وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
جعل الله سبحانه وتعالى أشد لحظات البلاء آخرها، وأشد ظلمة الليل قبل الفجر، وكمال البشرى لأهل الإيمان عند ازدياد المحنة.
كان يعقوب صلى الله عليه وسلم في بلاء، فقد ابنه الحبيب يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو أفضل وأحب أبنائه إليه، وازداد الأمر بلاءً بأن فقد ابنه الآخر الذي يليه في المحبة، ثم فقد كبيرهم كذلك لما ابتعد عنه، ففقد ثلاثة من أولاده، فلما بلغه حبس بنيامين وعدم رجوع الثالث، قال:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
[يوسف:83]، فلما زاد البلاء عليه استبشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى سوف يفرج ذلك الكرب.
واشتد البلاء على بني إسرائيل بعد أن قامت الحجة على فرعون، حيث هُزم سحرته، ثم آمنوا واهتدوا، وقتلهم فرعون، ولم يتغير شيء من موازين القوة المادية، فزاد فرعون في بطشه وتهديده وإرهابه، والملأ السادة والكبراء من قومه يحثونه على مزيد من البطش في بني إسرائيل، كما قال الله:
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
[الأعراف:127-129]، وعسى من الله عز وجل واجبة، وإذا جاءت على ألسنة رسله فهي من عنده سبحانه وتعالى.
فلكما ازداد البلاء، واشتد الكرب، قرب الفرج -بإذن الله تبارك وتعالى- ولذلك قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه:
يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ
[يوسف:87].
وفي هذه السورة أيضاً تجد قوله سبحانه وتعالى:
حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ
[يوسف:110] أي: من إيمان قومهم،
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا
[يوسف:87] وعلى القراءة الأخرى:
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِّبوا
أي: أيقن الرسل أن أقوامهم قد كذبتهم تكذيباً لا إيمان بعده.
فقال عز وجل:
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
[يوسف:110]، وهذه سنة الله.
وسورة يوسف نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -قبل الهجرة، وبعد زيادة الأذى- تبشر بقرب الفرج، رغم أن الأذى قد وصل إلى شخصه عليه الصلاة والسلام بعد موت أبي طالب، خديجة ، حتى خططوا لقتله أو سجنه أو إيثاقه، وكل ذلك كان مقدمة قبل الفرج، وقبل النصر والتمكين بإذن الله تبارك وتعالى.
والآن البلاء بأمة الإسلام قد ازداد، واجتمع عليها الأعداء، وتكالبت عليها الأمم؛ وذلك لكي تكتمل في قلوب المؤمنين عبادة التوكل على الله سبحانه وتعالى، وينقطع التعلق بالأسباب الحسية، والواجب هو الأخذ بالأسباب الغيبية التي لا يراها الناس أسباباً، ولكنها عند أهل الإيمان أسباب، والأخذ بهذه الأسباب هو الأمر الواجب، ومن هذه الأسباب ما أمر به موسى قومه بقوله:
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
، ففيها أعظم ملك الله سبحانه وتعالى، وأن أمره هو النافذ، وأن الغيب كله له، عندها تتغير الموازين المادية في لحظة، بـ(كن فيكون)، بقدرته سبحانه وتعالى.
ويأتي النصر عندما يظن الأعداء أن الأمر قد انتهى، وعندما يقول كثير من أهل الإيمان: متى نصر الله؟ استبطاءً للنصر، واستعجالاً للفرج من عند الله سبحانه وتعالى.
فقوله سبحانه:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ
أي: اعملوا كل ما في إمكانكم، وكيدوا بكل قدرتكم، وها هي الأمم الآن قد اجتمعت على كيد أهل الإسلام.
كانت الرسل تقول لأقوامهم: اجتمعوا على كيدنا كما قال هود:
كِيْدُونِي جَمِيْعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ
[هود:55] أي: لا تؤخروا كيدكم، بل أنفذوه الآن! ما هذا الأمر العجيب! أيأمرونهم بهذا الأمر؟! أيريدون أن يكيدوا بهم؟! لا، إنما يأمرونهم بذلك استهانة بهم، واستهزاء بكيدهم، واستخفافاً به، لا يعبأون به، ولأجل أنهم موقنون بفشل هذا الكيد يقولون: أنفذوه الآن! أي: ولن تستطيعوا، اعملوا ما في إمكانكم، اعملوا كل ما يمكنكم أن تفعلوه من الكيد، ولذلك قال:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ
استهانة بهم، وتقيناً بوعد الله.
من أين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة؟ يصل إلى هذه الدرجة من الاستهانة بقوة العدو الكبيرة جداً في موازين أهل الدنيا بكمال اليقين، والتوكل على الله سبحانه وتعالى.
ثم قال سبحانه:
إِنَّا عَامِلُونَ
أي: على طريقتنا، وأيضاً على تمكننا، وهذا هو الواجب، أي: أن نتحسس أسباب الخير، ونأخذ بما نقدر عليه من الأسباب؛ لأن الأسباب الظاهرة المادية فيما يبدو لملايين المسلمين منعدمة، وليس بأيديهم أن يصنعوا شيئاً.
ليس العلاج عباد الله! تلك التصرفات اليائسة، ونسميها يأساً؛ لأنها بالفعل ليست على الطريق، كمثل إنسان أصابه بلاء شديد وكرب وغيظ من عدوه، ومن شدة الغيظ وهو لا يستطيع أن ينال منه شيئاً، قام إلى الحائط الذي أمامه وضرب رأسه فيه، فنزف الدم، فشعر بنوع من الراحة، وأنه قد فعل شيئاً حتى لا يكون سلبياً!
كما قد يحلو للبعض أن يفعل، لا يستطيع أن ينزل علم اليهود من فوق بلاد المسلمين، ولا يستطيع أن ينال منهم شيئاً، فيأتي بقماش يرسم عليها علمهم، ثم يدكها برجله، ويحرقها بناره، وهو الذي صنعها! تصرفات عجيبة، مثل المخدرات فعلاً، أي: كأن يخدر الإنسان ويشعر بأنه قد أدى ما عليه؛ لأنه يوهمه أنه صنع شيئاً، مثلما تصور الهزائم الثقيلة جداً على أنها نصر هائل، فيخرج بعد أن استجاب للعدو بكل ما يطلب منه رافعاً علمه، فهذا ليس انتصاراً عربياً.
فهذه الهزيمة العجيبة ليست نصراً، والنصر في نظرنا الآن هو: أن يبقى فلان حياً، وأن يفرض حصار حول كنيسة، حينها نكون قد انتصرنا انتصاراً تاماً، وحققنا كل ما نريد.
كما أن النصر ليس كمن يكتب وثيقة بالدم: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين! كما يفعل ذلك بعض الشباب.
كلها تصرفات يائسة بالفعل!
إذاً: فليس هناك عمل يطلب من الأمة، لا، بل لا بد أن نعمل كما أمر ربنا بقوله:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ
[هود:121] يعني: سنستمر على طريقتنا وعلى تمكننا، ولو خالفنا الطريقة، وابتدعنا في دين الله عز وجل، أو عملنا المعاصي، أو وقعنا فيما هو أفظع من ذلك من الشرك، أو الاستكانة لما يريده العدو.
والاستكانة معناها: الخضوع لما يريده العدو ويطلبه من العقائد الفاسدة، وترك العبادة الواجبة، والاتصاف بالأخلاق الذمية المفسدة، وترك العمل من أجل دين الله عز وجل، وإذا وصل الناس إلى هذا الحد من اعتقاد الفساد، والباطل -والعياذ بالله- مثل موالاة الكفار أو صداقتهم، فلن أكون متعجباً إذا وجدت بعد شهور قليلة من يذمون أعداء الله من اليهود والنصارى أعظم الذم ويضعون أيديهم في أيديهم، ويقبلونهم معلنين الصداقة والوئام والمحبة والسلام، وقد فعلوا.
إن الذين قتلوا من المسلمين في سنة (1967م) هل يبلغون خمسة آلاف، أو عشرة آلاف؟ قتل مائة ألف جندي مصري في تلك السنة، وقتل أضعاف كثيرة منهم بعد ذلك، ونسي الناس ذلك، وقالوا: السلام لا بد منه، وانتهت الحروب، وليس هذا ببعيد من نفس الأشخاص الذين يتكلمون بهذه الكلمات.
ولذلك نقول: الاستكانة هي أن نقبل بالعقائد الفاسدة، وأن نقول للناس: العداوة زالت، حتى وجد من المنتسبين إلى الإسلام وإلى القضية يقولون: إن الخلاف بيننا وبينهم ليس خلافاً دينياً، وليس صراعاً دينياً! هذه هي الاستكانة الحقيقة، وأنت لو قتلت نفسك لأجل مثل هذه العقائد، فلن تكون على طريقة أهل الإسلام التي هدفها إعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار هذا الدين في كل بقعة من بقاع الأرض، ومن أهمها -بلا شك- البقاع المشرفة المقدسة التي ظهر عليها الإسلام، وعظمها وبارك الله عز وجل فيها وحولها.
المقصود: أن من أخطر الأمراض التي تصيب الأمم المهزومة والمغلوبة: مرض اليأس الذي يدفع إلى تصرفات جاهلة، كما يقول البعض: لابد أن أعمل أي شيء، حتى لو كان هذا الشيء في غير الطريق، وهو يظن أنه حينها يعمل شيئاً، أو ينتظر الوهم، ويحدد لنفسه تواريخ، ويقول: سيأتي النصر من السماء من غير أسباب! لا، لا بد أن نعمل، ونتحسس أسباب الخير، فلا بد من عمل لكن على الطريق الصحيح؛ لقوله سبحانه وتعالى:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ
[هود:121] أي: إنا عاملون على طريقتنا أو على تمكننا، وكلا التفسيرين متلازمين. إذاً: فلا بد من الأمرين.
وحقيقة التوكل الذي أدى إلى الاستهانة بقوة العدو، وعدم الاهتمام بها، واعتقاد أن هذه القوة تمكين من الله سبحانه وتعالى لهم، وامتحان لنا، كما قال سبحانه:
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
[الفرقان:20] وقال سبحانه:
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
[يونس:88-89]، إذاً: فماذا نصنع؟ ندعوا الله، فموسى عليه السلام لم يستكثر أن فرعون معه ما معه، فقال الله على لسانه:
رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
لأن هناك قلوباً خفيفة، يراد أن يركم بعضها فوق بعض، ولم يقع ذلك إلا بوجود المضلين، كما قال عز وجل:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ
[الأنعام:112-113] أي: لتميل إلى زخرف هذا القول الباطل،
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ
[الأنعام:113].
استحضر أن الله هو الذي يدبر الأمر وليس تخطيط الأعداء، استحضر أن الله هو العزيز الذي لا يضاد، وأنه هو الذي يملي لهم لمتانة كيده، كما قال سبحانه:
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
[الأعراف:183]، وقال:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ
[القلم:44]، فالله يمهلهم ولا يهملهم عز وجل، كما في الحديث: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) هكذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قرأ:
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
[هود:102]، ويجب أن نستحضر أن هناك حكمة من الله عز وجل في أن تميل إلى الباطل قلوب غير المؤمنين من الكفرة والمنافقين الذين لا يريدون الآخرة؛ لترضى بهذا الباطل، ليقترفوا ويفعلوا الأفعال الإجرامية، وإذا حان الوقت، فهذا فعل الله عز وجل وله ما أراد من أفعال سبحانه.
إن كثيراً من المسلمين يقبل ما يريده اليهود والنصارى وغيرهم ممن يواليهم على دينهم، فإن كان يتصور أنه يحاربهم أشد الحروب، فهذا وهم كبير، وهذا في الحقيقة بطولة زائفة، تصنع من ورق مقوى صنع في بلاد الأعداء، مثل: بطولة كمال أتاتورك، يوم فتح أزمير؛ حتى خاطبه أحمد شوقي بقوله:
يا خالد الترك! جدد خالد العرب
شبهه بـخالد بن الوليد ، لما فتح أزمير بعد أزمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، واحتلال الحلفاء لإسلام بولي عاصمة الخلافة، ولكن جاء المخلص المنقذ، والبطل الزائف المصنوع في بلاد الأعداء، وانسحبوا من أمامه في أزمير واستمر في فتوحاته، إلى أن فتح أنقره، وإسلام بولي مرة ثانية، سلموها له؛ ليفعل ما لا يقدرون عليه من أذية المسلمين وحرب الإسلام، ويفعل ما هو أشد فتكاً بالمسلمين، ليعلن إنهاء الخلافة، ويعلنها علمانية صرفة، ليعلن تحريم الشريعة، لا مجرد إباحة مخالفة الشريعة، لا، بل يعلن تحريم الشريعة، وتجريم من يطالب بتطبيقها، وسن قوانين عجيبة بعد أن انتصر، والأمة أرغمت على قبول ذلك، فسن قانون: أن من يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية يعاقب بالسجن ثمان سنوات، ومن يطالب بذلك ويعمل عملاً جماعياً من خلال منظمة يعاقب بالسجن مدى الحياة، وحارب بكل ما أمكنه من قوة لتغريب تركيا بالكلية حتى أنه غير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، وحرم الطربوش والعمامة، وألزم الناس بالقبعة، أما معركة القبعة هذه فقد قتل فيها من قتل، وحرم الحجاب تماماً، فلا يمكن أن تدخل امرأة محجبة إلى أي مكان رسمي، أمور عجيبة!!
حرم حتى تحفيظ الناس أولادهم القرآن، زيادة على ما يقرره هو وزبانيته، ومن يخالف ذلك يعاقب بالسجن ثلاث سنوات.
فلا تسأل عما يمكن أن يكون وقع في تلك البلاد من تدمير لتلك الأجيال التي توجد الآن هناك، نشأت منذ أكثر من ثمانين سنة في ذلك الوسط، وتربت على ذلك وترعرعت عليه، فبالفعل فعلوا ما لم يفعله الأعداء، نسأل الله العافية.
المقصود: أننا لا نريد أن نترك العمل الواجب إلى تصرفات جاهلة من الأوهام ونحوها، ونقبل بهذه البطولة الزائفة غير الحقيقية، ولذلك نقول: من الاستكانة أن تقبل مبادئ الأعداء، وهم يريدون أن يفقدوا المسلمين ولاءهم لهذا الدين، وبراءتهم من الشرك.
وأعداء الدين يقولون عن الموحدين أنهم يقولون: إنهم هم المؤمنون فقط، والذين لهم الجنة، وكل من خالفهم فهو كافر، ولا بد أن يعادى، فلا بد إذاً أن تحذفوا هذه الآيات من القرآن، إنهم يصرحون بذلك، ويوافقهم عليه المستفيدون منهم دنيوياً، وإن كانوا يزعمون أنهم قاوموهم كل المقاومة. فهم ينادون: لا بد أن نعيد النظر في الخطاب الديني هكذا يقولون، ولن يقولوا: لا لمثل هذه الدعوات، بل يزيدون: احذفوا آيات من القرآن، وهذا قد لا يستطيعون الجهر به، فهو عليهم صعب، لكن يقولون: افهموا الآية فهماً صحيحاً، وكأن الأعداء فهموها على ما هي عليه، فهم يقولون: ليس المقصود منها أن تعادوا الكفار أو تتبرءوا منهم، بل المؤمن هو كل من آمن بوجود الله، فاليهود والنصارى مؤمنون، وكذلك كل من آمن بوجود الله، بالإضافة للمؤمنين طبعاً، بل هؤلاء المتطرفون كفرة، الإرهابيون ليسوا مسلمين، فلا بد أن يكفر بهم، وأما الآخرون فهم المؤمنون، هكذا يزعمون، وإلا فأخبروني عمن ينادي سكان المعمورة على اختلاف أديانهم بصيام يوم عالمي من أجل نصرة فلسطين، أليست هذه استكانة رغم أنها في صورة مقاومة؟!
فمن تخاطب يا عبد الله؟! وكيف تقول للكفرة: صوموا على اختلاف أديانكم؟ هل تريد من الهندوسي أن يصوم؟ اطلب منه أولاً أن يزيل الكفر الأول، لكن تراهم يقولون: يصوم النصارى والمسلمون معهم، وكل واحد يصوم بطريقته، وينادي بعدها ويقول: هؤلاء هم المؤمنون الأحرار، ما هذا البلاء؟ إنه بلاء فعلاً، واستكانة ومرض، ويأس في الحقيقة رغم أنه يزعم أنه لم ييئس لكن الحقيقة أنها تصرفات يائسة لا تقبل بحال من الأحوال، فهذا هو الذي يريده العدو، إنه يريد أن تفقد هويتك.
الذين يقولون: نحن لابد أن نغير الخطاب الديني؛ من أجل أن ننزع من الناس الولاء والبراء، الذي فيه فرق بين الإسلام والكفر، وسنفسر لهم الآيات على غير ما فهمه الأعداء قبل الأصدقاء، فهم الأعداء بحق، وقالوا للناس: يجب أن تراجعوا المناهج، وبعض الآيات في المصحف يردونها، لكن نحن لا نقبل هذا ونقول: إن هناك آية تقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
[المائدة:51].
أخبرني بعض الإخوة أن بعض مشايخ السوء قال له الكفار: أنتم تكفروننا، بدليل آية عندكم في القرآن تقول:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
[المائدة:17]، ونحن نقول هكذا، قال له: لا، هذه لم تنزل فيكم أنتم، بل نزلت في النصارى أيام النبي صلى الله عليه وسلم -والعياذ بالله- استكانة فعلاً، هذا تكذيب لكلام الله عز وجل، أي: تكذيب للقرآن.
إذاً: عندما نعمل كل ما في إمكاننا، فنريد أن تكون الطاقة الموجودة لدى شباب المسلمين ورجالهم ونسائهم طاقة متجهة للتغيير الحقيقي لواقعنا؛ حتى يغير الله عز وجل علينا،
إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
[الرعد:11].
فلن يكون هناك انفجار غير محسوب، وأضرب لذلك مثلاً: لو أن حلة فيها بخار، وفيها ماء، والغطاء مقفول عليها بإحكام، وأشعل عليها النار إلى أن رفع البخار الغطاء، فوقع على يد الرجل الذي أشعل عليها، فهذا انفجار غير محسوب، وغير مطلوب، لكن الآلة البخارية فيها منفذ لخروج البخار وتوجيهه باتجاه معين، من أجل أن يحرك العجلة، وتتقدم هذه القاطرة، وهذا هو المطلوب، فالطاقة هذه ماذا نعمل بها؟ نحن نعلم أنه يوجد كرب شديد بسبب ما يقع بالمسلمين في المشارق والمغارب، لكن نحن لم نفكر لماذا يحصل لهم هذا؟
حصل بهم هذا بسبب تقصير طويل المدى، وبسبب بعد طويل عن الإسلام، وكثرة الخبث، كما في الحديث: (أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث) طبيعة الدعوة إلى الله، وطبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقاب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) ومعنى: تبايعتم بالعينة أي: بالربا، وإن سمي بغير اسمه، ففيه تحايل على الربا، أما اليوم فهو رباً لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وإن سماه جهلاء السوء بغير اسمه لكي يضلوا الناس عن ذلك.
إن أموال المسلمين في أيدي أعدائهم من البنوك الشرقية والغربية -والغربية كلها بنوك تابعة لليهود في النهاية- مصادر دخل المسلمين وادخارهم كلها في أيديهم، نسأل الله العافية.
التبايع بالعينة هو نوع من التحايل على الربا، كمن يبيع حاجة بالتقسيط، ويشتريها البائع من المشتري مرة أخرى نقداً بساعتها، حتى لو وجد ثالث لكي يحرك البضاعة فهو مثلهما على الراجح من أقوال العلماء؛ لأن التبايع بالعينة غرضه المال، لكن لا يجد من يسلفه، فيأخذ السلعة التي يشتريها بالتقسيط بمائة وعشرين، ثم يبيعها لآخر بمائة، فهو أخذ بمائة وباع بمائة وعشرين، وهذا ربا في الحقيقة، ولكن الغرض المقصود أنه سماها بيعاً لكنه محرم، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة.
قوله: (ورضيتم بالزرع) الزرع مع أنه من أشرف المهن كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مؤمن يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة)، ومع ذلك فالتبايع بالعينة، والرضا بالزرع، أي: الرضا بالدنيا والاكتفاء بها، وبهذه المكاسب، والرضا بالتجارة والأموال التي نخشى كسادها، حتى تكون هي أكبر الهم ومبلغ العلم -نعوذ بالله من ذلك- عندما تصبح الدنيا هي كل ما نريد، فسيسلط الله علينا ذلاً لا ينزعه حتى نرجع لديننا.
إذاً: فالوقت لصالحنا ما دمنا نسير على الطريق، ولم نبتعد عنه؛ فلن نقصر فيما في إمكاننا.
وهناك أمور إذا صنعت وقمنا بها خرجنا من المحنة:
الأمر الأول: أن نوقن أن ما بأيدي أعدائنا لا يساوي شيئاً، ويمكن أن يزول في لحظة، وأن قوتهم ضعف، وعزهم ذل، وغناهم فقر، فنشهد بذلك، ونشهد أن الأمر لله، والغيب لله، وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أن نعمل على طريقتنا، ولا ننحرف يميناً ولا شمالاً، بل على نفس طريق الأنبياء والرسل، وطريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام، حتى نكون من الفرقة الناجية، وأصحاب العقيدة الصحيحة، والأخلاق السليمة، والمعاملة بالحلال وتجنب الحرام، الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والقيام بالإيمان والإسلام والإحسان، فنعمل لذلك ونطبقه في أنفسنا.
تخيلوا ذلك في مكاتبنا الخاصة، ثم تخيلوه بعد ذلك في مساجد المسلمين، ثم تخيلوه في كل بيت، لو أن الإخوة معنا ثم الناس في المساجد، ثم في كل بيت من البيوت يكون لهم في كل يوم درس في كتاب تفسير ميسر مثل: أيسر التفاسير، أو مختصر تفسير ابن كثير، وكل يوم تقرأ بضع آيات، وتتعلم معاني الكلمات، وما فيها من حياة القلوب، ومعاني الإيمان، ثم نطبق ذلك في حياتنا، وكذا كل يوم ربع ساعة آخر النهار في كتاب شرح مسلم ، أو كتاب الترغيب والترهيب، فيقرءون الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويطبقونها في حياتهم، تخيلوا لو أن كل الملتزمين صنعوا هذا فضلاً عن بقية الناس في المساجد، وفرضاً لو أن كل البيوت عملت هكذا، ما هو التغير المنتظر في حياة الناس؟ بالتأكيد أن التغيير سيكون جذرياً؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد كلام الله عز وجل ينير لنا الطريق في الظلمات، لكن كثيراً من الناس يمكن أن يمكث أربع ساعات في مشاهدة مسرحية، أو نشيد، أو أغان، أما أن يصبروا في سبيل الدين فلا.
المصيبة أن الناس تريد أن تزيل الأزمة بمزيد من الأزمة، مثلاً عام (1967م) عملوا على إزالة آثار العدوان بأن قامت كوكب الشرق تغني في البلاد العربية، وتقوم بعمل حفلات من أجل أن تزيل آثار العدوان، وأغاني عبد الحليم حافظ الحماسية القوية، التي في هذا الوقت يقوم الفنانون بعمل أغاني مثلها!!
إذاً: فلنستقبل مزيداً من البلاء، وبعض الإسلاميين يسمونها إسلامية! وهذا بلاء فعلاً والله، نسأل الله العفو العافية.
القدس عندما احتلت كان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهما الله تعالى لديهما رغبة في نشر السنة، ومقاومة الفكر الرافضي الباطني، ونشروا كتب السنة في كل مكان، فالناس تعودوا أن يقرءوا البخاري ، وغالباً لم يكن هناك فهم وإدراك جيد، مع أن الشروح موجودة، ثم نصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
كان نور الدين محمود رحمه الله تعالى يأتي المحدث قبل المعركة، فيقول له: حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، فقبل أن يبدأ المعركة يريد أن يسمع الحديث في مثل هذا الموطن ويطبقه، فحدثه أن الرسول خرج متقلداً سيفه، فقال: ما أنا على السنة، فتقلد السيف وأمر كل جنده بأن يتقلدوا سيوفهم؛ لأنه سمع الحديث وطبقه بعد ذلك، ثم أصبح الأمر سنة ماضية.
المقصود: أن الناس تتعلم المعاني من أجل أن تطبقها، وكان الغرض استخدام السنة في مقاومة البدعة؛ لأن مجرد سماع حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الناس يتغيرون، لو أخذنا مثلاً كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونظرنا في مسائله، ونحاول أن نستعين بمن يشرح لنا ما صعب علينا من كلامه، فما هو التغير في العقيدة الذي سيحصل للأمة؟
السلوك والأخلاق، والعبادات سوف تتغير في واقع حياة المسلمين تغيراً كبيراً جداً إلى الأحسن، وهذا الذي لا بد أن يقع، ولن يقع حتى يقام الجهاد، والجهاد لا يقام بالإعلانات، ولا هو مجرد فتح أبوابه، وإذا كانت البيئة مهزومة فتقول: افتحوا أبواب الجهاد، ولا يوجد ميدان أصلاً، البيت يريد أولاً البناء، وأن يوضع له أساس قوي، عندها تفتح أبواب الجهاد، وستفتح في مواعيدها بإذن الله تبارك وتعالى.
ولذلك نقول: الجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو فعلاً ذروة كذلك، لكن كيف يكون قائماً؟ سنام البعير الذي له قوائم؛ وبقية بدنه أيضاً سليم، هذا الذي لا بد منه، ولابد أن يتوفر هذا في الذي يريد أن يجاهد، ولا بد أن يسير على الطريق، وينتظر عند ذلك، ولكن عندما يكون هناك انتظار بغير
إِنَّا عَامِلُونَ
بغير توكل على الله، فيكون انتظار في صالح العدو، وهو انتظار يائس، وليس هذا هو المطلوب من الأمة في هذا المقام، قال عز وجل:
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
[هود:121-123] الأمر إذاً مهم جداً.
إن سورتي هود ويوسف نزلتا على النبي عليه الصلاة والسلام في الأوقات الشديدة جداً، عندما بدأ التخطيط والكيد من أهل الكفر يفكر كيف يقضي على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ للقضاء على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يقولون: النصر بعد سنة، أو سنتين، أو خمس، أو ست، أو عشر! لا يجوز أن نحدد، فلا ندري متى يكون ذلك،
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
[هود:123] وإنما عليك أن تستمر في العمل، وتنتظر ما يغير الله عز وجل من أحوالنا، بالعمل بما نقدر عليه يفتح الله لنا أبواب ما لا نقدر عليه، والعمل بما نعلم يعلمنا الله عز وجل بسببه ما لا نعلم، وحينها تجد أن الأمور قد وضحت، إن قيل: ماذا نعمل؟ أو لماذا الدنيا مظلمة؟ لأننا لم نسر كما ينبغي، كما قال الله عز وجل:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ
[البقرة:282]، ولذلك عندما يكون الشخص في حيرة من أمره يصلي صلاة الاستخارة، ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. ثم يدعو بالدعاء المأثور.
فنعمل بما نعرفه، وربنا يفتح لنا أبواب ما لا نعرفه، إذا عملنا بتقوى الله جعل الله لنا نوراً،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا
[الأنفال:29] فرقان نفرق به بين الحق والباطل، حتى تعمل وتعلم أولاً ما هو الصح؛ كشخص وكأمة وكطائفة مؤمنة، لأنه أحياناً قد يقوم الإنسان بعمل شيء وليس هذا هو الوقت المناسب له، فيترتب على ذلك تأخر طويل المدى؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع المسلمين من أعمال في أول الأمر؛ ثم بعد ذلك فعلها صلى الله عليه وسلم، فقد استأذنه أهل العقبة -أصحاب بيعة العقبة- أن يميلوا على أهل الوادي من المشركين، فقال: (إني لم أؤمر بقتالهم).
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله لماذا شرع الله عز وجل أولاً كف الأيدي في قوله:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
[النساء:77] قال: شرع الله ذلك؛ لأن المسلمين لو قاتلوا الكفار حينئذ لاستؤصلوا، ولأبيدوا، وكما قال الإمام الجويني : إذا نزل ملك عظيم الشوكة انتصر لبلاد الإسلام لم يتسارع إليه الآحاد؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لأهينوا ولاصطدموا، والاصطدام معناه الإهانة.
فالمقصود: عندما يكون المرء لا يعلم ماذا يصنع يلجأ لربه، ولو كان لا يستطيع أن يعمل كل شيء فيعمل بقدر طاقته كما قال سبحانه:
إِنَّا عَامِلُونَ
إذاً: يعمل ما هو قادر عليه، فأنت تقدر أن تصلي فصل، وتقدر أن تتعلم فتعلم، وتقدر ان تدعو إلى الله فأدع إليه.
إذاً: أتمنى من كل أحد منكم أن يخرج من هنا فيطبق ما قلناه، وكل يوم يتعلم آية، أو آيتين أو ثلاثة، ويفهم معناها، وأن يكون له في كل يوم وقتاً لتعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع التطبيق، ونشر هذا الكلام في المسلمين، فلو نشرنا هذا الكلام في المسلمين، وتعلموا السنة، فلن يقدر أن يخدعهم أحد أو يميل بهم يميناً أو شمالاً، ولما أن نتعلم التوحيد بطريقة مبسطة، بالآية بالحديث، مثل كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، لو عرفنا الآيات الدالة على صفات الرب سبحانه وتعالى، وعلى سائر أمور الاعتقاد الواجبة، وتنشر هذه الأمور في المسلمين، وكذا الأخلاق الواجبة، ونتعلم كلام النبي عليه الصلاة والسلام في ما يلزمنا في الآداب والأخلاق وأعمال القلوب الواجبة، فسيحصل تغير بإذن الله تبارك وتعالى.
أروي لكم قصة عشتها أنا فعلاً وما كنت أتصورها: خرجت في يوم ما من خطبة الجمعة فوجدت بعض الأولاد بجوار المسجد على بعد مترين أو ثلاثة يلعبون بالنرد وأصوات الموسيقى مرتفعة إلى جانب ذلك كله، وكان الناس في الخطبة متضايقون جداً مما يحدث، وأنا حز في نفسي أن لا أقول لهم أي شيء، فذهبت إليهم ونصحتهم بأن يستغلوا أوقاتهم في أمور هي خير من النرد والأغاني، فوجدت أنهم يحفظون شبهات حول اللعب بالنرد، وينكرون حرمته، وبعد نقاش تركتهم وذهبت، ثم سمعت أحدهم يقول: ارفع هذا الشيء عنا، فحمدت الله تعالى على ذلك، حتى ولو لم يقتنعوا المهم أني أفسدت عليهم شيئاً من هذا الحرام الذي وقعوا فيه.
إذاً: فالناس عندها استعداد لتقبل الخير؛ حتى ولو للحظة، ويمكن أنهم أقفلوه حياءً من الذي أمرهم، والحياء من الإيمان.
وهناك من يتكلف أن لا يرد كلام أحد، خصوصاً إذا كان هناك فارق في العمر، فيقولون عنه: رجل من أصول القرن الماضي، فلو أن الشباب تقدموا لأمثالهم وكلموهم لأثروا فيهم، ودائماً الشباب يؤثرون على بعضهم، ونجد أن أولادنا يحبون أصحابهم أكثر من آبائهم وأمهاتهم، هذا أمر لا شك فيه؛ لأنه يرى أن أمه وأباه لا يفهمون الدنيا، وهم من زمن آخر، فمن الذي سيكلمه إلا صديقه.
فأيها الشاب! لو وجدت فكرة منكرة تنافي الفطرة سيعملونها نحذرهم منها، وكذلك لو وجدت فكرة صالحة قد يعملونها فحفزهم لعملها والتحلي بها؛ لأنك قريب منهم، وعندك نفس احتياجاتهم وشهواتهم.
إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لو طبقت من جميع الملتزمين بكل مستويات اختلاطهم، ولم تقتصر على مجرد خطبة أو درس في المسجد، أو ندوة أو محاضرة، وإنما تكون كلمة الحق في كل مكان نصل إليه، ولا نخجل منها، ولا نستحيي، فأهل الباطل لا يستحون، وكما ذكرت الطبقات المختلفة مؤثرة على بعضها أكثر من تأثير البعيد عنها، الشباب يؤثرون في الشباب، والبنات يؤثرن في البنات، وكل أهل ملة عندهم فهم معين يؤثر بعضهم في بعض أكثر مما لو حدثهم آخر.
فلو أن طبيباً نصح الأطباء، سيختلف الأمر عما لو نصحهم صاحب أي مهنة أخرى، فلو نصحهم نجار مثلاً لقالوا له: أنت لا تفهم أي شيء عنا، ولا تعلم ما نحن فيه، لكن لو كان الناصح من بينهم وقال لهم مثلاً: عليكم أن تتقوا الله، وتغضوا أبصاركم عن عورات المرضى، ولا تستهينوا بالعورات مثلاً، فذلك يختلف عما لو كان من غير مجالهم، فكل واحد في مجاله، الشاب في مدرسته وجامعته، والعامل والموظف في عمله، والجار مع جاره، والمرأة مع صديقتها وجارتها، لو حدث ذلك لتغير واقع الناس، ولكنا فعلاً سائرين على الطريق، بما نقدر عليه، ولن نقول للناس: افعلوا ما لا طاقة لكم به، ولا نقول: افعلوا أي شيء، ولو كان على غير الطريق، فلا بد أن نسير؛ ولكن على الطريق.
قال تعالى:
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ
فليس للنبي صلى الله عليه وسلم أمر، كما قال عز وجل:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
[آل عمران:128] ثم قال:
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
، وهذا كقوله:
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا
، وكقوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
[الفاتحة:5]، فهذه قضية عظيمة ومهمة، ثم قال سبحانه:
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
فمراقبة الله سبحانه وتعالى، وإخلاص النية له عز وجل، لو علم الله الرغبة في نصرة دينه، واتباع كتاب الله عز وجل من طائفة منا، ليس حتى من جميعنا، لتغير الواقع الذي نعيشه بإذن الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه، ومظهر كلمته سبحانه وتعالى، ومعليها في الأرض كلها ولو كره الكافرون.
وهذا اعتقاد راسخ لا بد أن نوقن به؛ ولكن لابد أن نكون لبنات في البناء، وخطوات على الطريق، وأساس يوضع؛ ليرتفع عليه البناء على قواعد مدفونة تحت الأرض، لا على ظاهرها، لئلا يسقط مع أبسط هزة البناء.
فلابد أن نكون نحن لبنات في البناء، وأساس له، وسيظهر قطعاً بإذن الله، وبلا شك أن المهدي من أبناء أحد أفراد هذه الأمة، ونحن لا نعرف متى مواعيده، لكن هو غير موجود هذا الوقت جزماً، لكن سيكون من أبناء أهل الإسلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا الذين يجاهدون الدجال ، والذين يفتتحون قسطنطينية ورومية، سيكونون من أبناء المسلمين اليوم بإذن الله تبارك وتعالى، فمن الذي علمهم؟ من الذي رباهم؟ إلا نحن، فلننظر كيف تربيتنا لأبنائنا ولأمتنا.
إن كنا نريد أن نكون على الطريق بإذن الله تبارك وتعالى؛ فلنكن نحن الذين ربيناهم، أو ربينا الذين يربونهم، ونجتهد في ذلك، ويمكن أن نكون نحن، والله أعلم، فالأحوال تتغير في لحظة، والموازين الدنيوية سرعان ما تتبدل في أسرع من لمح البصر، قال عز وجل:
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
[القمر:50] يقول سبحانه للشيء: كن فيكون، ولا يحتاج الأمر إلى تسمية أو تكرار، فبإذن الله تبارك وتعالى تنقلب الموازين على أعداء الله عز وجل من حيث لا يشعرون، لكن لا ندري متى، فنعمل الواجب علينا، وما شاءه الله كان.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر