www.islamweb.net/ar/

كلمة حول الأحداث الأخيرة للشيخ :

  • التفريغ النصي الكامل
  • إن القوة والضعف، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض لمن الأسباب التي يبتلي الله بها عباده في هذه الحياة؛ لينظر من هو الصادق الذي يقف إلى جانب الحق وإن كان أصحاب الحق ضعفاء، ومن هو الكذاب الذي لا يقف مع الحق إلا إذا كان أهل الحق أقوياء، فإذا مروا بمرحلة الضعف ترك الحق وهرول إلى الباطل، فهو مع القوي وليس مع الحق. وقلما أفلح رجل بنى مواقفه على موازين البشر وترك موازين رب البشر سبحانه وتعالى، وكم من أناس ظنوا أن أمة الإسلام قد ماتت فوقفوا في صف عدوها ليأخذوا من الغنيمة، فإذا بها تنتفض حيةً قوية تعصف بهم أجمعين، فأمة الإسلام قد تمرض لكنها لا تموت.

    الابتلاء يكون بالقوة والضعف

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فاعلموا عباد الله! أنه لا قوة إلا بالله، وأنه سبحانه وتعالى هو القوي العزيز المتين، فهذه صفته سبحانه وتعالى، وقد جعل من دونه من الخلق يتقلبون بين القوة والضعف، والعدم والوجود، والموت والحياة، والإعزاز والإذلال، والرفع والخفض، فهو سبحانه وتعالى المعز المذل الخافض الرافع مالك الملك، كما قال عز وجل: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

    فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، فلا تحول من حال إلى حال إلا به سبحانه وتعالى، ولا قوة للعباد إلا به سبحانه وتعالى، وليس بأيديهم من أسباب القوة والقدرة إلا ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، وما أعطاهم الله إلا من أجل أن يبتليهم، وأول أسباب القوة الحياة، وأوضح أسباب الضعف الموت، وهو عز وجل بيده الموت والحياة تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:1-2].

    فالله عز وجل فاوت بين العباد قوة وضعفاً، وحياة وموتاً، وفاوت بين الأمم قوة وضعفاً، وإعزازاً وإذلالاً؛ يبتلي عباده بذلك أيهم أحسن عملاً؟ وهو سبحانه وتعالى الذي امتحن بعضهم ببعض وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (قال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك)، فالله يبتليه ويبتلي من اتبعه، ويبتلي به الناس حتى يكونوا بين متابع مؤمن مصدق، وبين مخالف كافر مكذب والعياذ بالله.

    فالله سبحانه وتعالى جعل أسباب القوة والضعف، وأسباب الإعزاز والإذلال امتحاناً للعباد؛ لينظر كيف يعملون حين تأتي المواقف المختلفة، فتتفاوت قواهم بين تمكين واستضعاف، وتختلف ظروفهم وأحوالهم ليعلم من يطيعه عز وجل على كل حال، فيبني مواقفه من خلال كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن يبنيها على مصالح يتوهمها، أو موازين قوى يتخيلها -أو هي فيما يبدو للناس- فيظن أن الأمور بأيديهم، فيبني على ذلك مواقفه، ويتخذ بناء على ذلك تبعيته وولاءه، ولم يدر أنه حين يقدم المصالح الموهومة والقوى المتخيلة على ما أمر الله عز وجل به فإنه خاسر في الاختبار، وفاشل في الامتحان، لقد خسر حين اختار الحزب الخاسر فوالاه، وترك الحزب الغالب فعاداه؛ لأنه لم يكن منتصراً في نظره.

    موالاة المنافقين للكافرين في كل زمان

    إن مواقف أهل الإيمان دائماً نابعة من كتاب الله ومن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وقضية الولاء والتبعية عندهم محسومة لصالح الالتزام بالدين، فلا بد أن يكون الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51-52]، إنه منطق يتكرر في أزمنة وأمكنة مختلفة، إنه منطق أهل الشك والريب والنفاق الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون في موالاة الكفرة رغم ظلمهم وبغيهم واعتدائهم وطغيانهم، فلا يقيمون للحق وزناً، ولا يبنون أمرهم على دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما العدل عندهم وفي مقياسهم هو القوة، وليس هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم الظلم وأكبره وأشده، إذ أن ذلك اعتراض على شرع الله سبحانه وتعالى أن ينسب الإنسان فعله إلى العدل دون رجوع إلى شرع الله، ومن يوافقه على ذلك فهو مثله، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا ريب أن من رأى أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً دون رجوع إلى شرع الله أنه بذلك يكون كافراً والعياذ بالله.

    فالعدل هو شرع الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يجب أن يحاكم الناس إليه ويتبع، وأن يلزم الجميع به، سواء كانوا مؤمنين أو كانوا كافرين، فالكل يجب أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالمنافقون يعلمون ظلم هؤلاء الذين حذر الله من مولاتهم من اليهود والنصارى ومع ذلك يتولونهم، فحكم الله أنهم ظالمين مثلهم: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

    فيسارعون فيهم خشية الدوائر كما يزعمون، وغاب عنهم أن القوة والضعف إنما هي ابتلاء من الله عز وجل، وأن القلة والكثرة والتمكين والاستضعاف إنما هي مراحل تمر بها الأمم كما يمر بها الإنسان، فإنه يولد عاجزاً ضعيفاً فقيراً عارياً، ويموت كذلك، ويمر فيما بين هذين الضعفين بقوة وقتية يختبر فيها كيف يعمل، فكذلك الأمم والشعوب تختبر.

    فقد قدر الله سبحانه وتعالى على كل الأمم أن تهلك وتبيد إلا هذه الأمة فقد اختصها الله سبحانه وتعالى بفضيلة من عنده وهي أنها لا تموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وأعطى الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ويأخذ ما بأيديهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى تقوم الساعة).

    وفي رواية في الصحيح: (حتى يقاتل آخرهم الدجال)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    والمقصود بأمر الله سبحانه وتعالى الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو كان في جوف جبل لدخلت عليه هذه الريح فقبضت روحه، فلا يبقى في الأرض من يقول: الله .. الله، وقبل هذه الأشراط الكبرى لا ينعدم الحق من هذه الأمة بفضل الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى جعل القوة والضعف ابتلاء وامتحاناً للعباد ولكن المنافقين لم يفقهوا ذلك، فسارعوا في مولاة اليهود والنصارى يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]، فيخشون أن تصيبهم هزيمة فيعدون العدة بالتبعية والموالاة والمناصرة لأهل الكفر والطغيان والظلم والعدوان، قال عز وجل مبشراً عباده المؤمنين ومتوعداً هؤلاء الكفرة والمنافقين: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة:52]، و(عسى) من الله عز وجل واجبة، فبقدر تمسك أهل الإيمان بإيمانهم، والتزامهم بكتاب ربهم، وبناء مواقفهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يأتي الفتح من الله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52]، وأبهم هذا الأمر الذي من عنده؛ لكي لا يقف فكر المسلمين المؤمنين عند حد، فإن قدرة الله عز وجل لا تحد، فيفعل عز وجل ما يشاء، ويغير الأمور في لحظة واحدة: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:50-55].

    فالملك والقدرة له سبحانه وتعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1] وقال عز وجل: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [المائدة:52-53]، فيتعجب أهل الإيمان ممن ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه مع أهل الإسلام ضد عدوهم، ثم هو يوالي الكفرة ويعاونهم ويظاهرهم -والعياذ بالله- فيكون منهم، وذلك ينافي معيته للمؤمنين.

    فيتعجب أهل الإيمان لتناقض أهل النفاق؛ لأن من كان موالياً للمؤمنين ناصراً للدين لا يمكن بحال من الأحوال أن يقدم آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة أو أزواجاً أو مساكن ترضى أو أموالاً تقترف أو تجارة يخشى كسادها، أو غير ذلك من المصالح الموهومة -التي هي في الحقيقة مضار إذا قدمت على دين الله- على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23-24].

    إذاً: تربصوا وسوف يأتي أمر الله النافذ الذي لا مرد له، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهذا تبشير لأهل الإيمان، ووعيد لأهل الكفر والنفاق والظلم والعدوان، وانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].

    الاجتماع بين الإيمان وموالاة الكافرين غير ممكن

    تتناقض دعوى الإيمان مع موالاة الكافرين ومظاهرتهم ومناصرتهم، بل هي موجبة -والعياذ بالله- لحبوط العمل، مستوجبة للخسران، مؤدية إلى الردة إن لم تكن هي في ذاتها ردة، قال عز وجل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:53-56].

    لقد عقب الله سبحانه وتعالى بالتحذير من الردة بعد ذكر مولاة اليهود والنصارى؛ ذلك لأن مولاتهم إما أن تكون ردة، وإما أن تؤدي إليها، وإما أن تكون من أسبابها، فإما أن تكون من الكفر الأصغر والشرك الأصغر الذي يؤدي سريعاً إلى الأكبر والعياذ بالله، وذلك بحسب نوع تلك الموالاة، فمن كان موالياً لهم بحبهم، والرغبة في انتصار باطلهم وشركهم وضلالهم، وحب ظهورهم على أهل الإسلام فإن ذلك مستوجب للكفر، بل لا يمكن أن يصدر من مؤمن أصلاً، فكيف يكون مؤمناً وهو يحب أن يظهر الكفر على الإسلام، وأن يظهر الكفار على المسلمين؟ بل إن كراهية الجهاد في سبيل الله من أوضح علامات النفاق، كما أن حب الجهاد من أوضح علامات الإيمان؛ لأن الله أوجب حبه وحب رسوله وحب الجهاد في سبيله.

    وأما من يكره وجوب الجهاد في سبيل الله فإنه من المنافقين كما حكم القرآن عليه، قال تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:81]، فالمحبة عملٌ قلبي لا يتصور زواله من القلب إلا بزوال الإيمان، فقد يعجز الإنسان أن يكون مجاهداً بنفسه أو ماله ولكنه لا يعجز أن يكون ناصراً للدين بهمته، محباً لظهور الحق، وأما أن يوجد العكس فليس هذا دليل إلا على وجود الكفر المحض والنفاق الأكبر في القلب والعياذ بالله.

    وقد عجز أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة ولم يجدوا ما ينفقون، لكن كيف كان حالهم؟ قال عز وجل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92].

    وأما من يرى البعد عن نصرة الدين غنيمة، فهؤلاء الذين وصف الله بقوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:72-73]، فالله سبحانه وتعالى جلى لنا أحوال المنافقين لكيلا يلتبس الأمر علينا، ولكيلا يشتبه إيمان بكفر بعد بيان القرآن الذي هو أوضح بيان.

    وكذلك إذا كانت موالاة الكفار بالإضافة إلى محبتهم أو بدونها بنصرة الكفار على المسلمين، والمقاتلة معهم ضد أهل الإسلام، فإن ذلك موجب للردة وحبوط الأعمال بالكلية، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

    وقد نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا يحبون الإسلام ولكنهم في غزوة بدر خرجوا مع آبائهم كارهين للخروج وليسوا مكرهين؛ لأنه لا إكراه في القتل، فلا يجوز لمسلم أن يكره على قتل مسلم ولا على انتهاك حرمته، قال القرطبي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يصح الإكراه على قتل معصوم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، وأعظم المعصومين حرمة أهل الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن يقول: أنا مكره على قتل أخيه أو قتال المسلمين، بل هو مأمور في قتال الفتنة بين المسلمين بأن يدق سيفه، ويكسر درعه، ولا يقاتل ويلزم بيته، فلو دخل عليه أحد بيته وهو في حال الاعتزال فليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل، ويلقي على رأسه ووجهه ثوباً لئلا يخيفه بريق السيف، ويقول كما قال خير ابني آدم: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29].

    فإذا كان هذا في مسلم يريد أن يشاركه في قتال فيه شبهة مع المسلمين، فكيف إذا كان مأموراً بقتال المسلمين لإسلامهم تحت راية كفر معلنة بالكفر، فيظهرون ما كانت تخفي قلوبهم، ويعلنون صراحة كفرهم وحربهم ضد الإسلام، وأنهم يريدون حملات صليبية متتابعة لتجتث هذه الحضارة الإسلامية بزعمهم، ويأبى الله ذلك، فقد أخبرنا بإرادتهم، وبنهاية أمرهم وأمرنا معهم، فقال عز وجل: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:30-33].

    فلذلك كان من يقاتل مع الكفار ضد أهل الإسلام والعياذ بالله لا يقبل عذره بالإكراه أو أنه عبد مأمور أو أنه كاره لقتال المسلمين، ولقد نزلت الآيات إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، في شبان من أهل مكة خرجوا مع أعدائهم كارهين لا يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم لمن كان يعلمهم؛ لأنهم ليسوا المقصودين في الحقيقة، ولكن كان يضرب أحدهم بالسيف فيقتل، فقد كان كثير من الأنصار أو أكثرهم لا يدري من هؤلاء إنما يسمع أسماءاً ولا يعرف أشخاصاً، وكذلك كان يأتي السهم فيقتل أحدهم، وربما رمي برمح فقتل، فقال بعض المسلمين: استغفروا لإخوانكم فإنهم كانوا كارهين، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

    فحكم الله عليهم بجهنم والعياذ بالله، وعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكفار في أحكام الدنيا، فألقاهم مع من قتل من المشركين في قليب بدر، ولم يصل على واحد منهم ولم يستغفر له، ولا دفنه مع شهداء المسلمين، بل دفنه مع الكفار، وخاطب الجميع بقوله: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً)، ومن أسر من هؤلاء كـالعباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب ، واستحل منهم هذا المال، ولم يكن خروجهم برضى منهم، ولكنهم كما روي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس ! إنكم خاصمتم فخصمتم، افد نفسك وابن أخي) وأخذ منه المال رغماً عنه، ولو كان يعامل معاملة المسلم لحرم دمه وماله، فتبين بذلك أن من خرج محارباً للمسلمين تحت راية الكافرين فإنه يكون مرتداً، وعليه كل أحكام المرتد.

    كيفية معاملة المنافقين في الدنيا

    قال الله سبحانه وتعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:88-89]، نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا قد تكلموا بالإسلام وخرجوا في طلب حاجة لهم، وكانوا يظاهرون عدو المسلمين عليهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس علينا منهم بأس؛ لأنهم يظهرون الإسلام، ولكنهم في نفس الوقت يظاهرون عدو المسلمين من قريش، فقال بعض الصحابة: انطلقوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت طائفة: سبحان الله! كيف تقتلون قوماً قد تكلموا بما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم وأموالهم؟! فأنزل الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ أي: كيف تختلفون فيهم؟ فإنه لا يجوز الاختلاف في هؤلاء، فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ، أي: ردهم إلى رجاسة الاعتقاد والكفر والضلال الذي هم عليه، ثم حكم الله عليهم بحكم الكفر مع حكم النفاق، وذلك أن المنافق إذا أظهر نفاقه يختلف عما إذا كتمه، فهو إذا كتم نفاقه يحاسب به في الآخرة، وليس لنا إلا الظاهر من الأعمال والأقوال، وأما إذا أظهر نفاقه بمظاهرة ومعاونة ومناصرة عدو المسلمين عليهم؛ فإنه بذلك أظهر كفره، ولذا قال: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ، أتريدون أن تحكموا بهداية من أضله الله عز وجل وجعل نهايته العذاب والعياذ بالله؟! وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:88-89].

    فهم يودون لو ترك المسلمون الإسلام وإن زعموا أنهم لا يريدون ذلك، لكنها الحقيقة، ولولا أنهم يخافون من أن يهيج الملايين من المسلمين لصرحوا بذلك، فهم يريدون أن يترك المسلمون الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون منهم أن يكتفوا بمجرد الاسم دون الحقيقة ودون التطبيق والعمل، ويريدون أن يبقى الإسلام مجرد اسم ينتسب إليه الناس.

    والله إن أناساً لم يكن عندهم من الإسلام إلا مجرد الاسم، ومع ذلك قتل منهم مئات الألوف في أقطار متعددة من الأرض، كما وقع في بلاد متعددة في المشارق والمغارب، ووقع ذلك بالأمس القريب في التركستان في الحكم الشيوعي الصيني، ووقع قريباً في البوسنة والهرسك، وفي غير ذلك من المواطن، ولم يكن معهم إلا مجرد الاسم، ولم يكن هناك أدنى فهم للإسلام، بل لم يكن صلاة ولا صيام ولا ترك لزنا ولا ترك لشرب خمر، ولا حتى عقيدة إسلامية، ووالله إن بعض من يخبر عن القوم في تلك البلاد يقول كانوا إذا سئلوا: من نبيكم؟ لم يدروا! بل ربما قال أطفالهم: نبينا عيسى، ولا يدرون عن محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً، ومع ذلك فهم مستهدفون؛ لأنهم يعرفون من الإسلام كلمة لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان لا يدرى فيه ما صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكن أقواماً يقولون: وجدنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها).

    فانظر إلى هذا الأمر لتعرف حقيقة إرادة الكفار، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا [النساء:89]، وهكذا أيضاً يريد المنافقون أن يكون الناس كلهم في الكفر سواء، فماذا بعد أن بين القرآن ما في قلوبهم؟! وماذا بعد أن بدا ذلك من فلتات ألسنتهم؟! أيمكن بعد ذلك أن يغر مغرور وأن يزعم أنهم لا يريدون حرب الإسلام؟ وأنهم لا يريدون اجتثاث هذا الدين من قلوب أبنائه بل من الأرض كلها؟ لكن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط، قال عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النساء:89]، فهؤلاء الذين كانوا من أهل مكة لا بد أن يهاجروا إلى المدينة وإلا لم تكن بينكم وبينهم موالاة، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:89].

    ولذلك نقول: إن مولاة الكفار إما أن تكون ردة كمن يحب كفرهم، ويحب ظهورهم على الإسلام والمسلمين، أو كمن ينصرهم بالقتال معهم، والخروج في صفهم مقاتلاً للمسلمين، وكذلك بأن يطيعهم في الكفر، أو يتابعهم على الشرك؛ فإن الطاعة في الكفر كفر، والطاعة في المعصية معصية، وإن كان يعتقد أن الطاعة في المعصية واجبة لأجل أمر من أمر بها فهو أيضاً من الكفر والعياذ بالله، وأما إذا كانت المتابعة والتشبه والطاعة والنصرة بمثل التجسس ونحو ذلك مثلما فعل حاطب بن أبي بلتعة مع مشركي قريش فلا تكون ردة، ولكنها سبب إلى الضلال، وهي درجة من درجات النفاق، لكن ليس الذي يستوجب الكفر الأكبر والقتل كما ظنه عمر ؛ ولذا قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقال: دعه يا عمر ! فلعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

    فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أن فعل حاطب فعل محرم، ولكنه لا يستوجب الكفر، فمن الموالاة ما هو كفر بذاته، ومنها ما هو سبيل وطريق ووسيلة إلى الكفر، وهو نفاق أصغر وكفر أصغر، وهو أعظم من الكبائر، فإن الكفر الأصغر والشرك الأصغر والنفاق الأصغر أشد من الكبائر التي هي من جنس الشهوات مثل شرب الخمر والزنا ونحو ذلك من الفواحش، قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، فهذه صفات بينة يجب أن تكون في كل مؤمن صادق الإيمان يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتفضل علينا بفضله وهو الواسع والعليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.

    وجوب موالاة حزب الله ومعاداة حزب الشيطان

    الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أما بعد:

    قال عز وجل: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:54-55]، (إنما) أسلوب قصر وحصر للولاية، فلا يجوز نصرة وطاعة ومتابعة الكفار، ولا التحالف والتعاضد والتعاون إلا مع من وصفهم الله عز وجل؛ لأن أغراض هؤلاء معلومة وهي طلب الجنة، وأغراض من خالفهم معلومة أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، قال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، فالله عز وجل إرادته الشرعية بينة في إعلاء كلمته سبحانه، وكذا يكون الأمر كوناً، فكلمة الله هي العليا في عاقبة الأمر، فلا بد أن يظهر الدين، ويعلو الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، فيحصل الذل بمخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)، فيفهم من ذلك: أن العز يحصل لمن أطاعه وآمن به واتبعه، قال عز وجل: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10]، فلا بد أن يبور مكرهم ويضل سعيهم وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:25]، ولا بد أن يخطئوا الهدف، وألا يحققوا مقصدهم؛ لأنهم يريدون مقصداً مستحيل التحقيق يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [التوبة:32]، فهل تطفأ الشمس بأفواه النافخين؟ كلا، فنور الله عز وجل أعظم من نور الشمس، وحاجة الناس إلى دين الله أعظم من حاجتهم إلى الشمس بل وأعظم من حاجتهم إلى الهواء والماء؛ فلذا يستحيل أن يطفئ هذا النور؛ لأن الله هو الرحمن الرحيم وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:9]، فرحمته بعباده تقتضي ألا يضيع الحق من الأرض بالكلية، وعزته تقتضي ألا يترك الجبارين المتكبرين الطغاة بل ينتقم منهم ويقصمهم ويريهم من المؤمنين ما كانوا يحذرون بعزته وقدرته وعظمته ووحدانيته، فهو الملك الحق المقتدر الذي لا قوة إلا به القوي العزيز سبحانه وتعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، فهذه صفات بينة واضحة لا تحتمل لبساً لمن يتحالف ويتعاون ويتعاضد ويوالي أهل الإيمان، فلا بد على أهل الإيمان أن يتصفوا بهذه الصفات، كما قال عز وجل: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

    فهل بعد بيان هذه الصفات من شك في أعضاء هذا الحزب الغالب لا يوجد شبهة التباس في ذلك، فلا بد أن يتولى المؤمن من يؤمنون بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحققون التوحيد والإيمان، ويدعون إلى الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا الذين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، فلا بد أن يكون المؤمن الذي تواليه عابداً لله، مؤدياً حق الله فيما بينه وبينه بإقامة الصلاة، وفيما بينه وبين الناس بإيتاء الزكاة، وفي الجملة التزامه بالطاعة وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71] أي: التزام بالكتاب والتزام بالسنة أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة:71] أي: في الدنيا والآخرة، كما وعدهم الله بالنصر في الدنيا والآخرة إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].

    قال سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من حزبه الغالبين، وأن يعلي بفضله كلمة الحق والدين، وأن ينصر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يحفظهم في كل مكان.

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصر المسلمين في فلسطين والشيشان وأفغانستان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.

    اللهم عليك باليهود والنصارى والمنافقين، وسائر الكفرة والملحدين، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلا، اللهم لا تجعل لهم على أحد من المسلمين سبيلاً.

    اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين!

    (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]!