يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71]. أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله سلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: (فاللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)
هذا الدعاء الذي كان يستفتح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته بالليل، والذي هو معجزة من معجزاته الباهرة صلى الله عليه وسلم، وهو مما خصه الله عز وجل به عن الأنبياء؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام فيما أوتيه ولم يؤته أحد قبله: (وأوتيت جوامع الكلم)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام الذي بين فيه أسس التوحيد، ومعاني الإيمان، وأسس السلوك والأخلاق السوية التي بها يصلح الإنسان، والتي إذا طبقها في حياته سعد سعادة الدنيا والآخرة.
قوله عليه الصلاة والسلام: (ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن)، فيه تحقيق توحيد الربوبية في نفس العبد، وأن يشهد الإنسان أن الله سبحانه وتعالى الذي له الحمد على كمال أسمائه وصفاته، وكمال ربوبيته وألوهيته، وعلى عظيم نعمه على خلقه، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن، فلا يشاركه في ربوبيته سبحانه وتعالى مخلوق، ولا نصيب لأحد دونه في شيء من معاني الربوبية.
فالصلاح في هذا الكون لا يلزم أن يكون خاصاً بعبد بعينه، وإنما يكون في المجموع، فالله سبحانه وتعالى يفعل الخير، ويخلق الخير والشر، يخلق الشر لما يترتب عليه من أنواع المصالح والحكم والخير العظيم الذي لا يحصل إلا بوجود الشر، فهو سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يصلحهم، ولذا كان آخر ما يقع في قلوب الخلق وعلى ألسنتهم: الحمد الله رب العالمين، كما قال سبحانه:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[الزمر:73-75].
قالها المؤمنون بألسنتهم وقلوبهم، شاهدين فضل الله عز وجل عليهم، وأما الكفار فقد وقع في قلوبهم ذلك الحمد رغماً عنهم لا يملكون غير ذلك؛ لأنهم رأوا من المصالح والحكم والخير الذي لم ينالوا منه بسبب إعراضهم عن أمر ربهم عز وجل، ما جعلهم يدخلون النار حين دخلوها، كما قال الحسن : إن أهل النار دخلوا النار، وإن حمد الله لفي قلوبهم لا يملكون غير ذلك، وإن كانوا لا يحمدونه على أنه أنعم عليهم، ولكن يحمدونه على كمال عدله، وكمال حكمته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى، ولا يملكون أن يصفوا ربهم عز وجل بنقص أو فساد، فهو رب العالمين الذي خلق الخلق وقدر مقاديرهم، وهو الذي رزقهم وأعطاهم ومنعهم، وهو الذي خفض ورفع، وأعز وأذل، وجعل من وراء ما يقدر من الآلام والشرور حكماً ومصالح تعجز قدرة العباد عن إدراكها والإحاطة بها.
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والرزق والتدبير
يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ
[يونس:3]، وهذا هو معنى قيام السموات والأرض الذي ذكر في الدعاء الشريف.
وهذا المعنى من أوضح المعاني وأجلها عند التأمل والتدبر في هذا الكون، فالخلق كلهم لا يملكون شيئاً، وتأمل لحظات الإنسان وهو في بداية نشأته كيف كان عدماً محضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان الله ولم يكن شيء غيره)، ثم وجد بعد ذلك كروح بعيدة عن الجسد، ثم أذن الله عز وجل في وقت معين أن تدخل هذه الروح إلى هذا الجسد، وقدر سبحانه وتعالى أن يوهب الإنسان السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل، وسائر الحواس التي صار بها في ظاهر الأمر وفيما يبدو للناس يأمر وينهى، ويملك مالاً، وأرضاً وداراً، ويملك أن يعطي ويمنع، والحق أن ذلك كله عارية مستردة.
وتأمل فقه أم سليم رضي الله تعالى عنها وهي تقول لزوجها أبي طلحة وقد قبض ابنها، وهي أمه التي مات على يديها، تقول له: يا ( أبا طلحة ! أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم أرادوا أخذ عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك) فأنت أيها الإنسان عارية مستردة، فسمعك وبصرك، وكل ما في يدك من مال، أو ما تحت تصرفك من قوة وجاه وسلطان، وما أعطاك الله عز وجل من أهل ومنزلة وغير ذلك كله عارية مستردة لا تملكه ملكاً حقيقياً، بل أنت فقير من كل جهة من جهاتك، فتذكر البداية وتذكر النهاية؛ لتعلم أن الله عز وجل هو المالك الحق، وأنه هو الغني الحميد
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ *
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
[فاطر:15-17].
إن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين، وهو مالك كل الأيام، ولكن يوم الدين يظهر فيه ملكه بلا منازع ولا معارض، ولا يدعي أحد مع الله عز وجل ملكاً يوم القيامة لا اسماً ولا صفة، لا على سبيل العارية المستردة ولا على سبيل الحقيقة، ولا تخدع أحدٌ نفسه يوم القيامة حتى يتسمى بالمالك أو بالملك، وينادي ربنا عز وجل:
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
غافر:16]، فيجيب نفسه سبحانه وتعالى:
لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
[غافر:16]، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود، وهذا يقتضي شهود فقر العباد وعجزهم، وعدم طلب شيء من أيديهم، كما قال سبحانه وتعالى:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
[فاطر:13-14]، والقطمير: هو الغلافة الرقيقة التي على نواة البلحة، هذه الغلافة الرقيقة لا يملكها أحد من دونه سبحانه وتعالى، فكيف يدعى أحد من دونه؟ وكيف يسأل؟
ولذا كان أصل سؤال الخلق ممنوعاً منه، ولا يجوز فيما يقدرون عليه مما خولهم الله وأعطاهم إلا للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا
فلا يجوز سؤال الناس إلا للضرورة، بل رغب النبي صلى الله عليه وسلم طائفة خاصة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً على الإطلاق، وأسر ذلك، فبايعهم على كلمة أخفاها وهي: ألا يسألوا الناس شيئاً. وكانوا قلة من أصحابه، فكان أحدهم ربما سقط السوط من يده فينزل من على بعيره ويأخذ سوطه حتى لا يقول لأحد ناولنيه، فلا يسأل الناس شيئاً على الإطلاق وذلك من كمال التوحيد الأفضل والأعلى فلا يحتاج إلى أحد، ولا يتعلق قلبه ولا لسانه بشيء من الخلق، بل ينزل حاجته بالله سبحانه وتعالى، وقد يقدر الله على عبده المؤمن ما تنقطع به الأسباب حتى يفرد ربه بشهود ملكه، وبالسؤال، والتضرع، وطلب كل حاجته منه سبحانه وتعالى؛ لأنه ربما لا يحقق كمال التوحيد مع وجود الأسباب، وأكثر الخلق إذا وجدت الأسباب ظنوا لمن بيده هذه الأسباب نوعاً من الملك؛ فتعلقت قلوبهم به، فسألوه أو طلبوا منه أو رجوه أو خافوه، فعند ذلك يقع النقص في قلوبهم من جهة هذا المعنى من معاني توحيد الربوبية، وعندها يقدر الله لمن شاء من عباده أن يقطع عنهم الأسباب، وإن كان ذلك مكروهاً لهم، أو كان فيما يبدو لهم تضييقاً وتعسيراً عليهم، وهو في الحقيقة فتحاً لأبواب الخيرات لهم، فحين تيأس قلوبهم من الخلق جميعاً ومن أنفسهم، عند ذلك لا يكون لهم ملجأ إلا إلى الله، وهذا أمر مشهود معلوم يقدره الله كدليل على وحدانيته ليظهره سبحانه وتعالى حتى للمشركين قال الله تعالى:
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا
[الإسراء:67]، فكثير من الناس يعرض في وقت الرخاء، وفي وقت الشدة عندما تنقطع الأسباب يشهد حقيقة أن الله هو المالك الحق سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
[الإسراء:56-57]، فتأمل كيف قرن بين الخوف والرجاء، وبين شهود أن أحداً لا يملك كشف الضر ولا تحويلا، فشهود الملك لله سبحانه وتعالى يجعل العبد محباً خائفاً راجياً يبتغي إلى ربه القربة، ويبتغي رضوانه وفضله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه لأنه المالك الحق.
وقال سبحانه وتعالى:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ *وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
[سبأ:22-23]، وهذا في حق من يعبد الملائكة الذين هم عباد مكرمون عند الله عز وجل، فقد ظن المشركون أن لهم شفاعة يملكونها عند الله سبحانه وتعالى، فأخبر سبحانه وتعالى بأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فنفى الملك المستقل، فربما ظن البعض أن له شريكاً، فقال:
وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ
، فما من ذرة من ذرات هذا الكون إلا والله يملكها كلها، لا يشركه في ذرة منها أحد من المخلوقين، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي صالح، ولا شيطان رجيم، أو عدو لله سبحانه وتعالى ولأوليائه، ولا يملكها من هو دون ذلك كالمخلوقات المسخرة من شمس وقمر، أو من حجر وشجر، إذ عدم ملكهم ظاهر لكل عاقل يرى تحرك هذه الأشياء في الكون، ويرى عجزها وفقرها، وأنها مسخرة مدبرة يفعل الله عز وجل فيها ما يشاء، وإنما الذي يمكن أن ينسب إلى نفسه ملكاً هو الإنسان، وكذا الجن ربما ظنوا أن لهم ملكاً فكان النفي عنهم.
فنفى الله عز وجل الملك المستقل، ونفي المشاركة، ونفى المعاونة عن كل أحد يدعى من دون الله من ملك أو نبي أو ولي فضلاً عمن دونه؛ لأنه ربما ظن البعض أنهم لا يملكون على سبيل الاستقلال، ولا على سبيل الشركة، ولكن معاونة، وهذا فيما يتعلق بالملائكة كثير، فقد يعتقد كثير من الناس أن الملائكة تعاون الله عز وجل على تدبير الأمر، وليس الأمر كذلك قطعاً، قال عز وجل:
وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ
، بل هم ينفذون أوامر الله بما أعطاهم من القدرة، فقدرتهم وقوتهم وعلمهم إنما هو هبة منه، وهو المالك لذلك سبحانه وتعالى.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
[الأنبياء:26-29]، فالله سبحانه هو الذي جعل الملائكة يعملون الأعمال التي كلفهم بها بقدرته، فأعطاهم ما بأيديهم من قوة، فمن جعله سبحانه وتعالى ذا قوة مكيناً عنده إنما هو محض فضله وعطائه، وهو المالك لذلك كله.
لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا
[مريم:64]، فلله عز وجل ما بين أيديهم وما خلفهم، وله ما أعطاهم من أنواع القوة والقدرة، فهم لا يعاونون الله ولا يحتاج إلى معونتهم، فهو وحده المستعان، وهو الذي يعين عباده بما شاء، ويوفقهم ويقدرهم ويقويهم على ما شاء من أفعالهم.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلأن الله أوحى إليه أن له الشفاعة، وأنه لها، قال: (أنا لها، فيأتي فيدخل على ربه في داره) أي: وهو سبحانه فوق عرشه الذي هو سقف لجنته، وجميع المخلوقات تحته، قال (فآتي فإذا رأيته خررت له ساجداً قدر جمعة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويفتح الله عليه من حسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبله، وقال في حديث آخر: (لا أستطيعه الآن، ثم يأذن له الله عز وجل أن يرفع رأسه، ويقول له: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطى، واشفع تشفع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإخلاص والتوحيد من أمته بالنجاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة رضي الله عنه: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما ينتفع بشفاعته أهل الإخلاص، ثم يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون في من لا يشرك بالله شيئاً، فيخرجونهم من النار بأمر الله سبحانه وتعالى، ثم يعود النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة فيقول: (يا رب! ائذن لي في من قال لا إله إلا الله، فيقول الله عز وجل: ليس ذلك لك، ولكن وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله).
إن الله عز وجل جعل النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لنجاة الخلق من أهوال القيامة، ثم في دخولهم الجنة، ثم في نجاتهم من على الصراط، ثم في خروج أقوام منهم من النار بعد أن احترقوا فيها، ثم يطلب من ربه أن يرحم من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط؛ فيخبره الله عز وجل أن ذلك ليس له، ولكنه سوف يفعل ذلك سبحانه وتعالى حتى لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، أي: من وجب عليه الخلود بموته على الشرك بعد بلوغ الحجة، فدل هذه كله على أن الشفاعة مملوكة لله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات الكريمة دالة على ذلك:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
[فاطر:13-14]، وقوله سبحانه:
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
[سبأ:22-23]، هي التي قال عنها أهل العلم: إنها تقطع فروع الشرك من القلب لكمال التعلق بالله سبحانه وتعالى، ودليل هذا الأمر خوف الملائكة من الله عز وجل
حَتَّى إِذَا فُزِّعَ
أي: حتى إذا زال الفزع الذي أصاب قلوبهم؛ بسبب سماعهم كلام الرب سبحانه، فخافوا أن يكون نزل أمر فيه هلاك العالم، فعند ذلك يخرون لله سجداً، ويكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيوحي الله إليه من أمره ما شاء، وينزل بأمر الله إلى السموات ومن فيهن من الملائكة، فيقولون وقد رفعوا رءوسهم لما زال الفزع عن قلوبهم: ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول:
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
، فيقولون كلهم مثل قول جبريل:
الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
، فهذا كله دليل على أن الله وحده هو المالك لكل ما في هذا الوجود، ولا يملك أحد دونه شيئاً، حتى على سبيل الشفاعة فإنها مملوكة له لا يملكها الشافعون، فهو الذي يأذن لأهل التوحيد والإخلاص -لمن شاء منهم- أن يشفعوا في أهل التوحيد والإخلاص، ولا يشفعوا في أهل الشرك، ولا تنفع المشركين شفاعة الشافعين، وهو الذي يأذن للشافعين ليغفر للمشفوعين عن طريق دعاء الشافع، لينال الشافع بذلك المقام العالي، وليعلي قدره، ويري الناس منزلته.
وأعلى الناس في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل له في محكم كتابه:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من شجوه في وجهه، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله، فاستبعد هدايتهم وفلاحهم، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟!) ودعا على أعيان منهم شهراً، فأنزل الله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
[آل عمران:128] فتاب الله على من سماهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه جميعاً، فهداهم إلى الإسلام، ومن دعا لهم بالمغفرة وحرص على هدايتهم فإن بعضهم لم يقبل فيه ذلك، كـأبي طالب فإنه قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنه)، فأنزل الله عز وجل:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
[التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب :
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[القصص:56]، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزور قبر أمه استأذن ربه في ذلك فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له.
فالله عز وجل هو مالك السموات والأرض ومن فيهن، وهذا كله يجعل العبد لا يسأل ولا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه وتعالى، ولا يرى لنفسه ملكاً ولا حقاً، بل يرى نفسه مملوكاً من كل وجه، ويجب أن يتصرف -فيما أعطاه الله من سمع وبصر ويد ورجل وبطن وفرج ومال وأهل، وغير ذلك من أنواع التصرف والتمكين والسلطان- يتصرف فيه تصرف العبد المملوك لا تصرف المالك الحر، ولذلك فإن قضية الحرية لا بد أن توضع في نصابها، فالحرية إنما تكون بين العباد بعضهم بعضاً بما شرع الله سبحانه وتعالى، أما أن تطلق قضية الحرية ويقال: إن الناس أحرار حتى مع أوامر الله وشرعه، فيأتون ما يريدون ويتركون ما لا يريدون، فهذه منابذة للربوبية، ومنازعة لله عز وجل في أخص معنى من معاني الربوبية وهو معنى الملك، فالله سبحانه وتعالى هو الملك الحق، وهو المالك الحق، فمن زعم أنه يملك نفسه، وأنه يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أمر الله وشرعه، فهو ينازع الله في ربوبيته، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن لا رب إلا الله، بل زعم أنه رب مع الله، وإذا زعم أن له على غيره من الخلق ذلك، وأنه حر يفعل فيهم ما يشاء دون أن يراجع، فهو منازع لله في الربوبية وشقيق لفرعون وإبليس اللذين زعما أنهما أرباب بلسان الحال أو المقال.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد:
المعنى الثالث من معاني الربوبية: أن الله رب السموات والأرض ومن فيهن، وهذا مذكور في قوله سبحانه وتعالى:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
[الأعراف:54]، فكما كان المعنى الأول: الخلق والرزق والتدبير -وهو كما ذكرنا بمعنى الإصلاح الذي يربِّ الشيء، أي: يصلحه- مذكور في قوله:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ
فكذا كان المعنى الثالث مذكور في هذه الآية، وهو:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ
، فلله الأمر وحده لا شريك له، وهو الذي له الأمر كوناً، وهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، وإن كان أكثر الناس في غفلة عن أن الله إذا أمر بشيء كان
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
[يس:82].
فهذه أوامره سبحانه نافذة في أقطار العوالم السفلية والعلوية، يحيي ويميت، يسعد ويشقي، يمن على من يشاء ويمنع من يشاء، يأمر بما يشاء في من يشاء، وهذا وإن أقر به أكثر الناس لساناً إلا أنهم ينازعون فيه حالاً وسلوكاً وعملاً، وذلك حين ينازعون الله سبحانه في أوامره.
وأما المعنى الثاني من هذا فهو: الأمر الشرعي، فالله له الأمر شرعاً، وهذا ما يجب أن يعتقده كل مؤمن، وهو أنه لا يأمر ولا يشرع لخلق الله جميعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرع ما شاء، قال عز وجل:
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
[الشورى:21]، فمن ادعى أن لأحد أن يشرع من دون الله أو مع الله عز وجل شيئاً لنفسه أو لغيره، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في أمره، وادعى مع الله عز وجل شريكاً، كما أن الذي يرى نفسه حراً مع أوامر الله فقد نازع الله في ملكه، فالذي ينازع الله سبحانه في أمر التشريع والتحليل والتحريم، والأمر والنهي يعتبر منازعاً لله سبحانه وتعالى في ربوبيته، كما قال عز وجل عن اليهود والنصارى:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
[التوبة:31]، دلت الآية على أنهم عبدوهم لما اتخذوهم آلهة مع كونهم اتخذوهم أرباباً؛ ولذا قال:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
، ودل الحديث على أنهم عبدوهم باعتقاد أن لهم حق تبديل الشرع، وأنهم يطاعون في ذلك فأطاعوهم، فقد جاء في الحديث أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم بعد، وعلى عدي صليب من فضة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم (أن يلقي هذا الوثن عنه، وسمعه يقرأ قوله عز وجل:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
[التوبة:31]، فقال: إنا لسنا نعبدهم، قال: ألم يحرموا الحلال، ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، وقد ورد هذا المعنى عن غير واحد من السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، فهم لم يعتقدوا أن الأحبار والرهبان خلقوا ورزقوا ودبروا الأمر، ولم يعتقدوا أنهم يملكونهم ملك الرقيق، وإنما اتبعوهم واعتقدوا أن لهم أولاً حق التشريع، وأن لهم أن يبدلوا ويحللوا ويحرموا، بل لهم أن يبدلوا العقائد، فتارة يجتمعون فيقررون أن الله ثالث ثلاثة، وتارة يقررون أن اليهود هم الذين قتلوا المسيح، وتارة أنهم لم يقتلوه، وهكذا اعتقدوا أن لهم حق تبديل العقائد والتشريعات، فكان ذلك من الشرك في الربوبية، ولما اتبعوهم على ذلك كان شركاً في العبادة والألوهية.
ولذا يصر أهل الإيمان على اختلاف الأزمان أن الله وحده هو الحكم العدل:
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
[يوسف:40].
فحين يشهد العبد ويقول:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ويقول: اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، يستشعر هذا المعنى ضمن معاني الربوبية، ويرى حقاً لله سبحانه وتعالى عليه، وهو: أن يقبل شرعه وأمره، فله الخلق وله الأمر، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الخلق، أو الرزق أو التدبير، أو الضر أو النفع فهو مشرك، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الأمر فهو أيضاً مشرك، وكذلك من جعل مع الله سبحانه وتعالى شريكاً في الملك؛ يملك مع الله أو يملك الشفاعة على الله كان مشركاً، وهذه الأمور من أوضح ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولا بد أن يتحرر الإنسان من رق هذا الشرك بأنواعه المختلفة حتى يتحقق توحيده لله، وكل معنى من معاني الربوبية الثلاثة يترتب عليه أنواع من العبودية لله سبحانه وتعالى، وذلك بطريق التلازم الذي لا ينفك، فإذا شهد العبد أن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأنه سبحانه الذي يملك الضر والنفع وحده لا شريك له، فكيف يطلب من غيره سبحانه وتعالى شيئاً من ذلك؟! وكيف يجعل مع الله آلهة أخرى؟! لذا قال عز وجل:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
[النمل:59-60]، فاستدل بخلقه عز وجل للسموات والأرض على وجوب افرده سبحانه وتعالى بالإلهية وحده لا شريك له.
فكذلك من كان يعتقد أن مع الله عز وجل من يملك ويتصرف تصرف المالك فهو مشرك، فالمؤمن يرى أن الله وحده هو الملك، فيتعبد لله سبحانه وتعالى بذلك، فيرى ما بيده مما أعطاه الله أمراً لا يملكه، ولا يرى لنفسه أمراً مع أوامر الله التي بلغتها رسل الله، قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا
[الأحزاب:36]، فهو يتصرف كتصرف العبد المملوك في ماله
وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
[النور:33]،
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
[الحديد:7]، فما بيدك من مال وأهل وولد وسلطان تتصرف فيه تصرف العبد المملوك لله سبحانه، وترجع إلى شرعه وتقبل أوامره سبحانه وتعالى
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
[الأعراف:54]، وهذه الأمور لا بد أن يشهدها العبد، ولا بد أن يستحضر معانيها في قلبه، ويفرد الله سبحانه وتعالى في كل عبادة، فيكون قوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
قولاً صادقاً خالصاً لله سبحانه وتعالى، صدر من قلب محب له عز وجل، خاضع له، شاهد لربوبيته، متعبد له سبحانه وتعالى بإلهيته، فيكون مقبولاً عنده سبحانه وتعالى.
وهكذا يتحقق معنى توحيد الربوبية في قلب العبد المؤمن إذا شهد هذه المعاني، وتعبد لله سبحانه وتعالى بها، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع عباده المخلصين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بالكفرين والمنافقين والظالمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.
اللهم فرج كرب المكروبين من المسلمين في كل مكان، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلك سخائم صدورنا.
اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.
اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر