمئات أو آلاف السنين، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].

    وقال عز وجل في خطابه لموسى عليه السلام قبل وجود عدة أجداد من أجداد أجداد أجداد الصحابة، فقال سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:156-157].

    نحتاج دائماً إلى أن نعرض أنفسنا على هذه الآيات؛ لأن المواجهة الحالية التي بين الإسلام وبين قوى الكفر المتحزبة المجتمعة على الصد عن سبيل الله، وصرف الناس عن دين الله؛ لا يمكن أن تنتصر إلا بمن كانت صفتهم وأحوالهم قريبة من صفات الصحابة رضي الله عنهم، وذلك أن ظهور الإسلام في مواجهة هذه القوى الكافرة كلها من اليهود والنصارى والمنافقين والمشركين لا يمكن أن يكون بدون الوصول إلى حقيقة العبودية والإيمان والعمل الصالح الذي وعد الله عز وجل أهله بالاستخلاف في الأرض، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    ولذلك فإننا لا نشك لحظة واحدة في أن النصر المنشود الذي يتطلع إليه المسلمون، وهو نصر يريدونه حاسماً، وعودة للإسلام على خلافة راشدة على منهاج النبوة، لا نشك أن ذلك النصر يمكن أن يحدث على أيدي من يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغضونهم، فضلاً عمن يكفرهم ويلعنهم، ونعوذ بالله من سوء حالهم.

    لذلك أتوقف لحظات مع صفات جليلة وصف الله عز وجل بها المهاجرين والأنصار؛ لنزن أنفسنا بها، وننظر ما نصيب كل واحد منا من هذه الصفات، فإن الله ذكرهم بصفاتهم؛ لكي يعلم أن الاقتداء بهم في هذه الصفات هو الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وهو الذي شرعه.

    الفيء تعريفه وصفات أصحابه

    ذكر الله تعالى في الآيات التي من سورة الحشر لمن يكون الفيء، والفيء: هو المال المأخوذ من الكفار بغير قتال، وسمي فيئاً؛ لأن أصل هذا المال خلقه الله عز وجل ليستعين به الناس على العبودية لله سبحانه وتعالى، فلما استغله الكفار في معصية الله والكفر به، والشرك به، أخذه الله عز وجل منهم ورده إلى المسلمين وأفاءه عليهم، فإن المال مال الله يعطيه سبحانه وتعالى لمن يشاء، وهو يبتلي العباد بهذا المال وبغيره من أمور الدنيا ليمتحنهم فيها، فنزع الله عز وجل ذلك المال من الكفار وأفاءه على المسلمين، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لينفقه في الوجوه التي أمره عز وجل أن ينفقه فيها، فكانت هذه الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في المهاجرين والأنصار والذين جاءوا من بعدهم مبينة لمن يعيد الله سبحانه وتعالى هذا المال إليه، لمن يفيء الله عز وجل الأمر إليه، ولذلك نرى فيها تبشيراً لمن شابههم في صفتهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) نرى فيها تبشيراً بأن يفيء الله سبحانه وتعالى على من تشبه بهؤلاء الصحابة مثل ما أفاء عليهم، وأن ينصرهم كما نصرهم، وأن يؤيد من كان على طريقتهم كما أيدهم، وإن كنا بالتأكيد نجزم بأن أحداً لا يلحق بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فهم سادة الأمة، وهم أساس البناء، والذين تحملوا فترات الإحراق، والتي كانوا فيها يمثلون الإسلام على وجه الأرض كلها، كان أحدهم ربما يكون سبع الإسلام، أو ثمنه مدة من الزمن؛ فكان الواحد منهم يمثل جزءاً كبيراً من الدين رضي الله تعالى عنهم.

    نحن نعلم فضل الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، ونعلم فضل حبهم ومتابعتهم، وأن أفضلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة وهم: طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ثم أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وكذلك يشهدون بالفضل لأهل بيعة العقبة رضي الله تعالى عنهم، ويعرفون فضل مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، وأصح الأقوال في هذا الفتح: أنه صلح الحديبية، فمن أسلم وهاجر وجاهد ونصر الدين قبل صلح الحديبية أعظم درجة من الذي أسلم وهاجر ونصر الدين بعد صلح الحديبية الذي سماه الله فتحاً.

    ويعتقد أهل السنة: أن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويعتقدون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إن شاء الله) .

    وهم يعرفون فضل المهاجرين، ويقدمونهم على الأنصار كما قدمهم ربهم سبحانه وتعالى في كل المواطن التي ذكر فيها المهاجرين والأنصار، فهم أساس البناء الذي تحمل فترات الشدة، التي كان الإسلام فيها مضطهداً في الأرض كلها، فرضي الله تعالى عنهم.

    تحمل عنا الفقر والهجرة من أجل الله عز وجل

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10].

    أول وصف وصف الله عز وجل، من يستحقون الفيء: أن يكونوا من الفقراء المهاجرين، فقال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فالفقراء المهاجرون رضي الله تعالى عنهم تحملوا في سبيل الله سبحانه وتعالى الفقر، فقد كانوا قبل ذلك فيهم من له المال والعشيرة والوجاهة والوطن والدار والتجارة الرابحة، ثم تركوا ذلك لله سبحانه وتعالى، وتحملوا أن ينتقلوا إلى دار غريبة عليهم، صارت بعد ذلك أحب إليهم؛ لأنهم تركوا من أجلها وطنهم وأرضهم وديارهم وأهليهم.

    فالله سبحانه وتعالى ذكر تضحيتهم في سبيله عز وجل، وتحملهم مشاق قلة المال، والبعد عن الوطن، والأهل والعشيرة، ولا شك أن الإنسان يكون مستريحاً أكثر في المسكن الذي يرتضيه، والذي نشأ فيه، وفي البلد الذي يحب أن يعيش فيه، خصوصاً إذا كان أحب بلاد الله إلى الله، وجعله الله عز وجل محبوباً إلى قلوب عباده المؤمنين، وهي: مكة المكرمة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) .

    فلينظر كل منا إلى هذا الأمر، واستعداده للتضحية من أجله، فهؤلاء تحملوا الفقر في سبيل الله عز وجل، والغربة عن المساكن التي تركوها لله عز وجل وجهاداً في سبيله، كما قال سبحانه وتعالى في وجوب تقديم حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

    سبب تحمل الجوع والفقر

    كان المهاجرون رضي الله عنهم، ممن قدم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الثمانية: الآباء والأبناء، والعشيرة والأهل والأزواج، والأموال المكتسبة، والتجارة التي يخشى كسادها، والمساكن المرضية، كل هذا ضحوا به في سبيل الله عز وجل، وكان فقرهم الذي حصل لهم إنما كان بعدما كانوا فيه من سعة من المال والرزق، وما كانوا فيه من المنزلة؛ فإن قريشاً كانت لها المنزلة الرفيعة عند العرب جميعاً، وكانوا رضوان الله عليهم بما صنعوا يمثلون قدوة في التحمل والصبر والثبات على الدين رغم المشاق، وكان من شأنهم ما ذكره أهل السير والحديث، من جوعهم؟ وزهدهم في الدنيا؟ وصلابة تحملهم للمشاق في سبيل الله؟

    يحكي ابن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بجماعة من أصحابه يعودون سعد بن عبادة رضي الله عنه، وليس عليهم نعال ولا خفاف ولا عمائم ولا قلانس إلا الأزر رضي الله تعالى عنهم!

    خرجوا حفاة ليس معهم نعل ولا خف، ولا قلنسوة ولا عمامة، رضي الله تعالى عنهم، ليس معهم إلا الأزر.

    وكذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أميراً على سرية فيها ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وماذا كان زادهم الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم؟ زودهم بجراب من تمر، نصيب كل واحداً منهم في اليوم تمرة، نام واحداً منهم عن تمرته فما استطاع أن ينهض؛ لأنه كان عاجزاً عن النهوض؛ حتى شهد له أصحابه عند الأمير أبي عبيدة بأنه لم يأخذ تمرته، فلما شهدوا له بذلك قيل له: تعال خذ تمرتك، فانطلق لكي يأخذ التمرة رضي الله عنه، كأنما أفاق من الغشيان والإغماء الذي أصابه، كانوا يمصون التمرة والنواة ويجعلون عليه من الماء حتى نفد هذا الجراب من التمر، وجاعوا جوعاً شديداً، حتى أخرج الله لهم حوت العنبر، فأكلوه في البداية متأولين أنهم مضطرون لأجل الجهاد، حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن هذا رزق ساقه الله إليهم، وأكل من لحمه؛ لأنه من صيد البحر الذي أحل الله عز وجل ميتته.

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعصب على بطنه حجرين من الجوع، وكان الصحابة يعصبون على بطونهم حجراً حجراً رضي الله تعالى عنهم.

    إنفاق الأموال في سبيل الله

    أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فمنهم من أنفق ماله كله كـأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت لهم الله ورسوله، لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمنَّ الناس علي في نفسه وماله أبو بكر) رضي الله عنه، ويقول: (وكل أحد كافأناه بها إلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يجزيه الله بها يوم القيامة) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

    والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر أصحابه بأنه لا يخشى عليهم الفقر، مع أنهم كانوا في شدة الحاجة فيصبرهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) .

    خطب عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقال: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر، فالتقطت بردة فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، قال: ما أصبح كل واحد منا إلا أميراً على مصر من هذه الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً. رضي الله تعالى عنهم.

    انظر كيف كان حالهم؟ ليس لهم طعام إلا ورق الشجر، وتحملوا هذا فعلاً في سبيل الله، وصبروا على الفقر، ولذا يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، رضي الله تعالى عنهم وفي الحديث: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، ربما الواحد منا الآن لا يستطيع أن يتحمل مخالفة عادته في الأكل والشرب أو المنام، انظر ماذا يصنع الناس في الحج وهو لا جهاد فيه ولا شوكة، وأن ينام الإنسان جزءاً من ليلة في مزدلفة مثلاً على غير فراش بالعراء شيء يسير، وتجد أكثر الناس يتركون المنزل ولا يتحملون إلا ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو ساعتين على الأكثر، وقلة هي من تحتمل ذلك إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى.

    وكذلك المبيت بمنى مثلاً، فالناس لا يتحملون مخالفة العادة في الأكل والشرب؛ التي تعودوا عليها، فهل نحن فعلاً مستعدون للتضحية بالأموال والأنفس والثمرات، فضلاً عن تحمل الخوف؟!

    تحمل الصحابة الجوع والخوف وصور جوعهم

    قال عز وجل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، إن ذكر الخوف ينبئنا بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شعور ضروري يلازمهم باستمرار الحياة المعتادة، وتحملهم لهذا الشعور في سبيل الله من أعظم ما يثيب الله سبحانه وتعالى عليه.

    أكثر الناس من أجل الشعور بالأمان مستعد لأن يضحي بالتزامه وبطاعته لله، وبعمله من أجل الإسلام، بل ربما يضحي بعمله بالإسلام لكي يكون آمناً مطمئناً مع أن هناك خوف أشد، فالمؤمن إنما يسعى للأمان الحقيقي يوم الفزع الأكبر، والله عز وجل ذكر وقوف المؤمنين المطمئن فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] ، وقال عز وجل: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89] ، وهذه كلها مشاق، تحملها المهاجرون رضي الله عنهم.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد).

    ويرخج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من بيوتهم من الجوع، فيجدهم أبا الهيثم بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه؛ لكي يأكلوا عنده وليس عندهم شيء.

    النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رجل فيقول: إني مجهود، أي: أصابني الجهد من شدة الفقر والحاجة، فيرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيوت نسائه واحدة واحدة، وتسع نسوة للنبي عليه الصلاة والسلام كل واحدة منهن تقول: والله ما عندي إلا ماء -ليس في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ماء- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذه الليلة يرحمه الله، فيقول رجل من الأنصار: أنا، رضي الله تعالى عنه، ويذكر أن هذا هو سبب نزول قوله سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، فانطلق هذا الرجل بهذا الضيف لامرأته وقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، رضي الله تعالى عنهما وعن أولادهما، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، ثم قومي فأطفئي السراج، وأشعريه أنا نأكل، ونبيت ليلتنا طاويين، ففعلت رضي الله تعالى عنها، وهذا والله من الأمر العجيب، أنها تقدم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فقط على نفسها بل حتى على أولادها، والأب والأم يمكنهم أن يقدموا الضيف على أنفسهم، لكن أن يقدم على قوت الصبية من أجل أن يطعم المسكين الفقير المجهود الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو العجب، وانظر إلى ما كان عليه الحال عندهم من الشدة.

    وأبو هريرة رضي الله عنه يقسم أنه يسأل عمر رضي الله عنه عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويسأل أبا بكر عن آية من كتاب الله، ما يسأله إلا لأجل أن يطعمه، ويفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يلحق به، ويجد إناء من لبن أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة : (ادع لي أهل الصفة)، فيقول: كنت أنا أولى بهذه الشربة لكي أتقوى بها، والآن إذا دعوت أهل الصفة أمرني أن أسقيهم فكنت آخرهم شرباً فما عساني أن يدركني شيء من هذا اللبن.

    لكن يبارك الله عز وجل في هذا اللبن، حتى يشرب منه سبعون من أهل الصفة، وأبو هريرة رضي الله عنه آخرهم كما توقع، لكنه شرب حتى قال للنبي عليه الصلاة والسلام: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً رضي الله تعالى عنه، وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أن شرب الفضلة، ظل يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اشرب اشرب اشرب، حتى قال: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً.

    انظر كيف كانت حياتهم رضي الله تعالى عنهم، وكيف كان تحملهم للفقر في سبيل الله عز وجل.

    فهذا الأمر، وهو تحمل المشاق والمصاعب هل عندنا استعداد لأن نتحمل من المصاعب مثلهم؟! نسأل أنفسنا هذا السؤال، ونزن أنفسنا فيما يتعلق بهذه الصفة.

    مفهوم الهجرة وفضلها

    لا تظن أن الهجرة فقط هي الانتقال من دار الحرب إلى دار الإسلام، فالمهاجرون هاجروا الهجرة العظيمة السابقة التي فازوا بها بشهادة من رب العباد في كتابه عز وجل، فسماهم المهاجرين.

    لكن هناك معنىً أوسع للهجرة بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم فعلاً تركوا الوطن والأهل والتجارة لله سبحانه وتعالى، وباعوا ذلك لله عز وجل وربح بيعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـصهيب : (ربح البيع أبا يحيى) فعندما دلهم -أي: كفار قريش- على ماله ليأخذوه ويتركوه يهاجر في سبيل الله عز وجل.

    فعندما هاجر المهاجرون تركوا كل ما استراحوا إليه من الأهل والمسكن والأموال والتجارة، والعمل المناسب، وانتقلوا إلى دار غريبة عليهم، وكل هذا هجرة في سبيل الله عز وجل، فهل لنا نصيب من الهجرة؟ نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فكل عادة، تعودت عليها، واسترحت إليها، لكن فيها معصية لله عز وجل، فإذا هجرتها، فأنت مهاجر إلى الله، والمهاجر: من هجر السوء، يعني: أن تترك ما نهاك الله عز وجل عنه وإن كنت محتاجاً إليه، كعادة من العادات، بل للمسلمين اليوم نصيب كبير جداً من أن يكونوا من المهاجرين؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) رواه مسلم في صحيحه.

    فالعبادة في وقت الفتن هجرة، وما أكثر الفتن من الصد عن سبيل الله، والإعراض عن دينه، وترك الالتزام به، ومن الفتن عدم العمل بدين الله تعالى في كل مجالات الحياة وحصر العمل في الأسرة، ثم يقولون: نعبد الله في أنفسنا، مع أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فليس من العبادة أن تبقى في دارك تاركاً لكل المنكرات تتفشى، وتذهب إلى عملك ساكتاً عنه، ثم تلاقي الناس ولا تنكر، وإنما تصلي ما عليك من ركعات وكفى، ليست هذه هي العبادة المقصودة، وإنما العبادة: أن تمتثل طاعة الله، وأن تترك ما حرمه عز وجل، لتكون مهاجراً، وفي الحديث: (عبادة في الهرج كهجرة إلي) وذلك لأن الوقت وقت فتن، فتشتد فيه الأمور، ويصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، ولذلك يكون مهاجراً.

    حقيقة الهجرة إلى الله ورسوله

    انظر إلى العادات التي تعودت عليها، وانظر ماذا يخالف شرع الله عز وجل منها، وما يعيقك عن لذيذ العلم والعمل، ثم اهجره، واهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه؛ لكي ينطلق قلبك إلى الله عز وجل، وذلك أن الهجرة هي هجرة إلى الله وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكون بالقلب كما تكون بالبدن، عندما يشرع بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، لكن الهجرة بالقلب فرض في كل حين.

    الهجرة إلى الله: أن تهجر كل ما نهاك الله عز وجل عنه، فتهجر التوكل على غيره إلى التوكل عليه، والخوف من غيره إلى الخوف منه وحده، وحب غيره والحب لغيره إلى الحب له وفيه سبحانه وتعالى، ورجاء غيره وابتغاء غير وجهه إلى رجاء فضله وابتغاء وجهه سبحانه، وهكذا في كل عبادة من العبادات تهجر ما نهاك الله عنه إلى ما يحبه سبحانه وتعالى ويرضاه.

    وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكما يقول ابن القيم رحمه الله: هي سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان وحادثة من حوادث الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى معدن الهدى ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فخذ كل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذفها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكي، وإلا فعده من أهل الريب والظلمات.

    فهذه الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهاجر إليه بالفعل عندما تشتد الفتن، وتكثر العقائد الفاسدة، والعبادات الباطلة والبدع فيها، ويترك الناس العبادة الصحيحة، وربما تركوا العبادة بأسرها، فصارت الصلوات مهجورة، والزكاة لا تؤدى، والصيام الواجب يجهر فإفطاره، ويقل الحج، بل تعثر خطوات من يريده، ونحو ذلك، فإذا حدث ذلك، فأداء العبادة في هذا الوقت أعظم.

    وكذلك تكون الهجرة بالقلوب، وأحوال الأخلاق، عندما تتغير القلوب والأخلاق، ويكون الالتزام بالسنة في هذا المقام هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فللمسلمين نصيب في الهجرة في كل وقت، وليست مقصورة على انتقال البدن الذي به يكون الإنسان مبتعداً عن رؤية أهل الكفر والفساد والظلم، مع إقرارنا أن رؤيتهم ومعاشرتهم من أسباب شقاء الإنسان، ومن أسباب العذاب إلا أن يكون داعياً إلى الله، فيعاشرهم بشرع الله لأجل الدين، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.

    تحمل الإخراج من بين الأهل والمال والولد

    قال عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8] فتحمل هؤلاء المهاجرون ألم الإخراج، ومعلوم: أنه لأن تخرج بنفسك أهون من أن تخرج.

    فإخراج الإنسان من داره أمر شديد على النفس، وذلك يجعل كثيراً من الناس يتركون الالتزام، والإنسان الذي تحمل ذلك الخطر، أو ذلك الفعل ولو للحظات قوي العزيمة والدين، وقد يخرج الإنسان من داره يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو شهرين أو أكثر ظلماً وعدواناً بغير حق إلا أن يقول: ربنا الله.

    وكذا أن يخرج من ماله، فيفسد عليه ماله، وتفسد تجارته، أو يمنع من ممارستها، أو ممارسة عمله الذي يتكسب منه ما يحتاجه، إن ذلك أمر شديد على النفس، وخصوصاً من كانت أموره متأثرة كالمهاجرين رضي الله تعالى عنهم قبل هجرتهم، وقبل التزامهم بدين الله سبحانه وتعالى، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

    فتحمل هذا الإخراج من الديار والأموال هو من أعظم الصفات الجاذبة لتأييد الله سبحانه وتعالى ونصرته، وأن يعوضهم الله عز وجل خيراً مما فاتهم، فما كانوا يتصورون أبداً أن يطأوا بلاد الكفار التي بجوارهم، بل صار كل واحد منهم أميراً على مصر من الأمصار، قال الله عز وجل عن بني قريظة: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:26-27]، فحصون اليهود في المدينة ما كان العرب قبل الإسلام يطئونها أبداً، وما كانوا يسمحون لهم بالدخول، ولا كان يفكر المسلمون بأنهم سوف يدخلونها أبداً، كما قال عز وجل: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:2] ثم كانت العاقبة أن أفاء الله عليهم أموال بني النضير وبني قريظة ومكن لهم جزيرة العرب كلها؛ لأنهم تحملوا في سبيل الله عز وجل ألم الإخراج من الديار والأموال، وضحوا بذلك في سبيله سبحانه وتعالى.

    هذه الصفة أي: الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء لا بد أن تكون موجودة في هذا الجيل، وأن يتحمل الإنسان أنواع المشاق بما فيها ألم الإخراج والخوف في سبيل الله عز وجل.

    الإخلاص لله لنيل رضوانه

    قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الحشر:8] فلا يبتغون شيئاً من الدنيا، ولابد من وجود الإخلاص في كل عمل، وأن يبتغي الإنسان وجه الله عز وجل، ولا يريد جزاءً ولا شكورا،ً كما قال عز وجل عن المؤمنين: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9].

    فقوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي: يبتغون الفضل والثواب والجنة والرضوان، وهو من أعلى ما يطلبه المؤمن؛ لأنه ذاق في هذه الدنيا حب الله عز وجل، وعرف أن رضاه عز وجل هو أعظم شيء يعطاه الإنسان، فهذا ذاق أثر الطاعة؛ فإن الإيمان: هو أثر من آثار رضاه سبحانه وتعالى عن العبد، ولذلك عندما يذوق الإنسان حلاوته يعلم بالفعل أن رضوان الله من أعظم ما يطلب، كما قال سبحانه وتعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] أي: أكبر من الجنة فعلاً، نعني بذلك: أكبر من الثواب الحسي في الجنة، فرضوان الله هو الذي جعل الجنة دار الأبرار، والرضا الأعظم هو الرضا الذي لا سخط بعده، كما يقول الله عز وجل لأهل الجنة -كما ثبت في الحديث الصحيح-: (تريدون شيئاً أزدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من هذا، ألم تبيض وجوهنا؟ وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ فيقول: بلى أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) .

    فهذا الرضوان الذي يبتغيه المؤمن، ويريد أن يرضي الله سبحانه وتعالى بكل طاعة، إلى أن يصبح الشخص مرضياً عنه، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، حتى يكون محبوباً عند الله عز وجل، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

    إذاً: فهناك مرحلة أخرى، فهو يحب منه قبل هذا كله فعل كل عمل صالح، لكن إذا واظب على النوافل بعد الفرائض، وصل إلى أن يكون محبوباً بذاته عند الله؛ لذا يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ به ليعيذنه، وهذا من علامات قبول العبد عند الله، وكل هذا جزء من الرضا، وإلا فالرضا الأعظم: هو الذي لا سخط بعده، وهو إنما يكون يوم القيامة، وبرضاه دخلوا الجنة، ولكن رضا أتم، وهذا أعظم ما يمكن أن يوجد، إن نصيب العبد من الله عز وجل هو أعظم ما يسعد الإنسان، وأعظم ما يجد به السعادة في الجنة أن ينظر إلى وجهه، وأن يستشعر رضوان الله، وأن يعلم بكلام الله أن الله أحل عليه رضوانه.

    كما قال سبحانه: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا هذا الذي يحرك في الإنسان كل الدوافع الحسنة والطيبة للإخلاص، وربما يعاني الواحد منا من منازعات الرياء والشهرة والسمعة ومدح الناس له، وفي ذلك أعظم ما ينقله نقلة سريعة إلى الإخلاص، فيبتغي ما ذكر الله، ويفكر كثيراً في الثواب والفضل من الله، ويفكر في رضوانه، وعندئذٍ سوف يصغر العالم كله في قلبه، وعند ذلك يسهل عليه الإخلاص، ويتيسر عليه أن يكون مخلصاً لله عز وجل في كل عمل؛ لأنه وضع نصب عينيه رضوان الله، وعلم أنه يعامل الله عز وجل، ووضع نصب عينيه الوصول إلى أن يحبه الله، ويريد رضوانه، وثوابه في جنته، وهذا الذي يمحو من قلبه هذه الدنيا فتصغر جداً، فلا يمكن أبداً بعد ذلك أن يعمل من أجل مدح مادح، أو يفر من ذم ذام، أو أن يبتغي شيئاً من حطام الدنيا من رياسة، أو مال، أو شهوة، نسأل الله العافية، وأن يرزقنا الإخلاص والعمل الصالح، ونعوذ بالله أن نشرك به شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلمه.

    نصرة الله ورسوله شرط النصر على الأعداء

    قال الله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، نصرة الله هي نصرة دينه، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرته حياً، ونصرته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته نصرة سنته، نصرة دينه وطريقته ومنهاجه عليه الصلاة والسلام، وذلك يقتضي تعلماً لهذا المنهج، وكذا لنصرة الدين لا بد أن تتعلم الدين لتعلم ما الذي تنصر، ولا يكفي أن تكون عاملاً بالدين فقط، بل لابد لكي تكون عالماً بالدين عاملاً من أجله.

    دور المسلم في نصرة دينه

    لا يكفي أن تقف موقف المتفرج المشجع، وأنت ترى الصراع الشديد في كل مكان أعداء للإسلام، خصوصاً من قبل اليهود فإنك تجدهم من وراء كل مكر بالإسلام وأهله، وكل أنواع الكفار تجد تعاونهم مع اليهود من أجل كيد المسلمين في المشارق والمغارب، والله، وهذا الكيد لا يمكنك أن تقف فيه وقفة المتفرج، وتقول: ماذا يعنيني! أنا أريد أن أكون ملتزماً في نفسي.

    بل لا بد أن تنصر الله بنصرة الدين، وتنصر رسوله صلى الله عليه وسلم بنصرة سنته.

    فإن قلت: ماذا أصنع؟ فنحن لا نستطيع أن نصنع للمسلمين شيئاً.. ولا نستطيع أن ننصر المسلمين المستضعفين في الأرض التي اغتصبها العدو فماذا نعمل؟ لا، بل أنت تستطيع الكثير، وذلك أن نصرة الدين ليست مختصة فقط بأرض معركة مع الكفار، فنصرة الدين تكون في كل موطن يحدث فيه منازعة، حتى في داخل نفسك، بين نفسك الأمارة بالسوء والشيطان من جهة، وبين أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، واعظ الله في قلب كل مؤمن: يعظك بأن تلتزم بدينه وأوامره، ويجعلك في صراع داخلي، ولذلك يسمى هذا النوع: جهاداً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله) . نعم، يجاهد الإنسان نفسه وهذا درجة من درجة الجهاد، بل يبنى عليه الجهاد الأصل، وهو الذي يفتح الباب له، فلا بد أن تنصر الله أولاً في نفسك بأن تتعلم الدين، وتترك هذا الكسل والتواني والتأخر والتخلف عن معرفة هذا الدين.

    وكذلك تنصره بالعمل به، وبالدعوة إليه وبالصبر عليه في كل معاملة تعامل الناس فيها، لم تقصر أمر النصر على أنك تمسك سلاحاً فقط؟ إن نصرة الدين تكون في كل معاملات تعامل الناس فيها وتجد الدين مبعداً عن الحياة، فانصر الدين بإحيائها، وأنت كل يوم ترى من المنكرات ما تراه، فلا بد أن تنصر الله بأن تنصر هذا الدين في نفوس من حولك من الناس، وتنكر هذا المنكر، كما قال سبحانه: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )) فبقدر نصرة الدين بقدر ما تنصر أنت.

    لماذا نعجز عن تغيير الواقع الذي يعيشه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما نحب من إعلاء الدين وإظهاره وانتصاره على الكفرة؟ لأننا فرطنا في نصرة الدين، فوعد الله لا يخلف، ولو أننا نصرنا الدين في كل موطن نجد فيه معركة بين الالتزام بالدين وبين أعداء الالتزام، لجاء النصر من السماء؛ هأنتذا ترى الشبهات والشهوات في كل وقت، فلو نصرنا الدين فسيفتح الله لنا من أبواب القدرة ما لا نقدر عليه الآن، وما نعجز عنه الآن، فنحن ما زلنا عاجزين؛ لأننا لم نصعد خطوات السلم كما ينبغي.

    كثير منا لم يصعد السلم ورأى الباب مغلقاً، فقال: لا أستطيع، فالباب مغلق، ولن أصعد درجة السلم، لماذا لا ينفتح الباب؟ لأنك لم تصعد درجة السلم، ولو صعدت درجة السلم، وحاولت فتح الباب فسوف ينفتح، فمن عمل بما قدر عليه رزقه الله القدرة على ما لا يقدر عليه.

    كثير من الناس يظن أنه يكلف ما لا يطيق، كلف مثلاً بأن يكسر صخرة؛ فيظن أنه بلا معول يكسرها؛ فينطح رأسه فيها، ويقول: أنا أصنع ما أقدر عليه، لا، ليس هذا الذي تقدر عليه؛ ولست مأموراً بأن تدني رأسك فتكسرها، لكي تقول: إنك تنصر الدين.

    لابد أن تأخذ بالأسباب التي توصل إلى كسر هذه العوائق والانتصار عليها، واصعد السلم ولن يبق إلا فتح الباب؛ لأن الله وعد بذلك فقال: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ )).

    لماذا لا نجد هذا الأمر موجوداً؟ لأجل التقصير الذي وقع في نصرة الدين، وفي نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    نصرة الصحابة لرسول الله يوم أحد

    كيف نصر الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    نصروه أعظم النصر.

    انظر إلى حال طلحة بن عبيد الله في غزوة أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسبعة من الأنصار رضي الله عنهم، فيرهقهم المشركون ويدركونهم، ويصعدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريدون قتله عليه الصلاة والسلام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يردهم عنا ويكون رفيقي في الجنة) ، فينتبه طلحة فيقول له: اجلس، فينتبه رجل من الأنصار فيقاتل حتى يقتل رضي الله تعالى عنه، ويطلب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبهوا لهم، فينتبه السبعة من الأنصار واحداً تلو الآخر رضي الله تعالى عنهم، فيقتلون كلهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق طلحة رضي الله عنه يرد المشركين؛ فقاتل كقتال السبعة رضي الله تعالى عنه، حتى رد المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والمشركون ما زالوا طامعين في أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه جعلهم ييأسوا من أن يصلوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجرح جرحاً عظيماً، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر : (دونكم صاحبكم فقد أوجب) رضي الله تعالى عنه، يعني: استوجب الجنة، وقى النبي صلى الله عليه وسلم بيده حتى شلت يده رضي الله عنه، وهذا أمر عجيب الشأن، ففطرة الإنسان أنه إذا داهمه شيء يهرب منه، ولكنه لشدة حبه للنبي صلى الله عليه وسلم تحركت يديه إلى اتجاه السيف؛ ليقي النبي صلى الله عليه وسلم، وشلت يده رضي الله تعالى عنه، وظل يقاتل طلحة رضي الله عنه حتى قال أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن يوم أحد قال: ذاك يوم كله لـطلحة رضي الله تعالى عنه.

    حتى نساء الصحابة رضي الله عنهن كان لهن دور في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فـنسيبة رضي الله تعالى عنها عندما رأت أن خطراً يداهم الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت تقاتل بالسيف رضي الله تعالى عنها، دفاعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    وهكذا كان دفاعهم عن دينه وسنته عليه الصلاة والسلام ضد الردة، وضد مانعي الزكاة، وضد المبتدعين من الخوارج وغيرهم، وقفوا هذه المواقف التي حفظ الله بها الإسلام نقياً صافياً، ووصل إلينا كما أنزله الله، يسهل على كل من أراد أن يعرفه أن يصل إليه بفضل نصرة الصحابة رضي الله عنهم لدين الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نصرهم الله عدوهم، قال سبحانه: (( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )).

    مفهوم النصرة لله ولرسوله

    قال الله تعالى: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، نصرة الله عز وجل لابد أن تكون صفة أساسية في كل مسلم في كل موطن، وإذا فعلنا ما نقدر عليه فتح الله لنا أبواب ما نعجز عنه، وأعطانا من القوة والقدرة ما لا نستطيعه الآن، كما أن من عمل بما علم رزقه الله علم ما لا يعلم، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

    وعندما يشتبه على الإنسان أمراً من الأمور أهو من الحق أم من الباطل؟ من السنة أم من البدعة؟ من المصلحة أم من المفسدة؟ ولا يستطيع الوصول إلى أمر، فليتعبد الله عز وجل وليفعل ما أمره الله به، وليتق الله سبحانه وتعالى فيما يعلم، فيرزقه الله عز وجل علم ما لم يعلم. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] ، فمن اتقى الله رزقه الله علم ما لم يعلم، ومن اتقى الله وعمل بما قدر عليه فتح الله عز وجل له أبواب ما لا يقدر عليه.

    وكثير من الناس يريد أن يصعد السلم مرة واحدة، أو أن يكسر الصخرة فينكسر رأسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    فلا بد أن نفهم هذه القضية جيداً، وأن نعمل ما استطعنا في نصرة الدين وإظهاره، وإعلاء كلمة الله في كل موطن نكون فيه، وإذا رأينا صراعاً بين الحق والباطل فعلينا أن ننصر الحق ابتداء من داخل أنفسنا، وفي بيوتنا وجيراننا، وكل مكان نكون فيه، فالواحد منا يعامل كل يوم عشرات من الناس، وربما يجد انهزاماً أمام أعداء الدين، وقبولاً للباطل، وإعراضاً عن الحق، فأين نصرتك للدين في هذا المقام؟

    صور من صدق نصرة الصحابة لدينهم

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، أي: الصادقون مع الله عز وجل في القول والعمل، قال عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    يقول أنس رضي الله عنه: غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول مشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، لئن أشهدني الله مشهداً غيره ليرين الله ما أصنع -أبى أن يقول غيرها، أبى أن يقول سوف أقاتل أشد القتال- فعندما كانت وقعة أحد وانكشف المسلمون وفر منهم من فر، قال رضي الله تعالى عنه: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني: المشركين- وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمون لما وقع منهم من الفرار والمعصية التي تاب الله عز وجل عليهم منها بعدها، إلا أنه يعتذر عنهم حباً لهم، وشفقة عليهم، ويبرأ من المشركين، ثم انطلق رضي الله عنه فوجد سعد بن معاذ رضي الله عنه الذي اهتز لموته عرش الرحمن، سيد الأنصار رضي الله عنه، فيقول سعد حاكياً للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أنساً قال: يا سعد ! واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد. رضي الله عنه، رزقه الله أن شم بالفعل رائحة الجنة، -وواهاً: كلمة استحسان للرائحة، أي: ما أعظم هذه الرائحة- وانطلق ليقترب منها، قال سعد : فو الله يا رسول! ما استطعت ما صنع، أي: لم يستطع سعد أن يصنع ما صنع أنس رضي الله عنه، مع أن سعداً والذي عندما مات بكى عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الحرير قال: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).

    سعد بن معاذ يقول: والله ما استطعت ما صنع، ثم وجد به -أي: بأنس- بضعاً وسبعين جرحاً، ما بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنة برمح رضي الله عنه، فما عرفته أخته إلا ببنانه، يعني: جرح رضي الله عنه قبل الجرح القاتل بضعاً وسبعين جرحاً، وإنما أوقفه الجرح الأخير، وظل رغم بضعاً وسبعين جرحاً مستمراً في القتال رضي الله تعالى عنه.

    وكذا جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وجد به ما بين بضعٍ وثلاثين جرحاً، ما فيها شيء في ظهره أبداً رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه رضي الله تعالى عنه، حتى لا تسقط راية المسلمين، ثم أبدله الله جناحين في الجنة يطير بهما. صدق مع الله عز وجل فما تردد ولا تأخر أبداً رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عندهم صدق مع الله عز وجل.

    فـأنس بن النضر ما عرفته أخته إلا ببنانه، قال أنس : فكنا نرى أن الله أنزل فيه وفي أصحابه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

    وانظر الزبير رضي الله تعالى عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وحده إلى بني قريظة في غزوة الخندق، لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف خبر بني قريظة من الغدر ونقض العهد وخطرهم، فانتدبه رضي الله عنه، فيخرج الزبير في سرية وحده، ويذهب ويرجع رضي الله تعالى عنه.

    قالوا له في غزوة اليرموك: اشدد على العدو فنشد معك، فقال: لا تستطيعون، قالوا: اشدد فنشد معك، فشد رضي الله تعالى عنه، فخرق جيش الروم إلى أن خرج من الناحية الأخرى، ولم يجد أحداً يرجع معه، لم يستمر المسلمون معه رضي الله تعالى عنه، فجيش الروم كان أكثر من مائة ألف في غزوة اليرموك، وخرق الجيش كله، ثم رجع فخرق الجيش كله مرة أخرى إلى أن وصل إلى المسلمين، حتى يقول عروة وكان صغيراً: كنت أدخل أصبعي في جراح الزبير رضي الله عنه ألعب فيها، منها ما كان يوم أحد، ومنها ما كان يوم اليرموك.

    قال الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ، أي: صدقوا مع الله عز وجل في القول والعمل، والإنسان كلما صدق في القول كلما يسر الله له الصدق في العلم، وكلما كان صادقاً فيما عاهد الله عز وجل عليه، كلما استمر وثبت على الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).

    فضل المهاجرين والأنصار

    قال الله عز وجل: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))، صفات المهاجرين والأنصار عندما تتأملها تجد أنها مشتركة فيما بين الفريقين، لكن نصيب المهاجرين في هذه الصفات أتم، ونصيب الأنصار في صفاتهم أتم، ولكل منهم نصيب في ذلك.

    فالمهاجرون قد وقوا شح أنفسهم، وأحبوا الأنصار في الله عز وجل، وإن كان نصيب الأنصار في هذه الصفات أتم، كما أن نصيب المهاجرين في تحمل المشاق وآلام الإخراج، ونقص الأموال، والإخلاص، والصدق أتم رضي الله تعالى عنهم، لكن الصفات كلها موجودة بينهما.

    فصفة الأنصار التي ينبغي أن يتحلى بها أهل الإيمان، ليكونوا من ذلك الجيل الذي يريد أن ينتصر؛ ذلك النصر المنشود، صفة الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم: أنهم يحبون من هاجر إليهم.

    سكن الإيمان في قلوب الأنصار

    قال عز وجل: (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا )) أي: سكنوا الدار، وهذا تشريف للمدينة، حيث سماها الله الدار، فكأنها هي دار الإيمان؛ لأن الإيمان أوى إليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) .

    ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غربة الإسلام، وأنه كما بدأ غريباً يطارده كل أهل الأرض، فأوى إلى المدينة، والناس يعتبرونه حية، واتهموه بالباطل وأرادوا قتله بأي طريقة، وكذلك في آخر الزمان سوف يعود الدين غريباً كما بدأ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يأرز إلى المدينة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يأرز ما بين المسجدين، كما تأرز الحية إلى جحرها) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    قوله سبحانه: (( تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ )) أي: سكنوا الإيمان، وهل الإيمان يسكن؟! شبه الإيمان كأنه دار سكنوها، لأن الدار يستقر فيها الإنسان، فهؤلاء الأنصار سكنوا الإيمان، بمعنى: استقر الإيمان في قلوبهم، والإنسان يلازم داره، فإذاً الإيمان سكن هذا في هذا المكان، بمعنى: استقر واطمأن فيه، واستراح فيه، فهذه شهادة لهم بالإيمان رضي الله تعالى عنهم، فهم مؤمنون صادقون، استقر الإيمان في قلوبهم.

    فقوله: (( تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون إليهم، وقد أسلم كثير من الأنصار قبل المهاجرين، لكن المقصود والله أعلى وأعلم بقوله: (( مِنْ قَبْلِهِمْ )) أي: من قبل أن يهاجر المهاجرون، وأن الأنصار أسلم كثير من كبارهم وسادتهم على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه قبل أن يهاجر كثير من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وقبل أن تصبح المدينة دار الهجرة التي أوى إليها النبي عليه الصلاة والسلام، فكثير من الأنصار كان قد أسلم، ودخل الإيمان في قلوبهم واستقر رضي الله تعالى عنهم، على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه، فهو من فتح الله به المدينة المنورة، بدعوته إلى الله، وسلوكه الطيب، حتى ما بقي بيت من بيوت المدينة إلا ودخله الإيمان.

    حب الأنصار للمهاجرين

    قال الله عز وجل: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ : هذه صفة الأنصار، أي: حب من هاجر إليهم في الله، وكلهم كان يحب بعضهم بعضاً.

    والحب في الله، والبغض فيه أوثق عرى الإيمان، وهي الصفة الأساسية التي قام عليها المجتمع المسلم الأول، وبها يجد الإنسان حلاوة الإيمان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) .

    ووصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا .

    وكما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

    فصفة الحب في الله لا بد أن توجد بيننا، وأن يكون لنا منها أوفر نصيب، فإذا وجدت بيننا زالت وحشة الغربة التي يشعر بها كل ملتزم، يشعر بها عندما يكون وسط من لا يلتزم بطاعة الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    صفة الحب في الله تخفف أعباء وثقل وآلام المتاعب التي يتعرض لها المسلم حين يكون بعيداً وحيداً مطارداً، فإذا وجد من يحبه في الله هان عليه الأمر، وسهل عليه أن يثبت على الدين، ولذلك لا بد أن تتقوى العلاقات فيما بيننا، وأن نصدق في تحصيل صفة الحب في الله عز وجل، وذلك بأن نستحضر الأعمال الصالحة التي من أجلها نحب أهل الإيمان، وأن نتحاب في الله سبحانه وتعالى؛ حتى نذوق حلاوة الإيمان، التي تخفف عنا مرارة وآلام المخاض الذي يكون قبل شروق الشمس وظهور الدين، فهناك متاعب وآلام تزول أو تخف جداً بحيث لا يشعر الإنسان بها حين يجد من يحبه في الله.

    حقيقة الحب في الله والبغض في الله

    الحب في الله والبغض فيه يكون بأن يبغض الإنسان أعداء الله عز وجل، لا يبغضهم إلا لأجل الله سبحانه، لأعمالهم القبيحة وصفاتهم المنكرة، لشركهم وكفرهم ونفاقهم، هذا الذي يجد الإنسان به الإيمان، فيتثبت في قلبه.

    إذا وجدت هذه الصفة في المجتمع المسلم فيما بيننا؛ فإن ذلك من النعيم الذي يجده الإنسان كجزء مشابه من نعيم أهل الجنة، فإن رفقة الصالحين وحبهم في الله من نعيم أهل الجنة الذي ينعم به الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، قال عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، ولو لم يكن لهذه الصفة المنزلة العظيمة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (اللهم مع الرفيق الأعلى) ، انظر ماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم؟ يريد الرفيق الأعلى.

    خليل الله إبراهيم يقول: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83]، ولا شك أن الصالحين دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ودون إبراهيم في المنزلة، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يطلب هذه الرفقة، وإبراهيم يطلب هذا اللحاق، فكيف بالمفضول واحتياجه وسعادته برفقة الفاضل؟!

    إذا كان الفاضل أمر بأن يصبر نفسه مع من يدعو الله بالغداة والعشي، يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

    وإذا كان الفاضل مأموراً بأن يرافق المفضول، فأي نصيب للمفضول إذاً من صحبة الفاضل ومرافقته، ومن الشعور بالسعادة لوجود المحبة في الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبينهم؟!

    واستشعر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحب عبر الزمان، وهو والله من أعظم ما تتحرك له قلوب المؤمنين، يقول عليه الصلاة والسلام: (وددت أن لو قد رأينا إخواننا، فقالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فالنبي صلى الله عليه وسلم ود أن يرى كل مسلم من أمته عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعلنا من إخوان النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: كان يستشعر الحب في الله وليس فقط لأصحابه الذين كانوا معه، بل عبر الزمان، ومع تفاوت الأزمنة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لهم أن يراهم، فما ينبغي أن نكون نحن عليه من مودة: هو أن نرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نكون معه.

    وهذا الحب في الله: هو الأساس الذي بني عليه المجتمع المسلم.

    فضل الإيثار واجتناب الشح

    قال الله تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، أي: لا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرون، أولاً: من الأموال، وثانياً: من الفضل والتقريب في الذكر؛ فإنه سبحانه ذكر المهاجرين أولاً، فلما جاءت أموال بني النضير أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، يعوضهم بها عما أصابهم في أموالهم، وعما ضحوا به في سبيل الله عز وجل، فما حسدهم الأنصار، وما وجدوا في قلوبهم غلاً لهم لأنهم أوثروا بهذا المال أولاً.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها فاصبروا حتى تروني على الحوض) فهم لم يحسدوا المهاجرين على الفضل الذي فضلهم الله به، كذكر الله ذكر المهاجرين دائماً أولاً فقال هنا: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100] ، وقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:117].

    والمهاجرون أفضل من الأنصار في الجملة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك سلمت صدورهم، فلم يكن فيها حسد ولا حقد.

    رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) ، فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته ماء، قد علق نعليه في يده، ودخل فسلم، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع نفس الرجل على نفس الصفة، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ذلك، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أحد العباد من الصحابة، الذي كان يختم القرآن كل ليلة، إلى أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اختم القرآن في كل سبع) ، وظل كل سبع ليالي يختم القرآن في قيام الليل، ويصوم يوماً ويفطر يوماً.

    ذهب عبد الله إلى هذا الرجل وقال: إنه قد كان بيني وبين أبي شيئاً، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن أبيت عندك فافعل. فقال: نعم، وعرض في الكلام، وهو يعني: أنه ما من أحد إلا ويكون بينه وبين أبيه شيء، وهو أقسم الآن أن لا يدخل؛ لأجل أن يؤويه الأنصاري، فآواه الأنصاري، فلم يرَ منه كثير صوم ولا صلاة، غير أنه كان إذا تعار من الليل وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل حتى يقوم، فلما مضت الثلاث قال عبد الله بن عمرو : كدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله إنه لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت في الثلاث المرات، فأردت أن أرى عملك فأقتدي بك، فقال: يا ابن أخي! ما هو إلا ما رأيت، ثم لما انصرف عبد الله رده فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني أبيت وليس في صدري حقد ولا غش ولا حسد لمسلم، فقال: هي التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق.

    وذلك أن أكثر الناس لا يطيقون أن لا يكون في قلوبهم حسد ولا غش للمسلمين، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم ليس في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون كالحسد عليهم، فليس عندهم ذلك مما أوتي المهاجرون في الدنيا أو في الآخرة.

    قال الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، الصحابي الجليل وامرأته رضي الله عنهما آثرا على أنفسهما، قوله: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ، أي: ولو كان بهم حاجة، وهذه أعلى قدراً من التي قال الله عز وجل: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8] فقد يكون الإنسان محباً للطعام، ولكنه ليس مضطراً إليه، فإذا أطعم منه كان مؤمناً، يعني: لو أن رجلاً عنده أكل يحبه في البيت، وهو شبعان، فإذا أنفق منه كان مؤمناً، وهذان باتا طاويين رضي الله تعالى عنهما، وبات صبيانهما جياعاً؛ لكي يطعموا الفقير المسكين ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أطلعه الله على فعلهما: (لقد عجب ربكما من صنيعكما بضيفكما الليلة) يعني: أتاه الوحي بما صنعا، مع أنهما كانا في بيت مظلم، ولم يتركا السراج موقداً؛ حتى لا يرى الضيف قلة الطعام، ويراهما لا يأكلان فقد يترك الطعام وهو يتوق إليه، فأطفأا السراج؛ لكي يأكل براحته رضي الله تعالى عنهم.

    وفي بعض الروايات أنها أم سليم وزوجها أبو طلحة رضي الله تعالى عنهما، وهي جديرة بأن تكون كذلك، فلها منزلتها العظيمة.

    قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : وقد وقاهم الله شح أنفسهم.

    والشح: هو التطلع إلى ما في أيدي الناس، ومن وقي شح نفسه فلم يسرق، ولم يزنِ، وليس فقط في المال، فالبخل مذموم، والشح أشد، فالشح أن تتطلع إلى ما في أيدي الناس، والبخل: أن تمنع ما في يدك وما يلزمك، ومنه ما هو محرم: وهو منع الواجب، ومنه ما هو مكروه: وهو منع المستحب.

    فالشح ليس فقط أن تأخذ ما بيدك وتمنعه ولكن تريد أن تمنع ما في أيدي الناس، ولهذا كان الزنا من عدم وقاية الشح؛ لأن عنده شيء حلال، فلماذا تطلع إلى الحرام؟ أو ليس عنده زوجة أو أمة؟ لكن حرم الله عليه ذلك الفرج، فإذا به يتطلع إلى ما يحل لغيره ولا يحل له، فهذا لم يوق شح نفسه.

    والذي ينظر إلى العورة المكشوفة ويتلذذ بها لم يوق شح نفسه، ألا يكفيه أن ينظر إلى ما أحل الله؟ وكونه ينظر إلى ما حرم الله فهذا لم يوق شح نفسه؛ لأنه تطلع إلى ما في أيدي الناس، وإلى ما حرمه الله عليه، وجعله لغيره، نسأل الله العافية، وكان عبد الرحمن رضي الله عنه يطوف البيت، لا يزيد على أن يقول في دعائه: اللهم قني شح نفسي.

    وسأله بعض التابعين عن ذلك فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن.

    فالسارق لم يوق شح نفسه، والغاصب لم يوق شح نفسه، والذي يخاصم بالباطل لم يوق شح نفسه، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

    الترضي والدعاء للصحابة الأبرار وحكم من طعن فيهم

    ذكر الله المؤمنين من أهل السنة والجماعة من بعد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فقال: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ))، فكل مسلم من أهل السنة سليم القلب واللسان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في هذه الآية: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ )) فهذه سلامة الألسنة، أي: يدعون لهم، ويستغفرون، كما قالت عائشة في الرد على الرافضة الشيعة الجناة المجرمين: أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم.

    فإن قيل: لماذا نرى هؤلاء الرافضة الشيعة من أخبث طوائف البدع؟ فالجواب: لأنه لا يتصور منهم خير طالما بقوا على سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لهم، وهم دائماً أعوان أعداء الإسلام، فإذا ظلوا على هذه الصفة فلا يظنن أحد أن منهم من سوف يجاهد، أو ينصر الله به الدين، كما يظن ذلك المغرورون الذين لا يعرفون ميزان العقيدة لوزن الناس.

    فلا بد أن نكون سليمي الألسنة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندعوا لهم، ونقول: (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ )) ونشهد لهم بالسبق، أي: أنهم سبقونا بالإيمان، (( وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا )) هذه سلامة القلوب، فسلامة الألسنة والقلوب، شرط أساسي لكي يكون الإنسان من التابعين لهؤلاء السابقين بإحسان، وهذا الذي يجعله الله سبحانه وتعالى به أهلاً لنيل رحمته ورأفته، قال الله: (( رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )).

    استدل الإمام مالك رحمه الله بهذه الآية على أن الرافضي: الذي يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نصيب له في الفيء، وهو استدلال حسن جميل؛ لأنه طالما لم يكن مستغفراً لهم، غير سليم القلب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس له نصيب، لأنه ليس من أهل هذه الآية.

    نسأل الله أن يلحقنا بهؤلاء راضياً عنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتبعين لهم بإحسان، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.