يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
وقال الله سبحانه وتعالى:
حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
[الدخان:1-6].
لقد أنزل الله عز وجل القرآن في شهر رمضان، أنزله في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في ثلاث وعشرين سنة مفرقاً على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يتنزل على حسب الوقائع التي وقعت، فكان إنزال القرآن في شهر رمضان علامة ودليلاً على اصطفاء الله سبحانه وتعالى لهذا الشهر، وكان نزوله في ليلة القدر دلالة أيضاً على فضيلة هذه الليلة، قال الله عز وجل:
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
[القدر:1-5].
وقد سميت ليلة القدر بذلك لشرف قدرها، ولأنه تقدر فيها مقادير السنة، فانظروا عباد الله إلى شرف هذه الليلة التي جعل الله عز وجل العبادة فيها تعادل ما يربوا على ثلاث وثمانين سنة، وكم عمر الواحد منا؟ سرعان ما تمر الأيام، والشهور، فها هو رمضان قد بقي منه أيام وينقضي، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن قام وصام رمضان إيماناً واحتساباً فغفر له، ونسأله عز وجل أن يوفقنا لقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، وأن يغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم.
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقوم وينام، أي: ينام بعض الليل، وفي هذه الليالي -أي: العشر الأواخر من رمضان- كان يحيي ليله كله.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر بإيقاظ أهله في ليالي رمضان سوى العشر، بل كان يرغبهم في ذلك كما مر على علي وفاطمة ليلاً فقال: (ألا تصليان؟)، وقال ليلة: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)، يقصد بصواحب الحجرات: أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهن.
فقوله: (من يوقظ صواحب الحجرات) هذا فيه ترغيب في القيام وإحياء الليل بالذكر من غير حث شديد، وإنما كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان؛ حتى يحيين الليل بالقيام والذكر ونحوه، فهذه الليالي الفاضلة أولها ليلة الحادي والعشرين، وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أنها كانت في إحدى السنوات هي ليلة القدر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان طلباً لليلة القدر، ثم أري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فخرج في صبيحة يوم عشرين، فقال: (من كان اعتكف معي العشر الأوسط فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر)، وكذا ورد عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنها في العشر الأواخر.
وفي هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) أي: مطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد مصنوعاً من جذوع النخل ومسقوفاً بجذوعه كذلك، فوكف المسجد، أي: نزل المطر على أرضه، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر وقد سجد في ماء وطين، وظهر أثر الطين على وجهه وأنفه عليه الصلاة والسلام، وهذه كانت في سنة ثانية في ليلة الثالث والعشرين، رأى نفس الرؤيا عليه الصلاة والسلام.
وثبت أيضاً عند الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) ، فكانت ليلة القدر التي هي ليلة إنزال القرآن كانت ليلة أربع وعشرين، وهي أول السبع الأواخر.
والذي يظهر من مجموع الأدلة أن ليلة القدر تنتقل في ليالي العشر الأواخر من رمضان، فإذا كانت الليالي ليالي الأوتار فهي أرجى، وإن كانت الليالي ليالي الشفع فهي كذلك ترجى، وذلك أن ليلة الرابع والعشرين هي أول السبع الأواخر؛ فإن ليالي الشفع هي تاسعة تبقى، وخامسة تبقى، وسابعة تبقى، وخامسة تبقى، وثالثة تبقى، أي: من آخر الشهر، فهي أوتار من آخر الشهر، وكل قد رغب فيه، فينبغي أن لا تفرط في هذه الليالي، فكلها ليال فاضلة، وليلة القدر في وسطها كالشمس في وسط النجوم، فاحرص أن لا تضيع منك لحظاتها، فإن الدقيقة الواحدة بشهور طويلة، وأنت مهما قضيت في العبادة لا تقضي أياماً متواصلة، حتى تصل إلى الشهور والسنين؛ فإنما تقوم ساعات معدودة ولابد لك بعد ذلك من راحة، ولابد لك من طعام وشراب، ولابد لك من دخول الخلاء، فلابد أن تقضي أوقاتاً لا تستطيع أن تواصل العبادة فيها، وأنت في الدقيقة الواحدة من ليلة القدر تحصل على عبادة أشهر طويلة، فكيف يليق بك أن تضيع هذا الفضل العظيم؟ فالدقيقة في هذه الليلة المباركة لها قيمة فكيف بالساعة؟ الساعة بعدة سنوات، فمن يضيع ليلة القدر محروم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن رمضان: (فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم) .
فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدنا أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، فهل تعكف قلوبنا عليها بعد ذلك؟ وهل لنا أن نسعى لإصلاح هذه القلوب حتى تخلص لله سبحانه وتعالى؟ وحتى تصدق مع الله عز وجل؛ ليدخل الإيمان فيها، فحينها تصلح أحوالنا ويشع النور ممن علت مرتبته في الإيمان فيضيء قلبه ثم يفيض النور على من حوله، بنصحهم وتهذيبهم وتعليمهم، فإذا بالمجتمع يحصل فيه من أنواع الصلاح، من أنواع الخير ما نعجز عن إصلاحه في سنين بل قرون، وما لا يستطيع الناس أن يحصلوه بدون معاني الإيمان في سنين طوال.
وانظروا كيف تعلم الصحابة الإيمان، ثم تعلموا القرآن؛ فازدادوا إيماناً بفضل الله سبحانه وتعالى، والقرآن من أعظم أسباب زيادة الإيمان، ومن أعظم أسباب إزالة أمراض القلوب، قال الله عز وجل:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
[الإسراء:82].
وهذا كله يحصل بكثرة تدبر القرآن، والإيمان به حق الإيمان أي: أن تعمل بمحكمه، وتؤمن بمتشابهه، وتصدق أخباره وتستحضرها كأنك تراها، ففيما مضى من الأحداث وأخبار الرسل والصالحين، وأنواع الصراع الذي جرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وبين أهل الحق وأهل الباطل عبر شتى وفوائد.
ومعنى تستحضره أي: كأنك حاضر فيه، وتستشعر معاني الإيمان التي كانت هي الوقود الذي سار به أهل الإيمان في طريقهم تلك، وكانت هي النور الذي استبصروا به، فرأوا الحق حقاً والباطل باطلاً.
كذلك يكون تدبرك للقرآن بأن تستحضر ما تستقبل من أمور الآخرة، من أمر الجنة والنار، وأهوال القيامة، والحساب والميزان والصراط، كما دلت عليه الأدلة من القرآن السنة.
وكذلك تتدبر القرآن بأن تستحضر آثار أسماء الله عز وجل وصفاته، بل هذا هو المقدم على ذلك كله؛ لأنه تحقيق الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فتستحضر ربوبيته وملكه لهذا الكون، وأمره النافذ فيه، وتستحضر إلهيته، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده المستحق للعبادة، وأن كل ما يعبد من دونه باطل، وأن كل عبادة لغيره عناء وشقاء، وتستحضر منة الله عز وجل عليك ونعمته الظاهرة والباطنة، فبهذا يحصل لك تدبر القرآن، وتزداد معاني الإيمان، لكن هذا يحتاج منك إلى قلة خلطة بالناس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وليس ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم من احتجار الحصير إلا تقليلاً لهذا الاختلاط، وذلك الذي ينبغي أن تفعله، وكثير من الناس يجعل الاعتكاف موضع عشرة وخلطة! والأمر ليس كذلك؛ لأن الأمر ليس مبنياً على أحوال البدن بقدر ما هو مبني على حال القلب، فاجتهد أن تخلص نيتك لله عز وجل، وأن تشغل فكرك بأمره، وأن تشغل اهتمامك بالآخرة وما يكون فيها، وأن تفتش في نفسك، وتجتهد في إصلاح عيوبها، فليس صحيحاً ولا صواباً منك أن تجتهد في أن تأتي المسجد وقلبك قد امتلأ بأنواع الأمراض المختلفة، نعوذ بالله من ذلك.
فاجتهد أن تتخلص من هذه الأمراض، وفتش في نفسك هل الحقد والحسد والرياء والسمعة تابعاً فيها؟ وفتش في قلبك عن الغفلة وعن سائر الأمراض، ثم اعمل على التخلص منها فوراً بقدر استطاعتك حتى تلقى الله سبحانه وتعالى وقلبك قد تطهر، فتنال من كتاب الله سبحانه وتعالى ما تزكو به نفسك. قال عثمان رضي الله تعالى عنه: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام الله.
وقال ربنا سبحانه وتعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
[الواقعة:75-79].
ومن وجوه تفسيره: أن الكتاب المكنون هو الذي في السماء ولا يسمه إلا الملائكة المطهرون، ومن وجوه تفسيره -وهو من لوازم تطهير الكتاب وكونه كتاباً كريماً-: أنه لا ينال من نعيمه، ولا يدرك معانيه، ولا يتعظ بما فيه إلا من تطهر قلبه، والوجه الأول هو أصح التفاسير، والثاني تفسير حسن طيب، وهو من لوازم الأول، فلا يمس القرآن إلا من تطهر قلبه، أي: لا يجد حلاوته ولا يذوق طعم الإيمان إلا من تطهر قلبه، فإذا كانت بينك وبين إخوانك شحناء فاعلم أن ذلك من أعظم أسباب بعدك عن لمس معاني كتاب الله، وعن أن تدرك ما فيه.
فهذه الملاحاة والخصومة يجب أن تسعى في إزالتها، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه يوماً وهو يريد أن يخبرهم في سنة من السنوات بليلة القدر أي ليلة هي، فتلاحا رجلان -أي: تجادلا- فرفعت، وعسى أن يكون ذلك خيراً؛ حتى تطلب في الليالي كلها، وكما أن اختلاف مطالع الهلال عند المسلمين في هذا الشهر قد يؤلم البعض، ولكنه عسى أن يكون خيراً؛ فإن الناس يطلبون ليلة القدر في الليالي كلها، فتجد أن ليالي الأوتار عندنا، ليالي أشفاع عند غيرنا وبالعكس، فينبغي أن تهتم بالليالي كلها، وأن تجتهد فيها، واجتنب الملاحاة والخصومة، واجتنب المجادلة ما استطعت إلا ما أمر الله عز وجل به من الجدال بالتي هي أحسن، الذي شرعه الله لإظهار الحق، وكثير من أنواع الجدال بيننا إنما هو وللأسف ليس بالتي هي أحسن، وإنما يوقع العداوة والبغضاء فينبغي تركه، فاجتهد في إصلاح القلب، وتهذيب النفس وتطهيرها حتى تمس معاني القرآن، وتجد طعمه وحلاوته، والله المستعان، وهو سبحانه وتعالى الذي يمن على من شاء من عباده بما شاء من عطائه، وأنت تعبده وتسعين به كما نقول في الصلاة:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
[الفاتحة:5].
فمن استطاع منكم أن يقضي العمر والأجل في طاعةِ الله فليفعل، واعلموا أنكم لن تنالوا ذلك إلا بإعانةٍ من الله عز وجل وتوفيقه وفضله وجوده، ولن نهتدي إلا أن يهدينا الله، فاللهم اهدنا في من هديت، وعافنا في من عافيت، وتولنا في من توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، ولا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تبارك وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.
(فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) صلى الله عليه وسلم، وكان جوده عليه الصلاة والسلام على خلق الله مريداً بهم الخير، وهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، قال الله عز وجل:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
[الأنبياء:107].
وإذا كان مجرد الملاحاة والمجادلة بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمراً رفع علم ليلة القدر في تلك السنة بسببه! فكيف إذا ساءت العلاقات بين المسلمين إلى ما هو أشد من ذلك؟ فكيف بانتهاك حرماتهم أو سفك دمائهم؟ فيجب أن نعلم أن الجود على المسلمين ومراعاة حقوقهم من أعظم أسباب الخير، ومن آثار القرب من كتاب الله سبحانه وتعالى، فكلما اقتربت من القرآن كلما ازددت تعظيماً وإكراماً لحقوق المسلمين، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وذلك أن القرآن يغني القلب، والله سبحانه وتعالى إذا أغنى قلب العبد فاض هذا القلب خيراً وصلاحاً عاماً وخاصاً، وفاض ما يتبعه من البدن الذي هو تابع يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، يفيض منه على من حوله جوداً وعطاءً.
إن تعظيم حرمات المسلمين من أعظم الأمور أهمية في هذه الأوقات، ونرى أن انتهاك حرماتهم، وسفك دمائهم من أعظم الأمور خطراً على المسلمين، ولذلك لا يجوز أن يرضى مسلم أبداً بسفك دماء المسلمين، ويغتاظ من سفك الكفار لدماء المسلمين، وكذلك يغيظه ويتألم قلبه إذا فعل ذلك بغير حق من ينتسب إلى الإسلام، وإن كان ذلك لا يصح ولا يجوز أن ينسب إلى الإسلام، أو العمل الإسلامي خاصةً في هذا الشهر الكريم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، هذا في سائر الأحوال، فكيف بفعله في رمضان؟!
وكثير من الناس يستهين بهذا الأمر ولا يعبأ به، ولا يحرك له ساكناً، مع أنه أمر عظيم الخطب، لا يصح أن ينسب إلى العمل الإسلامي بوجه من الوجوه، وإنما ينشر الغرب وعملاؤهم أن المسلمين هم الذين يفعلون ذلك، ومعلوم أنه لا يرضى مسلم بسفك دم أخيه في شهر من الشهور، فضلاً عن هذا الشهر، فضلاً أن يكون ترويعاً للمسلمين في بلادهم التي نسأل الله عز وجل أن يجعلها آمنة مطمئنة رخاء وكل بلاد المسلمين.
وليس من ذلك سفك دماء المسلمين بغير حق، ولقد قال ربنا سبحانه وتعالى في أسباب كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن مكة عام الحديبية:
وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
[الفتح:25] ، فالله سبحانه وتعالى كف رسوله صلى الله عليه وسلم المجتبى المصطفى المختار ومن معه من خيرة أهل الأرض، وخيرة من صحب الأنبياء، كفهم عن مكة المكرمة وقد كان فيها أوثان تعبد من دون الله، وقد كان بيت الله الحرام يسيطر عليه المشركون في ذلك الوقت، فكفهم الله تعالى تعظيماً لحرمات الطائفة المؤمنة المستضعفة التي كانت بمكة في ذلك الوقت، كل ذلك لعظيم حرمات المسلمين عند الله سبحانه وتعالى.
وقال في الآية الأخرى:
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
[التوبة:29] وذلك لأن الأرض أرض الله، والعباد عباده، فيجب أن تعلوهم كلمته، ومن أراد أن يختار الكفر فهذا شأنه، ولكن لا يحق له أن يفرضه على الخلق، ولا أن يعليه على الأرض، فإنها ليست ملكاً له ولا لآبائه.
وأما النوع الثاني من أنواع الجهاد: فهو جهاد الدفع، فعندما ينزل العدو ببلاد المسلمين، أو يحتل شيئاً منها، فحينها يصبح الجهاد فرض عين، أما النوع الأول من الجهاد فهو فرض كفاية على أمة الإسلام، وأما النوع الثاني: وهو إذا نزل العدو ببلاد المسلمين: فهذا يتحتم دفعه على أهل المحلة أو البلد التي نزل بها واحتلها، ثم على من بجوارهم على مسافة القصر، ثم من بعدهم يجب عليهم أن يعينوهم، فهذا النوع فرض عين على أهل البلد، وواجب عليهم أن يدفعوا ذلك العدو، وهو فرض كفاية على من بعد من المسلمين عنهم أكثر من مسافة القصر، ومن كان منهم في حقه فرض كفاية فعليه أن يعينهم بما يحتاجون إليه، حتى يدفع ذلك العدو، وتراعى في ذلك مصالح المسلمين وقدواتهم.
وكذلك إذا أسر الكفار مسلماً، فإن المسلمين فرض عليهم أن يتعاونوا لتخليصه من الأسر، وفرض عليهم أن يقاتلوا لأجل تحريره إذا غلب على ظنهم تحصيل ذلك، وأما إذا علموا العجز فعليهم أن يصبروا إلى أن يمكنهم الله سبحانه وتعالى، حتى يقويهم الله، وعليهم أن يأخذوا بأسباب القوة.
فإذا لم يكن جهاد الدفع واجباً عليك، ولم تستطع أن تعين إخوانك بأي سبب من الأسباب فلا يخلو منك الحال من دعوة صادقة، وشعور قلبي بآلام المسلمين، وبيان لحقيقة قضيتهم، واستحقاقهم لدفع عدوهم، ومناصرة لهم بالقلب، وفي الحديث: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم؟) فالله سبحانه وتعالى يدفع بالدعاء ما لا يدفع بالسيوف ولا بالقوة المادية، وقد شرع لنا من أسباب نصرة المسلمين ما ربما يكون أقوى من الأسباب المادية كلها، والله المستعان.
ذلك هو ما شرعه الله عز وجل، ولم يشرع سفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً، ولا استهانة بذلك، حتى يتجرأ الإنسان على سفك الدماء بأدنى احتمال، بمجرد أنه يظن أنه يسوغ له ذلك لقتل الكفار، فضلاً: عن أن يكون مبتدعاً ضالاً يكفر المسلمين، ويرى انتهاك حرماتهم ديناً له، والعياذ بالله، هذا أمر لابد أن يحذر المسلمون منه، ولابد أن يكرهوا وجود المنكر قرب منهم أو بعد، وأن يكرهوا وجود سفك الدماء، وانتهاك الحرمات، ويفرحون بظهور الإسلام، ويودون زوال تسلط أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين عن المسلمين وبلادهم، فكلها بلاد لهم بإذن الله تبارك وتعالى، وتعظيم حرمات المسلمين دلالة على كمال الإيمان في القلب وصحته، والاستهانة بذلك دليل على رقته وضعفه، أو زواله؛ لأن المسلم يعرف حرمة المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، فنعوذ بالله من سفك دماء المسلمين، وتضييع حرماتهم، ونسأله عز وجل أن يحفظ دماءهم، وأعراضهم، وأموالهم في كل مكان، وأن يرفع تسلط الأعداء عنهم، وأن يحفظهم في هذا الشهر الكريم، وأن يجعل بلادنا وسائر بلاد المسلمين بلاداً آمنة رخاء مطمئنة بفضله سبحانه وتعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
البث المباشرمن الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر